زمن الغضب... تأريخ الحاضر


فئة :  قراءات في كتب

زمن الغضب... تأريخ الحاضر

زمن الغضب... تأريخ الحاضر

تأتي أهمية هذا الكتاب من خصوصية موضوعه؛ فهو يسائل بنية التحولات العالمية على المستويات: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. فالغضب والتوتر ظاهرة عالمية، لا تقتصر على مجتمع دون آخر، والعالم ينتقل من النظام إلى الفوضى، ومن الحداثة والاستنارة والديمقراطية، ومن الحتمية إلى النسبية والتفكك الناتجين عن تناقضات الحداثة وتراجع وعودها.

يقدم كتاب "زمن الغضب" قراءة موسَّعة لمجموعة من القضايا والأحداث العامة التي قد تبدو لنا بعيدة عن بعضها أو لا يوجد رابط يجمعها، ولكنها لن تبدو لنا كذلك بعد التأمل والفحص؛ إذ تنبثق من مصدر واحد ومن فكرة واحدة، تمامًا كما تتولد النتائج عن المقدمات، على نحو ما نجد في انتخاب "دونالد ترامب"، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط، والحروب الأهلية التي تعيشها منذ عقود بلاد مثل اليمن وسوريا وليبيا، بالإضافة إلى حالة "الاستياء" العام التي تحرك الغضب في صدور الشباب في مختلف البلدان المتقدمة وغير المتقدمة...إلخ

فالظواهر السابقة وغيرها تتصل فيما بينها، فهي أجزاء في لوحة كبيرة يحكمها سياق عالمي واحد، كما أنها – وهذا مهم- نتيجة لمقدمة كلية واحدة هي تناقضات الحداثة الغربية وتراجعها عن وعودها وشعاراتها البراقة التي لم يؤكدها واقع الحياة بالنسبة إلى كثير من الفئات والشعوب. (سوف نتناول هذه الفكرة بمزيد من التفصيل في الفقرات التالية).

ومن جهة ثانية، تأتي أهمية هذا الكتاب من ثقافة مؤلفه المتعددة الروافد، فهو الكاتب والروائي" بانكاج ميشرا" Pankaj Mishra الذي يجمع بين الثقافتين الهندية (المنشأ والتكوين الأوليّ) والثقافة الغربية، حيث يعيش، وهذه الفئة من الكُتّاب تمتاز بقدرتها على تقديم رؤية رحبة للموضوع؛ فما أكثر الذين ينتقدون الحداثة الغربية من داخل الثقافة الغربية ذاتها، ولكننا هنا إزاء مقاربة خاصة بخصوصية ثقافتها أو بازدواج ثقافتها؛ فهي لا تنساق وراء السردية الغربية حول الحداثة وما بعدها وحتميات التحول نحو الاقتصاد الحر، كما أنها لا تنساق أيضًا وراء مقولات "المقاومة" التي تضغط أحيانًا على مفكري الشرق، وكثيرًا ما تضعهم في خانة الرافض للآخر والعاجز- من ثم- عن فهم الواقع وما يجري فيه من مؤثرات وتغيرات وتحولات.. ولهذا، فإن "بانكاج ميشرا" يقدم لنا قراءة جديرة بالاستماع إليها.

وقد صدر "زمن الغضب" عن سلسلة عالم المعرفة، في أبريل 2023م وترجمه وقدم له الأستاذ معاوية سعيدوني، وهي ترجمة تستحق الإشادة لأهمية الموضوع من ناحية، ولدقتها ووضوحها من ناحية أخرى.

مجازر الماضي وشعارات الحاضر

عبر ستة فصول وخاتمة، يؤكد "بانكاج" أن معضلات العالم المعاصر - شرقه وغربه- تكمن أسبابها داخل بنية الحداثة ذاتها؛ فنحن إزاء عالم اخترقته الحداثة وهيمنت عليه: من الغرب الأطلسي إلى قلب أوروبا، وإلى روسيا والشرق منها. ولم تكن هذه تحولات عادية أو عادلة؛ فالحداثة أضفت قدرًا من التنميط على العالم، ليس على مستوى الاقتصاد والتحولات الاجتماعية فحسب، وإنما على مستوى الشعور النفسي والقيم وتبلور الأحلام، والسعي قُدمًا نحو مساواة بلا حدود، ولكنها- أي المساواة- ظلت شعارًا فارغًا؛ فلم تتحقق للمجتمعات التقليدية (النامية)، ولم تتحقق لشرائح واسعة من المجتمعات الغربية ذاتها، مما أوجد هذا الشعور العام بـ"الاستياء" العام الذي يمهد لزمن الغضب. (لاحظ على سبيل المثال فحسب الحديث المتكرر عن ازدواجية المعايير الأخلاقية لدى الغرب..)

يتحدث "بانكاج" مطولا عن الصورة الذهنية المثالية التي يقدم بها الغرب نفسه، باعتبارهم حماة الحقوق والحريات ودعاة الديمقراطية والمساواة.. الغربيون يبذلون جهودًا كبيرة للتخلص من خطايا التاريخ الذي انبثقت منه الحداثة، هذا ما يسميه بانكاج "نزعة التطهر من الماضي" حتى يبدو العالم الحديث كله منتسبًا "إلى عصر التنوير، أو بريطانيا العظمى أو الغرب، وفُصلت الحربَيْن العالميتين عن سيرورة التاريخ، وعزلت الستالينية والفاشية والنازية عن حركية التاريخ الأوروبي الغالبة". (ص29)

يشير "بانكاج" إلى أن هذا مما لا يجب إغفاله أو التغاضي عنه؛ فهذه الحروب جزء من بنية التحديث ذاتها، ولم يكن هذا الجنون الهيستري حكرًا على دولة أوروبية دون غيرها، لقد مارسته المانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وروسيا الشيوعية.. وهذا يعني أننا نتحدث عن محطات أساسية في مسيرة العقل الغربي المعاصر، وإن تمكّن النمو الاقتصادي والديمقراطي لأوروبا والحديث المستمر عن التوافق السِّلمي من التغطية على كل هذه الصدامات وما لا يحصى من المجازر..!

واللافت أن هذه السردية المُطهّرة لم تشتغل عليها المؤسسات السياسية وحدها؛ فقد أسهمت في ذلك أيضًا الدوائر الأمريكية الأكاديمية التي أدارت ظهرها للتاريخ كوسيلة لفهم الذات في خمسينيات القرن الماضي، هذا ما يؤكده كارل شورسكه في كتابه المُجَدِّد "فينا نهاية القرن: السياسة والثقافة"، وفيه يقول: "كانت النتيجة الحتمية لقطع حبل الوعي الواصل بين الماضي والحاضر رواج رواية تاريخية مطهرة، حيث قُلل من أهمية قرون الحرب الأهلية والحملات الإمبريالية والإبادة والعبودية في أوروبا وأمريكا، في كتابات ركزت على الغرب الأطلسي المتميز بالعقل واستقلالية الفرد باعتباره صانع العالم الحديث، وتحوله بديمقراطياته الليبرالية إلى نموذج للبشرية المتفوقه التي ينبغي على الآخرين السعي إلى اللحاق بها".(ص56)

وهذا الإخفاء المتعمد لهذا البعد المؤثر في مسيرة التنوير الغربي، يقابل بالضرورة "التأكيد على الحرب الباردة والتوتاليتارية (الحكم الشمولي) والترويج لفكرة مواجهة الغرب للآخرين منذ أحداث 11 سبتمبر". (ص29)

يمكننا تتبع التأثير الإيديولوجي على كثير من الكُتّاب والمؤرخين الذي يصفهم "بانكاج" بـ"المؤرخين الآليين"، المتشبثين بالتصورات النمطية للحرب الباردة، فهم لا يزالون يقسمون العالم قسمين: "نحن وهم"، أو "نحن في مواجهة الآخرين"، ويمكنك بالتأكيد الحديث عن ثنائيات ضدية لا حد لها ترددها مثل هذه التصورات التي تزداد شراسة عقب كل هجوم إرهابي، مثل: "العالم الحُرّ في مواجهة العالم غير الحُرّ" أو "الغرب في مواجهة الإسلام" كما يمكنك الحديث عن كلمات مفتاحية تلوكها هذه الكتابات وتلك التصورات، مثل: "صراع الأجيال"، و"التهديد" و"الإيديولوجيا" و"التطرف الإسلامي" و"الأصولية الإسلامية"..إلخ

وبلا شك، فإن مثل هذه التصورات لها أثر مدمر على كثير من الفئات المهمشمة في المجتمعات الغربية قبل العربية؛ فقد أصبحت معاداة المسلمين سبيلا لتفريغ طاقة الغضب والشعور العارم بالإحباط من سياسات التهميش والازدراء في مجتمعات تراجعت فيها وعود المساواة، وفي مناخ عام تسوده المنافسة المحمومة والتقلبات والخسارة المحتومة، وتحد فيه الأسواق المتقلبة من استقلالية الدولة، وتُقوِّض فيه أمواج المهاجرين واللاجئين أفكارًا أساسية كان ينظر إليها بكثير من الإجلال كالثقافة الوطنية والمواطنة والتراث...إلخ.

لا يوجد سياق أكثر إحباطًا من هذا، وعليه فقد كانت الحاجة ضرورية إلى اختلاق العدو، أو لنقل إن اختلاق العدو أمر ضروري لحياة هذه المجتمعات...وفي مناخ مثل هذا، ازدهرت معادة المسلمين أو الإسلاموفوبيا..(ص31)

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فعمليات التحول الاجتماعي والصناعي وثورة التواصل لم تكن بلا ثمن؛ فمشاريع تقدم الإنسان وإنجازاته قد أغفلت الإكراهات الكثيرة التي يفرضها الحيز الجغرافي، والموارد المحدودة، وتأثير النمو الصناعي والتقني على البيئة وقضية الاحتباس الحراري.. كان بدهيًّا- والحال كذلك- أن تقوض الفرضية الأساسية التي تأسس عليها "وعد" الحداثة، حيث ظلت تؤكد أن المستقبل سوف يكون أفضل من الحاضر.. ولكن الواقع يشير إلى أن الأمل بات مفقودًا بالنسبة إلى كثير من الشرائح والمجتمعات. (ص30)

النزعة الفردية

لم تكن التركة التاريخية الثقيلة بخطاياها وحدها هي معضلة الحداثة، فما لا يقل عن هذا الماضي خطرًا هو قيم التنوير ذاتها؛ لقد بالغت في الزعم - فيما يؤكد روسو- "أن البشرية تتقدم تقدمًا مستمرًا" ولم يكن "رسو" مقتنعًا بأن التقدم الحقيقي يبنى على "المنافسة المطلقة والرغبة والغرور"..(ص33)

كما أشار الفيلسوف الأمريكي "جورج سانتيانا" (1863-1952) إلى جانب من تناقضات الحداثة، فعلى سبيل المثال "اعتبرت الولايات المتحدة على الدوام، وبوعي راسخ، أنها أرض الحرية حتى عندما كانت تعجّ بالعبيد".(ص54) وأبدى انزعاجه من الثقافة الفردانية العدوانية الجديدة التي جعلت الهدف الأسمى للإنسان محاكاة الأغنياء، فــ"أغلب البشر لا تؤهلهم فطرتهم للمشاركة في السباق المحموم من أجل اكتساب الثروة، ويكون مصيرهم التذمر الخانق".(ص55)

وعلى مدار عقود متصلة، بات التحديث وفق العقيدة الرأسمالية أسلوب حياة لكثير من البلدان والشعوب، بل بات عقيدة تتأكد بها قدرة الفرد على الاختيار الحر، وأصبح النمو الاقتصادي هو المعيار الوحيد للتقدم عبر العالم "فضلا عن كونه مفتاح السعادة"..!

لقد حذّر كثيرون من خطورة بناء العالم على نمط واحد، أو بتعبير آخر على نمط سوق عالمية لا غاية لها سوى سد حاجات الفرد الجسدية، فكتب الفيلسوف بلوم مشخصًا هذا الوضع ومحذرًا من مآلاته، ففي النهاية لا ينتظرنا سوى الفاشية، "وربما كانت هي المستقبل". ص58

فالفردية نزعة أصيلة في التنوير الأوروبي؛ فمنذ بداياته في القرنين السابع عشر والثامن عشر رسم الفرد الحر معالم المستقبل؛ وذلك على نحو يُمكِّن لسيادة الإنسان، ومنذ ذلك الوقت "أصبحت الحرية ملازمة لتطور العلوم الطبيعية والأنماط الفنية الجديدة والتجارة الحرة". (ص320) كانت هذه الحريات مطلقة، وبلا حد أخلاقي، وأحيانًا بلا غاية سوى تأكيد حرية الفرد وقدرته على ممارسة هذه الحرية.. كل شيء كان مسخرًا لسيادة الإنسان الغربي، وفي سياق مثل هذا بدا نابليون أيقونة تجسد مزاجًا عامًا من خلال محاولته إخضاع العالم لإرداة بشرية متحررة من قيود التقاليد، في سعي محموم نحو التفوق والهيمنة .(ص34)

لقد ترتب على هذا- فيما يرى "بانكاج"- أن وجد كثيرون في العنف والحقد خلاصًا لهم من الملل القاتل الذي هيمن على المجتمع البرجوازي، وانخرط شباب بريطانيون في حروب تحرير وغزو وتأسيس إمبراطوريات تجارية عبر العالم، بحثا عن البطولة والمغانم.

ومن المفارقات الدالة في هذه الصدد أن يكون البابا فرانسيس أكثر المثقفين إقناعًا وتأثيرًا، رغم أن الكنيسة كانت العدو الرئيس لمثقفي التنوير عندما كانوا يشيدون صرح المجتمع التجاري العالمي، لقد اكتسب البابا هذه المكانة اليوم لسبب بسيط، وهو أن الفرد (التنويري) المنهمك في تحقيق مصلحته الذاتية داخل المجتمع التجاري شديد التنافس يواجه مأزقًا حقيقيًّا؛ إذ لم يعد نموذجًا عالميًّا على نحو ما كان يرجو آباء الحداثة، ليس هذا فحسب، بل إنه انحدر في عصر العولمة إلى مستوى من السخط البدائي، أو إلى فردانية متناقضة لا تقل عدوانية عن الحالة البدائية. (ص320)

لقد أدى ذلك إلى نمو النزعة الفردية على مدار قرون متتالية، وعملت الرأسمالية والتكنولولجيا الحديثة على تعميق شعور الاستياء لدى شرائح واسعة من المهمشين حول العالم، فهم يشعرون دائما بالمهانة بسبب التوزيع المجحف للثروة والسلطة...وهم يقارنون أنفسهم بغيرهم عبر العالم لحظة بلحظة بفضل وسائل التواصل الرقمية، فيتولد لديهم شعور دائم بالحسد والتذمر..

الفجوة المظلمة

لنتذكر كلام بلوم السابق عن المستقبل الفاشي الذي ينتظر الحداثة؛ فالعالم قرية كونية واحدة يتردد في جنباتها كل حدث بطرائق مختلفة، ويتأثر كل حدث بغيره، لا فرق بين مكان وقوع الحدث، في الشرق أم في الغرب.. يقدم لنا "بانكاج" الشواهد على ذلك من مختلف أرجاء هذه القرية، فظاهرة التطهير العرقي في البلقان 1989م (أوروبا) والتطهير العرقي في رواندا (أفريقيا) بالإضافة إلى نمو الأحزاب اليمنية في إيطاليا والنمسا والنازيين الجدد في ألمانيا ...كل هذا يؤكد "أننا أصبحنا نواجه نموًا للممارسات التسلطية والتعصب العرقي والوحشي والتطرف القومي".(ص58)

ولا يتوقف الأمر عند هذ الحد، فكلما وجدت الظروف المساعدة بدا لنا التفكك قويًّا، وتجلت تناقضات الحداثة في كل مكان، فعلى سبيل المثال، أدت الحروب التي عصفت بالشيشان والأفغان وأفريقيا وجنوب أمريكا في القرن العشرين إلى ازدهار العصابات المسلحة، وراجت معها تجارة البشر والمخدرات وشركات الأمن الخاصة التي احتكرت العنف ومهدت كل هذه الظواهر للإرهاب الذئاب المنفردة.. ليتلاشى في الأخير الفرق بين المدني والعسكري..(ص58)

وفي هذا الكُلّ المتصل ببعضه، تلتقي كهوف أفغانستان بأبراج نيويورك (قلب أمركا المالي) وتغيب الفوارق التقليدية القديمة بين الدول، على نحو ما رسمها العالم في حقبة الحرب الباردة، كالتمييز بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، أو بين الدول النووية وغيرها.. فالذين نفذوا عمليات 11 سبتمبر درّبهم إسلاميون كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تدعهم فيما مضى.. (ص59)

لا حد لأزمات الحداثة والتنوير، ولا يكفي في وصف هذا الصخب العالمي أن نعود إلى المفكرين الآليين مرة أخرى ليحدثونا عن الإرهاب الإسلامي، أو عن العالم الحر في مقابل العالم غير الحر.. فمن الضروري هنا أن نتذكر- يؤكد بانكاج- أن الدولة الفرنسية الثورية هي أول من استعمل الإرهاب في فضاء السياسة، وأن "الفلاحين الإسبان المتدينين الذين حاربوا المشروع النابليون العالمي كانوا أول المحاربين غير النظاميين ضد دولة قومية وجيش نظامي حديثين: فكانوا أسلاف الجماعات الخارجة عن القانون التي تمارس حرب العصابات والإرهاب" (ص62)

كثيرة هي الأفكار التي قدمها كتاب "عصر الغضب"، ولم نتمكن من استعراضها هنا، ولعل فيما قدمنا ما يحفز القراء على قراءة الكتاب، والتأمل في أفكاره التي تكشف بوضوح عن عمق أزماتنا الاجتماعية والسياسية، وعن علاقة أزماتنا بالحداثة الغربية التي تغلغلت في تفاصيل حياتنا، ولوّنت ثقافتنا بلونها، وكان لهذا اللون أثره البالغ على كثير من الإشكالات الاجتماعية والدينية والسياسية.