"فؤاد زكريا" دعوة للعقلانية، ونقد الخطابين الديني والسياسي


فئة :  مقالات

"فؤاد زكريا" دعوة للعقلانية، ونقد الخطابين الديني والسياسي

"فؤاد زكريا" دعوة للعقلانية، ونقد الخطابين الديني والسياسي*


حياة فؤاد زكريا واتجاهه الفكري

وُلد فؤاد حسن زكريا في مدينة بورسعيد المصرية عام 1927م، والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وتخرج فيها من قسم الفلسفة عام 1949م، ثم حصل على الماجستير عام 1952م من جامعة عين شمس وحصل على الدكتوراه عام 1956م من الجامعة نفسها، وتوفي في 11مارس عام 2010م. وما بين الميلاد والوفاة كانت حياة حافلة قدّم خلالها للمكتبة العربية العديد من الأعمال الفلسفية والفكرية المؤلفة والمترجمة، هذا فضلاً عن العديد من المقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات المختلفة التي تتصل بمشكلات فكرية واجتماعية ونقد السائد في الفكر العربي عموماً والمصري منه على وجه الخصوص، فكان صاحب دعوة عقلانية، دعت إلى نقد الخطابين الديني والسياسي من أجل نهضة فكرية علمية تمكننا من إحداث نهضة عربية وشيكة واللحاق بالركب الذي تخلفنا عنه طويلاً، فكفانا ما وصلنا إليه من حالة تردٍ علمي وفكري، وكفانا أيضاً التغني بأمجاد الماضي.

تدرّج في الوظائف الأكاديمية بجامعة عين شمس، فقد عمل مدرّساً للفلسفة الحديثة والمعاصرة، فأستاذاً مساعداً، ثمّ أستاذاً، وتولى بعد ذلك رئاسة القسم. كما شارك في الحياة الثقافية العامة حيث عُيّن رئيساً لتحرير مجلة الفكر المعاصر، ولمجلة تراث الإنسانية أيضاً، كما عمل في اليونسكو وفي أكاديمية البحث العلمي، وانتقل بنشاطه الثقافي إلى الكويت حيث عمل أستاذاً للفلسفة بجامعتها، وترأس قسم الفلسفة فيها عدة سنوات، وعمل مستشاراً لسلسلة عالم المعرفة الشهيرة التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.

أمّا عن مؤلفاته فقد ترك لنا أكثر من ثلاثين كتاباً ما بين مؤلف ومترجم، يمكن أن نقول إنّها تمحورت حول فكرة رئيسة عامة، وهي أنّ الفلسفة والعلم يقودان إلى حياة عقلية وعلمية ناجحة، كما أنّ الفنون ترقي الذوق وتهذب الوجدان وتسمو بالنفس الإنسانية هذا فضلاً عن محاولاته الدؤوبة والجادة للدعوة لإنقاذ مجتمعاتنا العربية من التخلف على كافة المستويات، من خلال الالتزام بخصائص الموقف الفلسفي الذي يلتزم بالعلم كأساس وبالتحليل الموضوعي كمنهج. ويتضح هذا من عناوين مؤلفاته التي من أشهرها: "نيتشه"، "نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان"، "اسبينوزا"، "الإنسان والحضارة"، "التعبير الموسيقي"، "مشكلات في الفكر والثقافة"، "التفكير العلمي"، "خطاب إلى العقل العربي"، "كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي"، "الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة"، "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، "آفاق الفلسفة"، "الثقافة العربية وأزمة الخليج". أمّا عن أشهر أعماله المترجمة فهي: "المنطق وفلسفة العلوم" لموي (جزآن)، "الفلسفة الإنجليزية في مائة عام" لميتس، و"نشأة الفلسفة العلمية" لريشنباخ، و"العقل والثورة" لهربرت ماركوزه، و"الفرد والمجتمع عبر التاريخ" لأرنولد هاوزر، و"حكمة الغرب" و"تاريخ الفلسفة الغربية" لرسل، و"الفلسفة وأنواعها ومشكلاتها" لهربرت ميد.

وكان من أشهر مقالاته مقال "العلمانية هي الحل" رداً على دعوة "الإسلام هو الحل" التي أشهرتها إحدى الجماعات الإسلامية في وجه خصومها من العلمانيين والليبراليين، فعبّرت مقالاته إلى جانب مؤلفاته وترجماته في معظمها عن فكرية محورية، فحواها أنّ الغزو الفكري خرافة لا وجود لها، وكيف أنه تصدى بقوة للمنهج السلفي وكان من أكبر منتقديه، وسخر من كافة الحركات الإسلامية الملتزمة بهذا المنهج السلفي مدعياً بأنه يركز على شكل الدين لا مضمونه.

توّج مشواره بمجموعة من الجوائز المهمة، كان أشهرها جائزة سلطان العويس بدولة الإمارات العربية المتحدة في الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وجائزة الدولة التقديرية من مصر في العلوم الاجتماعية.

فؤاد زكريا وجوهرية النقد العقلاني في اتجاهه العام

أيقن فؤاد زكريا أنّ النقد هو روح الفلسفة وقلبها النابض، وهو الباعث الأساسي لتحولاتها المتتابعة منذ نشأتها العقلية والمنهجية الأولى عند الإغريق حتى صورها وأشكالها المختلفة عند المحدثين والمعاصرين، فقرر أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، كما أنّه ليس ثمة معرفة مقبولة إلا بعد بحث وفحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكرين موضوعات للبحث والدراسة، ولأصبح الإنسان تابعاً لا مبدعاً، مقلداً لا مجدداً، وبدون هذه النظرة أيضاً تموت روح الابتكار والإبداع.

ومن ثمّ كان النقد كممارسة عند فؤاد زكريا يعني في مجمله إعمال العقل أو ما أطلق عليه العقلانية، وهي الاعتماد على العقل معياراً ومرجعية؛ إذ منح فؤاد زكريا الأولوية للعقل في إدراك الوجود، وإبداع العالم، فهو النور الذي يهتدي به الإنسان، ويصوغ به عالمه متحرراً من أشكال الوصاية التي تحجر على العقل أو تقيد انطلاقه، وأكد على اقتران نور العقل بحرية الإنسان وحقه في اختيار فعله الخلاق وممارسته في كل مجال من مجالات الفعل المعرفي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك في مواجهة طوائف أخرى استبدلت بالعقل النقل وبالحرية العبودية، وبالاختيار الجبر، وبالعدل الظلم.... إلخ.

ولذلك جعل العقل دائماً فوق أسوار الخرافة وركام الجهل والتعصب، وكانت الدعوة إلى الحريّة هواية مارسها باحتراف لأكثر من نصف قرن (حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور)، حروب مقدّسة خاضها المفكر الفيلسوف ضدّ التخلف والمسلمات الفكرية والثوابت الظلامية متحصناً بالعقل النقدي، رافعاً راية العقلانية حتى النهاية.

وبدت ثمرات ثورته العقلية في إبراز أركان الدعوة إلى العقل النقدي والدولة المدنية، والعمل على جرّ الفلسفة واستدراجها من برجها العاجي والنزول بها إلى حياة الناس ومعاملاتهم اليومية، وهو في ذلك صاحب مشروع حضاري تنموي ثوري، يفوق تنظيرات المتعملقين ومدعي التفلسف ـ وما أكثرهم - الذين حوّلوا الفلسفة إلى تابوهات وطلاسم ومناطق اهتمام محظورة لا يمسّها إلا المتخصصون.

ومن ثمّ فقد اتسمت مؤلفاته بتحريض العقل، ونقد السائد في الفكر العربي، وقدرة فذة على التحليل والفهم الدقيق للمصطلح الفلسفي، وبرعاية فائقة في الكشف عن المناطق السلبية والمعتمة في مسيرة الأمّة العربية التي تسيطر عليها مشكلات مزمنة، منها الانسياق وراء الوهم والخرافة والخلط بين ما هو علمي وغير علمي، والبعد عن مواجهة الحقائق وطبيعتها المحايدة، وشيوع التفكير اللاعقلاني، وغياب المنطق، وحضور الخرافة.

وقد اهتمّ اهتماماً كبيراً بالنقد وبالتفكير النقدي وبجعل العقل معياراً ومرجعية، وقضى عمره كله محارباً للعشوائية في التفكير، واثقاً في قدرة العقل على التحليل المنظم لكافة المشكلات، ومؤكداً أيضاً على قدرته العميقة والهائلة والهادئة على الإقناع والخروج من ذلك النفق المعتم الذي زلّت فيه قدم الأمّة العربية تحت تأثير وطأة التخلف والسلفية والاستلاب الثقافي. وظلّ طوال سنوات علمه وتعلمه وعمله وتعليمه في حرب شرسة لا هوادة فيها ضدّ الجهل والخرافة والتفكير الغيبي، ولم يكن يخشى في قول الحق لومة لائم، ولا سلطة سلطان، ولا يأبه بشيء إلا بما يتفق وموقفه العقلي العام.

أمّا "العقلانية" فقد كانت طريقة لبناء المجتمع، وقد وقف مختلفاً معترضاً ومجاهدا لأرائه وأفكاره إلى حد الصدام وحدود المجابهة والمواجهة، ليس ضدّ من "هم" في غير موقعه ومكانته أو الاتجاه الأيديولوجي الذي ينتمي إليه والمدرسة الفكرية والفلسفية التي نافح عنها وكافح من أجل الذود عنها ومع من يقفون في اليسار في الفكر والممارسة، بل لقد هاجم عقلية الخرافة والسحر ووقف ضدّ الأفكار التي تقف إلى جانب الفكر المتطرف وتسانده، وكان من أوائل من حذّر من سيادة هذه الأفكار السوداء، وأحد المفكرين الذين أحلوا مفهوم "الإسلام السياسي"، وذلك في كتاب "الصحوة الإسلامية في مجال العقل" ثم في كتابه الأخر "الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية".

لقد كان فؤاد زكريا طوال مسيرته وحياته الفكرية والفلسفية والعلمية أحد دعاة "العقلانية" التي دعا إليها عبر كتاباته ودراساته ومحاضراته، وكان رأيه دائماً لا سيادة للعرب والمسلمين إلا بوجود تلك العقلانية التي تجعل التربة العربية قابلة لزراعة البذور الأولى لمبادئ وقيم التنوير، وأن تصبح قيمة التاريخ ليس فيما مضى، ولكنّ قيمة هذا التاريخ تعزز وتتأسس فيما سوف يأتي من أجل اللحاق بركب الحضارة الغربية والأخذ بكل أسباب التقدم، بالرغم من أنّ فؤاد زكريا يُعدّ أحد خصوم السياسة الأمريكية على المستوى الثقافي في نموذجها الاستهلاكي لا فيما ينتجه هذا العقل الأمريكي من منتج علمي وتكنولوجي.

وقد أعلى الدكتور فؤاد زكريا من شأن العقل النقدي والتفكير الناقد وأظهر دوره الهام في دراسة المشكلات المختلفة، فكان يفضّل من تاريخ الفلسفة أولئك الفلاسفة الذين دعوا إلى العقلانية واتخذوها منهجاً وشعاراً، فكان يفضل من القدماء هيراقليطس وأفلاطون، ومن فلاسفة الإسلام المعتزلة وابن رشد، ومن الفلسفة الحديثة اسبينوزا ومن الفلسفة المعاصرة برتراند رسل وجان بول سارتر، ومن المفكرين العرب طه حسين وزكي نجيب محمود، وذلك اعتقاداً منه أنّ العقل هو أكثر المفاهيم والمصطلحات استخداماً في مجال الفلسفة، ويمكن القول إنّه لا يمكن أن توجد فلسفة دون عقل، وكلما كان استخدام العقل أكثر دقة وإحكاماً كانت الفلسفة كذلك.

ونحن، إذ نتحدث عن العقلانية والفلسفة عند فؤاد زكريا، يمكننا القول إنّ مفكرنا قد قام بإنزال الفلسفة من عليائها التاريخي الموروث إلى صخب الشارع ومعاركه الكبيرة والصغيرة، وبدأ دعوة جادة إلى التفلسف الحق واتباع المنهج العقلي وإقرار حكم العقل واحترام التفكير المنطقي وتطبيقه في شتى أنواع المعاملات، ورفض أمثال تلك الأقوال التي ترى أنّ "الفلسفة مضيعة للوقت" و"الفلسفة لا تحل أي مشكلة" و"الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة، بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات" و"لم يظهر أبداً فيلسوف تحمّل ألماً في الضرس". وذهب إلى القول بحتمية الفلسفة وأنه لا يستطيع أن يسلم منها أحد، إنها عرض من أعراض الإنسان، حتى لو قال بعضهم رداً على ذلك: (هذا هراء، وقد أمضيت هذه السنين الكثيرة كلها بلا فلسفة ولكن من المؤكد أنني خلال طريقي قد قمت ببعض التفكير)، ومن هنا يقرّ فؤاد زكريا بأنك أثناء هذا التفكير كنت تستخدم بطريقتك الخاصة وبلغتك الخاصة بعض الأفكار والاتجاهات الفلسفية طوال جزء كبير من ذلك الوقت. والمذهب الفلسفي عند فؤاد زكريا ما هو إلا محاولة متكاملة شديدة التنظيم للإجابة عن الأسئلة الأساسية نفسها التي تلحّ على ذهن الإنسان كلما بدأ يفكر تفكيراً عميقاً وشاملاً، وهو حين يقدم النماذج المختلفة في الفلسفة يؤكد على أنّ التفلسف أمر لا مفرّ منه، مهما تكن وجهة نظر المرء بالنسبة إلى العالم وإلى المجتمع الذي يعيش فيه، ويلفت فؤاد زكريا انتباه القارئ العربي الذي يقرأ كتبه المترجمة إلى نقطة غاية في الأهمية إذ يقول: "فإذا وجد القارئ العربي أنّ النماذج التي اختارها المؤلف محليّة (بالنسبة إليه) تنتمي إلى بيئته الخاصة وحدها، فليعلم رغم ذلك أنّ أمثال هذه الأنماط يمكن أن توجد مع تحوير بسيط في أيّة بيئة معاصرة في عالمنا الذي تتقارب طرق التفكير فيه، وخاصّة بين الشباب الذي بدأ يجني ثمار ثورة الاتصالات والعلم والتكنولوجيا".

فؤاد زكريا ونقد الخطاب السياسي

انعكست نزعة فؤاد زكريا العقلانية النقدية على آرائه السياسية، وكما سبق القول إنّه كان أحد المفكرين المؤسسين لمفهوم "الإسلام السياسي"، وذلك في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، ثم في كتابه الآخر "الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية". وقد اصطبغت آراؤه السياسية بصبغة عقلية بارزة، وكان هو نفسه يتناول آراء عصره السياسية من منظور عقلي تماماً، فقد كان مفكراً حراً وعنيداً مدافعاً عن أفكاره وما يؤمن به بامتياز، ولعل كتابه "كم عمر الغضب؟" مثال قوي على معارضته لتلك الثورة وضد الأفكار التي حملتها الناصرية، ثم اختلافه ومعركته مع الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل رمزها البارز، وتتجلى رؤيته العقلية النقدية من خلال مواقفه السياسية الناقدة للعهدين "الناصري" و"الساداتي"، إذ يقول معلقاً على ردود الأفعال على آرائه السياسية "إنّ ردود الأفعال هذه كانت دليلاً آخر على صحّة التشخيص الذي قمت به في هذا الكتاب للتشويه الذي لحق عقولنا بعد سنوات طويلة من الممارسات الملتوية المقيدة بألف قيد، فقد ظهر لي بوضوح كامل أنّ عدداً لا يستهان به من مثقفينا ما زالوا يصرون على تصنيف المفكرين السياسيين في إطار تلك الثنائية المحدودة: الناصرية أو الساداتية، فأنت في نظرهم لا بدّ أن تكون هذا أو ذاك، وإذا انتقدت أحدهم فلا بدّ، في رأيهم، أن يكون هذا النقد لحساب الآخر، أمّا أن يتخذ المفكر لنفسه موقعاً خارج نطاق هذه الثنائية، ويقف من الطرفين معاً موقفاً ناقداً متحرراً، كما حاولت أن أفعل في هذا الكتاب، فهذا ما يعجزون عن تصوّره أو استيعابه".

وتظل نزعته العقلانية ملازمة له في كلّ كتبه ومؤلفاته، فهو عند دراسة مفكر مثل "أفلاطون" في كتابه "الجمهورية" يرى أننا لا بدّ أن نتذكر أننا نعيش في وقتنا الراهن، ونضع نصب أعيننا مختلف مواقف الإنسان المعاصر ونسترشد بها في محاولة تفسيرنا لمواقف الإنسان اليوناني في ذلك العصر، ويرى أيضاً أنّ كل تفسير فلسفي للمفكرين القدماء بوجه خاص، لا بدّ أن يكون تفسيراً عصرياً مهما كانت قوة النزعة السلفية لدى صاحب هذا التفسير، ومهما كانت الاعتبارات المصرية بعيدة عن ذهنه.

وهو في هذا الإطار نفسه يعرض في أول الستينات - تلك الفترة التي بلغ فيها الصراع العربي الإسرائيلي أشده - لفلسفة اسبينوزا، ذلك المفكر اليهودي الذي ولد لأبوين يهوديين، ويرى أنه لو كان قد عاش فترة ظهور الفكرة الصهيونية وقيام الدولة اليهودية، لوقف بكل قوة في صف الرافضين، وكان ذلك الاعتقاد لدى فؤاد زكريا انطلاقاً من نزعة اسبينوزا الإنسانية العالمية التي كانت تحارب أفكار الاستعلاء والتفوق العنصري، وترى أنه في اعتقاد أي شعب بأنه "مختار" نقيصة أخلاقية، والتي كانت تكافح من أجل فصل الدين عن الدولة، وتحارب الخلط بين الدين والسياسة، وتقدّم للمفاهيم الدينية الرئيسة تفسيرات تنزع عنها طابع التشبيه بالإنسان، وتزيل التناقض بينها وبين النظرة العلمية إلى العالم.

وتنعقد طرافة فؤاد زكريا في رؤيته السياسية النقدية التي ترى أنّ هناك تشابهاً بين أوضاع المفكر في أوروبا خلال القرن السابع عشر ووضعه في بلادنا العربية في القرن العشرين، فقد كان فلاسفة أوروبا في مستهل القرن السابع عشر يواجهون قوى متخلفة كانت هي المسيطرة في أغلب الأحيان على السلطة السياسية والدينية في عصرهم، وكانوا يمثلون أقليّة مستضعفة ولكنها تملك حقيقة لا يملكها الأقوياء المسيطرون؛ حقيقة العقل والعلم والتجربة، في مقابل جبروت السلطة المنغلقة الغاشمة، وقد كان التشابه واضحاً بين ذلك الوضع الذي وجد فيه فلاسفة القرن السابع عشر أنفسهم في أوروبا وبين وضع المفكر العقلاني في عالمنا العربي بعد ثلاثة قرون، فمثل هذا الفكر ينتمي بدورة إلى أقليّة ضئيلة تواجه قوى متخلفة تسيطر على الفكر الشعبي وتشده إلى الوراء، سلطات غاشمة ترفض الفكر وتبغض المنطق وتخشى العقل المتسق، ثم ينتهي إلى القول إنّ جو الاضطهاد الفكري لا يكاد يخلو منه بلد عربي معاصر، ومن ثم يجد المفكر الذي يأبى الإذعان والرضوخ إلى مطالب السلطة أنّ عليه إمّا أن يصمت وإمّا أن يتحايل من أجل توصيل فكره إلى الجماهير، وبذلك ينشأ أسلوب خاص في الكتابة تنفرد به العهود الاستبدادية، هو ذلك الأسلوب الذي يحقق للكاتب هدفه في نقل آرائه التجديدية المتحررة إلى الناس دون أن يعطي السلطة المتربصة به فرصة النيل منه.

فؤاد زكريا ونقد الخطاب الديني

هاجم فؤاد زكريا عقلية الخرافة والدجل ودعاة الشعوذة والسحر والخطاب الديني المتشدد والمتزمت، وآمن بقدرة العقل على مناقشة قضايا الدين، وانضم إلى معسكر العلمانيين رافعاً شعار "العلمانية هي الحل" في مقابل "الإسلام هو الحل"، وكأنه يعود بنا إلى الصراع التقليدي القديم صراع العقل والنقل، الحكمة والشريعة، غير عابئ بويلات هذا الاتجاه منذ سقراط أو ابن رشد في واقعنا العربي وحتى نصر حامد أبي زيد في أيامنا الحالية؛ فذهب ناقداً واقعنا الديني حيث يرى أنه ما زال لدينا أناس يدافعون ويروّجون للشعوذة والسحر والدجل إلى يومنا هذا، ومنهم من يؤمن بهذا وهم حاصلون على مستويات تعليمية عليا، وكلّ هذا نتيجة إحساس الإنسان بالعجز عن مواجهة أزماته ومشكلاته التي يواجهها.

ويرى أنّ الخطاب الديني الحديث والمعاصر يفتقد لأهمّ مقوماته ويتجلى حين يمارس السلطة الدينية عنفاً فكرياً ضد المخالفين لها في المنهج أو الرأي حول تفسيرات وتأويلات النصوص الدينية في إطار الإسلام. وهو يشير في ذلك صراحة إلى نموذج الدكتور نصر حامد أبي زيد الذي تعرض للخروج من الجامعة وتعرّض لمحنته المعروفة، وصدرت ضدّه أحكام قضائية بالتفريق بينه وبين زوجه، متصوراً أنّ أطروحات الدكتور نصر حامد أبي زيد وأفكاره التي قدّمها لم تكن بالخطورة التي صوّرت بها إعلامياً، والتي تستلزم كلّ ما مورس ضدها وضده من قمع وإقصاء وإبعاد، إلى أن اقتضى الأمر أن يترك مصر ويعيش بالخارج، فقد كان الأمر لدى فؤاد زكريا أهون من ذلك وأيسر، وأنه كان بالإمكان استيعاب المشكلة واحتواؤها دون إلحاق أي ضرر أو أي أذى بالرجل، لو كنا نفهم حقّ الفهم معنى وقيمة "الحرية الفكرية".

ومن أجل إيمانه بقيمة "الحرية الفكرية"، وخاصّة في الخطاب الديني، قام بمجموعة من المناظرات والمعارك الفكرية مع رجال الدين ودعاته وعلمائه، كان أشهرها مناظراته التي عقدها بدار الحكمة في نقابة الأطباء المصريين مع الداعية الشيخ يوسف القرضاوي، وكان عنوانها "الإسلام والعلمانية"، ضدّ دعاة الوهم والخرافة فيقول: "إنني خضت معاركي دفاعاً عن قناعتي الفكرية وكشفاً لمواقف وتيارات معينة، وسأحاول أن أضرب لك مثلاً بسيطاً موضحاً: كنت قد كتبت مقالاً عقب حرب أكتوبر المجيدة وكان بعنوان "معركتنا والتفكير اللاعقلاني"، وما أن نشر بجريدة الأهرام حتى تعرضت لهجوم عنيف وشديد من كلّ مكان حتى وصل الأمر أني لعنت في المساجد، لأنيّ حاولت تفنيد الزعم القائل إنّ الملائكة نزلت وساعدت الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973م، وقلت آنذاك إنه من الظلم البيّن أن ننسب الانتصار العسكري الوحيد الذي أحرزناه في العصر الحديث على الأعداء إلى الملائكة، وننكر الجهد الشاق الذي بذلته القوات المسلحة في التدريب والإعداد والاستعداد، ونغفل جهود كلّ من خطط وجهّز وأعدّ ودرّب واستعدّ لهذه الحرب. وكأنني قد جاهرت بكفري عندما أعلنت رأيي هذا. وقد ردّ فؤاد زكريا قصور الفهم الديني وتأخره إلى الأميّة التي عصفت بمجتمعاتنا العربية، ومن ثم رأى أنّ الأميّة هي العدو الأول لكلّ ما من شأنه الارتقاء بالواقع العربي إلى مستويات كبيرة على مستوى التنمية والرفع من قيمة الإنسان، وذلك عبر القيمة التي ينبغي أن تتأسس عليها الحالة العربية، وهي قيمة حرية التفكير، وذلك للخروج من الزمن التقليدي إلى الزمن الحديث الأكثر انتصاراً واتصالاً بالعلم والحداثة.

من هنا كانت دعوته إلى تأسيس مشروع يتلاقى فيه ما هو فكري مع ما هو فلسفي، لوضع صيغة عربية تضع العرب والعقل العربي في واجهة المجتمعات المتقدمة التي لا تجتر الماضي بقدر ما تصنع الحاضر والمستقبل، ومن هنا تأتي أهمية إشرافه على سلسلة عالم المعرفة ومجلة عالم الفكر في الكويت.

وفي النهاية أقول إنّ فؤاد زكريا كان من أبرز المدافعين عن التفكير النقدي، ومن أبرز المؤسسين لخطاب العقلانية في الفلسفة والفكر العربي المعاصر، هو حلقة من حلقات الفخر والاعتزاز العربي من أمثال فرح أنطون وأحمد لطفي السيد وشبلي شميل وسلامه موسى وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وعثمان أمين وتوفيق الطويل ومحمود أمين العالم، وغيرهم ممّن دعا إلى العقلانية في الخطاب الثقافي والفكري، وفي وسط هؤلاء لمع نجم فؤاد زكريا الذي وقف على الضفة الأخرى والجبهة المشتعلة المختلف عليها وحولها، على الجبهة وفي المواجهة مع من هم في غير موقعه ومكانته أو الاتجاه الإيدولوجي الذي ينتمي إليه والمدرسة الفكرية والفلسفية التي نافح وكافح من أجل الذود عنها، وهاجم عقلية الخرافة والسحر ووقف ضد الأفكار السوداء، وأحد المفكرين الذين أصّلوا مفهوم الإسلام السياسي، وذلك في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، ثم في كتابه الآخر "الحقيقة والوهم".

ولذلك فلاشك أنّ فؤاد زكريا صادق كلّ الصدق في دعوته المنهجية من التجديد إلى الثورة العقلية، وهي ثورة تنبع من الداخل لا من الخارج، فالثورة من الخارج تقوم علي أساس الرفض والهجوم ولا تستند إلى مبررات علمية، فهو يرى أننا بين أمرين لا ثالث لهما: إمّا أن نرتضي السير قدماً نحو الحضارة الحقة وهذا منهجه الاستمساك بالعقل وهنا تكون الحياة، وإمّا ألا نرتضي التقدم برفضنا وتخلينا عن العقل ومنهج العقل، وفي ذلك الشتات والضياع.

فؤاد زكريا على طريقة الفلاش باك

والجدير بالذكر أنّي عندما قرأت فؤاد زكريا وجدته كأنّه يعيش بيننا في هذه الأيام، معاصراً لثورات الربيع العربي وما بعدها، يعالج مشكلاتنا الفكرية المتأججة، يعاصر خروج الجماعات الإسلامية التي تشبه تماماً خروج المارد من القمقم. بل وكأنّي اسمعه يجاهر بعلمانيته صارخاً لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، ويعلن ويرسل رسائل علنية للقائمين على لجان تكوين دساتير الدول المختلفة رافضاً قيام أيّ أحزاب أو جماعات سياسية على أسس دينية. وكأنه أيضاً يعيد مناظرة دار الحكمة مرة أخرى في ظروف متباينة وأكثر إلحاحاً، يقف بين عادل حسين وعصام العريان وطارق البشري ليحاور يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي، ولكنه في هذه المرّة يكون أكثر شجاعة، يشهد له أعداؤه "بأنه أشبه بسباق يعدو فيه حصان واحد" يسقط الذين يتمسّكون بشكل الإسلام دون مضمونه.

وعندئذ ينتفض الخصوم، يحاولون الدخول إلى الحوار، يرتّبون الأوراق ويستعدون للانقضاض عليه، فيراوغون في ثياب الواعظين المصلحين ليبدأوا بالقول: "ما أحوج أبناء مصر، وأبناء العروبة، وأبناء الإسلام إلى أن يتحاوروا بالفكر بدلاً من أن يتقاذفوا التهم أو أن يتقاتلوا بالسلاح!"، وأخذوا يخاطبون العواطف - كعادتهم- دون أن يخاطبوا العقول، فشلوا في حوار العقل، فاستعادوا لعبة كلّ زمان، وهي إعلان المروق من الدين، تهمة كلّ من يدعو إلى العقل وإلى التنوير، منذ سقراط الذي اتهم بأنه يكفر بالإلهة ويدعو إلى آلهة جديدة، وأنه مفسد للشبيبة، التهمة نفسها لقيها رائد العقلانية وآخر فلاسفة الإسلام أبو الوليد ابن رشد، وهكذا في كلّ عصر وحين حتى عصرنا الحالي عصر "نجيب محفوظ وطه حسين ونصر حامد أبو زيد"، ومن سيأتي بعد فؤاد زكريا من دعاة العقلانية والتنوير، فيصف القرضاوي فؤاد زكريا بأنه يؤذّن في مالطة، ويتحفظ على لفظة الأذان واصفاً إياه بأنه ضدّ الأذان على خط مستقيم وعندما يشعرون بأنّ إعلان الحكم من النخبة سيأتي على غير ما يطمحون، يلجأون- بوعي أو بغير وعي- إلى تاريخ الفلسفة وإلى محاكمة سقراط، وكيف أنّ محكمة النخبة الفاهمة الحكيمة العادلة لن تفي بالغرض، فلجأوا إلى محكمة الشعب التي تضم الخباز والعلاف والحمّار والسباك والنجار والعاطل والباطل؛ ليدينوا سقراط ويحكموا عليه بتجرع السمّ مذاباً في العسل، فيترك حكام دار الحكمة الذين أعلنوا عنوان الندوة "الإسلام في مواجهة العلمانية" الحكم للجمهور، تماماً مثلما فعل محاكمو سقراط، ليتكلم الجمهور بما لم يرض فؤاد زكريا وجماعته، كما حكم من قبل على سقراط.


* نشرت هذه المقالة في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6