شخصيّات مُربِكَة في التّاريخ الإسلامي: بحيرا الرّاهب


فئة :  مقالات

شخصيّات مُربِكَة في التّاريخ الإسلامي: بحيرا الرّاهب

شخصيّات مُربِكَة في التّاريخ الإسلامي: بحيرا الرّاهب

د. محمّد حسن بدرالدّين

إضاءات تاريخيّة:

للعرب علاقات قديمة مع كلّ الدّول منذ الآشوريّين، والحجاز قنطرة بين بلاد الشّام واليمن. ومنذ سيطرت قريش على مكّة، تغيّر الوضع، إذ صار المال والأمن هما هدفا الطّبقة السّائدة. ولئن كانت التّجارة عماد الحياة، فقد كان للطّبقة الحاكمة في قريش ثلاثة موارد ماليّة أساسيّة:

1) ما ينفقه القادمون إلى مكّة في مواسم الحجّ وسوق عكاظ.

2) الأداءات المفروضة على القوافل القادمة من الشّام إلى اليمن والصّاعدة من اليمن إلى الشّام.

3) الرّبا الفاحش، ويظهر أنّ أهل مكّة كانوا يسهمون جميعًا في الاتّجار.

وكانت لأسر مكّة تجارات خاصّة مع العراق وبلاد الشّام واليمن ومواضع من جزيرة العرب لا علاقة لها برحلتي الشّتاء والصّيف. فكان من الضروريّ تأمين الطّرقات وحراسة القوافل، وهذا لا يتمّ إلاّ بتحالفات موثوقة وعلاقات دبلوماسيّة مع الدّول.

قال المؤرّخ العراقي جواد علي (1907-1987م) في هذا الشّأن: «لقد استفادت مكّة كثيرًا من التّدهور السّياسي الذي حلّ باليمن. وأعطى تدهور الأوضاع في العربيّة الجنوبيّة أهل مكّة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها. فصاروا الواسطة في نقل التّجارة من العربيّة الجنوبيّة إلى بلاد الشّام وبالعكس. وسعى تجّار مكّة جهد إمكانهم لاتّخاذ موقف حياد تجاه الرّوم والفرس والحبش، فلم يتحزّبوا لأحد ولم يتحاملوا على طرف. وقوَّوْا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتودّدوا إليهم بتقديم الألطاف والمال إليهم ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السّياسة كثيرًا».[1]

وفي خصوص الحبشة، لم تكن حادثة الفيل أوّل اتّصال لقريش بالحبشة، فقد: «كانت الشعيِبة ميناء مكّة، إليها ترد السّفن قَبل جُدَّة، ثمّ أخذت جدّة موضعها في أيّام الخليفة عثمان بن عفّان. وقد قصدت ميناء الشعيبة سفن الرّوم وسفن الحبش، إذ كانت السّفن القادمة من إفريقيا لبيع تجارتها لأهل مكّة ترسو في هذا الميناء. وأهل مكّة كانوا لا يملكون سفنًا يسيّرها بحّارة منهم، بل كانوا يركبون سفنًا حبشيّة عند ذهابهم إلى الحبشة».[2]

ومن أبرز التجّار المعدودين في مكّة: عبد الله بن جدعان والوليد بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب وعثمان بن مظعون وأبان بن سعيد بن العاص وعبد الرّحمن بن عوف وعثمان بن عفّان والزّبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله وأبو بكر الصدّيق وولداه عبد الرّحمن وعبد الله، وعمر بن الخطّاب وأولاده عبد الله وعبيد الله وعاصم، وخديجة بنت خويلد.[3]

في معترك الحياة:

عاش محمّد بن عبد الله في مناخ قبليّ كانت التّجارة عماد رزقه وثرائه وسيادته، وفي مناخ عائليّ توارث التّجارة منذ قرون، وهو في كفالة جدّه أبي طالب التّاجر، وأعمامه العبّاس وأبو لهب وحمزة، من التجّار الكبار، فأيّ شغل سيشتغل محمّد بن عبد اللّه؟

في منزل عمّه أبي طالب، ترعرع الطّفل وكبر كأغلب الأطفال. شارك أبناء عمّه وأطفال الحيّ اللّعب والمرح والشّجار كما نرى أطفال النّاس. عرف أنّه يتيم الأبوين، ولكنّه وجد عطفا كبيرا عند جدّه من قبل، وعند عمّه الفقير. كما وجد حنان الأنثى على الصّغير عند أمّ أيمن. وهذا الوضع حدّد شخصيّة الطّفل المستقبليّة أكثر من الوضع العاديّ. فإمّا أنّه يبعث في نفسه الانقباض والعزلة والتّشاؤم. وإمّا أن يشحذ ذهنه ويصقل عقله ومواهبه الطبيعيّة، فيغرس فيه العزيمة والشّعور بالمسؤوليّة وروح النّقد. وإمّا أن يوجّهه إلى الانحراف. فماذا كان شأن الطّفل اليتيم الأبوين محمّد بن عبد الله؟

لم يرع محمّد الغنم لأحد، وأن يكون صاحَبَ ابنَ مرضعته حليمة السعديّة لرعي الغنم، فلا يعتبر ذلك شغلا. في الثّانية أو الثّالثة عشرة من عمره، لاحظ فقر عمّه أبي طالب وكثرة أبنائه مع قلّة المؤونة. فقرّر أن يشتغل قناعة وشعورا بالمسؤوليّة. هذا ما جعله يعتمد على نفسه لكسب قوته، وإعانة عمّه منذ أن بلغ السّعي، وصار قادرا على تحمّل مشقّة العمل.

ومكّة مركز حضاري تجاريّ، فمن الطبيعيّ أن يتوجّه إلى السّوق. بدأ يعين بعض التجّار مقابل أجر زهيد. اكتسب بمرور الوقت تجربة وحنكة وممارسة. اندمج في الحركة الاقتصاديّة في مكّة بالتّجارة وربط علاقات وطيدة مع الّذين يقاربونه في السنّ، نذكر منهم: أبا بكر وعثمان وعمر والزّبير وطلحة وزيد بن حارثة المشرف على تجارة خديجة.

في العشرين من عمره

كانت لقريش رحلة الشّتاء والصّيف؛ أولاهما شتاء إلى بلاد اليمن يبلغون بها بلاد حمير، وأخراهما صيفًا إلى الشّام، يبلغون بها مدينة بُصرَى. لعلّه سافر مع بعض أصدقائه التجّار في رحلاتهم التجاريّة الأولى إلى اليمن والشّام والحبشة، ليعينهم في تجارتهم، ثمّ صار تاجرا مستقلاّ.

هل التقى محمّد بالرّاهِبَيْن نسطور وبحيرا؟

طرحنا السّؤال لأنّ في مصادرنا روايات تتحدّث عن أسفار قام بها محمّد قبل النبوّة. وليس الإشكال في الأسفار، فقد سافر محمّد للتّجارة؛ الإشكال: كم سافر محمّد من مرّة وإلى أين؟ هل سافر محمّد في طفولته في قافلة تجاريّة، فتفطّن إليه الرّاهبان بحيرا ونسطور، وتمّ لقاء مفاجئ بينه وبين الرّاهبين، فعرفا أنّه النبيّ المنتَظَر، وأنّ حياته في خطر وحذّرا على حياته؟

يستوجب هذا وضع بعض الحقائق التاريخيّة في مكانها.

الرّواية الأصل: بحيرا الرّاهب يكتشف صدفة النبيّ المنتظر!

على اعتبار أنّ رواية ابن إسحاق (80-151هـ) من أوائل الرّوايات المدوَّنة، فإنّها الرّواية الأصل، في نظرنا. ونجدها في مغازي ابن إسحاق، وهو نصّ طويل كثير الحشو على عادة ابن إسحاق. نكتفي بذكر أهمّ ما ورد فيه.

قال ابن إسحاق: «إنّ أبا طالب خرج في ركب إلى الشّام تاجرا»، وهو لا يذكر عمر محمّد، غير أنّه ذكر السّبب لسفر محمّد زاعما أنّ: «رسول الله ﷺ أخذ بزمام ناقته وقال: يا عمّ، إلى من تَكِلني لا أب لي ولا أمّ؟».[4]

هذا يجعلنا نتساءل عن عمر محمّد آنذاك، وقد أورد الحلبيّ (ت 1044هـ) رواية ابن إسحاق وقارنها برواية الحافظ الدّمياطي (ت 705هـ) وقال: «وكان سنّه ﷺ تسع سنين على الرّاجح».[5]

وقول الحلبيّ: على الأرجح، لأنّ الروّاة اختلفوا في ذلك بين: 9 و10 و12. ولكنّ المقرّر في أغلب المصادر أنّ عبد المطّلب توفّي عام 578م، ومحمّد في السّابعة أو الثّامنة من عمره.

فكيف يسافر محمّد معه، وهو في التّاسعة أو أكثر؟ يؤكّد كثير من المؤرّخين أنّ أبا طالب كان فقيرا، ولم يكن تاجرا ولا ذكروه بين تجّار قريش. ولم يكن من عادة التجّار العرب حمل أطفالهم معهم في رحلتي الشّتاء والصّيف، نظرا للمشقّة وأخطار الطّريق، فضلا عن تعطيل سير القافلة وفاعليتها.

أخيرا: «نزل الرّكب بصرى من أرض الشّام».[6]

وبصرى الشّام مدينة رومانيّة تقع في سوريا. وعرّفها الجغرافيّون العرب بأنّها مدينة حوران، وهي اليوم عاصمة إقليم حوران، وتتبع محافظة درعا، وتبعد (40) كم عن درعا وحوالي: (140) كم عن دمشق. وبين بصرى الشّام ومكّة حوالي 1600 كلم، على الطّرقات المعبّدة.

فلنعتبر أنّ أبا طالب سافر، فهل يحمل معه طفلا في التّاسعة على الأرجح هذه المسافة البعيدة؟

عرّفنا ابن إسحاق بالرّاهب قائلا: «فلمّا نزل الرّكب بُصرى من أرض الشّام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان أعلم أهل النّصرانية، ولم ينزل في تلك الصّومعة قطّ راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيهم، فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر».[7]

الإشكال كلّه في بحيرا:

فمن أين عرف ابن إسحاق اسمه وعلمه وموضعه؟ رغم أنّه يكثر من تعبير: فيما يزعمون. وهذا الشّامي (ت 942هـ) في كتابه سُبل الهدى والرّشاد، في سيرة خير العباد ينبّه: «وقع في سير الزّهري أنّ بحيرا كان حبرا من يهود تيماء. وقال المسعودي في تاريخه: كان بحيرا نصرانيّا من عبد القيس. وفي تاريخ ابن عساكر أنّه كان يسكن ميفعة قرية وراء دير بالبلقاء. وقال المسعودي: اسمه سرجس (Serges). كذا فيما وقفت عليه من نسخ (الرّوض). وفي النّسخ التي وقفت عليها من (الإشارة) جرجيس (Georges). وهكذا رأيته بخطّ صاحبها في (الزهر) وصحّح عليه. وكذلك هو في الإصابة للحافظ».[8]

هو تضارب وتناقض بين الرّواة، لا يمكن أن يكون اسم الشّخص الواحد بُحيرا وبَحيرة وسرجس وجرجيس؟ ولا يمكن أن يكون حبرا من يهود تيماء ونصرانيّا من عبد القيس. وإذا كان بحيرا يسكن ميفعة، وهي قرية وراء دير بالبلقاء، فبينه وبين بصرى الشّام حوالي 200 كم. فأين نزلت القافلة؟

قال ابن إسحاق: «وكانوا كثيرا ما يمرّون به قبل ذلك، لا يكلّمهم ولا يعرض لهم، حتّى إذا كان ذلك العام، نزلوا به قريباً من صومعته فصنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك، فيما يزعمون، عن شيء رآه وهو في صومعته في الرّكب».[9]

ليس للكنائس والأديرة صوامع، وإنّما هو بناء يخصّص للنّاقوس، وسقفه مثلّث أو نصف دائري، فلا يكون الرّاهب قادرا على رؤية القافلة من بعيد، وهو في ديره. وما أدراه أنّ قافلة قرشيّة قادمة، حتّى يصعد إلى الصّومعة ويراقب؟ وماذا رأى بحيرا، عن بعد، ولم يتفطّن إليه واحد من القافلة؟

في هذه المرحلة من النصّ، ندخل عالم الخيال الخلاّق: هي ظواهر خارقة للعادة لم يرها أحد إلاّ بحيرا!

الغمامة المتنقّلة والشّجرة المتَهَصِّرة:

قال ابن إسحاق: «شيء رآه وهو في صومعته في الرّكب، حين أقبلوا، وغماما تظِلّه من بين القوم، ثمّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلّ شجرة قريبا منه. فنظر إلى الغمامة حتّى أظلّت الشّجرة، وتَهَصَّرت أغصان الشّجرة على رسول الله ﷺ حتّى استظلّ تحتها. فلمّا رأى ذلك بحيرا، نزل من صومعته».[10]

يقطع الطّفل محمّد (1600) كم على قدميه. وما إن تشرق الشّمس، والأفق كلّه أزرق، حتّى تسرع غمامة لتستقرّ على رأسه، ترافقه كامل النّهار، ولا يراها عمّه ولا غيره، ولا يظهر ظلّ محمّد على الأرض، ويراها بحيرا من صومعته! وبما أنّ الغمامة أظلّت الشّجرة، فما الدّاعي إلى تصهّر أغصانها؟

بحيرا يفحص جسد محمّد فوجد خاتم النبوّة!

«فلمّا رآه بحيرا، جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، ثمّ نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده».[11]

هل خلع محمّد ثيابه ليفحصه بحيرا أم كان عاري الظّهر في سفره؟ وكيف غاب خاتم النبوّة عن أعين أمّه ومرضعته وحاضنته وجدّه وعمّه؟ وفي أيّ كتاب وجد بحيرا أنّ على ظهر محمّد شامة النبوّة؟

وللبيهقي (ت 458هـ) في كتابه دلائل النبوّة رأي آخر: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ، هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ. وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ؛ فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ، ﷺ، وَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا يَبْعَثُهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ».[12]

واضح أنّ الرّاهب في نصّ البيهقي هو بحيرا، ولكنّه لم يصعد إلى صومعته، ولم يراقب القافلة، فلا ذكر للغمامة ولا للشّجرة.

بحيرا يحذّر: حياة محمّد في خطر!

قال بحيرا لأبي طالب: «ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إِلَى بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عليه اليهود، فو الله لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إِلَى بِلَادِهِ. فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ».[13]

في روايات أخرى، وقع التّحذير من النّصارى. ونرى، في نصّ ابن إسحاق، أنّ أبا طالب لم يعمل بالتّحذير وفرغ من تجارته. وفي أخرى: فلم يزل يناشده حتّى ردّه، أو: ونزلوا بالرّاهب بحيرا، فقال لأبي طالب بالسّر ما قال وأمره أن يحتفظ به، فردّه معه أبو طالب إلى مكّة. ولئن كان بحيرا يعلم أنّ محمّدا هو النبيّ المنتظر، فلماذا لم يؤمن به؟ وأغرب من ذلك، أليس من المفروض أن يكون أبو طالب أوّل المؤمنين به؟ فلماذا مات وهو مشرك؟ ولو كان بحيرا حبرا أو راهبا لذكره أهل دينه، إذ لا ذكر له في التّراث اليهوديّ والتّراث المسيحيّ.[14]

بحيرا هو نسطور أم نسطور هو بحيرا؟

جاء في تاريخ الخميس للدّيار بكري (ت 966هـ): «فلمّا دخلوا الشّام، نزلوا بُصرى عند صومعة بحيرا، وكان فيها يومئذ راهب من رهبان الشّام يقال له نسطور. فنزل النّاس متفرّقين ونزل رسول الله ﷺ تحت شجرة يابسة نَخِر عودها. ولمّا اطمأنّ تحتها، اخضرّت وأنوَرت واعشوشب ما حولها وأينع ثمرها، وتدلّت أغصانها فرفرفت على رسول الله ﷺ، وكان ذلك بعين الرّاهب فلم يتمالك أن انحدر من صومعته».[15]

لا يتحدّث الدّيار بكري عن سفر محمّد مع عمّه، وإنّما عن سفره مع ميسرة في تجارة لخديجة، فهو، إذن، سفر ثانٍ أو ثالث. وقد تجاوز العشرين من عمره. ونصّ الدّيار بكري هو قصّة أخرى اعتمد كاتبها على رواية ابن إسحاق، وأضاف ما شاء له خياله. المهمّ في هذا النصّ هو أنّ الدّير هو دير بحيرا، إلاّ أنّ ساكنه هو نسطور. وهذا يدلّ على جهل مطبق بالتّاريخ والأشخاص والأمكنة.

قال المسعودي (ت 346هـ): «بَحِيرا الرّاهب: وكان مؤمناً على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام. واسم بَحِيرا في النّصارى سرجس وكان من عبد القيس. ولمّا خرج رسول الله ﷺ مع عمّه أبي طالب إلى الشّام في تجارة وهو ابن اثنتَيْ عشرَةَ سنة، ومعهم أبو بكر وبلال، مرُّوا ببَحِيرا، وهو في صَوْمعته، فعرف رسول الله ﷺ بصفته ودلائله، وما كان يجده في كتابه. ونظر الى الغمام تظلّه حيث ما جلس».[16]

كم من قارئ يقرأ هذا النصّ للمسعودي ويصدّقه؟ مع أنّ ذكر أبي بكر وبلال في هذا السّياق خطأ جسيم. فأبو بكر اسمه عتيق بن أبي قحافة، وإنّما سمّي عبد الله بعد إسلامه ولقّب بأبي بكر الصدّيق. لماذا يحمل أبو طالب طفلا آخر لا يعرفه؟ أمّا بلال فلم يولد بعد. ومن أين للمسعودي أنّ بحيرا، عند العرب قبل الإسلام، هو سرجس (Serges) عند النّصارى؟

ألا يكفي هذا التّضارب في اسمه ومعتقده ومسكنه بأن نقرّ بأنّ بحيرا شخصيّة خياليّة؟

استثناءات نقديّة نادرة:

لاحظنا أنّ المصادر الإسلاميّة تناولت موضوع بحيرا الرّاهب، بدون أيّ نقد، أو حتّى إبداء رأي أو تعليق أو تشكيك. وهذا التّناول التّكديسي للرّوايات رأيناه بارزا مع ابن إسحاق والطّبري والمسعودي وغيرهم. ولكن وُجدت بعض الاستثناءات لا محالة، وهي قليلة جدّا، اخترنا منها أنموذجين هما الذَّهَبي وابن كثير.

أوّلا: الذّهَبي:

هو شمس الدّين محمّد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز، تُركماني الأصل ولد سنة 673هـ، بدمشق وتوفّي بها، سنة 748هـ. هو رجل موسوعيّ بأتمّ معنى الكلمة، فكتابه: تاريخ الإسلام احتوى 52 مجلّدا، وسير أعلام النّبلاء 23 مجلّدا. وتصانيفه تقرب من المائة. وفي نقده لرواية المسعودي التي عرضناها قال: «وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ، وَأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ، وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الْغَمَامَةِ يُعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَزَلَ تَحْتَهَا، وَلَمْ نَرَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الرَّاهِبِ، وَلَا تَذَاكَرَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، وَلَبَقِيَ عِنْدَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِسٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَلَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ وَأَتَى خَدِيجَةَ خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمَا ذَهَبَ إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَأَيْضًا فَلَوْ أَثَّرَ هَذَا الْخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟ وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، تُشْبِهُ أَلْفَاظَ الطُّرُقِيَّةِ».[17]

ثانيا: ابن كثير (700- 774هـ).

هو عماد الدّين أبو الفداء إسماعيل بن عمر البصري ثمّ الدّمشقي، ترك مؤلّفات كثيرة أبرزها البداية والنّهاية في التّاريخ، وكتاب تفسير القرآن العظيم. توفّي بعد أن كُفَّ بصره أيضا، ودفن في دمشق.

لقد تعرّض ابن كثير إلى نقد سند الرّوايات الّتي ذكرت بحيرا الرّاهب ومتونها، وبيّن ما فيها من تضارب وغرائب. وهو، وإن لم يحدّد منهجاً يسير عليه ويتّبع خطواته إلى نهاية كتابه، إلاّ أنّه خضع لترتيبات المؤرّخين القدامى مثل ابن إسحاق وابن هشام والسّهيلي والطّبري وابن الأثير، واتّبع طريقة ابن الجوزي ومن يمثّل مدرسته مثل سبط ابن الجوزي وغيرهما، عبر تفصيل التّراجم والتوسّع فيها وتطويلها والعناية بذكر الأخبار العلميّة والثقافيّة، مع اهتمام بالغ بالظّواهر الخارقة والغرائب النّادرة.

وقد كان يشعر في مواقع عديدة، أنّ ما يرويه من خرافات المؤرّخين لا تستقيم عقلا ونقلا. لكنّه يذكرها تقليدا للمؤرّخين السّابقين ردّا وتنبيها. وقد برّر ذلك بقوله: «لَوْلَا أَنَّهَا مُسَطَّرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَأَيَّامِ النَّاسِ لَمَا تَعَرَّضْنَا لِحِكَايَتِهَا لِسَقَاطَتِهَا وَرَكَاكَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ».[18]

[1] - علي، جواد، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار السّاقي، ط4، بيروت، 1422هـ/ 2001م. ج7، ص113

[2] - المرجع السّابق. ج7، ص115

[3] - الذَّهَبي، شمس الدّين (ت 748هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسّسة الرّسالة، ط3، بيروت، 1405هـ / 1985م. ج1، ص261

[4] - ابن إسحاق، محمّد بن يسار (ت151هـ) كتاب السّير والمغازي، تحقيق سهيل زكّار، دار الفكر، ط1، بيروت، 1398هـ، 1978م. ج1، ص73

[5] - الحلبي، علي بن إبراهيم، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (السّيرة الحلبية) دار الكتب العلميّة، ط2، بيروت، 1427هـ. ج3، ص171

[6] - ابن إسحاق، كتاب السّير والمغازي، ج1، ص73. مرجع سابق.

[7] - المرجع السّابق، ج1، ص73

[8] - الشّامي، محمّد بن يوسف، سبل الهدى والرّشاد، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 1993. ج2، ص145

[9] - ابن إسحاق، السّير والمغازي، ج1، ص74. مرجع سابق.

[10] - المرجع نفسه.ج1، ص74

[11] - المرجع نفسه. ج1، ص74

[12] - البيهقي، أحمد بن الحسين، (ت 458هـ) دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشّريعة، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 1405 هـ. ج2، ص24

[13] - المرجع السّابق. ج2، ص29

[14] - استغلّ بعض أقباط مصر روايات التّراث الإسلاميّ لا محالة، ليجعلوا بحيرا هو الّذي أملى القرآن على محمّد. في هذا الغرض، نشر موقع: موسوعة تاريخ أقباط مصر، مقالا بعنوان: بحيـرا الرّاهب ومحمّد. جاء في أوّله: «أظهر المسلمون راهباً اسمه بحيرا كان يعيش في طريق القوافل التّجاري، ووضعوا على لسانه ما شاءوا. ويقال إنّ بحيرا الرّاهب هو راهب نسطوري. وبالنّسبة إلى بحيرة الرّاهب، يعرفه الأقباط من تناقل ما قاله الآباء للأبناء عن المعلومات السّابقة. ووصلتنا معلومات متناقلة من الآباء أنّ بحيرا كان في مكّة قبل أن يستقرّ على طريق القوافل بين مكّة والشّام». عزّت اندراوس، بحيـرة الرّاهب ومحمّد (coptichistory.org). فالكنيسة القبطيّة لا تعرف راهبا ولا قسّا اسمه بحيرا. وليس للأقباط من مصدر عن بحيرا غير التّراث الإسلاميّ.

[15] - الدِّيار بَكْري، حسين بن محمّد، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النّفيس، دار صادر، بيروت. ج1، ص260

[16] - المسعودي، على بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار الهجرة، قم، 1409هـ. ج1، ص89

[17] - الذّهبي، شمس الدّين، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق عمر عبد السّلام التدمري، دار الكتاب العربي، ط2، بيروت، 1413هـ-1993م. ج1، ص57

[18] - ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت 774هـ) البداية والنّهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التّراث العربي، ط1، 1408هـ-1988م. ج1، ص129