علي بن أبي طالب وأصحابه: علاقة انسجام أم تنافر؟


فئة :  مقالات

علي بن أبي طالب وأصحابه: علاقة انسجام أم تنافر؟

علي بن أبي طالب وأصحابه: علاقة انسجام أم تنافر؟

يتبادر إلى أذهان الكثيرين أنّ أصحاب الرسول كانوا كلاّ متجانساً بعد موته، بينما العكس هو الصحيح؛ فقد طرحت وفاة النبي مشكلةً خطيرة ووحيدة في آن، وهي مسألة الخلافة بعده ومسألة الحفاظ على ما أنجزه الرسول من دين ودولة، فنشأ الكلام في الإمام الخليفة ومن هو الجدير بخلافة رسول الله، فكان لكلّ فئة مرشحها، فالأنصار اختاروا سعد بن عبادة، والمهاجرون اتجهوا نحو أبي بكر الصديق، بينما وجدت فئة قليلة يمثلها في الغالب الأعم بنو هاشم ونفر قليل من الصحابة خيّروا عليا ونادوا ببيعته.

من هذا المنطلق، سنحاول رصد العلاقة التي جمعت عليا بثلّة من رجال المسلمين الذين صدّقوه وصدّقوا به، اتبعوه وكنّوا له ولاءً غير محدود، تماهوا معه وجنّدوا أنفسهم للدفاع عنه، لذا سنقسم عملنا إلى ثلاثة أقسام؛ قسم أول سنعرف فيه بأصحاب علي، من هؤلاء؟ ما هي انتماءاتهم القبلية والاجتماعية؟ ثم سنتطرق في قسم ثاني إلى بيان الدور الذي لعبه هؤلاء الأصحاب في حياة علي؟ ثم في حياة ابنيه الحسن والحسين خاصة بعد رحيله.

1- التعريف بأصحاب علي:

ربّما يتراءى للبعض أنّ أصحاب علي هم أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن عوف، فهذا الرأي مغلوط حسب تقديرنا، لأنّ العلاقة التي كانت قائمة بينهم، وإن لم نهوّل الأمر ونصفها بالنفور، فإنّها كانت قائمة في الغالب الأعمّ على البرود والتنافر في بعض الأحيان. وعندما نتحدّث عن أصحاب عليّ بمفهوم "الصاحب هو المعاشر"[1] أي الموالي الناصح والأمين المتفاني في خدمة صاحبه، فإننا سنتحدث عن فئة أخرى من رجال المسلمين، هؤلاء الرجال تزخر بهم المؤلفات الشيعية وقد نُقشت أسماؤهم بحبر من ذهب في المخيال الشيعي، باعتبارهم مثلوا قوة فاعلة متفانية في خدمة علي. وربما لا يتّسع المجال لذكرهم جميعاً لكن أشهرهم سلمان الفارسي "وكان عالماً زاهداً"[2]، وعمار بن ياسر وكان الرسول يحبه "حباً عظيماً ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه"[3]، والأحنف بن قيس وكان "خطيبا فصيحاً"[4]، وأبي الأسود الدؤلي وكان من الفرسان والنحاة والحاضري الجواب، ورجال بني هاشم وأشهرهم عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وحبر العرب، وعبيد الله بن عباس. كما ناصر عليا وكان من أكثر الناس موالاةً له حجر بن عدي شهيد الشيعة، وقيس بن سعد بن عبادة وكان من أهل الرأي والمكيدة، ومالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر ابن الخليفة الأول هذا بالنسبة إلى العنصر الرجالي. أمّا العنصر النسائيّ، فكان حاضراً هو الآخر، وإن لم تكن أدوار النساء واضحةً وجليّة، فإنّ دورهنّ في مساندة علي ووقوف بعض الشخصيات المهمة إلى جانبه قد مثّل دعماً قوياً له، فجلّ النساء المقرّبات من علي كنّ من الهاشميات؛ أي بنات عمومته وبعض زوجات الرسول كأم الفضل بنت الحارث وأم سلمة.

وممّا جلب انتباهنا أنّ أصحاب عليّ لا ينتمون إلى فئات اجتماعية مرموقة؛ أي لم يكونوا من أصحاب القوافل وملاك الطرق ومن الأغنياء في حكومة قريش، فأغلبهم من طبقات مفقّرة لذلك التفوا بعلي الفقير مثلهم "والذي كان يرى في نفسه ويرى فيه عدد من الصحابة أو من فقراء الصحابة إذا شئنا الدقّة الضمانة الأساسية لاستمرار المنهج الاجتماعي الذي شهدته الجزيرة على يد دعاة الإسلام".[5] فأصحابه المقربين يمثلون الطبقات الأكثر فقراً، وهذا ما جعلهم مهمشين في وسطهم ومن ثمّة لم تكن لهم المراكز المهمة في خلافة أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولعلّ حادثة نفي عثمان لأبي ذرّ الغفاري -زعيم المعارضة وعدوّ الثروات- من المدينة وطرده إلى الربذة وحيداً ومعه ابنته في ظلّ إنكار بعض رجال المسلمين لذلك، يدلّ على خصاصة بعض الأطراف وقلّة حيلتهم. ولكن وإن كان أغلب أصحاب علي من الفئات الفقيرة، فإنّنا لاحظنا انضمام بعض الأطراف التي عرفت بمكانتها المرموقة في المجتمع الإسلامي آنذاك شرفاً ونسباً ومكانةً دينية، كالأنصار بشقّيهم الأوس والخزرج وأبرزهم قيس بن سعد بن عبادة ابن سيّد الأنصار وأبو أيوب الأنصاري وكان من سادات قريش، "وهو الذي نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده".[6]

أمّا على الصعيد القبلي، ونتحدّث عن النسب والانتماء العشائري، فإنّ أغلب أصحابه هم من الصرحاء والموالي والحلفاء؛ أي من غير القرشيّين وسكّان المدينة، فعمّار بن ياسر حليف بني مخزوم أصله من كنانة ومعه أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي من أصبهان وأوس القرني كان من تابعي أهل الكوفة، وميثم التمّار وكان خطيب الشيعة بالكوفة، وهو مولى لعلي بن أبي طالب. هكذا بدت الصورة الغالبة على أصحاب عليّ، ولكنّنا في المقابل سجّلنا حضور بعض الأطراف القرشية كمحمّد بن أبي بكر خاصة وأبناء عمومة علي من البيت الهاشمي.

إنّ تركيزنا على أطرافٍ دون أخرى لا يعني إهمالنا للبقية، لكننا خيّرنا دراسة عيّنة من أصحابه الأكثر شهرة الذين التفوا بعلي منذ البداية، وظلّوا معه في أصعب المحن وأحلكها. فما الدور الذي لعبه هؤلاء الأصحاب في حياته؟

2- أصحاب علي ودورهم في دعمه ومساندته:

إنّ الحوادث التي جدّت بعد رحيل الرسول عديدة ومتعدّدة، نشأت من جرائها خلافات بين المسلمين، أدّت إلى انقسامهم، ووصلت حدّة هذه الانقسامات بعد مقتل عثمان بالمدينة، ولعل السبب في ذلك منصب الخليفة الذي سعى كل طرف للحصول عليه. ولا تهمّنا هذه الحيثيات بقدر ما نسعى إلى معرفة الدور الذي لعبه أصحاب علي في بعض الحوادث؛ ففي حادثة السقيفة وإن انضمّأغلب المسلمين إلى التيار الإسلامي في شخص أبي بكر، فقد وُجد تيار -وإن بدا قليل العدد- قد انضمّإلى علي، ويمثل هذا التيار كل البيت الهاشمي ونفر قليل من صحابة الرسول، ويذكر أحمد أمين في هذا الصدد: "فقد كان جمع من الصحابة يرى أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر وغيرهما، وذكروا أن ممن يرى هذا الرأي عمار وأبا ذر الغفاري وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله والعباس وأبيّ بن كعب وحذيفة".[7] ونفس الموقف اتخذه هؤلاء من علي في حادثة الشورى، فقد نادوا مرّة أخرى ببيعته، لكن حادثة الشورى تختلف عن واقعة السقيفة، فهنالك مرشّحان (عثمان وعلي)، وهنالك فريقان كل ساند مرشّحه، والوجوه التي انضمّتإلى علي في الشورى هي نفسها التي ساندته في السقيفة كبني هاشم والمقداد وعمار الذي دعا بكل قوة إلى تنصيب علي خليفة للمسلمين خلافاً لعثمان. وقد انضمّت فرقة جديدة إلى علي وساندته في هذه الحادثة، ونتحدث عن الأنصار الذين استبعدوا عن الخلافة في حادثة السقيفة وها هم اليوم لا يطلبون الأمر لأنفسهم بقدر ما يطلبونه لعلي رافضين لعثمان ومن وراءه كل الأمويين يقول هشام جعيط: "كان عمار بن ياسر والأنصار يفضّلون عليا بكل جلاء"[8]. واختيار هؤلاء لعلي ورفضهم في مرّة أولى لأبي بكر وإن بايعوا له، ولعثمان كذلك في مرحلة ثانية جعلنا نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء ذلك؟

إنّ العامل القبلي كان حاضراً وبقوّة خاصّة في حادثة الشورى؛ فالأمويّون ساندوا عثمان بدافع قبلي والشيء نفسه فعله الهاشميون في مساندة ابن عمهم، فأينما ولّوا وجوههم لن يجدوا خيراً منه. كما أنّ انتماء علي إلى بيت النبوّة من الأسباب التي جعلت البعض يميل إليه، ويظهر ذلك في خطاب لعمار بن ياسر "أيّها الناس إنّ الله أكرمنا بنبيّه وأعزّنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بين نبيّكم"[9]، ولا يمكن أن نهمل مكانة علي في ذلك الوسط الإسلامي، باعتباره صحابياً من الطراز الأول له من المؤهلات ما يجعل الكثيرين يساندونه ويطلبون بيعته.

هكذا بدت الصورة قبل تنصيب علي خليفة للمسلمين، لكن بعد أن تولّى خلافة المسلمين بين رافض لها وقاعد عنها من أبناء الأمة، تكاثر عدد المساندين له وخاصة من رجال القبائل البعيدة عن مركز المدينة كالعراق واليمن ومصر الذين شاركوه معركة الجمل وخرجوا معه لمواجهة معاوية، لكن هؤلاء سرعان ما انقلبوا عليه في حادثة التحكيم الشهيرة، وخرجوا عن طوعه، وأعلنوا عصيانهم، بل وحاربوه في معركة النهروان.

ويتّضح لنا من خلال ذلك أن أغلب الذين انضمّوا إلى علي وساندوه بحكمه أنه خليفة للمسلمين كانت تقودهم الفورة القبلية، وتغليب المصالح الذاتية على حساب المجموعة، ولعل فئة الخوارج التي ينتمي رجالها إلى القبائل البعيدة عن مركز المدينة تمثل هذا التيار بكل نزعاته. فقد اتخذوا من الديني مطيّة لزرع أفكارهم السياسية، فاصطدم تفكيرهم بتفكيره، فهم يقودهم الوازع القبلي، وهو يسير وفق اتجاه إسلامي بحت، وهذا ما ولّد الصراع بينهم، فهؤلاء هم من صحبوه عندما تولّى الخلافة ووضعوا مصالحهم فوق مصالح علي. أما أصحابه الذين لزموه منذ البداية وفي أوقات متقدّمة جدّاً، فإن علاقتهم به ازدادت توطّداً بعد النكبة التي تعرّض لها الأمويون في المدينة إثر مقتل عثمان حينها أصبحت الكلمة لأنصار علي من الهاشميين والأنصار خاصة، فساهموا في إنجاح البيعة "ولم يتخلّف أحد من الأنصار إلا بايع فيما نعلم".[10]

وهذا الانسجام ولّد بينهم وبين علي علاقة تفاعلية حميمية، فمثلما ساندوه ودعموه، فإنه بالمقابل قرّبهم منه، وعيّنهم ولاة على الأمصار، وكان يعوّل عليهم في كل أموره، لذلك تماهوا في خدمته ودافعوا عن قضيته، فقد حاربوا زوجة رسول الله في حادثة الجمل ونتحدث عن عائشة ورفيقيها طلحة والزبير من أجل نصرة ابن عم رسول الله وزوج ابنته فاطمة، رغم ما تعرّض له أنصاره من أذى وخصوصاً الذين كانوا في البصرة، كما حاربوا معه ببسالة كبيرة واستشهد أغلبهم في حرب صفين - التي قامت بين علي ومعاوية - كعمار بن ياسر وهاشم بن عتبة وخزيمة بن ثابت، أما البقية فقد رفضوا الاستجابة لنداء القرآن، وانضمّت أصواتهم إلى صوت علي الرافض هو الآخر لنداء القرآن كمالك الأشتر وقيس بن سعد بن عبادة وابن عباس وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق.

فبالرغم من الخذلان الذي تعرّض له علي من الخوارج ومن عامة أهل العراق (الكوفة والبصرة) على السواء الذين تخلوا عنه، وزهدوا في الحرب حتى أيئسوا عليا منها، فجعل يدعو ويلّح في دعائهم ولكنهم لا يسمعون منه ولا يستجيبون لدعائه، إلا أنّ الأشراف من أصحابه ظلّوا معه في أصعب المحن، وماتوا في سبيل قضيته، وتفانوا في الدفاع عنها، وتجهزوا بطلب منه لمعاودة صفين، لكن الموت كان الأقرب إليه، فرحل الإمام عن هذه الدنيا تاركاً وراءه أمة تتصارع ماديا ومعنويا، ترك أمة منقسمة إلى فرق، كل فرقة ترى لنفسها الحقّ في إمارة المسلمين، كما رحل تاركاً وراءه عشيرته الأقربين وابنيه الحسن والحسين اللذان سينكل بهما الأمويون. فكيف ستكون مواقف أصحاب علي منهما؟ وما مصير النخبة من أنصاره؟

3- أصحاب علي مع ابنيه (الحسن والحسين):

رحل عليّ عن هذه الدنيا، فتغيّرت مواقف النخبة من أصحابه، فهنالك من اعتزل شؤون الحرب والسياسة، واستقرّ في بيته لا شغل له إلاّ نفسه ومصالحه كالبراء بن عازب، وكان من خواصّ أصحاب علي، وزيد بن أرقم وقثّم بن العباس والأحنف بن قيس، فرغم التنكيل الذي كان يتعرض له أبناء علي وشيعتهم إلا أن هؤلاء لم يحركوا ساكناً. أهو الخوف من بني أمية أم أن عامل التقدّم في السن حال دون مساعدتهم لهم؟ وهنالك فئة أخرى غدرت وخانت، وانقلب أصحابها على الحسن خاصة كزياد بن أبيه، الصديق البارز لعلي في أيام محنه الموالي لعلي والمعادي لبني أمية. إذ تحوّل هذا الأخير إلى ركن من أركان الدولة الأموية، فمارس بذلك أعتى أنواع التنكيل بشيعة علي القاطنين بالكوفة، وكان عارفاً بهم، فقد ربطتهم به صحبة قوية في عهد علي، ففي عهده قُتل حجر بن عدي شهيد الشيعة ومعه تسعة من أصحابه أبرزهم عمرو بن الحمق الذي "طعن تسع طعنات فمات في الأولى منهن أو الثانية".[11] كما خان عبيد الله بن عباس الحسن عندما ترك الجيش دون قائد، ورحل إلى معاوية بعد أن أغراه بالمال.

تفرّقت النخبة التي ظلّت مع علي في آخر حياته وفي أيام المحن خاصة؛ فهنالك من اعتزل وهنالك من انقلب، ومارس شتى أنواع التنكيل، لكنه وفي المقابل هنالك من نُكل به وشُرّد وقُتّل من أجل مبدإ كان يؤمن به، ومن أجل قضية من صميم حياته قضية علي وأبنائه. لقد ظلّت نخبة قليلة من أصحاب علي مساندة لابنيه الحسن والحسين وتحمّلت كل ما تعرّضت له من أذى، أبرز وجوهها عدي بن حاتم الطائي رئيس طيء وكبيرهم وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق المقتولين في يوم واحد على يد زياد بن أبيه ومن وراءه معاوية من أجل ماذا؟ من أجل الاعتراف بالحسن ونبذ معاوية ومعارضته.

فعندما كان معاوية وأصحابه يحطّون من شأن علي من خلال لعنه فوق المنابر وقت الصلاة، تجنّدت نخبة من شيعة عليّ لردّ هذه اللّعنات، وإسقاط الأمويين في الرفض والإنكار.[12] وعندما تخلّى الحسن عن الخلافة، وتركها لمعاوية بن أبي سفيان، اجتمع إليه شيعة أبيه من الوجوه يلومونه على ذلك، وترى المستشرقة فاسيا فغلياري (Veccia Vaglieri) أنّ "نزول الحسن عن الخلافة انتقده الكثير من أصحابه في حياته أشدّ النقد"[13] كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وعبد الله بن عباس، والموقف الأكثر رفضاً لهذه البيعة أتى من قيس بن سعد بن عبادة الذي صار رجل العراق القوي والمقاوم آنذاك، فقد امتنع عن إعطاء البيعة، ولكنه بايع مكرها بعد أن أمره الحسن بن علي بذلك.[14]

فالعلاقة القائمة بين الحسن وأصحاب أبيه المخلصين كان يسودها الكثير من الاحترام؛ فهو في نظرهم ابن الرسول ويحظى بالكثير من الهيبة، لذا كانت علاقتهم أساسها النصح والإرشاد والدعم المتواصل مهما كلّفهم ذلك، فدافعوا عن قضيته التي تواصلت مع أخيه الحسين. فكيف سيكون موقفهم تجاهه؟

إنّ الموت المحتوم قضى على أغلب أصحاب علي أي الأشراف والمخلصين منهم، ولم يبق إلا نفر قليل نصحوا الحسين ونبهوه من خطر الذهاب إلى الكوفة كعبد الله بن عباس الذي ألحّ عليه بالبقاء في مكة في قوله: "ابن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر، أنّي أتخوّف في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، وأقم بهذا البلد فإنك سيّد أهل الحجاز".[15]

ولكن الحسين أبى إلاّ الذهاب واللحاق بابن عمه مسلم بن عقيل الذي بعثه إلى الكوفة ليأخذ له البيعة من أهلها الذين سرعان ما خانوه وتركوه وحيداً إلى أن قتل بينهم ولا ناصر له، ونفس المصير لقيه الحسين ومعه أهل بيته ونفر من أصحابه الذين خرجوا معه، أشهرهم رشيد الهجري وكان من خواص أصحاب أبيه عندما أريق دم الحسين في كربلاء وذُبح وأُخذ رأسه فوق السيوف ينقل من بلد إلى آخر.

فالحسين رحل إلى الكوفة برغبة من أهلها الذين هم في الأصل موالون طبيعيون لأبيه، لكنهم سرعان ما تخلّوا عنه وتركوا السيوف الأموية تفعل فعلها فيه؛ فالعامّة منهم "كانوا حوّلا قلّبا ينقصهم الثبات والصدق ولا يعرفون مساءهم أين يستقرّ بهم صبحهم"[16]، أمّا الأشراف فمنهم من قُتل عندما اكتشف أمره كشريح بن هانئ، ومنهم من خذله وتخلّى عنه، لكن هذا الخذلان تولّد عنه شعور غريب بالعداء لبني أمية، فقامت أولى الحركات تمرداً ورفضاً للحكم الأموي، وظهرت ما يسمى بحركة التوابين التي ضمّت أشخاصاً ندموا على ما فرطوا فيه من حق الحسين وخذلانهم إياه حتى قتل بينهم، فتابوا عما فعلوه، وسموا بالتوابين، وتحالفوا على بذل أنفسهم وأموالهم في الأخذ بالثأر له ومقاتلة مقاتليه، وقد ضمّت هذه الحركة المسيّب بن نجيّه وسلمان بن صرد أمير التوابين ومعهما حوالي أربعة آلاف مقاتل من نقاوة الشيعة خرجوا للمطالبة بدم الحسين، فالتقاهم ابن زياد بعين الوردة، فقتلهم جميعاً وكان ذلك سنة خمس وستين للهجرة.[17] وكثيرة هي الثورات التي قامت من أجل الثأر للحسين لكن سرعان ما تخمد في ظلّ سيطرة الدولة الأموية، ولعل الإطاحة بالدولة الأموية وقيام الدولة العباسية كان باسم الوفاء لعلي وأبنائه، وسرعان ما اتخذّ مساراً مختلفاً لما بدأ عليه. فدماء الحسين التي لطخت بها أرض كربلاء كانت لها آثارها في إذكاء نار التشيع في نفوس الشيعة، وتوحيد صفوفهم،فقد كانوا مشتتي الأهواء إذ"كان التشيع قبل مقتله رأيا سياسيا نظريا لم يصل إلى قلوب الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيّع بدمائهم، وتغلغل في أعماق قلوبهم وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم".[18]

إنّ المغزى من وراء هذا البحث ليس السرد التاريخي لأحداث القرن الأول للهجرة، ولا هو التأريخ لحياة علي، بقدر ما يسعى إلى التعريف بأصحاب علي، وبيان دورهم الفعّال في حياته، والتعرّف أكثر عن أصحابه المخلصين الذين ناصروه في أحداث بعينها كالسقيفة والشورى وفي مرحلة حكمه، وكذلك في حياة ابنيه الحسن والحسين من بعده. فقد بدأ العدد من أصحاب علي قليلاً، ولكنهم بتوالي الأحداث وتطورها تكاثر عددهم، وأسّسوا معه وبعده لفرقة الشيعة التي ولدت في القرن الأول للهجرة، فقد أسّس لها صحابة أخلصوا في حبهم لعلي، يرونه أحق بالخلافة لصفات رأوها فيه وأشهرهم سلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري والمقداد بن الأسود[19] وهم من صحابة الرعيل الأول.

ففرقة الشيعة لم تولد من فراغ، ولم تأت من الهامش والمبعد الديني والدنيء، بل هي فرقة قديمة بقدم الزمان، والأشخاص الذين أسّسوا لها هم من رجال الإسلام الأول، فيهم صحابة بارزين كما ذكرنا آنفاً، وهذه الفرقة لا تخرج عن فلك الإسلام، رغم غرابة العقائد المنسوبة إليها وغلوّ بعض أطرافها.

فهذه الفرقة من صميم الإسلام ومن صلبه، ومن هنا يمكن نقض بعض الأطروحات والردّ على بعض الأطراف التي ترى في فرقة الشيعة شرّ محتوم وضلع مكسور ينخر الإسلام ويهدد تعاليمه (الفكر الوهابي تحديداً وبعض الأطراف التي تسمّي نفسها بالسلفية).

ومن الطريف أن يدرك القارئ كيف يتحول الخلاف من مجرد الرأي والقول إلى التأسيس لعقائد ومذاهب ربما تخالف المعهود أحياناً، هكذا بدت الصورة إجمالاً رجالٌ من صلب الإسلام صاحبوا علياً في فترات مبكرة من حياته، غضبوا لغضبه، آمنوا بقضيته التي هي في الأصل قضيتهم، دافعوا عنه في حياته، ودافعوا عن اسمه وعن أبنائه بعد رحيله، أسسوا لفرقة الشيعة التي تكاثر أتباعها بعد موت الحسين خاصة، فقد برز الفكر الشيعي، وأشعّ، وتكاثر أتباعه، وأصبح مذهباً عقائدياً سياسياً له تصورات فكرية ونفسية، نجد صداها إلى الآن في مراسم عاشوراء في الكوفة تحديداً وفي إيران ولدى الشيعة حيثما وجدوا.


[1]- الزبيدي، تاج العروس، المطبعة الخيرية، مصر 1989، ج1، ص 332

[2]- العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، دار الجيل، بيروت 1992، ج 3، ص 141

[3]- خالد محمد خالد، رجال الرسول، دار الفكر، بيروت، ص 209

[4]- العسقلاني، نفس المرجع، ص 462

[5]- محمد عمارة، مسلمون ثوار، دار الشرق، القاهرة، 1977، ط3، ص 106

[6]- العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص 234

[7]- أحمد أمين، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت 1975، ط1، ص 267

[8]- هشام جعيط، الفتنة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 2005، ص 67

[9]- ابن عبد ربه، العقد الفريد، دار الكتب العلمية، بيروت 1998، ج5، ص 31

[10]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان، ج3، ص 545

[11]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان، ج4، ص 197

[12]- الأصفهاني، الأغاني، دار الكتب العلمية، بيروت 1992، ط2، ص 140

[13]- L. Veccia Vaglieri, « Al-Hussan » EI2, tome 3 , p 249-250

[14]- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، أنوار الهدى، إيران 2008، ط1، ج16، ص 42

[15]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص 288

[16]- كامل حسين، الحسن بن علي، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 2004، ط5، ص 9

[17]- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام،، دار الكتاب العربي، لبنان، ج1، ص 201

[18]- حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، دار الجيل، بيروت- مكتبة النهضة، القاهرة، 1996، ج1، ص 326

[19]- أحمد أمين، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط10، ص 209