رواية "سمرقند" لأمين معلوف: التاريخ الموازي ولغز المخطوط الغامض
فئة : مقالات
رواية "سمرقند" لأمين معلوف:
التاريخ الموازي ولغز المخطوط الغامض
قبل الحديث عن الرواية التاريخية، علينا أن نتوقف قليلا ًعند الفن ودوره في إبراز المهمل والمنسي، والمسحوق تحت دوامة التحولات الكبرى في الصيرورة والتاريخ، وفي كل ما يمكن أن يبتلعه الزمن، من أشياء وتفاصيل تُمحى وتتلاشى من الذاكرة الجماعية، من ذوات وكينونات وأصوات ينطفئ وهجها وتخفت إلى الأبد. وهنا تأتي أهمية الفن في إحياء كل ما هو عابر ومنسي ومسكوت عنه. فكلما تشربت روح التاريخ بالفن والأدب ازدادت القيمة الجمالية لهذا التاريخ، وأصبحت الكينونة حدثا فاعلا ومؤثراً في مجرى الأحداث، وزمنا يشتبك فيه الماضي مع الحاضر، وبصيرة تستشرف المستقبل.
إذن يمكننا القول إن الرواية التاريخية تأتي هنا لملء فراغات التاريخ وتخليصه من الغموض والضباب الذي يلف الكثير من أحداثه، عن طريق الخيال الذي يوفر أرضاً خصبة لواقع تاريخي موازٍ يمكننا من تخيل كيفية لقاء الشخصيات في الزمن الذي تتقاطع فيه مع رؤية بديلة لمجرى الحدث التاريخي استنادا ًعلى الحدث الأصلي، مع خلق شخصيات وبنية حوارية تحاكي الماضي والحاضر في الوقت ذاته، مسلطة الضوء على علل التاريخ ونسقه الذي يحكم بنية تفكير المجتمعات وعاداتها وطبائعها الموروثة، إضافة إلى مقدساتها.
"سمرقند" بين السيرة المتخيلة والتاريخ الحقيقي
تعد رواية "سمرقند" لمؤلفها الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف، امتداداً يشتبك فيه الماضي مع الحاضر من خلال عدة عناصر، وهي: التكرار، والتناظر التاريخي، والسلطة والمقدس.
تحكي الرواية عن سيرة متخيلة للشاعر والفلكي والفيلسوف الفارسي عمر الخيام في القرن الحادي عشر الميلادي، من خلال علاقته مع ثلاثة أشخاص في عصره من الفرس، وهم؛ نظام الملك الوزير الأعظم في الدولة السلجوقية، والحسن بن علي الصباح من الطائفة الإسماعيلية، ومؤسس فرقة الحشاشين.
تنفتح الرواية على وجود عمر الخيام في مدينة سمرقند، التي يشاهد فيها أثناء تجواله في المدينة مجموعة من الأشخاص ملتفين حول شخص يوسعونه ضرباً، ليتبين أنه جابر الطويل تلميذ المعلم الفيلسوف ابن سينا، وعندما يستفسر عن الأمر يجيبه رئيس الميليشيا الملقب بالطالب ذي الندبة بأنه فيلسوف كافر، وعندما تطلب هذه المليشيا من عمر أن يعرّف بنفسه، يقول لهم أنا عمر من نيسابور، فيعرفه فورا الطالب ذو الندبة بأنه عمر الخيام الفيلسوف وشاعر الخمر والنساء، لتتحول دائرة العنف من جابر الطويل إلى عمر الخيام، وفي الوقت الذي تأتي فيه الشرطة، تساق جماعة الطالب ذي الندبة ومعهم عمر الخيام إلى القاضي أبي طاهر، فيتعرف عليه فوراً، ويعتذر له بحياء وخجل عن هذا التصرف الدموي العنيف، ليقرر فيما بعد أن يعرّفه على الملك نصر خان، كتكريم وتبجيل لهذه الشخصية الكبيرة التي حلت ضيفة على سمرقند، ثم يهديه مخطوطاً مزخرفا ليكتب عليه رباعياته، وهذا المخطوط هو مخطوط سمرقند الغامض الذي تدور حول أحداثه الرواية.
يتعرف عمر الخيام في سمرقند على الشاعرة جيهان التي أثارت دهشة الملك وإعجابه بشعرها وبلاغتها، بعد أن ضاق الملك ذرعا بالشعراء الذين لا ينفكون يكررون قصائد مملة، واستعارات مستهلكة تشبه الملك بالشمس والنسر والأسد. إلا أن جيهان كان لها الحظوة الكبيرة من الإبداع ولفت الإنظار وإعجاب الحاضرين، ومن ضمنهم عمر الخيام.
إلا أن عمر الخيام لم يعجبه موقف جيهان في جشعها وطمعها بالمال والدنانير الذهبية التي أغدقها عليها الملك.
يصبح الخيام مقربًا من نصر خان بعد أن رفض عطاياه ودنانيره الذهبية، وبعد أن أعجب الملك بحكمة الخيام وعلمه وأسلوبه في الحياة.
وفي سمرقند، تبدأ الليالي الغرامية بين جيهان والخيام سرًّا، بعد أن أصبح مقيمًا في بلاط الملك ومتفرغا للعلم والمعرفة، ومرافقة حاشية السلطان أينما حل وارتحل.
في أحد الأيام يطلب الوزير الأعظم من الخيام أن يلتقيه بعد عام في أصفهان. ويغادر الخيام سمرقند بعد عام متجها ًإلى أصفهان فيقيم في بادئ الأمر في فندق، وفي غرفة مشتركة مع طالب علم ودين سلب لُب الخيام بحججه وعمقه المعرفي وبلاغته وقدرته على الإقناع، هذا الطالب هو الحسن بن علي الصباح الذي سيصبح فيما بعد قائد أكبر فرقة اغتيالات وإرهاب عرفها التاريخ الإسلامي، بل والعالم برمته في ذلك الزمن.
ها هي مدينة أصفهان يجتمع فيها ثلاثة رجال سيغيرون تاريخ إيران، ومن خلالهم ستتجلّى الروح الفارسية الطامحة إلى التقدم والنهضة والتنوير خلال القرون القادمة.
الوزير والسياسي المحنك نظام الملك، الفيلسوف والشاعر عمر الخيام، والثوري الحالم الحسن بن علي الصباح.
يتنعم الخيام بعطايا وزير الدولة السلجوقي من راتب يصل إلى عشرة آلاف دينار ذهبي، ومكان إقامة فاخر في القصر في مدينة أصفهان، مع بناء مرصد فلكي للخيام، إلا أن هذه النعم والمناصب لها ما يقابلها في العطاء. فوزير الدولة نظام الملك يطلب من الخيام أن يصبح رئيسا للخبر أو رئيسًا للاستخبارات وعينا للملك على المدينة، لكن الخيام يرفض ويقنع وزير الدولة بأنه بعيد عن ألاعيب السياسة والمؤامرات، ولا يطمح لمنصب أو جاه أو ثروة في مدينة أصفهان التي كان يحكمها ملكشاه السلجوقي. لكن الخيام يقترح شخصا آخر لهذا المنصب، وهو الحسن الصباح ذا العلم والثقافة والطموح السياسي، فيوافق الوزير على مقترح الخيام ويتم تعيين الصباح في منصب رئيس الخبر لتبدأ شهوة الحكم التي لا تعرف حدودا ًعند الصباح، وطموح الزعامة الذي يجعل من الصباح ينكر الصداقة وفضل الآخرين عليه. وعندما يتبوأ الصباح مناصب عليا ويصبح مقربا من ملكشاه، يحاول أن يوقع بين الوزير الأعظم نظام الملك وبين ملكشاه، من خلال مكيدة مالية يقنع فيها الصباح السلطان ملكشاه بأن نظام الملك مسرف ومبذر لخزينة الدولة وبيت المال، عن طريق صرفه لمرتبات خيالية لحاشية وأتباع نظام الملك تصل إلى ستين ألف دينار. فيطلب ملكشاه من الصباح أن يجري جردا ماليا لكل مدينة وقضاء وإمارة في الإمبراطورية السلجوقية، فيعده بذلك خلال أربعين يوماً. وعندما يأتي الموعد، يجتمع الثلاثة أمام السلطان ملكشاه: نظام الملك، وحسن الصباح، وعمر الخيام، إلا أن مكيدة أخرى كانت قد دبرت سرًّا من الوزير نظام الملك، فأوراق الصباح ناقصة ومسروقة، فيختفي كل دليل من يد حسن الصباح، وهنا يعتبر الملك أن حسن الصباح قد كذب عليه ورواغه وحاول الإيقاع بينه وبين السلطان، فيأمر بإعدامه، فيتوسط عمر الخيام عند السلطان ليتم تخفيف العقوبة إلى سمل العينيين، إلا أن عمر الخيام يستمر في وساطته لدى لسلطان، فيقنعه أن الصباح لا يملك إلا عينيه التي يكتب ويقرأ بهما، وأخيرًا يتم طرد الصباح ونفيه خارج أصفهان وعدم العودة إليها.
في تلك المدة يعود الخيام إلى علاقته الغرامية مع جيهان وإلى ليالي السهر والخمر، عندما يعلم أنها وصيفة السلطانة تركن خاتون زوجة ملكشاه. وفي الوقت نفسه، تتاح له الفرصة لكتابة عدد كبير من الرباعيات ومن تأملاته الفلسفية في العالم والإنسان. وفي المدة ذاتها، يكون حسن الصباح قد أسس فرقة الحشاشين بعد أن أقام فترة في مصر وتتلمذ في الجامع الأزهر إبان الدولة الفاطمية، ليبدأ دعوته متنقلا ًحول المدن والأمصار الإسلامية، إلى أن يقوم له الأمر السياسي بالقوة فيؤسس قلعته الحصينة في مدينة "ألموت" ومعها عدد كبير من المقاتلين وفرق الاغتيال والتخريب، فتصل أعمال تخريبه واغتياله إلى أبعد الأمراء وأشدهم تحصينا، وتطال يده الصغير والكبير في المشرق والمغرب الإسلاميين وحتى أوروبا أيضاً. ويدخل سمرقند مع بعض ميليشياته ويستطيع إقناع سلطانها أحمد خان باعتناق المذهب الإسماعيلي، إلا أن جيوش ملكشاه والوزير الأعظم كانت له بالمرصاد، فيفر هاربا ًبأعجوبة مواصلا ًدعوته وعمليات اغتياله من قلعته الحصينة "ألموت".
في تلك الفترة تدخل أصفهان في سلسلة من الصراعات السياسية والدينية، وتحتدم المنافسة بين تركن خاتون زوجة السلطان، والوزير نظام الملك الذي أصبح ذا نفوذ واسع في الإمبراطورية، فتبدأ الدسائس والمؤامرات من تركن خاتون التي تطمح بأن يكون ابنها وليا ًللعرش، مقابل منافسها ابن نظام الملك، وهنا تضطر تركن خاتون إلى التحالف مع الحشاشين لتنفيذ عملية اغتيال نظام الملك الذي أنهكه المرض الخبيث والدسائس واللعنات.
يتم اغتيال نظام الملك من قبل أحد عناصر الحشاشين، وفي معسكر ملكشاه بعد تدبير من تركن خاتون. ولاحقا ستقوم تركن خاتون بمؤامرة لقتل زوجها السلطان ملكشاه ليتسنى لابنها الصغير الجلوس على العرش، ولتتمكن هي من وراء الستار من حكم إمبراطورية مترامية الأطراف، إلا أن الفوضى تعم البلاد ويسود الهرج والمرج والفتن. وفي تلك الأثناء، يعود أنصار نظام الملك إلى القوة والتوحد ولملمة جراحاتهم، لتحدث ثورة مضادة تنتهي باقتحام القصر ومقتل تركن خاتون وجيهان التي أصبحت زوجة الخيام. أما الخيام كان وما يزال بعيدا عن المؤامرات والدسائس وألاعيب السلطة، حتى اللحظة التي يتفاجأ فيها بمقتل زوجته.
عندها تملكه الحزن والهلع والصدمة التي لم يستطع تصديقها، إلا أن الضابط المدعو ورطان الأرمني كان قد أبلغ الخيام أيضا أن ضباط الفرقة النظامية يطلبون رأسه؛ لأنه في نظرهم هو السبب الرئيس الذي جعل حسن الصباح ينجو بحياته ليقتل الوزير نظام الملك أخيراً.
ومن هنا يبدي ورطان الأرمني تعاطفه مع عمر الخيام، ليبدي له مساعدته في الهروب من أصفهان. يخرج الخيام ومعه ورطان الأرمني من مدينة أصفهان مشردا فقيرا لا يملك أي شيء سوى مخطوطه الذي يكتب عليه رباعياته، وأصبح الخيام مذ غادر أصفهان يحيا حياة الهاربين والمنبوذين.
في أحد الأيام تأتي رسالة لعمر الخيام من حسن الصباح زعيم قلعة ألموت يطلب منه الحضور والإقامة في القلعة مغريا الخيام بأن يحيا حياة المعرفة والعلم التي كان يحياها في بلاط الملوك والسلاطين، فهناك مكتبة كبيرة وضخمة تضم أندر الكتب وأثمنها، وأجواء هادئة وآمنة يستطيع الخيام أن يكمل فيها رباعياته وتأملاته الفكرية والفلسفية.
إلا أن الخيام هنا يمزق رسالة حسن الصباح وينظر إلى مرافقه الأرمني قائلاً له بما بمعناه "شتان ما بيني وبين هذا الرجل، فأنا قد خلقت للحياة ونذرت نفسي لها، وهو خلق للموت ونذر نفسه له". وهنا يعترف ورطان الأرمني بأن أمر هروبه من أصفهان كان خدعة من كبار الضباط والحرس في الفرقة النظامية، كي يتسنى لورطان مرافقة الخيام إلى قلعة ألموت وقتل الحسن بن الصباح هناك بعد أن تم الانتقام للوزير الشهيد نظام الملك، وتصفية جميع أعدائه، وبذلك يكون الخيام قد أنقذ حياة زعيم الحشاشين مرتين.
بعد فترة من الزمن يجد الخيام مرافقه ورطان مقتولاً، وهناك رسالة كتب عليها "مخطوطك ينتظرك هناك في ألموت".
يحيا الخيام فترة من الحزن الشديد والاكتئاب بعد أن فقد مخطوطه إلى الأبد، وقد انقطع عن الكتابة حتى وافته المنية عن عمر يناهز الرابعة والثمانين في عام 1131 م.
وفيما كان الخيام يرقد في قبره التي تحفه الزهور والأشجار، وتحط على شاهدته الطيور، كان المخطوط قد نجا مع بضعة كتب ثمينة ونادرة، من التخريب والحرق المغولي الذي نال مكتبات بغداد والعالم الإسلامي، ومن ضمنها مكتبة الحشاشين في ألموت، ليبدأ تاريخ جديد لمخطوط سمرقند في عصرنا الحديث، وتحديدًا في بدايات القرن العشرين.
وهنا تنتهي سيرة الخيام المتخيلة في رواية سمرقند لتبدأ رحلة البحث عن المخطوط بين الشرق والغرب.
يقول الخيام:
كقطرة عادت إلى الخضم أو
كذرة قد رجعت إلى الثرى
أتيت للدنيا وعدت حاكيًا
ذبابة بدت وغابت إثرا
مخطوط سمرقند وسفينة تيتانك
يبدأ الجزء الثاني من رواية سمرقند في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ ينفتح المشهد على بنيامين لوساج المواطن الأمريكي من أصل فرنسي، والذي تبدي عائلته شغفا ً واهتماما ًبالحضارة الشرقية وثقافتها. ويذكر بنيامين لوساج، والذي يحب أن يلقب ببنيامين عمر أن عائلته كانت تحتفظ بترجمة لرباعيات الخيام عن طريق جده لوالدته، فبنيامين الذي ترعرع وكبر في بيت شغوف برباعيات الخيام وبحضارة المشرق الإسلامي يقرر أن يهاجر إلى إيران للحصول على مخطوط سمرقند الأصلي، والذي يحوي رباعيات الخيام التي خطها بيده منذ ثمانية قرون، فيخبره جده روشفور أن ابن عم له كان مقيمًا لفترة في بلاد فارس، وقد تواصل مع السيد جمال الدين رائد النهضة والتنوير في بلاد فارس وقد جمعتهما صداقة وطيدة.
يصل بنيامين إلى إيران في فترة من الصراعات الدينية والسياسية، وفي الفترة التي تكون فيها البلاد مقسمة ومتنازعة بين دول عظمى كروسيا القيصرية وبريطانيا، إضافة الى النزاعات القبلية والعشائرية. يشهد بنيامين الثورة الدستورية في إيران إبان حكم السلالة القاجارية، ويصبح متورطا ًومطلوبا ًللدولة بعد أن اغتيل الشاه على يد ميرزا رضا، الذي اعتقل من الشرطة ووجدت الشرطة في جيب ميرزا رسالة من جمال الدين يذكر فيها اسم بنيامين الذي كان قد زاره في منفاه في إسطنبول، وكان جمال الدين في حينها هو الذي قاده إلى ميرزا رضا الذي سيدله إلى مكان المخطوط، والذي سيكون موجودا ًعند شيرين حفيدة الشاه المقتول. يتذكر بنيامين شيرين عندما رآها أول مرة في تركيا عند السيد جمال الدين وأعجب بها، لكنها لم تتكلم إلا بعبارة واحدة "من يدري قد يتقاطع طريقانا".
رويداً رويداً، ومن خلال مجموعة من الشبكات والعلاقات، يصل بنيامين إلى شيرين ويجلس معها ويعبر عن رغبته الجامحة في الحصول على المخطوط الذي يكون في حوزتها. وتمر الأيام والليالي، وتشهد إيران تقلبات وثورات تطالب بتطبيق الدستور، وبحرية القرار الإيراني خارج الوصاية والسيادة الأجنبية. ويشهد بنيامين حصار تبريز وتدخل الجيش الروسي لفك الحصار وعودة المياه لمجاريها. ويبكي بنيامين بحرقة وألم شديدين لفقدان أعز أصدقائه في الحرب، وهو باسكرفيل القادم من أمريكا من أجل بنيامين، ومن أجل تقديم خدماته وخبراته لنهضة إيران وبناء دولة عصرية.
في تلك الفترة، يكون بنيامين قد عاش غرامياته ولياليه مع شيرين خفية في قصرها، إلى أن يتزوجا أخيراً. وهذا التناظر التاريخي يعيدنا إلى علاقة عمر الخيام بجيهان، وكأن روح الخيام المشرقية تلبست جسد بنيامين الأمريكي، وروح جيهان قد تلبست شيرين، كما أنه يؤدي بنا إلى تناظر تاريخي آخر، وهو ميرزا رضا الذي يشبه زعيم الحشاشين الحسن الصباح، فكلاهما يحملان نفس الروح المتطرفة، وكلاهما اغتالا شخصيتين مرموقتين في الدولة الفارسية في زمنين مختلفين. وكأن الرواية أرادت أن تقول أن هناك سفراً لا مرئياً عبر الزمن يحصل بين الأرواح في حيوات عديدة من تاريخ الإنسان وعلى مر العصور البشرية.
أخيراً، يقرر بنيامين الهجرة مع زوجته شيرين والعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية على ظهر سفينة تيتانك التي نعرف قصتها عندما غرقت بعد اصطدامها بالجدار الجليدي عام 1912. ينجو كل من شيرين وبنيامين، ويصلان إلى أمريكا عن طريق قوارب النجاة وفرق الإنقاذ التي اقتادتهما إلى سفينة أخرى. لكن مخطوط سمرقند ظل في السفينة التي غرقت، كذلك شيرين التي اختفت فجأة بعد وصولها إلى أمريكا مباشرة ولم يعثر لها على أثر. وظلت قضية شيرين والمخطوط لغزين غامضين.
ترى من هو بنيامين لوساج، وكيف تسلل إلى عصرنا الحديث بمخطوط سمرقند الذي ظل لغزًا غامضاً. كذلك الحال بالنسبة إلى بنيامين نفسه وشيرين. وهل وجد حقًّا على ظهر سفينة تيتانك مهاجر أوروبي كان يحمل مخطوط سمرقند الأصلي القادم من أعماق التاريخ المتخيل؟
في الختام يمكننا القول إن أمين معلوف أراد أن يبين في روايته سمرقند أن العقل العربي والإسلامي ما زال يحيا في التاريخ، وهو عقل دائري تقهقري أسير للسلطة والمقدس والوصايا الخارجية، فالإشكالات والصراعات والنزاعات التي كانت تحكم المشرق الإسلامي منذ عشرة قرون ما زالت كما هي، وطريقة التفكير ما زالت نفسها قياسًا بتقدم الحضارة البشرية على هذه الأرض.
هكذا يشدك صوت الناي القادم من أعماق الشرق، شرق الأنبياء والأساطير والمعجزات، روح تشدك إلى زمن آخر، لكنه زمن لا يختلف كثيرا ًعن زماننا الذي نحياه حالياً، فما زلنا بالتشتت نفسه والحروب نفسها والتشرذم نفسه. إنه شرق السلاطين الجدد والسلاطين البائدين، شرق الطوائف والملل والعقائد المتناحرة. إنه المتاهة التي لامخرج منها والدائرة التي لا مركز لها.
أما سمرقند، فهي تلك الهوية الكونية الجامعة لتراث الإنسانية وحضارتها.
سمرقند جوهرة مدونتنا الشرقية وجرحها القديم، تاريخ من الدم والأسى والانقلابات يعيد نفسه كل مرة في شرقنا الحزين.
