التسامح من أجل التعايش
فئة : مقالات
التسامح من أجل التعايش
ملخص:
يهدف هذا المقال إلى إبراز المعاني الجوهرية للتسامح في بعديه التاريخي والفكري؛ وذلك بالتأكيد على العلاقة الممكنة بين هذا المفهوم من جهة، وبين مطلب التعايش السلمي بين الشعوب والحضارات، من جهة أخرى، ولقد اخترنا أن تتراوح المنهجية المعتمدة في هذا المقال، بين المفهمة والتحليل فالاستنتاج؛ وذلك عبر تبويب البحث إلى ثلاثة عناصر؛ يتعلق الأوّل بالحفر في المفهوم وسيرورته التاريخية والفكرية، ويرتبط العنصر الثاني بتحليل العوائق الواقعية والحضارية للتسامح في أبعاده الدينية والمدنية. أما العنصر الثالث، فسنبسط من خلاله فكرة رهان الإنسانية على العيش السلمي المشترك بين كل الأفراد والمجموعات البشرية على اختلاف مكوناتها، وهذا التعايش المنشود سيكون مشروطًا حتمًا بفعل التسامح الذي يعني في جوهره عدم إقصاء الآخر وقبول الاختلاف.
وفي النهاية، يمكن الوقوف على أهم النتائج الفكرية المتصلة بمسألة التسامح وعوائقها الواقعية والاجتماعية، ولعلّ من أهمّ هذه النتائج هو أن العيش المشترك يتطلب أن تتحلى المجموعة بقيم التسامح، وهذا ما يجعلنا ننبّه إلى العمل على إعداد أرضية فكرية قائمة على مفهوم التسامح في مجتمعاتنا الحديثة التي تتوق نحو التعايش، ولكنها تصطدم بواقع يكتنفه الإقصاء والعنف والتهميش.
مقدمة:
قد يبدو لنا مفهوم التسامح مفهومًا واضحًا وبديهيًّا، ولكن تتبع معانيه ودلالاته التاريخية والاجتماعية قد ينبّه إلى تعدد استعمالاته في سياقات مختلفة، دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. فالتسامح يُمكن أن يكون طريقة في العيش تتبعها مجموعة بشرية بصفة تلقائية من أجل تسهيل العيش معًا وتدبير شؤون الحياة اليومية بين أفرادها استبعادًا للعنف والإقصاء وتوحيدًا للقوى الفردية، ولكن من جهة أخرى يمكننا أن ننتقل في دراسة هذا المفهوم للتسامح من معناه اليومي التلقائي إلى المعنى الفكري والفلسفي، وحينئذ نكتشف أن التسامح يرتبط بدلالات أخرى دينية وسياسية وتاريخية. وهذا هو في الحقيقة الرهان الأساسي الذي يوجّهنا في هذا البحث، حيث سنسعى إلى الوقوف على الدلالة الحقيقية للتسامح بمعانيه المختلفة (التسامح الديني، التسامح الفكري، التسامح السياسي...). فأول الأشياء التي بالإمكان اكتشافها في هذا السياق بالذات، هو أنّ هذا اللفظ يُحيلنا على مسارات متشعبة من المعاني والدلالات التي تكتسب قيمتها من الواقع المرتبط بها؛ أي الواقع في بعديه الزماني والمكاني، وبالإضافة إلى هذا البعد الدلالي والمعجمي لمسألة التسامح نحن أمام تحديات تتعلق بالإكراهات الموضوعية التي تتعسف على المفهوم، وتقلص من الطموح الإنساني للعيش المشترك أو التعايش في عالم تسوده روح التسامح، وقد تتمثل هذه الإكراهات في التعصب ورفض الاختلاف وإقصاء الآخر والعنصرية وغيرها من الأشكال اللاإنسانية للعيش، وهي كلّها تمنع فكرة التعايش من التحقق على أرض الواقع. لذلك، فإن الرهان العملي الأساسي الذي ينتظرنا هو كيفية تجاوز عوائق التسامح من أجل تحقيق التعايش السلمي كواقع ملموس، ومن ثم التغلب على تلك العوائق وتجاوزها بوصفة علاجية تكون تركيبتها متنوعة، أخلاقية، اجتماعية، دينية، سياسية. وهذه المقاربة لمسألة التسامح أقرب ما تكون إلى الاستراتيجية الفعّالة للتعايش السلمي بين البشر، أو حيث يتحوّل هو إلى شرط أساسي من شروط هذا التعايش. ومن جهة أخرى، يمكننا من خلال هذا البحث أن نعاين طبيعة العلاقة بين واقع التسامح وما يقتضيه من مرونة الطباع الفكرية والأخلاقية من جهة، وبين ضرورة تكريس الفكر النقدي في الواقع اليومي، وهو فكر يقوم بالأساس على الحوار بين الأضداد واستيعاب الاختلاف من جهة أخرى.
التسامح ودلالاته:
يظهر لنا التسامح في البداية بوصفه قيمة أخلاقية تعطي للآخر اعتبارًا ومكانة يجعلان من التواصل معه غاية وهدفا، فيكون التسامح من هذه الزاوية استبعادًا للأنانية وإقرارًا بأنّ الحياة أرحب من حصرها في حدود الذات الضيقة. ففي تعريف معجم "لالاند الفلسفي"، نجد أنّ التسامح هو طريقة تصرّف لشخص يتحمّل، بلا اعتراض، أذىً مألوفًا يمسّ حقوقه الدقيقة، بينما في إمكانه ردّ الأذيّة، ثمّ إنّنا بهذه الكيفية نرى في التسامح استعدادًا عقليًّا أو قاعدة مسلكية قوامها ترك حريّة التعبير عن الرأي لكل فرد، حتى وإن كنا لا نشاطره الرأي[1]. وهذا يعني كذلك أنّ السلوك المتسامح يُشجّع في جوهره على التفكير الشخصي والذاتي والمستقل دون وصاية من أحد. لذلك، فإن فعل التسامح هو بمثابة الاحترام لآراء الآخر؛ وذلك بوصفها مساهمة في الحقيقة الشاملة. تاريخيًّا، ظهرت كلمة "تسامح" في القرن السادس عشر من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، فقد انتهى الأمر بأن تساهل الكاثوليك مع البروتستانت، ثمّ صار التسامح ديدنًا يُرتَجَى عند جميع الديانات وفي المعتقدات، وفي القرن التاسع عشر، شمل التسامح الفكر الحرّ[2] ويُحدّد "إد. غوبلي" بدقة كبيرة، فكرة التسامح الحديثة قائلاً: إنها تقوم "ليس على التخلي عن قناعات المرء أو الامتناع عن إظهارها، والدفاع عنها أو نشرها، بل تقوم على امتناعه عن استعمال جميع الوسائل العنيفة والقدح والذم، بكلمة يقوم المتسامح على تقديم أفكاره دون السعي لفرضها"[3]. وبهذا المعنى، فإنّ الفكر القائم على التسامح هو فكر مناهض للعنف بما أنّه يضمن حرية التفكير للآخر دون أن يبحث عن الوسائل لإقصائه. إنّه باختصار الفكر الذي يقترن بالسلم والحوار الهادئ والرصين. من ذلك أن الشخص المتسامح لا يقول لك: إمّا أنا أو الآخر، بل يؤمن أنّ إثبات الذات وتأكيدها كذات مكتملة الوجود، لا يتم إلّا عبر الاعتراف بهذا الآخر وبآرائه وأفكاره المختلفة، وحتّى المتناقضة مع أفكارنا، ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنقول إنّ الاعتراف بنا كذوات لا يتمّ إلّا عن طريق انتزاع هذا الاعتراف من الآخر بواسطة الحوار معه ومناقشة أفكاره والقبول بها كفكر مقابل لأفكارنا ومكمّل لها في الوقت نفسه.
إنّ التسامح في معناه الأصيل يرتبط بمعاداة الاضطهاد عموماً، ولذلك يعرّفه قاموس الأكاديمية الفرنسية في طبعته الأولى لسنة 1694 بأنّه "المراعاة وذلك التلطف والتساهل والإعفاء مع أولئك الذين نعجز عن التعرّض لهم ومنعهم"[4]. ويحيل هذا المفهوم في الحقيقة، على ولادة عصر الأنوار الذي تكون فيه الأولوية للعقل في مقابل الاعتراض على كلّ هيمنة للخرافات، وهذا العصر استلهم مبادئه من أفكار بايل وفولتير وروسو وكوندروسيه وغيرهم؛ إذ كانوا جميعهم من أنصار فكر التسامح، ورفضوا الاضطهاد الذي كانت تمارسه السلط الدينية والسياسية، وقد صبّوا جام نقدهم على مختلف أشكال اللاتسامح الديني مؤكدين على حقوق كلّ فرد في اختيار معتقده بحجّة أنه لا يمكن لأيّ كان أن يبرهن على حقيقة معتقده عبر يقين عقلاني[5].
وقد تميّز ذلك العصر الذي ظهر فيه مفهوم التسامح بتفشى أمراض الاستبداد واللاتسامح، وهذه الأمراض كانت سبباً في إلغاء مرسوم نانت (Nantes) وفي تهجير الآلاف من العائلات خارج فرنسا، كما تمّ إلغاء الأحزاب برمتها وإحالة العديد من الناس إلى محاكمات صارمة واتّهام الفلاسفة بالضلال. وقد استخلص "بيار بايل" من كلّ ذلك بأنّ الشر ناتج عن القناعات المطلقة التي يحملها الإنسان، وعن درجة التعصب في الدفاع عنها ووضعها في موضع الغلبة. وهكذا، فإنّ هذه الغيرة أو الحمية المبالغ فيها و"فساد المزاج" يدفعان الإنسان إلى الانقياد بسهولة إلى الحكم وإلى إلغاء ونفي وحتّى حرق من يخالفه في الرأي والتفكير، ولأنه يتصور امتلاكه لوحده الحقيقة، فإنّه سيحاول أن يفرض عليه بالقوة تلك القناعات التي يؤمن بها[6]. وبناءً على ذلك، يتوجّب أن ننزع من هذا المتوهم لامتلاك الحقيقة تلك القناعة بأيّ ثمن، حيث نصل إلى التخفيف من حدّة هذه القناعات المتسلطة، وجعلها أكثر لطفًا ومرونة، وأثناء الخوض في مغامرة الفكر الحرّ والروح النقدية عبر النزعة الشكوكية التي تجعل من الحقيقة نسبية تفصل بين الأخلاق والسياسة والدين يكون التفكير في ضرورة تأسيس مبدأ التسامح؛ لأنّه من المستحيل على أي مذهب أن يمكننا من الحقيقة المطلقة أو اليقين القاطع، وتبعًا لذلك علينا دائما تغليب النور الطبيعي للعقل بهدف التحرر من الأفكار المتشددة التي تخلّف المذابح والجرائم، فالتسامح من هذه الزاوية هو المعدّل لسلوك الذات المندفعة نحو التحطيم والتهديم، فيجعلها بفعل ما يحمله من اعتبارات للآخر، أكثر قدرة على التكيّف مع تناقضات الآخرين.
وانطلاقاً من هذه التناقضات، أصبح مفهوم التسامح أكثر اتساعاً، وهو ينبثق من معاينة على أرض الواقع لهذا التنوع والاختلاف الكبيرين لدى البشر والمجتمعات، ومن هنا علينا أن نعي بكيفية الفصل بين الاختلافات التي يمكن أن تكون موضع تسامح، والاختلافات التي لا يمكن إقرار مبدأ التسامح معها. وهذا بالفعل ما بيّنه لنا "تودوروف" حين أكد أن ما لا يتسامح فيه في إطار الدولة يعاقب عليه القانون، مثل الجرائم والجنح؛ أي العنف الموظف في خدمة التعصب، وعكس ذلك هناك إمكانية كبيرة للاختلافات التي يمكن التسامح معها. فلا الأفراد ولا الجماعات مضطرة للموافقة على طرائق تفكير الآخرين وسلوكياتهم، لكنّهم أيضاً لا يملكون الحق في منع الآخرين من الاستمرار في خياراتهم، ولا في اضطهادهم. ويظهر هذا الهامش من التسامح اليوم، في أوروبا التي تقدّم كمًّا هائلاً من الاختلافات؛ فبالإضافة إلى تعدّدية اللغات، توجد التعددية في الأعراف والتقاليد، وفي أسلوب تنظيم الوقت، والمكان العام أو الخاص، والتجمعات والمهن والأحزاب، ولكن صغر حجم الدول فيها جعل نشوء العلاقات فيما بينها أمرًا حتميًّا. فبعد أن خاضت حروباً بينيّة طيلة قرون سادها الحقد والازدراء المتبادل، انتهى الأمر بالشعوب الأوروبية إلى العيش معاً في اتّحاد. لم تتلاش الاختلافات، كما بسحر ساحر، لكنّها لم تعد مصدرًا للعداوة، بل صار بالإمكان تثمين وجودها بحدّ ذاته[7]. إنّ التسامح يفترض بالتوازي مع ذلك أنّه ليس من حقّ أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن مُتعه المدنية لا لسبب إلّا لأنّه ينتمي لمذهب آخر أو يؤمن بقناعات مختلفة. فكلّ الحقوق والامتيازات التي تخصّ هذا الشخص من حيث هو إنسان أو من حيث هو مواطن، من اللازم أن تكون محفوظة له محمية من الانتهاك؛ ذلك أنّ هذه الحقوق والامتيازات طبيعية للإنسان، ومن ثمّ يجب ألّا يلحق هذا الشخص أي عنف أو ضرر، سواء كان متبعاً لملّتنا أو مخالفاً لنا. وفي هذا السياق، يقول جون لوك في كتابه "رسالة في التسامح": "يجب ألّا نقنع بوضع معايير ضيقة للعدالة والمحبة والإحسان، بل يجب أن نضيف أيضاً السماحة فهذه كلّها ينصح بها العقل، ومطلوبة منا بحكم العلاقة الطبيعية بين الشخص وزملائه الآخرين. فإذا ضلّ إنسان الطريق السويّ فذلك من سوء حظّه، ولا يترتب على ذلك أي ضرر يلحق بك، ومن ثمّ فلا يحقّ لك معاقبته في أموره الدنيويّة لمجرد أنك تعتقد أنّه سيكون بائسًا فيما يحدث له في الحياة الآخرة"[8]. ومن هنا نفهم أنّ التسامح هو أساس الحرية، وأنّ حريّة الضمير حقٌّ طبيعي لكل إنسان، ولا إكراه في الدين سواء بالقانون أو بالقوّة، وعندئذ يتوقف الضمير عن الشكوى وإحداث الصخب وتزول أسباب عدم الرضا والعداوة.
صحيح أن المفهوم الفلسفي للتسامح ظهر في أثناء الصراع مع الكنيسة في أوروبا، ولكن في الدين الإسلامي نجد أنّ القرآن يوصي بالتسامح وبحريّة الفكر واحترام جميع الآراء، ويستنكر أيّ اعتداء على المعتقدات، يقول الله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلّا بالتي هي أحسن إلّا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وإليكم وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". (سورة العنكبوت، الآية 46).
ولا يجوز أن نفرض الآراء والمعتقدات فرضًا على الآخرين، بل نترك لهم حريّة الاختيار بواسطة العقل عملاً بقول الله تعالى: "لا إكراه في الدين فقد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (البقرة، الآية 256). وهذه الأفكار الداعية إلى التسامح توجد في العديد من سور القرآن، حيث إنّ القراءة الموضوعيّة المتبصّرة للآيات كفيلة بأن تجعلنا في موقف الانفتاح على الأديان والأفكار والمعتقدات المخالفة، فالتسامح محور أساسي في القرآن؛ إذ إنّ الدعوة إلى احترام الديانات الأخرى وحريّة المعتقد واحترام جميع الآراء، نجدها في ستّ وثلاثين سورة وخمس وعشرين ومئة آية.
- عوائق في سبيل التسامح:
إنّ مشروع بناء الفكر على التسامح يندرج ضمن رؤية كونيّة للوجود تقوم أساسًا على النظر إلى الإنسان لا بوصفه قطاعًا معّينًا من قطاعات الوجود، دينيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة، بل النظر إليه ضمن منظومة الوجود ككل، وهذه المنظومة تستبعد أفعال الإقصاء والاستبعاد والعنصريّة وممارسة العنف على الآخر؛ لأنّ الكون في حاجة إلى كل مكوّناته المكمّلة لبعضها البعض، وحتّى في اختلافها فهي تثري ذاتها بهذا الاختلاف. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إنّ التطرف هو أكبر عوائق التسامح؛ لأنّه عنف ضدّ الآخر وكراهيّةً له. ونحن نجد أن لفظ "التطرّف" يحيل على معنى أساسي يتثمل في التعصّب الذي يعني بدوره التشيّع لفكرة أو رأي أو موقف والدفاع عنه بكل الطرائق والأساليب، حتّى وإن كانت هذه الطرائق والأساليب غير شرعيّة أو غير قانونية، وفي هذا الاتجاه، فإنّ التطّرف ابتعاد عن الاعتدال والوسطيّة في الأفكار والمواقف من الأشياء. وبالرجوع إلى الدلالات المعجميّة في اللغة العربيّة، فإنّ فعل تطرّف، يتطرّف، تطرّفاً، يدلّ على تجاوز حدود الاعتدال؛ أي وصل إلى الطرف أو أتى الطرف، وتطرّفت الشمس أي دنت للغروب، وتطرّف الشيء أي أخذه من أطرافه[9]. وبما أنّ التطرف يمثل انحيازًا عن العادي والمألوف، وهو من جهة أخرى، ابتعاد عن مقياس "الاعتدال" الذي وضعه العقل والمجتمع معاً، فإنّه يمكن أن يعدّ حالة مرضية تصيب النفس، وتبعدها عن أهدافها الإنسانية السامية، وتدخل الارتباك والفوضى على سلوكياتها، ومن هنا تتولّد مظاهر التشدد من كراهية وعنف وإقصاء. وقد انتبه فولتير (Voltaire) إلى الأبعاد النفسية لمسألة التعصّب، وخاصة التعصب الفكري والديني؛ إذ إنّه ذهب في اتجاه المماثلة بين حالات التعصب والحمّى المرضيّة؛ إذ يمثل التعصب بالنسبة إلى التشاؤم ما تمثله العدوى بالنسبة إلى الحمّى، وما يمثله الغيض بالنسبة إلى الغضب. فالمتعصّب في الحقيقة هو شخص يحمل رؤى وأحلاما وخيالاتٍ، ولكنّه يتعامل معها لا على أساس أنّها أحلام وخيالات، بل على أساس أنّها حقائق راسخة، وهي أكثر من ذلك، تعدّ بالنسبة إليه نبوءات وأحكامًا مُقدّسة، وهذا المتعصب سريعًا ما يمكنه أن يقتل إيمانًا بأفكاره ودفاعا عنها، ويمكن اعتبار بورجوازيي باريس خير مثال للتعصب؛ إذ سارعوا إلى قتل مواطنيهم وإلقائهم من الشبابيك؛ لأنّهم انقطعوا عن الذهاب إلى الصلاة[10]. والتعصب يؤدي بالضرورة إلى ممارسة شتّى أنواع العنف الاجتماعي، فيكون سدًّا منيعا أمام تفشي روح التسامح في المجتمعات البشريّة، وهذا ما يؤكد لنا من جهة أخرى وجود علاقة وثيقة بين التطرف والقمع، فهي علاقة سبب بنتيجة؛ ذلك أنّ هذه العلاقة تتجسد في تحوّل الفكر إلى فعل. والتعصب هو العلّة الأولى للقمع ووجهه الأول، من حيث إنّه يتوجه أوّلًا وأساسًا لحريّة الغير الذاتية في الاجتهاد المغاير. فالمتطرف هو الذي يسعى بكل الوسائل إلى مصادرة اجتهادات الآخرين؛ وذلك في إطار الإيمان المبدئي بأنّه وحده الذي يمتلك الحقيقة. وهذه المصادرة لحريّة الغير في الاجتهاد هي شكل من أشكال ممارسة العنف. والتعصب مثل القمع لا ينحصر فقط في الجانب الاعتقادي وفي التقليد الديني، وإنما يتجاوز ذلك ليرتبط بالثقافة التي تنغلق على نفسها ولا تعترف بالمغايرة والتجريب والخروج عن الإجماع والحوار مع الآخر، ويمكن أن يرتبط التعصب كذلك بالدولة التسلطية التي ترفض المساواة، وتميّز بين أبنائها على أساس الجنس أو العرق أو الثروة أو العقيدة. وبهذا الاعتبار، فإنّ الثقافة الاتباعية والمجتمع الجامد والدولة التسلطية مدارات مغلقة تُفرّخ التعصّب الذي ينتج القمع[11]. إنّ الفكر المتطرف بما يحمله من إرادة إقصاء الآخر المختلف يولّد طاقة عنيفة تجاه المغايرة، فيكون العنف بذلك دالًّا على نوع من القوّة العاطفية والنفسيّة والجسديّة غير المنضبطة، والتي تسعى بكلّ جهدها إلى نسف كلّ قوة أخرى مضادة لها. فإذا كان أيّ فكر بشري بصدد التطوّر وبلوغ مساره الطبيعي، فإنّ العنف يقف حائلاً أمام تحقيق هذا الهدف. وهنا ينبغي أن نميّز بين العنف والقوّة؛ إذ إنّ القوّة في حاجة دائما إلى إعداد في حين أنّ العنف يمكن ممارسته من غير إعداد؛ لأنّه يحتاج إلى العتاد، ثمّ إنّ أقصى القوّة يتمثل في اجتماع الكلّ ضد الواحد، وإنّ هذا الأمر ليس ممكنا من غير العتاد[12]. وهكذا، فالعنف يرتبط بالفكر الأحادي، هذا الفكر الذي لم يؤمن بقيمة الاختلاف والتنوّع وأعلن الحرب على الجميع، وعلى كلّ الاختلافات الممكنة، ولقد كان الإسلام السياسي من أمثلة العوائق الكبيرة أمام تكريس فكر التسامح؛ لأنّه يجتهد في إبراز النمط الجامد للدين، ويخفي طابعه الحركي الديناميكي والاجتماعي. إنّ الحقيقة التي تتخفى وراء الإسلام كإيديولوجيا هي حقيقة الإسلام العادي؛ أي الإسلام المعيش كما يُمارسه عامّة الناس بصفة يوميّة، وهو من هذه الزاوية، ينطلق من الدعوة إلى السلام والأخوّة والمحبة بين الناس أجمعين: فالإسلام العادي يتجذّر في عمق المجتمع وتحوّلاته ويندمج في بناه وتركيبته مهما كانت فرادتها، وهو ما يؤكّد باستمرار أخلاقيات اجتماعية أساسها التعاون وحسن الضيافة والتسامح والاعتدال[13]. وهكذا، فتاريخ البشرية يطفح بالجرائم التي يمكن أن نلاحظها من خلال سلوكيات الأفراد والأمراء والملوك والبابوات الذين عملوا في تلك الأزمنة على إخضاع الدين لأهوائهم وانفعالاتهم عبر الحروب التي خاضوها في مختلف الدول والمدن والأقطار، وما خلّفوه من مذابح وانتهاكات، فكانت تلك السلوكيات متداخلة ومعقّدة وخالية من التسامح، بل تدعو إلى الاستغراب والخجل[14]. وما يفهم من هذا هو أنّ التهديد الحقيقي للمجتمع يتمثل في العنف؛ لأنّ السلوكيات العنيفة تعبّر بطريقة لا واعية، عن خلل نفسي واجتماعي يعتري الأفراد في فضاء عيشهم المشترك؛ وذلك يطرح علينا معالجة هذه السلوكيات التي لا تدلّ إلّا على انزياح شاذ عمّا هو طبيعي وإنساني، وتدلّ كذلك على انعدام القيم الإيجابية، ثمّ إنّ أبرز معوّقات التسامح بين البشر تتأتى من الرغبة في الإقصاء التي كثيراً ما ترتبط بالرغبة في فرض الذّات وإثباتها، وكأنّ انتزاع الاعتراف بذواتنا لا يتمّ إلّا من خلال نفي الآخر وإقصائه. وهذه الرغبة في إقصاء الآخر، ترتبط في الحقيقة، بنوع من الغطرسة لدى الأفراد تجعلهم يتوهمون امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا يتصوّرون، في المقابل، فرضية نسبية الحقيقة التي يمكن أن يتقاسمها الجميع في الفضاء المشترك دون الدخول في دائرة العنف. والإيمان بوجود حقيقة نسبيّة يتبادلها الجميع، هو الهدف الأسمى الذي يتطلب بالأساس نوعا من التواضع الفكري الذي يفرض على الإنسان أن يعترف بحدود المعرفة، وحدود العقل، وحتّى حدود الرغبة الإنسانيّة والأمل الإنساني في أن تكون لنا سلطة مطلقة على الطبيعة وعلى الآخرين. يبقى أن نقول في هذا الصدد، إنّ غياب التسامح وانتشار سلوكيات العنف والإقصاء والكراهية للآخر ولكلّ أشكال الاختلاف والتنوّع من شأنه أن يهدّد القيم الإيجابية التي ينبغي أن تسود في أيّ مجتمع ينشد التماسك والتعايش السلمي بين أفراده، فالتعصب يؤدّي بالضرورة إلى تلاشي قيم التآخي والمحبة بين أفراد المجتمع، هذه القيم التي تجعل من الذات تضحي بجانب الأنانية فيها، ويغلب عليها سلوك الإيثار إلى درجة الاستعداد "للعيش من أجل الآخرين" كما يقول الفيلسوف أوغست كونت، وهذا ما سيكون محور تحليلنا الموالي.
- التعايش كرهان للتسامح:
إنّ فكر التسامح بما يحمله من استعدادات إنسانية لقبول الاختلافات، هو فكر اجتماعي أوّلاً؛ لأنّه يهدف إلى ما يمكن أن نسميه "التعايش"، وهو نوع من العيش المشترك الذي دونه لا حياة اجتماعيّة أو مدنيّة ممكنة. فمقولة "الإنسان مدني بطبعه" التي نجدها عند أرسطو وابن خلدون تنطوي في عمقها على معاني التعايش السلمي بين البشر في كنف استيعاب التناقضات الممكنة. وفي هذا السياق، يتحدّث المفكر فتحي التريكي عما يسميه "جمالية العيش المشترك" التي تعني قدرة الإنسان على تغيير اجتماعيته الطبيعية وتحويلها إلى اجتماعية معقلنة وواعية. فالعيش المشترك الذي يتحقق في إطار الاجتماعية الواعية هو تعايش منظم حسب قاعدة الأنس والمحبة، ومفهوم التآنس هنا يُفيد نوعًا من العيش الجماعي ضمن التآلف والانسجام، والذي لا يعبّر فقط عن عدالة مصحوبة بالحكمة والحبّ، ولكن أيضًا عن الوفاق الممكن بين الأشخاص، فهو يُعبّر عن إنسانيّة قوامها حقّ الاختلاف والاحترام والمحبّة. على أنّ لفظ التعايش يجب أن يكون مفهومًا بمعناه المتضمن في اللفظ العربي "تآنس"، والذي يجمع بين اجتماعيّة الإنسان وحكمته، وبين نشوة اللقاء والاختلاف الثري، وبين الصداقة والحنان، وأخيراً بين الضيافة والانفتاح على الآخر، وهي عبارة مشتقة من فعل "آنس"؛ أي التعوّد أو التآلف مع الآخر، مع إثبات مشاعر الصفاء والفرحة والسعادة والراحة صحبة الآخر، فالأنس هو عكس الوحشة التي تعني الوحدة والعزلة والبقاء وحيدًا، وهي أيضا شعور تولده الوحدة كالتعاسة والحزن والضيق والخوف[15].
ويمكن القول في هذا السياق، إنّ العولمة أفرزت نمطاً من العيش يقترب كثيرًا من بعض معطيات التوحش؛ إذ قد يدفع تغلب "التكنوقراطي العلمي" على مجرى حياتنا في حاضرنا كلّ فرد من الأفراد الموجودين داخل المجموعة التي تفتقد للروابط الاجتماعية إلى نوع من الوحشة والكآبة، وإلى الوحدة التي قد تتحوّل إلى العنف والهمجيّة. ولكن، رغم كلّ ذلك، يمكن للأنس أن يخلق أرضية للإقصاء والكراهية هو نفسه، فطلب الأنس الذي يعتمد القرابة، خاصةً في طابعها العائلي، يمكن أن يقودنا إلى الجماعات الهوويّة لإزاحة كلّ غريب عن النسب والخصم. ولعلّه من البديهي بالنسبة إلى تصوّر العيش معاً أنّ سلبية الجماعة تكمن في كونها تحصر نفسها غالبا في الأقارب والأصدقاء أو في الذين يتميّزون بأيّ شكل من الأشكال فيؤلفون عصمة تقوم على استبعاد الغير. هكذا قد يحدث التآنس نوعًا من الإقصاء، فتتكوّن بذلك مجموعات متآلفة ضدّ الآخر تخدم مصالحها الخاصة، وهي معضلة يصعب حلّها[16].
إنّه لا وجود لحياة مشتركة دون توافق أو تحاور أو وعي، ولو بنسبة صغيرة؛ وذلك في ظلّ القرابة الفردية والتجمعات المترابطة والهياكل المهنيّة، والمنشئات الثقافية والفنيّة على الصعيد الوطني والصعيد الإنساني، وهكذا لا توجد حياة عامة أو إمكانية لحياة كونيّة دون رابط إنساني ضمن نظام المجتمع والحق المشترك أو ضمن وحدة اللغة أو الكلام الذي تتقاسمه الممارسات اليومية والعادات والتقاليد والأمنيات والحقوق والواجبات التي تهمّ كلّ فرد. إنّ المجتمع لا تحقق وحدتها وهويتها إلّا باتفاقها من خلال عمليّة تحاورية ضخمة تتأسس فيها عوامل الارتباط وأسباب إنجاحها وتحوّلها إلى عيش مشترك في ظل الكرامة والحريّة، وهذه العملية التحاورية ليست داخلية فقط، بل يمكن أن ترتبط بحضارات وثقافات أخرى مختلفة عنا. ومع ذلك، فحوار الحضارات لا يحقّق نجاحه ولا يصل إلى الهدف المنشود من العيش المشترك والتعايش السلمي، إلّا إذا ما توفرت الحدود الدنيا للتسامح بين الثقافات والأديان، ولعلّ أهمها هو الاعتراف بالآخر، فلا بدّ أن يكون كلّ من طرفي الحوار أو أطرافه معترفاً بالآخر والآخرين. فالحوار يتطلب قبولاً مبدئيًّا على الأقل بوجود الآخر وبحقّه في هذا الوجود، بخصوصيّته التي لا يجوز لأحد أن يسعى إلى تغييرها، وبمقوّمات استمرار بقائه مغايرًا ومتميّزًا، وبحقّه في المحافظة على هذه المقوّمات وتوريثها في أجياله المتعاقبة جيلاً بعد جيل[17]. ومن شروط نجاح حوار الحضارات واستمراره هو التبادل الحضاري؛ أي أن يتحقّق معنى التبادل، بأن يكون لكلّ طرف من أطرافه حقّ قول رأيه وبيان موقفه من القضايا التي يجري الحوار حولها، ومهما كان هذا الرأي أو الموقف مخالفا.
ولكي يكون حوار الحضارات مُستمرًّا يجب أن يكون نشاطًا دائما مُتجدّدًا؛ لأنّ الإحاطة بجوانب التميّز والتغاير، ثمّ الإفادة منها في تبادل الخبرة والمعرفة ووسائل النمو والترقي، لا يتمّ في جلسة أو عدة جلسات ولا يحيط به فرد أو مجموعة أفراد، ولكنّه يحتاج إلى تواصل مستمرّ يتعدّد المشاركون فيه بتعدّد جوانب الحياة وتكاثر التّخصّصات فيها، حتى يؤتي ثمرته ويُحقّق غلبته. ومن شروط نجاح حوار الحضارات كذلك واستمراره أن يكون محوره الثقافة التي تعبّر عنها الحضارات المختلفة والنشاط البشري الذي تتجسد فيه هذه الثقافة[18]. إنّ هذا الحوار الثقافي يُعبّر عن فكرة التعايش في عالم مشترك. وهذه الفكرة نفسها هي القاعدة الأساسية لمفهوم "المواطن العالمي" و"المواطنة العالمية". وأن يكون المرء مواطنا عالميا، ليس معناه أن ينتمي إلى جماعة عالميّة – إلى إنسانية بلا جنسيّة في مجملها لكونها أرادت لنفسها أن تكون لوحدها جماعة واحدة – بل معناه أن يتفكر انخراطه الخاص في جماعة أو جماعات محدودة وفي انتمائه الخاص إليها، على أن يكون ذلك ضمن أفق العالم المشترك. إنّه يعني إلحاق الحقوق المدنيّة والسياسيّة المرتبطة دوما بالاعتراف السياسي بجماعة بعينها بمبدأ "الحق في أن يكون لنا حقوق"، وهذا المبدأ لا معنى له إلّا بالنظر إلى عالم مشترك تتعرّض فيه تلك الحقوق لخطر كثرة الناس الفاعلين في فضاءات عمومية متميّزة فيما بينها[19]. وهكذا نحن مُلزمون على المحافظة على تنوع الثقافات وتطوير الوحدة الثقافية للإنسانية التي تترعرع في بيئة التسامح. فاللقاءات التي تتلاقح فيها الأفكار والثقافات والأعراف تكون مبدعة للتنوع والتجديد. وينبغي أن تتطوّر الوحدة والتلاقح والتنوّع ضدّ التجانس والانغلاق، كما ينبغي أن تحلّ إعادة الوصل محلّ الفصل وأن تدعو إلى تعايش حكيم – حكمة العيش معا.
ليس التلاقح إبداعًا جديدًا للتنوع انطلاقا من اللقاء فحسب؛ إذ يصبح نتاجًا ومنتجًا لإعادة الوصل والوحدة في سيرورة الكوكب. إنّه يدخل المركب في قلب الهوية المتلاقحة (ثقافية أو عرقيّة): من الأكيد أن كلّ واحد ينبغي عليه تنمية هويّته متعدّدة المنابع، والتي تسمح لأن تدمج داخلها الهويّة العائلية والهوية الجهويّة والهويّة الإثنية والهوية الوطنية والهوية الدينية أو الفلسفية والهوية القارية والهوية الأرضيّة، إلّا أنّ هذا الذي جرى تلقيحه يمكن أن يعثر في جذور هويته المتعدّدة على قطبا عائليًّا مزدوجًا وقطبًا إثنيًّا مزدوجا وطنيا وحتى قاريًّا يسمح له أن يشكل في ذاته هويّة مركبة إنسانيّة تماما[20]. ينبغي أن لا ننظر إلى الاختلاف على أنّه شيء سلبي، بل على العكس من ذلك فإنّ التنوّع والتعدد داخل المجتمعات البشرية له مزايا كبيرة شرط أن يكون مرجع تلك الاختلافات هو العقل الإنساني الذي يجمعنا، ولذلك يقول عالم الأنثروبولوجيا "كلود دلفي شتراوس": "ربّما كانت إحدى نتائج البحث الأنثروبولوجي العديدة أن العقل الإنساني، رغم الفروقات الثقافية بين مختلف أجزاء البشرية، هو ذاته هنا وهناك، وإنّه يمتلك الطاقات ذاتها ... ولا أظنّ أن الثقافات حاولت التماثل فيما بينها نسقيًّا ومنهجيًّا. لم تكن البشرية في حقيقة الأمر تستوطن الأرض بوفرة عددية عالية طيلة الآلاف من السنين، لهذا كان من الطبيعي فقط أنّها طورت سمات خاصة بها فاختلفت فيما بينها. لم يكن هذا أمرًا مقصودًا، بل هو بالأحرى نتيجة بسيطة للظروف التي ظلّت سائدة لزمن طويل. ولا أريدكم الآن أن تفهموا هذه العملية على أنّها ضارة أو هي جملة فروقات يجب التغلّب عليها، هذه فروقات ولودة مبدعة في الحقيقة، ومن خلالها بالذّات تمّ إحراز التقدم"[21]. ويمكن القول من جهة أخرى، إنّ التعايش في ظلّ الاختلاف يتطلب منا ما يسميه كانط (Kant) "حُسن الضيافة"، وهو مفهوم يعني به الحقّ الذي للأجنبي حينما يصل بلدًا غير بلده، ألّا يعامل معاملة العدو، ويمكن لنا أن نرفض استقباله إذا لم نعرّض بذلك حياته للخطر، ولكن يجب علينا ألّا نبدي له كراهية ما دام مُسالما في مقامه. ولا يتعلق الأمر بتاتا بحقّ قد يدّعيه الأجنبي، ولكن يتعلق الأمر بحقّ الزيارة، حق منح نفسه الانتماء إلى المجتمع، وهو حقّ لكلّ البشر. بمقتضى حقّ الملكية المشتركة لسطح الأرض التي، بحكم كرويتها، لا تسمح للبشر أن ينتشروا فوقها إلى مالا نهاية له، وهم مجبرون في نهاية الأمر على أن يتحمل بعضهم بعضا جنبا إلى جنب، ففي الأصل ليس لأيّ إنسان حق أكثر من غيره في التمتع بمنافع الأرض. إلّا أنّ حقّ الضيافة، أي إمكانية أن يُقْبل الإنسان في أرض أجنبية، لا يتسع نطاقه إلى أبعد من الشروط التي تسمح بمحاولة إقامة علاقة بالسكان الأصليين. وعلى هذا النحو تتمكن قارات متباعدة من إقامة علاقات سلميّة تأخذ في النهاية طابع القوانين العامة وتسمح للجنس البشري أن يقترب شيئًا فشيئا من دستور كوني[22]. وخارج هذا التفاؤل بتعايش سلمي عالمي، ينبغي أن نحذّر من انهيار الإنسانية وتفكّكها. فالصراع بين قوى الاندماج وقوى التفكيك لا يوجد فحسب بين الأمم والأعراف والأديان، بل يوجد كذلك في رحم كل مجتمع وفي باطن كل فرد، ثمة تدفق عالمي لقوى عمياء، وردود أفعال إيجابيّة، وجنون انتحاري، ولكن ثمة أيضا عولمة مطلب السلم والحريّة والتسامح... فهذا ليس صراعا بين مد حضاري ومد همجي. إنه صراع بين أمل جماعي في النجاة، وبين خطر موت جماعي. نحن أمام حرب هائلة بين التضامن والهمجية. إنّه صراع القرن الذي انقضى واضمحل دون أن يتعلق الأمر ضرورةً بالصراع الأخير الذي سيخرجنا من العصر الحديدي للكوكب. نحن نعيش تاريخا غير ثابت، وغير يقيني، ولم يحسم فيه بعد أيّ شيء، وعلينا أن نعي بالمغامرة الجنونية التي تقودنا نحو التفكّك، كما علينا أن نبحث عن سُبل توجيهها بغاية إثارة التحوّل الضروري من الناحية الحيويّة[23].
- خاتمة:
هكذا يتبيّن لنا من خلال هذا البحث مدى قيمة التسامح في تأسيس أرضية العيش المشترك و"العيش معا" الذي ينطوي على معنى التعايش السلمي. فالتسامح الذي يكون بمثابة القيمة أو السلوك، لا يُمثّل غاية في حدّ ذاته، بل هو الوسيلة الأرقى للتعايش ولاندماج الذات مع الآخر. وبهذا المعنى، فإنّ الكائن المتسامح هو الكائن المتصالح مع ذاته الإنسانيّة، وهو الكائن الذي تجاوز كلّ أنواع الغريزة الأنانية للفرد من حيث هو فرد ليندمج في روح المجموعة وليؤمن شديد الإيمان بطابعه المدني الذي دونه لا يمكن أن تستقيم الحياة الاجتماعية والسياسية؛ إذ إنّ في غياب قيم التسامح وقبول الآخر واستيعاب الاختلاف يغزو العنف والكراهية والهمجية حياة الناس اليوميّة، وكل ذلك من شأنه أن ينسف العلاقات البشريّة ويُفكّك الروابط الإيجابية بين الشعوب، ويعطّل كلّ عملية للبناء والتقدم والرقي. إنّ التسامح مطلب ضروري للمجتمعات البشرية وشرط أساسي للتعايش. لذلك، فإنّ كل مجهودات الإنسان ينبغي أن تذهب نحو رفع الحواجز والمعوقات التي تكبّل الذات وتمنعها من وضع أوّل خطوة على طريق التخلص من أنانيتها.
قائمة بالمراجع:
أ- باللغة العربية:
- أرنت، حنا: في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت 2017
- العوا، محمد سليم: الغرب وبقية العالم، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 2000
- التريكي، فتحي: العنف والدين وتفاهم الحضارات، الوسيطي للنشر، تونس 2008
- التريكي، فتحي: جمالية العيش المشترك، الوسيطي للنشر، تونس 2012
- تودوروف، تزفيتان: اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة للنشر، عمان 2005
- عز الدين، الحبيب: الريبية والتسامح عند بيار بايل، الدار المتوسطية للنشر تونس 2017
- عصفور، جابر: ضد التعصب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2001
- لالاند، آ: الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس 2001
- لفي شتراوس، كلود: الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي، دار الحوار، دمشق 1985
- لوك، جون: رسالة في التسامح، ترجمة منى أبو سنه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1997
- معجم اللغة العربية، المحيط، أمبريميتو، بيروت 1996
ب. باللّغة الأجنبيّة:
- Bayle, P. Dictionnaire Historique et critique, édition 1820, France.
- Dictionnaire de l’académie française, France 1694
- Hazard, P. La crise de la conscience européenne, Bovin et cie, Paris 1935
- Kant, E: Pour la paix perpetuelle, P.U. F. Paris 1985
- Morin, E: Une politique de civilisation, Éditions Area, Paris 1997
- Tassin, E: Qu’est-ce qu’un sujet politique? Revue Esprit, Paris 1997
- Voltaire, Dictionnaire, Granier, Paris 1997
[1] لالاند. أ: الموسوعة الفلسفية تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس – (الطبعة الثانية) 2001
[2] نفس المرجع.
[3] نفس المرجع.
[4]Dictionnaire de l’académie francaise en 1694, premiere edition, article tolerance, P492
[5] عز الدين، الحبيب: الريبية والتسامح عند بياربايل، الدار المتوسطية للنشر، تونس 2017، ص 125
[6] نفس المرجع، وانظر كذلك: - Bayle, P. Dictionnaire historique et critique, tome 16, edition1820, France, P.107
[7] تودورف، ت: اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة للنشر، عمّان 2005، ص 88
[8] لوك. ج: رسالة في التسامح، ترجمة منى أبو سنه، تقديم ومراجعة مراد وهبة، المجلس الأعلى للثقافة (الطبعة الأولى) 1977، القاهرة.
[9] معجم اللغة العربية، المحيط، تأليف أديب اللجمي – البشير بن سلامة – شحادة الخوري – عبد اللطيف عبيد – المجلد 1، أ – ح – أمبريمتو، بيروت (الطبعة 3) 1996
[10] Voltaire, dictionnaire chronologie et preface par René Paneau (Fanatisme), Granier, Paris 1964.
[11] عصفور، جابر: ضدّ التعصب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص ص 29 – 30
[12] أرنت، حنّا: في العنف، ترجمة إبراهيم العرّيس، دار الساقي، بيروت 2017، ص 36 وما يليها
[13] التريكي، فتحي: الإسلام والعنف والاجتماعية، ورد في كتاب العنف والدين وتفاهم الحضارات، حوار أوروبا والبلدان الإسلامية، الوسيطي للنشر، تونس 2008، ص 26
[14] Hazard, P: la crise de la conscience européenne, 1 ere édition, Bovin et Cie, Paris 1935, P.128
[15] التريكي، فتحي: جمالية العيش المشترك، دار الوسيطي للنشر، تونس 2012 ص ص، 5 – 6
[16] نفس المرجع، ص ص 6 -7
[17] العَوَا، محمد سليم: الغرب وبقية العالم: مجموعة من المؤلفين: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 2000، ص 242
[18] نفس المرجع، ص 245
[19] Tassin, E: Qu’est- ce qu’un sujet politique? Revue Esprit, Avril 1997, P.149
[20] Morin E. Une politique de civilisation, pp. 13 - 14
[21] لفى شتراوس، كلود: الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي، دار الحوار، دمشق 1985 ص 19
[22] Kant: Pour la paix perpétuelle, 2 éme section, ed.P.U.F.1985, Paris, p.p.64-65
[23] Morin, E: une politique de civilization, éd. Arléa, Paris 1997, P118