حرية الضمير في الجدل الفكري المعاصر


فئة :  مقالات

حرية الضمير في الجدل الفكري المعاصر

تمثل حرية الضمير موضوعًا لجدل صاخب في كل البلدان التي تُحكم من خلال دساتير وقوانين تحمي الحرية الشخصية وتضمن للفرد حقه في السيادة على نفسه وعلى وجدانه. ولئن كانت كل الدساتير الحديثة، وعلى وجه الخصوص تلك التي أُقرّت بعد الحرب العالمية الثانية وبعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد نصّصت على التزام الدول باحترام حق الشخص في حرية المعتقد والضمير وألزمت الحكومات بتكييف قوانينها حتى تتواءم مع هذا المعطى، إلا أنّنا اليوم نلحظ أنّ حرية الضمير قد أصبحت مسألةً خلافيةً جدًّا ولم تعد تحظى بما يشبه الإجماع كما كان الأمر إبان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدولي للحقوق السياسية والمدنيّة. فمع تطوّر المجتمعات الديمقراطية إلى مجتمعات تعدّدية لا على الصعيد السياسي، بمعنى التعددية الحزبية والجمعياتية والتنظيمية والتي هي صفة ملازمة للديمقراطية الحديثة منذ ظهورها، وإنّما بمعنى التعددية الأخلاقية أي تعدّد تصوّرات الخير ومثل السعادة وتعدّد الثقافات داخل المجتمع الديمقراطي نفسه، ارتفعت العديد من الأصوات في السنوات الأخيرة مطالبة بفرض قيود على التعبير الخارجي على المعتقدات حين يتضمن نقدًا أو إساءةً لدين ما حتى يمكن الحفاظ على السلم الأهلي وعلى الاحترام المتبادل بين الأديان والثقافات.

وفي سنة 2012 وفي خضم وضع محتقن خلّفه بثّ شريط سينمائي على اليوتيوب تضمّن سخرية وعبارات غير لائقة تجاه رسول المسلمين ونبيهم، وكذلك جرّاء صُور الكرتون الساخرة من النبيّ محمّد نشرتها الجريدة الفرنسية شارلي هبدو تقدّمت جمهورية مصر مدعومة بالبلدان العربية والإسلامية الممثلة في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بـجنيف بمقترح إضافة الإساءة إلى الأديان والتجديف إلى قائمة الأفعال العنصرية المهينة لكرامة البشر والتي يتعين على المجتمع الدولى التصدي لها ككل أشكال العنصرية. وقبل أسبوع من انعقاد هذا المجلس كان الرئيس المصري لذلك الوقت محمد مرسي قد حاول أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك فتح الطريق لتبني معيار دولي للحدّ من حرية نقد الأديان.

أمّا على الصعيد الفكري والفلسفي فلم يعد الفلاسفة مجمعين على ضرورة الدفاع عن حرية الضمير إذ أصبح بعضهم يدعو صراحةً إلى إعادة صياغة مفهوم حرية الضمير في اتجاه التضييق من مجال الحق الشخصي في حرية الضمير لجعله حقًّا للجماعة الثقافية أو الدينية في أن تُحترم عقائدها الجمعيّة بوصفها مشكّلة لكيانها وللحمتها الداخلية كما يدفع إلى ذلك الفيلسوف الأمريكي مايكل ساندل (ساندل: 1990) في حين يعتبرها بعضهم الآخر ترفًا فكريًّا لا يهمّ إلا أقلية ضئيلة من المثقفين داخل المجتمع في حين يطلب عموم الناس الاحترام لعقائدهم ورموزهم الدينية وهو ما عبّر عنه بوضوح بيخو باريخ أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة وينسمانستر بأنجلترا عندما أكد أنّ من يتحمل عبء حرية الضمير هي الفئات الفقيرة الكثيرة عددًا في المجتمع (ورد ذكره عند براين باري: 2011: 60). وفي الجهة المقابلة دافع فلاسفة أمثال رولز (رولز،11 20: القسم 2، الفصل 3، المقطع 3) عن تصوّر ليبرالي فرداني لحرية الضمير يجعل منها حقًّا كاملاً للفرد لا يمكن تقليصه أو الحدّ منه تحت داعي المنفعة العامة أو حماية المقدسات، كذلك فعل براين باري الذي انتقد بشدّة دعوة بعض المفكرين للتضييق من حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالدين والانتماء الثقافي ودووركين الذي يعتبر أهمية حرية الضمير لا تكمن في ذاتها وإنّما في أنّها ضرورية لثقة الفرد في نفسه واعتزازه بذاته، وأنّها إذا ما انعدمت يتردى الفرد إلى وضع القصور وقبول الوصاية في مسائل جوهرية لوجوده كالعقيدة والضمير (دووركين: 1976، 2015 الفصل 12). وفي الاتجاه نفسه أيضًا دافعت مرثا نوسبووم على ضرورة أن تمنح للفرد الحرية الكاملة في المسائل المتعلقة بالعقائد الدينية والأخلاقية (نوسبووم: 2008، ف. 2).

في وضع غاب فيه الإجماع إذن حول حرية الضمير على الصعيد الفكري، وصعدت فيه إلى الحكم بعد ثورات الربيع العربي أحزاب إسلامية في تونس ومصر وليبيا عبر الانتخابات، وتصاعدت فيه الدعوات إلى تقييد هذه الحرية أو تكييفها وفق معطيات التعدّدية الثقافية والدينية على الصعيدين القومي والدولي تمّت صياغة الدستور التونسي. وفي الوقت الذي كان فيه الكثيرون ينظرون بترقّب وقلق إلى ما ستؤول إليه الأمور في هذه المسألة فاجأ الدستور التونسي لسنة 2014 العالم بأن أقر على نحو جليّ حريتي المعتقد والضمير وجعل أمر ضمانهما مهمّة تتكفل بها الدولة التونسية.

وسنقسم عرضنا في هذه المداخلة إلى جزءين في الأول سنتطرق إلى حرية الضمير في التشريعات الوطنية وفي القانون الدولي وفي الثاني سنتطرق إلى حرية الضمير ونميّزها عن الحرية الدينية بالمعنى المتعارف عليه وسننظر في الاستتباعات القانونية لإقرار حرية الضمير في الدستور التونسي وننهي بالإشارة إلى ما يبدو لنا نقصًا للدستور التونسي في هذا المجال.

1- حرية الضمير في القانون التونسي وفي القانون الدولي

 تضمّن الدستور التونسي لسنة 2014 فصلاً يكفل حرية الضمير والمعتقد وهو الفصل 6 ورد كما يلي: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها“. ولئن وجبت قراءة هذا الفصل بصلة عمومًا ببقية الفصول الواردة في الدستور والضامنة للحريات العامة والفردية إلا أنّه لا يمكن أن نتأوّل معناه في رأينا بمعزل عن الفصل الأوّل، على وجه خاص، الذي ورد في الصيغة التالية: ”تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. “ فهل يتناقض الفصل 6 من الدستور التونسي الجديد مع منطوق الفصل 1 من الدستور نفسه ؟ هل أنّ كفالة الدولة لحرية الضمير والمعتقد يجعلها تتخلى عن التزامها نحو دين البلاد؟ لقد ورد الجواب على هذا السؤال أساسًا في موضعين من الدستور. الأوّل يتمثل في الفصل الثاني والذي ينصص على ما يلي: ”تونس دولة مدنيّة، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلويّة القانون“ والثاني ما ورد في توطئة الدستور من تأكيد على تمسّك الشعب التونسي "بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتّح والاعتدال وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية".

ووفقًا لهذه الرؤية فإنّ الآباء المؤسسين للدستور التونسي لم يكونوا يرون تضاربًا بين التأكيد على الهويّة العربية الإسلامية للشعب التونسي وبين الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان بمعناها الكوني وما تعنيه من احترام للحقوق والحريات الفردية والعامة وعلى رأسها حرية الضمير. فالفصل السادس أتى منسجمًا عمومًا مع المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة الذي ينصّص على ما يلي: “لكلّ شخص حقّ في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحقّ حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملإ أو على حدة“ وكذلك العهد الدولي للحقوق المدنية لسنة 1966 المادة 18 الفقرة 2: "لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخلّ بحريته في أن يدين بدين ما، أو حريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره. “ والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن والذي يطرحه الكثيرون هو التالي: هل يتناقض إقرار دين رسمي للدولة، كما هو الأمر في الفصل 1 من الدستور التونسي، مع ضمان حرية الضمير والتأكيد على الهوية المدنية للدولة كما ورد في الفصل 2؟

يجدر التنويه هنا بأنّ الدول الديمقراطية التي تحمي حرية المعتقد والضمير ليست كلها تفصل بين الدين والدولة فبعض الديمقراطيات مثل الدنمرك واليونان وإسلندا والنرويج تقرّ دساتيرها دينًا رسميًّا للدولة وهي بهذا المعنى ليست علمانية. وكما بيّن الباحث والأكاديمي الفرنسي فيليب بورتيي هناك عمومًا وباختزال شديد نموذجان من المعالجة القانونية لوضع الدين في مجتمعات حديثة قائمة على أساس إنساني صرف ولم تعد قائمة على تشريع إلاهي كما كان عليه الأمر في القديم. هناك نموذج الإقرار الديني الذي يضع أسس علاقة تعاون وثيقة ومتشابكة أحيانًا بين الدولة وكنيسة معينة دون أن يمسّ من حرية الأشخاص واستقلالهم الذاتي. هذا النموذج الذي اعتمد في الدول الحديثة البروتستانتية والأرثوذوكسية يقوم على مبدأين في رأي بورتيي (Portier 2015) وهما مبدأ التراتبية، إذ تمنح الدولة للدين الأغلبي مسؤوليات عمومية وأشكالاً من الحصانة وحريات خاصة به تمنعها عن الجماعات الدينية الأخرى. أما المبدأ الثاني فهو مبدأ التسامح فالعقائد الدينية الأخرى لها الحق في الوجود وفي العمل القانوني والعلني غير أنّها لا تتساوى مع مقام ديانة الأغلبية، والتي هي الديانة الوطنية، وتظل في مرتبة دونية وبهذا تمنح الحرية في حين تحرم من المساواة. ذلك هو النموذج المعتمد في ديمقراطيات مثل الدنمرك وإسلندا مع الإشارة إلى أنّ إسلندا نظمت استفتاءً منذ ثلاث سنوات حوله وأعادت تثبيته. أما السويد فقد ظلت معتمدة هذا النموذج إلى حدود سنة 2000 وكذلك النرويج إلى حدود سنة 2012 إذ ظلت هاتان الدولتان إلى هذين التاريخين تعتمدان هذا النموذج وقد تخلت عنه السويد سنة 2000 كما أسلفنا وفصلت الكنيسة اللوثيرية عن الدولة إثر قضية رفعها مواطن للمحكمة الأوروبية يشكو فيها التمييز ضده نتيجة إرغام السلطات له بدفع أداء للكنيسة وهو النموذج الذي نجده أيضًا في صيغة أخرى سنتعرض إليها فيما بعد في بلدان مثل أنجلترا واليونان. أما النموذج الثاني فهو نموذج الفصل بين الدولة والكنيسة الذي اعتمد أساسًا في البلدان الكاثوليكية في رأي بورتيي. ففي هذه البلدان بنيت الدولة الحديثة على اعتقاد قوي لدى الساسة بأنّه لا يمكن إرساء شراكة وتعاون مع كنيسة قومية خاضعة إلى سلطة الفاتيكان في روما لم تقبل خلافًا للكنيسة البروتستانتية بمبدإ السيادة الكاملة للدولة القومية. لذلك ظلت عمومًا الكنائس الكاثوليكية وفق هذا النموذج خارجة عن الكوكبة العامة للدولة وظلت الدولة تنظر إلى كل الأديان وتتعامل معها على قدم المساواة. لذلك يلاحظ الدارسون أنّ هذه الرغبة في الفصل بين الكنيسة والدولة منتشرة في سائر البلدان الكاثوليكية مثل إيطاليا حيث بلغت أوجها في نهاية القرن التاسع عشر وفي البرتغال سنة 1910 تحديدًا وفي أسبانيا في الثلاثينات من القرن المنصرم وفي فرنسا بين 1880و1905. وبطبيعة الحال توفّقت القوى الدافعة نحو الفصل في تحقيق مأربها في فرنسا سنة 1905 بينما فشلت بلدان كاثوليكية أخرى حيث لقيت دعوات الفصل صدًّا قويًّا من الكنيسة المتحالفة مع قوًى محافظة داخل المجتمع.

لكن سواء تعلق الأمر بالنموذج الأول أو الثاني توجد دومًا في الديمقراطيات الحديثة ضمانات دستورية وقانونية لحرية الضمير والعقيدة، ففي بلدان النموذج الأول لم تكن الكنائس اللوثيرية تعارض حرية الضمير مادامت علاقتها بالدولة قائمة على مبدأي التراتبية والتسامح، أما في البلدان الكاثوليكية فنعرف منذ الحدث الذي مثله مجمع فاتيكان الثاني، كما بيّن محمد الشرفي في كتابه الإسلام والحرية، أنّه حصل منعطف تاريخي في علاقة الديانة الكاثوليكية بحرية الضمير وحقوق الإنسان عمومًا إذ يقول: "فالأمر الصادر عن مجمع الفاتيكان الثاني، في 7 كانون الأول ديسمبر 1965، "صيغ بعد عناء ومناقشات حادة" لأنّه مثل منعطفًا حاسمًا، فلم يعد التسامح من قبيل الحلول الوسطى أو التوفيقية، بل أصبح إقرارًا لأولوية الحرية. وحسب ما قاله الكاردينال روجي إتشيفيري، رئيس المجالس البابوية، فإنّ الأمر الخاص بالحرية يستند إلى حقوق الذات البشرية لا إلى حقوق الدين الحقّ". ذلك لأنّ "خلو البال أيسر عند العبد منه عند السيّد. والواقع أنّه ليس للمرء إلا الحرية التي يستطيع تحمّل أعبائها، ولا تحرّر للإنسان إلا أن يكون قد تحرّر داخل ذاته"." (الشرفي، 2008: 162)

وعندما ذكرنا هذين النموذجين من تنظيم العلاقة بين الدين والدولة لا نعني بذلك أنّ تونس بوصفها ديمقراطية ناشئة وبلدًا عربيًّا مسلمًا ينبغي عليها أن تختار أحدهما وإنّما للتأكيد فقط أنّ إقرار الفصل الأوّل بأنّ الإسلام دين البلاد لا يتنافى مع الالتزام بحرية المعتقد والضمير وأنّ دولاً لم تعتمد تمشي الفصل هي دول ديمقراطية وتحمي حرية الضمير. فالضمان الدستوري لحرية الضمير كما أوضحنا لا يستوجب علمانية الدولة. لكن إذا كان إقرار حرية الضمير دستوريًّا لا يشترط الفصل بين الدين والدولة أي العلمانية، فهل يشترط حياد الدولة تجاه كل الأديان في المسائل المتعلقة بإدارة الشأن الديني ونظام التربية والتعليم؟ وهل يستوجب عدم التمييز بين الأديان والجماعات الدينية والثقافية؟ تشير دراسات عديد المختصين والباحثين نذكر منها على وجه الخصوص الدراسة المتميزة من حيث التوثيق وغزارة المعلومات لجونثان فوكس (Fox, J. , 2008: 111-119) وكذلك دراسة فرانك كروس (Cross, B. F. , 2015: Chap. 5) حول مدى تدخّل الدول في الشأن الديني لبلدانها إلى أنّ العديد من الدول المصنّفة ديمقراطيات ودول قانون في العالم مع ضمانها لحرية الضمير تعدّ من الدول النشطة في المجال الديني. ويبين فرنك كروس أنّ ما يعنيه بدول نشطة في المجال الديني دول يكون للدولة فيها دين أو أكثر يتمتع بصفة الدين الرسمي وتلتزم الدولة نحوه من حيث الرعاية والدعم سواء بإصدار تشريعات تخص جوانب من ممارسته أو منحه بالحق في أن يمارس رقابةً على بعض القوانين أو على بعض الجوانب منها، أو أنّها توفر التربية الدينية لأتباع تلك الديانة، أو تموّل الدين مباشرة من خزينة الدولة أو تجمع الضرائب لصالحه وتموّل مؤسساته أو الجمعيات الخاصة به. ومن بين هذه الدول نجد مالطا حيث تنصّص المادة 2 من الفصل 1 من دستورها على أنّ الكاثوليكية هي الديانة الرسمية للدولة، ويفوّض الدستور للكنيسة أمر تحديد المبادئ الصحيحة التي يتعيّن تدريسها من تلك الخاطئة التي يتعين إبعادها. فضلاً عن أنّ التعليم العمومي الإجباري يتضمّن تدريسًا للعقيدة الكاثوليكية وفقًا لتعاليم الكنيسة الرومانية لكنّ المادة 40 من الدستور تقرّ حماية للحرية الدينية وتؤكد أنّ التربية الكاثوليكية الإجبارية لا ينبغي أن تشمل أبناء غير الكاثوليك ومنذ 1991 بعث صندوق وطني تساهم فيه الدولة من أجل تمويل المدارس الكاثوليكية غير العمومية ورعايتها. ويجب التنويه أيضًا بأنّ في مالطا، وعلى الرغم من الشكاوى التي رفعت للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لا يزال الطلاق والإجهاض ممنوعين وفق تعاليم الكنيسة الكاثوليكية هناك. أما في الدنمرك فالمادة 4 من الدستور تنصص على أنّ الكنيسة الإنجيلية اللوثيرية تمثل دين الدولة ويتعين دعمها. أما المادة 66 فتقضي بأن تكون تركيبة الكنيسة الرسمية مضبوطة بقانون. وتجمع الدولة الضرائب لصالح الكنيسة وتموّل أجور موظفيها وأعوانها في حين لا تتمتع كيانات دينية أخرى بالتمويل العمومي. غير أنّ الدستور نفسه يضمن الحرية الدينية التامة ويشدّد على أنّه لا يمكن إلزام أحد بمساعدة ديانة غير تلك التي ينتمي إليها. أما فنلندا فتتوفر على كنيستين رسميتين الإنجيلية اللوثيرية والأرثوذوكسية وفي الفصل 6 من دستور سنة 1999 نجد تحجيرًا لكل تمييز على أساس الدين في حين يضمن الفصل 11 الحرية الدينية والحق أيضًا في عدم الإعلان عن أي انتماء ديني وتجمع الدولة الضرائب لصالح الكنيستين من أتباعهما وتحصل كل منهما على نسبة 2% من دخول ضرائب المجموعة القومية وتتولى الدولة رعاية التعليم الديني وتمويله. وفي اليونان ينصص الدستور أيضًا على أنّ الكنيسة الأرثوذوكسية هي الممثلة للديانة الغالبة في البلاد ويضمن استقلاليتها المالية والإدارية، ويلزم الدولة بالاعتراف بالقانون الكنسي الأرثوذوكسي. أما الفصلان 33 و59 من الدستور اليوناني فيلزمان رئيسي الدولة والحكومة وأعضاء البرلمان بأداء القسم الديني وفق نصّ مستمد من العقيدة الأرثوذوكسية عند استلام مهامهم ولا يستثنى من قراءة نصّ القسم إلا أعضاء البرلمان المنتمون إلى ديانات أخرى والذين يمكنهم تغييره حتى يصبح منسجمًا مع عقائدهم. ويجيز الفصل 14 من الدستور اليوناني للدولة مصادرة الصحف والمنشورات التي تتضمن "إساءة للدين المسيحي أو لأي ديانة معترف بها" إضافةً إلى أنّ الفصل 16 يعلن أنّ تطوير الوعي الديني والوطني هو من واجبات الدولة في مجال التربية. وفي اليونان تموّل الدولة الكنيسة الأرثوذوكسية وتستثنى أملاكها ومشاريعها الاقتصادية من دفع الضرائب، كما تتولى الدولة أيضًا خلاص أجور ثلاثة مفتين مسلمين من إقليم ثراس Thrace ذي الغالبية المسلمة تختارهم الحكومة من ضمن قائمة من الشخصيات الدينية ترشحها لجنة شيوخ دين مسلمين تعيّنها أيضًا الحكومة. كما أنّ التربية الدينية إجبارية في المدارس العمومية للطلاب الأرثوذكس، في حين يُعفى الطلبة غير الأرثوذكس منها. وعلى الرغم من أّنّ الفصل 13 من الدستور اليوناني يضمن الحريات الدينية إلا أنّ الأقليات الدينية لها مكانة دونية، فضلاً عن أنّ الفصل نفسه يحجر الدعوة الدينية proselytizing على كل الأديان بما فيها الديانة الأرثوذكسية. ويُعترف في اليونان بثلاثة كيانات دينية منظمة هي الكنسية الأرثوذكسية والديانة الإسلامية واليهودية التي تتمتع بصفة الشخصية المعنوية العامة، أما البقية فينبغي عليها أن تُسجل بوصفها كيانات خاصة. وإلى حدود 1998 تاريخ صدور قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لم تكن الأقليات الدينية تستطيع بناء دور عبادة في منطقة ما دون موافقة أسقف الكنيسة الأرثوذكسية في تلك المنطقة. وعلى الرغم من ذلك تشير الدراسات إلى أنّ بناء أمكنة عبادة أو توسعتها يظل أمرًا عسيرًا ويخضع إلى ترتيبات إدارية معقدة وشائكة. ولا يختلف الأمر كثيرًا في بلدان أخرى مثل إسلندا أو النرويج حيث يقرّ الدستور الديانة الإنجيلية اللوثيرية دينًا رسميًّا للدولة ويقر التزامات للدولة تجاهها لكنّه في الوقت نفسه يضمن حرية المعتقد ويحمي الحقوق المدنية لكل المواطنين مهما كانت انتماءاتهم الدينية ويحمي المواطنين أيضًا ضدّ كل تمييز على أساس ديني. لكن في هذين البلدين تكون التربية الدينية إجبارية في المدارس العمومية وفي النرويج يقصي الفصل 100 من الدستور من مجال حرية الصحافة والنشر الإساءة والازدراء المقصود للدين. وفي المملكة المتّحدة لا وجود لدستور مكتوب غير أنّ القانون والعرف يجعلان من كنيسة أنجلترا الأنجليكانية والكنيسة السكوتلاندية البريسبيتريانية ممثلتين للديانتين الشرعيتين في المملكة المتحدة. والملك هو الرئيس الرسمي لكنيسة أنجلترا وينبغي أن يكون على دينها غير أنّ هذه الرئاسة باتت في الواقع رمزية. ويقوم الملك رسميًّا بتعيين موظفي كنيسة أنجلترا باقتراح من الوزير الأول ومن هيئة التعيينات التابعة للتاج الملكي في حين تعين كنيسة سكوتلاندا موظفيها بنفسها دون تدخّل من الدولة. أما بالنسبة إلى التمويل فباستثناء الدعم المالي الذي تقدّمه الدولة لصيانة المباني التاريخية القديمة للكنيستين الرسميتين وترميمها لا تتكفل بالدعم المالي لهما. وفي المملكة المتحدة تدعم الدولة مدارس عقائدية ذات طابع ديني تنتمي إلى طوائف الأنغليكان والكاثوليك واليهود والمسلمين والسيخ واليونان الأرثوذكس وغيرهم من الطوائف. كما تلتزم المدارس العمومية بتوفير التربية الدينية للناشئة ويتم تحديد مضمونها على صعيد كل جهة ومنطقة، ويستطيع الأولياء طلب إعفاء أبنائهم من هذا التدريس. وتضمن القوانين الحرية الدينية كاملة غير أنّه توجد قيود مفروضة على بعض الأقليات الدينية مثل كنيسة السيونتولوجيا غير المعترف بها والتي تقابل مطالبها في التسجيل دومًا بالرفض. ومع أنّه غير مفعّل يوجد قانون ضدّ التجديف ضدّ الديانة الأنجليكنية (Fox 2008: 118). وفي ألمانيا يحمي الفصل 3 المواطنين ضدّ كل تمييز على أساس الدين في حين يضمن الفصل 4 الحرية الدينية ويمنع الفصل 33 أن يكون النفاذ إلى الوظائف مقيّدًا بالانتماء الديني. أما الفصل 7 فيجعل الدين جزءًا من مناهج التدريس العادية باستثناء المدارس العلمانية على الرغم من أنّ الفصل 140 يعيد إقرار ما تضمّنه دستور 1919 من أنّه لا يوجد دين للدولة وأنّ الدولة تتكفل فقط بتوفير الضمانات للاستقلالية الذاتية للمنظمات الدينية وبتمكينها من استخدام مصالحها ومؤسساتها لفرض ضرائب على أتباعها.

2- حرية الضمير وحرية المعتقد

ليس إدراج حرية المعتقد بالأمر الجديد في دستور تونس 2014 إذ أنّ أول دستور بعد الاستقلال لسنة 1959 قد ضمن للتونسيين حرية المعتقد في فصله 5 إذ ورد فيه ما يلي: ”الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام“. غير أنّ الجديد الذي نلحظه في دستور 2014 هو التنصيص على أنّ الدولة تحمي حرية الضمير. فما هي دلالة ذلك؟ ولماذا رحّب بعضهم بها في حين استهجنها بعضهم الآخر؟ يجب التنويه بأنّ ذلك يعدّ تطورًا هامًّا على صعيد الوعي القانوني لدى النخبة المؤسسة للدستور التونسي فحرية الضمير هي أشمل من حرية المعتقد الذي يحيل عمومًا إلى المعتقد الديني فحسب. ووفق هذه الرؤية الجديدة فإنّ كل الاعتقادات الأخلاقية للفرد سواء كانت دينية أو غير دينية حَرية بالحماية والاحترام. فحُرية الضمير لها طابع مزدوج إذ تحيل من جهة على الوجدان الداخلي للفرد من خلال فعل الاختيار الحرّ والاعتناق والتصديق والإيمان، ومن جهة أخرى على حرية تُمارس على نحو جماعي ومع الآخرين وفي فضاء عمومي غير سياسي. وقد خلف عدم الانتباه إلى هذا الطابع المزدوج لحرية الضمير الكثير من سوء الفهم لدى عموم الناس وكذلك لدى الساسة وأصحاب القرار. فدولة تعلن مثلاً بصوت رفيع التزامها باحترام حرية الضمير غير أنّها تمنع عن مواطنيها الحق في إظهار عقيدتهم والتعبير عنها عموميًّا وممارستها جمعيًّا هي دولة تخرق الحقّ في حرية أساسيّة لمواطنيها. كما أنّها ستعدّ دولة تدوس حرية الضمير لمواطنيها إذا أكرهتهم على أشكال من الممارسات كالمشاركة في حرب تدينها ضمائرهم الأخلاقية أو معتقداهم الدينية مثلما هو الحال لمستنكفي الضمير أو جماعة الأميش في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب الفيتنام. فالأميش تمنعهم عقيدتهم الدينية من استخدام العنف أو المشاركة في أي حرب وقد اعترف لهم القانون بالحق في رفض التجنيد لأسباب دينية. غير أنّ دووركين يشير إلى أنّه لا يمكن للدولة أن تعترف على نحو تام ومتسق بحرية الضمير إلا إذا قبلت أن تكون الدواعي الأخلاقية أسبابًا كافيةً مثل الدواعي الدينية للاستنكاف الضميري وبالتالي لتبرير سلوك على الصعيد العام يكون مخالفًا للقواعد والضوابط المتواضع عليها. لهذا السبب نجد أنّ الحق في الاستنكاف الضميري الذي أشار إليه العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 في مادته 8 هو استتباع منطقي لرفع حرية الضمير إلى مستوى الاقتضاء الدستوري كما حدث في بلادنا. ويعدّ الدستور الألماني مثالاً في الوضوح في هذا المجال إذ نجد فيه صياغة دقيقة لتمفصل الثلاث حريات: حرية العبادة والضمير والمعتقد. ففي البند 3 من الفصل ذاته نجد الحق في الاستنكاف الضميري مضمونًا إذ يعلن هذا البند أنّه لا يسمح في جمهورية ألمانيا أن يتم إخضاع أحد للخدمة العسكرية على الرغم من ضميره. فحرية الضمير لا تُختزل إذن في حرية الضمير الديني وهي تتضمن بعدًا أكثر اتساعًا للحياة الوجدانية والأخلاقية للفرد. وفي سنة 1965 صدر حكم من المحكمة العليا الأمريكية في قضية سيجر ضد الولايات المتحدة أعطى الحق لـسيجر الذي رفض التجنيد الإجباري والالتحاق بالمجندين في حرب الفيتنام وطالب بحقّه في صفة مستنكف ضميري conscious refusal على الرغم من أنّه لا ينتمي إلى طائفة دينية تحرّم عقيدتها على أتباعها المشاركة في الحروب. وقد علل قرار المحكمة توسيع مجال الاستنكاف الضميري ليشمل من يعارضون الحرب لأسباب أخلاقية لا دينية بالتأكيد على أنّ رفض الخدمة العسكرية يمكن أن يرتكز لا على معتقدات دينية سلمية وإنّما كذلك على ” اعتقاد صادق له مكانة هامة في حياة من يؤمن به تضاهي تلك التي تكون لله في حياة الأشخاص المتدينين“ US. V Seeger: 1965).)

ومن جهة أخرى يتعين في رأينا، لتجنّب الانحراف الجماعتي communitarian، في فهم حرية الضمير أن تنصّص القوانين على أنّ الجماعات الدينية تكون حرة في تسيير شأنها الداخلي بنفسها وأن تنظّم أنشطها دون توجيه من السلطة العمومية على أن يكون حقها في حرية الضمير حقًّا مستنتجًا من حق أساسي مضمّن في الدستور طالما أنّ هذه الجماعات تعترف بحق أفرادها في حرية الضمير الشخصي بما في ذلك حقهم في مغادرتها والانفصال عنها دون أن يفقدوا الحقوق العينية التي يتمتعون بها داخلها بصفتهم أعضاء.

لكن إذا كانت حرية الضمير والعبادة والمعتقد مضمونة في الدستور التونسي متى يجوز فرض قيود أو حدود على هذه الحرية؟ لقد قيد الدستور التونسي ممارسة هذه الحرية بأن أوكل للدولة مهمة حماية المقدسات ومنع النيل منها بفعل ممارسة حرية الضمير والتعبير عن الآراء والمعتقدات، ثم أنّه ألزم الدولة بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها. ويبدو لنا ذلك أمرًا معقولاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ العديد من الدول الديمقراطية غير العلمانية مثل التي ذكرناها في الجزء الأول من مداخلتنا، وكما هو الحال بالنسبة إلى تونس وفق ما نصص عليه دستورها، تضع قيودًا قانونيةً على ممارسة حرية الضمير والتعبير لحماية المقدسات ومنع الإساءة للأديان لكن تظل هذه القيود تتأرجح بين التشديد والإطلاق وفقًا للتأويل الذي سيقوم به القضاة الدستوريون والمشرعون والمحاكم للمواد الدستورية المتعلقة بحرية الضمير وأيضًا وفق درجات قبول الثقافة العامة للمجتمع بقيم الاختلاف والتسامح ومدى تسامحها مع الآراء الأقلية غير الاتفاقية.

وفي الأخير أريد أن أختم بالإشارة إلى عيب يبدو لي قائما في الفصل 6 كنا قد نبهنا في مقال صدر لنا في الفترة التي احتدم فيها النقاش حول هذا الفصل أثناء كتابة الدستور لكن الصيغة النهائية لم تستجب وللأسف إلى ما كنا نتطلع إليه (Kchaou: 2013). لقد أشرنا إلى أنّ المسودة الأولى قد خلت من التأكيد على أنّ حرية الضمير والمعتقد حق للشخص ويُسند إلى الذوات الفردية كما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية لسنة 1966 لكن الصياغة النهائية حافظت على صيغة لا تبين من الفاعل القانوني في هذا المجال إن كان الفرد أم الجماعة. ولئن لم يقع تدارك هذا الأمر في نص الدستور إلا أنّنا نظل نأمل أن تتضمن القوانين التي سيقع سنها الحماية الكافية لحرية الضمير والمعتقد بوصفها حقوقًا فرديةً في انسجام مع روح الدستور (الكشو: 2013).

 

المراجع:

- Cross, F. B. 2015, Constitutions and Religious Freedom, Cam. : Cambridge University Press.

-  Fox, J. 2008, A World Survey of Religion and the State, Cam. : Cambridge University Press.

-       Kchaou, M. 2013, «Liberté de conscience attribuée à l’individu ou à la communauté?», le lien: http://www. journallapresse. tn/17072015/68952/liberte-de-conscience-attribuee-a-lindividu-ou-a-la-communaute. html

-  Nussbaum, M. 2008, Liberty of Conscience, Basic Books, NewYork.

-  Parekh, B. 1994, «The Rushdie Affairs: Research Agenda for Political Philosophy», Political Studies 38,

ورد ذكره لدى براين باري في الثقافة والمساواة،1990 ،الص. 60-61

-   Portier, Ph. 2015, «La laïcité tend à subordonner les conduites à un ordre moral» in Le monde 17 octobre.

-  Sandel, M. 1990 «Freedom of Conscience or Freedom of Choice?» in Hunter, J. D. and Guinnes, O. Articles of Faith, Articles of Peace: The Religious Liberty Clauses and The American Public Philosophy, (Washington, D. C. : The Brookings Institution, 1990).

-  باري، ب. 2008، الثقافة والمساواة، نقد مساواتي للتعدّديّة الثقافية، ترجمة كمال المصري، عالم المعرفة، الكويت: 2011

-  الشرفي، م. 2008، الإسلام والحرية، سوء التفاهم التاريخي، دار الجنوب، تونس.

-  الكشو، م. 2013، حرية الضمير بين الإطلاق والتقييد، جريدة الحياة على الرابط التالي:

http://www. alhayat. com/Details/567599

-   رولز، ج 1971، نظرية في العدالة ، ترجمة ليلى الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2011

-   دووركين، ر. 1976، أخذ الحقوق على محمل الجدّ، ترجمة منير الكشو، دار سيناترا: تونس 2015