حوار خاص مع الباحث السوري "محمد العاني" المدير العام لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"


فئة :  حوارات

حوار خاص مع الباحث السوري "محمد العاني" المدير العام لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"

تجربة محمد العاني الفكرية والإدارية:

الفكري هو الرئة التي أتنفس بها، والإداري اكتسبته من خلال عملي...


ذ. نور الدين علوش: تتنوع مجالات اهتماماتكم بين ما هو إداري وإعلامي وفكري وثقافي، كيف توفقون بينها؟

ذ. محمد العاني:لا، ليس لديّ اهتمام إعلامي، الفكري نعم، وهو الرئة التي أتنفس بها، والإداري اكتسبته من خلال عملي في السعودية في إدارة المجمّعات الطبيّة، وكذلك اهتمامي بكتب الإدارة وتطوير الذات. وثمّة تحدٍ داخلي في تطوير ذاتي لا ينقطع، ولا أملّ منه، ولا يقف عند حدود...

الإدارة والسلطة فيها اختبار حقيقي للأخلاق، نقع أحياناً ونرتبك، وقد ننجح إدارياً ونخفق أخلاقياً، أو قد ننجح أخلاقياً ونخفق إدارياً، السلطة شيطان جميل، إنها تفاحة آدم التي أخرجته من الجنة. لقد أغواه إبليس "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"، أغواه بالملك وبالخلود... السلطة والإدارة تكشف السوءة، وحتى ورق الجنة لا يسترها. عندما تمتلك القرار، فأنت تمتلك سلطة وقوة، ولكن ماذا ستفعل بها؟ ولماذا؟

أسوأ من يبرر لأصحاب السلطة هم المثقفون، لأنهم يملكون معرفة التضليل وتجميل القبيح والسفسطة، لدينا تاريخ حافل باستغلال السياسيين للمثقفين، وهذه مهارة يحترفها السياسيون.

المسألة في التوفيق بين الإداري والفكري هي مسألة أخلاقية بالدرجة الأولى.

من الناحية البحثية، أرى أنّ الباحث في الدراسات الإسلامية لا يمكن أن يقدّم بحثاً حقيقياً، ويعطي إضافة ما لم يتحرّر من النظرة العقائدية والتشريعية والطقوسية، نحن مكبّلون بهذه القيود العقائدية ولا نعي معنى القرآن بأنه هدى للعالمين. علينا أن ندرك أنه ليس كتاب عقيدة وطقوس وتشريعات فقط، هذا ربّما جزء بسيط جداً له حيثياته وسياقه. عندما نتعاطى مع الإسلام على أنه عقيدة، أو أنه يرسم آيديولوجيا، وأنّ القرآن كتاب للمسلمين، وهو هدى للعالمين عندما يدخلون الإسلام؛ فسوف نبحث عن أسس هذه العقيدة وما يستتبعها من تشريعات وطقوس لحماية أسوارها، ونضع قيوداً على المعرفة تعيق تطوّرها حتى لاتخترق هذه الأسوار. ولكنّ مفهوم الإسلام برأيي لا علاقة له بذلك على الإطلاق، فقد وصف الله الأعراب غير المؤمنين بالمسلمين: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم"، نحن نصف من يدخل الإسلام لفظاً ولم يدخل الإيمان في قلبه بأنه منافق، فهل الله كان يقبل هنا بالمنافقين؟

الإسلام ميثاق للسّلم الاجتماعي، إطار مدني لكلّ مكونات المجتمع المؤمنين وغير المؤمنين، طالما أنهم نبذوا سلوك العنف والإكراه في تعاملهم مع الآخر. فالدين عند الله الإسلام، وأيضاً "لا إكراه في الدين"، فالدين الذي عند الله لا إكراه فيه، هو ميثاق للسلم الاجتماعي سواء كنت مؤمناً بالله ورسوله أم غير مؤمن. عندما تتعامل مع القرآن بعيداً عن محاولات التأسيس العقائدية والتشريعية، تنفتح على نصّ غني يأخذك نحو أبعاد إنسانيّة رائعة.

ذ. نور الدين علوش: تتركز كتاباتكم ومقالاتكم كثيراً على المشروع الفكري للمفكر أبي القاسم حاج حمد، فما هي أسباب ودواعي الاهتمام؟

ذ. محمد العاني: حاج حمد تعرّفت إليه من خلال الهاتف فقط ولم ألتق به شخصياً، كان ذلك قبل وفاته بحوالي عام، أذكر أنها كانت في العام 2003، أرسلت له بعض دراساتي وكانت المفاجأة برسالته وردّه، ولم أتوقع أن يكون شديد الاهتمام بها لهذه الدرجة، وممّا قاله في رسالته: "قد وجدت فيك (ضالتي)، إذ أنك تشتغل في (دلالات) ألفاظ القرآن و(عائدها المعرفي)، وسنعمل سوياً ـ بإذن الله وتوفيقه ـ على الربط بين الجانبين (الألسني) و(المنهجي) في تحديد الدلالات وفق (الاستخدام الإلهي) للمفردة وليس (الاستخدام البشري). فالدلالة القرآنية مركبة على أساس مصطلحي رياضي مثالي وليست بلاغية وشعرية. هذه الدلالات ستصدر ـ بإذن الله - في معجم مستقل بعد إنجاز (موسوعة الدينونة)، وأعرض عليك المساهمة في المعجم، وآمل موافقتك، لأنّ هذا دربك وقد تقدّمت بي السن".

كانت مفاجأة بالنسبة لي أن يطلب مفكر كبير، مثل حاج حمد مشاركته بمشروع بحثي، وفعلاً تحدثنا واتفقنا مبدئياً، وكان قد سافر إلى المغرب والتقى هناك بمجموعة من الأصدقاء وصلته بهم، ثم أخبرني بأنه سيعود إلى بيروت لنلتقي ونعمل سوياً، ولكن وافته المنية قبل ذلك، وكان قدر وفاته أسبق، (رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته).

لم أتوقف هنا عند علاقتي به، وتعرّفت على زوجته الرائعة والمخلصة (دينا أبي نايب) وأبنائه وابن أخته ومساعده الصديق والأخ (زين العابدين)، وحاولت أن أعرف مصير موسوعة الدينونة التي لم ينشرها وكان يشتغل عليها. وبعد سنوات تمكنت من الحصول من زوجته على مخطوطاته المنشورة وغير المنشورة، وبدأت أعمل على نشر أعماله غير المطبوعة، والحمد لله نشرت إلى الآن حوالي ستة أو سبعة كتب، ولكن للأسف لم أجد موسوعة الدينونة، وجدت فقط جزءاً واحداً منها، وأشرت في مقدمة كتاب "جذور المأزق الأصولي" إلى هذا الموضوع.

يمكنك أن تتفق أو تختلف مع طروحات حاج حمد بعضها أو كلها، ولكن لا يمكنك أن تختلف حول هذا الشغف والحب الكبيرين اللذين يحملهما حاج حمد للقرآن، وعندما تقرأ حاج حمد ترى فيه هذا الصدق والإيمان العميق بالله. الإيمان الحقيقي لا يأتي إلا عن طريق الشك والسؤال، وعندما تؤمن حقيقة تندفع لمعرفة (الكيف) و(اللماذا)، إن لم يدفعك إيمانك لذلك، فهو إيمان لا يعوّل عليه كما يقول الصوفية... "وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي".

أهمية المشروع الفكري للحاج حمد ليست في أجوبته، وإنما في بحثه وأسئلته (اللّماذائية)... وفي سؤاله عن الكيف...، أهميته فيما يطرحه من أسئلة على القرآن، وعلى إيمانه وعلى ربه. لا يمكنني هنا أن أتحدث عن أهمية مشروعه؛ فالمجال لا يتسع لذلك، ولكن أنصح القارئين له بالوقوف على ما يطرحه من أسئلة وإشكالات، أكثر من الوقوف عند أجوبته.

ذ. نور الدين علوش: يعتبر المفكر الإسلامي أبو القاسم حاج حمد علماً كبيراً من أعلام الفكر الإسلامي التنويري، لكنه لم يحظ مشروعه الفكري بالاهتمام الذي حظي به مشروعا الجابري وأركون، فما هي الأسباب في نظركم؟

ذ. محمد العاني: لا أدري ما الأسباب تماماً، ولكنني أعمل على التعريف بمشروعه، وهو له فضل كبير حتى على مؤسسة مؤمنون بلا حدود؛ فالكثير من العلاقات مع باحثين ومفكرين كانت من خلال معرفتهم بعلاقتي بحاج حمد. وضمن رؤيتنا في المؤسسة، فإنني لا أسحب إعجابي به على استراتيجية المؤسسة البحثية، فهو واحد من ضمن مشاريع فكريّة متعددة تهتمّ بها المؤسسة، بل إنني وفي الكثير من تقديمي لكتب حاج حمد أضع نقداً لبعض أجوبته أو ربما لأسئلته... وهذا ما تعلمته منه (النقد والاستيعاب والتجاوز).

عندما نقف عند حاج حمد وننغلق أو نتعصب، عندما لا ننقد ونسأل ونتجاوز.... عندها يحترق مشروع حاج حمد، و قسْ ذلك على غيره من المفكرين.

ذ. نور الدين علوش: أنتم من الباحثين المتميزين بفكرهم، فما هي الأطروحة التي تدافع عنها؟ وما هي المرتكزات النظرية والخلفيات الفكرية لمشروعك الفكري؟

ذ. محمد العاني: لا يوجد لديّ مشروع فكري منجز، ولا أدافع عن أطروحة معيّنة بقدر ما أدافع عن مبادئ: كحرية الرأي، وضرورة البحث العلمي الرصين في القضايا الدينية، والحوار واحترام الآخر.... أدافع عن الفكر النقدي، وأكره التعصّب.

لا أرى اليوم أنّ المشاريع الفكرية الفردية، بالرغم من أهميتها، يمكنها أن تؤدي إلى تغيير ثقافي حقيقي في المجتمع. المشاريع الفكرية التي تحمل رؤى من زوايا نظر مختلفة، والتي تحملها مؤسسات تُشرك فيها عدداً من المفكرين والباحثين، وتحاور من خلالهم المجتمع، وتقف على أسئلته وهمومه، هي المشاريع التي يمكن أن نعوّل عليها في تحقيق أثر حقيقي في المجتمع، ولكن هذا ربما يتطلب وقتاً طويلاً، وإعداداً جيداً، وتفهماً لمعنى العمل المؤسساتي.

نحن مغرمون بالفردية، عاشقون لها، في السياسة، وفي الثقافة، وفي السلطة، وفي الإدارة...ذواتنا متضخّمة جداً، ومجتمعاتنا مستمرّة في التقهقر والانكماش والتعصّب.

وأصارحك بأنني أفضّل ألا يكون لديّ مشروع فكري، طالما أنا منخرط في إدارة البحث أو إدارة مؤسسة بحثية؛ فقد علمتني التجربة أنّ أصحاب المشاريع الفكرية لا يمكنهم إدارة مؤسسة بحثية، لأنهم بوعي أو بدون وعي يُحوّلون المؤسسة إلى ناسخة لأفكارهم مع بعض التجميلات والتركيز البحثي، يحوّلونها إلى زاوية منفتحة بقدر انفتاح المشروع نفسه، ومحدودة بشروط المفكر نفسه وأدواته. باختصار، تصبح مؤسسة الشيخ والمريد.

نحن لا نريد ذلك، وهذا ما وضعناه في رؤيتنا للمؤسسة، نحن نعمل كفريق، ونتحرك ككل وليس كمجموعة أفراد لهم تراتب وظيفي هرمي.

ولكن بطبيعة الحال أنا، كوني باحثاً، لديّ إشكالات وتساؤلات أبحث فيها، وهناك مشروع أعمل عليه حول علاقة الدين بالعلم، وسيصدر قريباً الكتاب الأول، والذي يدور حول نشأة الحياة على الأرض، وقد حاولت فيه مقاربة النصّ في ضوء العلم، وانتقدت فيه محاولات أسلمة المعرفة أو ادّعاءات الإعجاز العلمي. ما يحكم التعامل مع النص هو التأويل، بينما العلم يتعامل مع حقائق وطرائق بحث رصينة، لذلك لا يمكن أن نضع العلم تحت مظنّة التأويل، بل علينا أن نضع النصّ تحت ضوء العلم، علينا أن نفهم الطبيعة حتى نفهم ما يقوله القرآن عنها، وليس العكس... بمعنى أنني لا أنطلق من النصّ نحو العلم، وإنما من العلم نحو النصّ.

لكي أفهم مايقوله القرآن في آيات التكوين والخلق، عليّ أن أنظر في العلم وحقائقه المثبتة، وأتخذ من نتائج هذه العلوم إطاراً مرجعياً لتأويل النصّ. الكثيرون يعملون على النصّ والمفردات والبحث في العلاقة بينها، يفككون ويركّبون داخل النص... ولكن هل وظيفة النصّ أن يعطيني نظرية في نشأة الحياة؟

يقول تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"، ولكننا نسير في النصّ وما سُطِر على هامشه، بينما المطلوب أن نسير ونبحث في الأرض. القرآن يحرّرك من البقاء تحت سلطته، ويدعوك للسير في الأرض والتفكر والتعقل في آياته، وفي السماء، وفي أنفسنا، وفي التاريخ...

ينبغي أن نعلم أنّ مسؤولية البحث العلمي هي مسؤولية إنسانية بحتة وليست إلهية، والسير والبحث في الأرض يمثل شرطاً رئيساً وأوّلياً لعقل الآيات الكونية وفهمها، يقول تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". العنكبوت.(20)

"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ". الروم .(42)

"أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)". الغاشية.

والقرآن، إذ يدعو للتفكر والتعقل والسير في الأرض، فإنه يضع الحكم في الأمور العلمية بيد الإنسان، وما يقوله (النصّ) بشأن ذلك مجرد أنباء وافتراضات، ويوجّهنا بدايةً للسير في الأرض "قل سيروا في الأرض".

لقد توقفت الرسالات السماوية تاركة للإنسان ممارسة دوره الحضاري بتحمُّله مسؤولية النظر والبحث والاستقصاء لضمان استمرار ارتقائه وتطوّره، وتوقّفُ الرسالات وختمها يبيّن نقل مهمة التشريع الاجتماعي والارتقاء المعرفي والعلمي والأخلاقي من السماء إلى الأرض. لقد كانت مهمة الوحي تطوير الضمير الأخلاقي وتحريض الفكر على البحث والمعرفة، وتفكيك وكشف الاستلابات اللاهوتية، وتحرير الإنسان من عبودية الإنسان ومن كافة السلطات المعطلة لارتقائه. ولكنّ الدين كثيراً ما يصبح بيد معظم رجاله جامعاً لكلّ هذه السلطات والاستلابات تحت عباءة المطالب الإلهية والتحديدات العقائدية المرتبطة بنسق ثقافي زمكاني، وباعتبارات سلطوية وعرفية، ليصبح الدين بذلك معارضاً لفطرة الإنسان وتلقائيته بما يُقيّد ارتقاءه وتساميه.

الجزء الثاني

ذ. نور الدين علوش: مبارك تأسيسكم مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"؛ فما هو سياق التأسيس؟ وما الدواعي والخلفيات؟ وما أهدافكم، وبرامج عملكم؟

ذ. محمد العاني: السياق هو حاجة مجتمعاتنا إلى عمل بحثي مؤسساتي متخصّص في المجال الديني، ونحن نرى في منطقتنا أنّ هناك صراعاً باسم الدين وعلى الدين، ولا يخفى على أحد ما للدين من أهمية كبيرة في حياتنا. انظر إلى حالنا، نحن في ذيل الأمم، ومشاكلنا أكثر من أن تحصى، هناك إفساد وسفك للدماء، وانتهاك لإنسانية الإنسان....أيّ مستقبل ينتظر أبناءنا؟ الخوف هو من طبيعة الإنسان، والخوف يعيش في المستقبل، وليس في الماضي أو الحاضر. عندما ننظر إلى حاضرنا، فلنا أن نتصوّر حجم الخوف ممّا ينتظرنا في المستقبل، وما ينتظر أبناءنا...

لا بُدّ من تغيير طريقة تفكيرنا، وثقافتنا، والدين يلعب دوراً رئيساً في توجيه سلوكنا، وتكوين ثقافتنا، ورسم توجهاتنا. إذا كان واقعنا كارثياً ومؤلماً؛ فهل من المستهجن أن ننظر إلى تصوراتنا الموروثة والمعهودة عن الدين كعامل رئيس ومهم فيما وصلنا إليه اليوم؟

نحن ماهرون في إلقاء اللوم على الآخر، باسم الهيمنة والاستعمار والرأسمالية الجشعة، أو بإلقاء اللوم على الأنظمة والحكومات. ولكن أيّة ديمقراطية ننشدها، حتى لو تغيّرت الأنظمة، ما دمنا كمجتمعات لا نعيش الديمقراطية في حياتنا، ولا علاقة لسلوكنا وعلاقتنا ببعضنا بعضاً بأيّ سلوك ديمقراطي؟....أيّة حرية ننشدها دون قواعد اجتماعية تعيشهذه الحريّة؟ سنبقى نفرز استبداداً بأشكال مختلفة ومتعدّدة، وإن من خلال صناديق الانتخابات؛ فصناديق الاقتراع لن تُخرج إلا ثقافتنا. أهم ما يميز " الربيع العربي" أنه كشف عن سوءاتنا، ووضعنا أمام ثقافتنا الحقيقية.

لا يحكم الشرق إلا مستبدٌ عادل؛ كلمة الأفغاني تُترجِم في أحد وجوهها معنى المجتمع المعاق، العاجز عن قيادة نفسه وامتلاك قراره. هناك سلطتان؛ دينية وسياسية تختلفان وتتفقان وتناور إحداهما الأخرى، ولكنهما تشتركان في إعاقة حرية الإنسان، وشلِّ المجتمع.

وعندما استيقظ الإنسان العربي - تحت وطأة جوع الكرامة والحرية واللقمة- لتحطيم السلطة السياسية؛ قام بتوحيد السلطات وعبّر عن إعاقته بالشكل الصحيح؛ فسلّم السلطة السياسية للسلطة الدينية، ثم إذا غضب عليها سلمها للعسكر، فبدائله بحكم بنيته محدودة. ما بين تديين السياسة وتسييس الدين نمارس لعبة الديمقراطية، لعبة البيضة والحجر؛ فإمّا الدين شرط للدولة أو أنّ الدولة شرط للدين (حسب تعبير ناصيف نصار).

لن تهبط علينا الديمقراطية أو الحرية من السماء، ولن تأتي بصناديق الاقتراع. فإن أفلح الربيع العربي بتقويض نموذج السلطة السياسية المستبد ـ ومازال أمامه أشواط ـ فإنه لم يمسّ السلطة الدينية، ونقد أو نقض السلطة الدينية أو الإصلاح الديني والثقافي لا يأتي بالمظاهرات والثورات، وإنما بفعلٍ ثقافي فكري يحتاج عشرات السنين؛ إذا كان ثمة إرادة، ومئات السنين، إن كانت الإرادة ضعيفة.

حريّة المجتمع تتطلب أن يختار، وأن يجرّب خياراته، وأن يتعلم من أخطائه. القوة والعنف لا يفيدان في التعليم ولا يصنعان للقدر موطئ قدم. القدر يستجيب، ولكن لا بُدّ للقدر من موطئ قدم؛ فالأقدار ليست معجزات.

نحن نحاول في مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن نسهم في عملية الإصلاح الديني بقدر المستطاع، وأن نفعّل الحوار بين المشاريع الفكرية التجديدية، وأن نكون قنطرة بين النخب المثقفة المتنورة، وبين المجتمع.

ذ. نور الدين علوش: تتطلب مؤسسة كهذه الكثير من الأموال، فهل أمّنتم هذا الجانب لتستمرّ المؤسسة في عملها ونشاطها؟ و في الأخير كيف تنظرون إلى العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب؟

ذ. محمد العاني:لا نقول بأننا أمّنا هذا الجانب مع استمراريته تماماً، وإنما استطعنا أن نؤمّن البدايات، ونحاول أن ندير ما يأتينا من تمويل بطريقة مختلفة ومتقشفة نوعاً ما، نعوّل كثيراً على الشباب الباحثين والصادقين الذين يشاركوننا همّ الإصلاح الديني. ونحن فريق العمل والإدارة، وعلى رأسهم أخي وصديقي الدكتور أحمد فايز، ولا أنسى فضل الأستاذ يونس قنديل رئيس مجلس أمناء المؤسسة والداعم الرئيس لها، والذي أسهم بشكل كبير وما يزال في تأسيس رؤية المؤسسة وأهدافها وتحقيقها...نحن نعمل ليل نهار ونتابع كلّ التفاصيل وكلّ صغيرة وكبيرة، لأننا لا نريد لمصداقيتنا أن تنجرح... فقد عملنا عليها كثيراً، وبنينا ثقة كبيرة بيننا وبين الموظفين والباحثين والمفكرين، وهذه الثقة هي عماد نجاحنا حتى اليوم، وهي ما نحرص عليه، لذلك نريد أن تبقى تلك العلاقة الإنسانية، وألا نضع حواجز بيننا وبينهم أو بيروقراطية متعبة. نحن مؤسسة تدعو لمبادئ وتحمل قيماً، وإن لم تكن المؤسسة قادرة على أن تتمثل المبادئ التي تدعو إليها، وتلتزم بالقيم التي تحملها، فمصيرها محكوم بالفشل.

نأمل أن تستمرّ المؤسسة في نشاطها، وهناك الكثيرون ممّن يؤمنون بضرورة الإصلاح الديني والتعاطي العقلاني والعلمي مع الدين، وعلينا أن نزيد التوعية بأهمية هذا الموضوع لتستمرّ المؤسسة، وتنشأ أيضاّ مؤسسات أخرى.

أمّا عن العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب؛ فنحن نحمل ثقافة واحدة تقريباً، ولا تجد ذلك الفرق الثقافي أو التباين بين المشرق والمغرب، فهمُّ المشارقة والمغاربة واحد، وحالهم الثقافي والفكري والاجتماعي متشابه إلى حد كبير. وعلى مستوى البنية، فإن المفردات الثقافية والأسس واحدة، ولا سيّما في الجانب الديني، ربما نختلف في بعض التمظهرات أو العادات، ولكن ثقافتنا ولدت من رحم واحد.