جوانب من تعايش المسلمين واليهود: المغرب أنموذجًا


فئة :  مقالات

جوانب من تعايش المسلمين واليهود: المغرب أنموذجًا

جوانب من تعايش المسلمين واليهود: المغرب أنموذجًا

كان المجتمع المغربي، عبر تاريخ المغرب الممتد لقرون طويلة من الزمن، يعرف حركة مهمة أسهمت في تنوع العناصر المشكلة له، بناءً على ما كانت تعرفه المنطقة من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية أسهمت في إثراء التركيبة المجتمعية المغربية، وهو ما تؤكده مختلف الأبحاث الأنثروبولوجية التي انصبت على دراسة مميزات المجتمع المغربي منذ القدم.

وقد شكل اليهود أحد العناصر الأساسية في المجتمع المغربي، إذ لم يكن العنصر اليهودي يغيب عن مختلف المناطق المغربية في المدن والقرى، في مختلف الحقب التاريخية. ورغم التحولات السياسية والاجتماعية المستمرة التي كان يعرفها المغرب، لم يسجل في فترة من الفترات غياب اليهود عنصرًا مهمًا في التركيبة المجتمعية المغربية، بل لم يكن حضورهم عاديًا في مجتمع المغرب الذي يمكن القول بأنه مجتمع مسلم في أغلبيته الساحقة، إذ إن اليهود تبوَّأوا مناصب مهمة في مختلف طبقات المجتمع وعلى اختلاف مجالاته الحيوية، فنتحدث في المغرب عن يهوديّ القرية أو المدينة، ثم اليهودي الحرفي الفقير، ويهودي السلطان أو يهودي البلاط الغني ذو النفوذ والحظوة؛ فقد شهد عهد الأسرة العلوية في المغرب مثلاً وجود أكبر عدد من اليهود في خدمة السلاطين بشكل يفوق ما حصل في أية مرحلة سابقة من التاريخ المغربي، على حد تعبير الكاتب دانييل شروتر في كتابه "يهودي السلطان"[1] الذي يرصد فيه وصول اليهود إلى أعلى مراتب النفوذ في الهرم السياسي للدولة المغربية، مما يجعل مكانة اليهود ثابتة في تاريخ المغرب، كما يحيل إلى وجود نموذج متميز من التعايش بين الأعراق والديانات عرفه المجتمع المغربي عبر التاريخ، فما هي إذن تجليات التعايش بين المسلمين واليهود في المجتمع المغربي؟ وهل هو تعايش مؤطر بمصلحة معينة أم نابع من تأصّل التسامح والتعايش مبدأً مجتمعيًا ساد في المغرب عبر التاريخ؟

اليهود والامتداد في التاريخ المغربي:

إن محاولة البحث عن التاريخ الحقيقي لاستقرار اليهود في المغرب يكتنفه الغموض، نظرًا لندرة الأدلة الكافية، ولقدم استقرارهم الذي يقدره البعض بحوالي ألفي سنة، إذ يُرجع الباحث "حاييم الزعفراني" تواجد اليهود بالمغرب إلى أزمنة قديمة "فجذور يهودية الغرب الإسلامي تمتد إلى عهود سحيقة، إذ يُعدُّ اليهود تاريخيًا أول مجموعة غير بربرية وفدت على المغرب وما تزال تعيش فيه إلى يومنا هذا".[2]

ويسانده في هذا الطرح إبراهيم حركات إذ يقول: "وقد كان مجيئهم إلى الشمال الإفريقي في هجرات منقطعة كان أولها مع الفينيقيين، والواقع أن اليهود تمكنوا من معايشة المسلمين في أجزاء كثيرة من المغرب".[3]

وبين الطروحات المختلفة في هذا الصدد، يبقى المتفق عليه هو أنهم ثاني عنصر استقر في المغرب بعد الأمازيغ، إذ انتشر اليهود في العديد من مناطق المغرب، وكانوا يتمركزون في الحواضر الكبرى، مثل فاس وسجلماسة وآسفي، وقد تمكن اليهود طيلة القرون التي استقروا خلالها في المغرب، من تكوين فئة اجتماعية متميزة من السكان المحليين، سواء من الناحية الدينية أو العرقية أو التقاليد، وتعتبر مرحلة الفتح الإسلامي للمغرب من أهم الفترات التي برز فيها اليهود وتمتعوا خلالها بمجموعة من الحقوق والامتيازات.[4]

اليهود في المغرب، التوزع المجالي واللغة:

لقد خلق قدم استقرار اليهود في المغرب وضعًا مميزًا في بعض المناطق التي استقروا فيها في المغرب، إذ نجد تواجدًا مكثفًا لليهود في بعض الجهات المغربية بشكل مثير، إذ إنه إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر نجد في قرية "دبدو" المغربية مثلاً حوالي ألفي نسمة من اليهود تقابلها خمسمئة نسمة من المسلمين، إضافة إلى أن مدينة الصويرة شكل اليهود نصف سكانها، بينما شكل المسلمون النصف الآخر، مثلما نجد تواجدًا مكثفًا لليهود في مدن الجديدة، من مثل فاس ومكناس، بالإضافة إلى واحات درعة والأطلس الكبير. وكان يعيش في أربعينيات القرن الماضي في المغرب حوالي ثلاثمئة ألف يهودي، ولم تكن تخلو مدينة مغربية من اليهود الذين كانوا يشكلون 10% من سكانها على الأقل، وهو ما خلف أثرًا عبريًا قويًا في الثقافة الشعبية المغربية، وفي مظاهرها اللغوية والاجتماعية والسياسية، نتج عنه التلاقح الحضاري والتمازج الذي حدث بين اليهود المغاربة والمسلمين المغاربة عبر التاريخ.[5]

برز التواجد اليهودي المكثف في مختلف المناطق المغربية على المستوى اللغوي، من خلال وجود ثلاث مجموعات من المتكلمين اليهود في المغرب؛ مجموعة تتكلم بالأمازيغية وتقطن الأطلس، ومجموعة تتكلم الإسبانية وتقطن الشمال، ومجموعة ثالثة تتكلم الدارجة المغربية، في حين ظلت العبرية لغة عالمة ولغة خاصة، لغة النساء أو لغة البيت خاصة.[6]

المغرب الملاذ التاريخي الآمن لليهود:

جعلت ملازمة خاصية الشتات، أو ما يعرف بالدياسبورا لليهود تاريخيًا، هذا العنصر البشري يستوطن مجالات جغرافية مختلفة، وهو ما تدل عليه أطياف اليهود الموجودة حاليًا، كالسفرديم، والأشكيناز، والمزارحيون.. .إلخ، وهي طوائف يميز بينها الانتماء التاريخي للبلدان التي عاشوا فيها قبل تأسيس كيانهم العبري على أرض فلسطين المحتلة، وقد اختلفت وضعية اليهود في البلدان التي عاشوا فيها على اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية وطبيعة النظرة إليهم والمواقف التاريخية أو الدينية التي توفرت لدى المجتمعات التي استوطنوا فيها، ولا من التأكيد هنا على المآسي التي عاشها اليهود في مناطق مختلفة من العالم عبر التاريخ، فمن طردهم الجماعي إلى جانب المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر قلاع المسلمين هناك أواخر القرن الخامس عشر ميلادي، إلى ما تعرضوا له على يد بعض الأنظمة الديكتاتورية في الفترة المعاصرة، النظام الألماني النازي خاصة، على يد هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، ولا بد من التوقف في هذا المقام عند استقرار اليهود في العالم الإسلامي عبر التاريخ، فهل تعرّض اليهود في العالم الإسلامي، المغرب خاصة، لحملات تطهير عرقي أو طرد جماعي في فترة من الفترات التاريخية؟

يكاد لا يجد باحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم الإسلامي اضطهادًا ممنهجًا ضد اليهود، رغم ما يمكن أن يقال عن صورة اليهودي في المعتقد الديني للمسلم، وما أوردته بعض النصوص الدينية عن نصيب الغضب الإلهي الذي ناله اليهود في فترات تاريخية محددة، والتي وصلت حد "المسخ" نظير عصيان الأوامر الإلهية، وفي المقابل فإن أصول التسامح تجاه اليهود تنبع من الاستناد إلى المفهوم الديني الإسلامي "أهل الذمة" الذي يعطي معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام مساحة للعيش في كل المجتمعات المسلمة، وهو ما وفر لليهود إمكانية الاستقرار والاندماج في المجتمع المغربي.[7]

لقد استطاع اليهود العيش باطمئنان نسبي في المغرب، رغم اختلاف وجهات النظر في هذا الصدد بين الباحثين اليهود أو المغاربة على حد سواء، إذ يذهب البعض إلى أن ازدهار أحوال اليهود في المغرب ارتبط بتصاعد حظوة نخبهم لدى السلاطين المغاربة من عدمها[8]، لكن الجيل الجديد من الباحثين اليهود، المغاربة خاصة، من مثل "حاييم الزعفراني" فيذهب إلى تأكيد الطرح القائل بتمتع اليهود بحياة مستقرة في المغرب، إذ يقدم الزعفراني وصفًا لتاريخ من التكافل المستمر بين المسلمين واليهود المغاربة، وكتب بأن "التعايش بينهم كان يتحقق في الحياة اليومية وفي المخيال الاجتماعي وفي الثقافة الشعبية.. . وفي فضاءات الالتقاء هذه تنهار الحدود الدينية و(الوطنية)، ويظل اليهودي المغربي بصفته جزءًا لا يتجزأ من المحيط الاجتماعي والثقافي واللغوي للغرب الإسلامي والعالم الأندلسي المغاربي – القديم".[9]

وانطلاقًا من هذه الآراء المختلفة، فإن المغرب يبقى من أكثر البلدان التي تمتع فيها اليهود بظروف ملائمة للاستقرار والاندماج في المجتمع، مع ما يميز اليهود من الحرص الشديد على التشبث بالتعاليم والطقوس الدينية المختلفة[10]، والذي قوبل بتسامح كبير من طرف المجتمع المغربي المسلم الذي ذهب في قبوله لليهود حد اقتسام أضيق مجالات العيش والمتمثلة في السكن، ناهيك عن المعاملات الاقتصادية وغيرها.

مجالات تعايش إسلامية يهودية:

يمكن الحديث عن التعايش بين المسلمين واليهود في المغرب على مستويات متعددة، فحضور اليهود في مختلف مجالات المجتمع المغربي يعد مؤشرًا على ما كان يتمتع به هؤلاء من مساحات تسامح مجتمعي مهمة، وهو ما أهّلهم ليلعبوا أدوارًا مختلفة مهمة ويضمنون حضورهم الثقافي المتميز في المغرب.

فعلى المستوى الاقتصادي لعب اليهود دورًا كبيرًا في تحريك عجلة الاقتصاد المغربي إبان فترات استقرارهم، وقد تجلى ذلك في اهتمامهم بالصناعة، الحرف التقليدية خاصة، ويرجع ذلك إلى تعاليم دينهم التي تفرض على كل يهودي تعليم ابنه حرفة منذ صغر سنه "يعتبر تعليم الابن مهنة من المهن فريضة شرعية.. . وعمومًا يتعلم الابن مهنة والده مثل الصياغة والنجارة"، والسبب الثاني هو براعتهم وإتقانهم لمختلف الحرف اليدوية مثل صياغة الذهب والفضة، كما استطاع اليهود بفضل مساهمتهم الفعالة في الأنشطة الاقتصادية تحسينَ الوضعية الاقتصادية للمغرب، وهو ما أهلهم لتقلد مناصب سامية في المخزن المغربي، إذ احتل عدد منهم مناصب مهمة في السلك الديبلوماسي، فقد كان اليهودي "ميمران" مستشارًا للمولى إسماعيل، كما تولى اليهودي "بن عطار" باسم المغرب توقيع معاهدة 1721 مع إنجلترا، وهو ما جعل اليهود يحظون بعطف الملوك وحمايتهم، نظرًا للأدوار المهمة التي قاموا بها.[11]

ويعد الجانب الديني من أهم المميزات التي ميزت اليهود عن باقي سكان المغرب عبر التاريخ، في الفترة الإسلامية خاصة، إذ كان اليهود حريصين على أداء تعاليم دينهم، في ظل التسامح الذي تمتعوا به في المغرب تاريخيًا، والذي يتجلى في ممارستهم لمختلف عاداتهم وتقاليدهم وفي الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية والمراسيم الجنائزية، وهو ما جعلهم يتوفرون على عدد مهم من المزارات والأضرحة، إذ يوجد في المغرب حوالي ستمئة واثني عشر ضريحًا للأولياء اليهود من بينهم مئتين وأربعة عشر ضريحًا في الأطلس الكبير، ومئة وضريحين في الساحل، واثنين وثلاثين ضريحًا في درعة وصاغرو[12]، ويؤكد استمرار تواجد هذه المزارات والأضرحة إلى اليوم تسامح المجتمع المغربي تجاه اليهود.

ومن بين مجالات التعايش بين المسلمين في المغرب يطالعنا مجال السكن، وهو مجال مهم إذا أخذنا بعين الاعتبار خصوصية هذا المرفق في المجتمعات المسلمة، ورغم أن أغلب اليهود كانوا يسكنون في حي خاص بهم يسمى "الملاح"، وهذا الحي نجده في أغلب المدن المغربية العتيقة، مثل فاس وتطوان والرباط وغيرها، إلا أن الملاح كان يتميز عمومًا بانفتاحه الكلي، وعدم وضوح حدوده، وتداخل بيوته مع بيوت المسلمين، ولم يكن يختلف عن غيره من الأحياء الأخرى في المدن المغربية العتيقة، فهو ليس أكثر ولا أقل تنظيمًا منها، كما أن بيوت اليهودي كانت تبنى مثل بيوت المسلمين ولا ينعزل بعضها عن البعض الآخر إلا لمامًا، وهي عبارة عن حجرات تعيش فيها العديد من الأسر في وئام تام وتنفتح على ساحات مشتركة وتستعمل فيها المراحيض بشكل مشترك.[13]

لقد انتهى تواجد اليهود بشكل شبه كلي بعد فترات استقرار دامت أزيد من ألفي سنة، تمكنوا خلالها من ترك بصماتهم على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، كما أنهم تأثروا بالسكان المحليين وأخذوا عنهم عديدًا من العادات والتقاليد، ولم يعد من ذلك التاريخ سوى ذكريات يعتز بها يهود المغرب، وآثار استقرارهم في الموسيقى والغناء والفلكلور إضافة إلى مزاراتهم الموسمية الجماعية لقبور أوليائهم المحليين، ويمكن الجزم من خلال مختلف مظاهر التعايش المرصودة تاريخيًا بين المسلمين واليهود في المغرب، بأن هذا الأخير يمثل أنموذجًا من بين أرقى نماذج التعايش التاريخي بين الديانات في العالم.


[1]- دانييل شروتر "يهودي السلطان" تعريب خالد بن الصغير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط أكدال، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، الرباط، 2011، ص 32

[2]- حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب (تاريخ، ثقافة، دين)، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، الطبعة الأولى، 1987، الدار البيضاء، ص 9

[3]- ابراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء الأول، الطبعة الثانية، دار الرشاد الحديثة، 1984، ص 56

[4]- دانييل شروتر، مرجع سابق، ص 37

[5]- شمعون ليفي، محاولات في التاريخ والحضارة اليهودية المغربية، مركز طارق بن زياد، الطبعة الأولى، الرباط، ص 16

[6]- دانييل شروتر، مرجع سابق، ص 65

[7]- نفسه، ص 35

[8]- نفسه، ص 34

[9]- حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ص 288

[10]- دانييل شروتر، مرجع سابق، ص 30

[11]- حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ص 84

[12]- جريدة الاتحاد الاشتراكي، السبت 29 يناير 2000 عدد 6015

[13]- النقيب فوانو "وجدة والعمالة"، ترجمة: محمد الغرايب، الجزء الأول، مطبعة شمس،الطبعة الأولى، وجدة، 2003، ص 181