فتوى مارْدين وفقهُ الأقليات بين قاعدة الضرورة وضرورةِ مراجعةِ النصوص الإسلامية


فئة :  مقالات

فتوى مارْدين وفقهُ الأقليات بين قاعدة الضرورة وضرورةِ مراجعةِ النصوص الإسلامية

فتوى مارْدين وفقهُ الأقليات بين قاعدة الضرورة

وضرورةِ مراجعةِ النصوص الإسلامية

فتوى ماردين وضرورة مراجعة النصوص الإسلامية

في سنة 2010 بمدينة ماردين التركية، مسقط رأس الشيخ ابن تيمية، انعقد مؤتمر علميٌ يناقش فتوى الفقيه الشهير، التي نصُّها:

"وسئل رحمه الله عن بلد (ماردين) هل هي دار حرب أو بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه وماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه أم لا؟

فأجاب: الحمد لله، دماء المسلمين وأموالهم محرمة، حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب.

ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريقة أمكنتهم. من تغيب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.

ولا يحل سبهم عموماً ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.

وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، وليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه."

(مجموع الفتاوى: 28/240 ،241)

تعالج فتوى ماردين موضوعا خطيرا يتعلق بالرأي القديم الذي يقسّم العالم إلى دارين؛ دار إيمان ودار كفر، كما تطرح إمكانية تجاوز ذلك التقسيم باجتهاد جديد. ومن هنا انطلق المؤتمر للبحث في سبل إحياء منهج تفسير الأحكام الشرعية في ضوء الواقع الذي تحكمه ظروف سياسية مختلفة، باعتبار أنّ الدول المدنية التي تحمي الحريات والأديان والإثنيات المختلفة، تستدعي أن ينْظرَ الفقهُ الإسلامي إلى العالم كله كفضاء للتعايش بين البشر بمختلف أطيافهم وألوانهم. وهذا الفهم هو ما يمكن أن نلتمسه في جواب ابن تيمية، إذا كان نص الفتوى سليما من التحريف!

إذا كان التشريع الإسلامي قد قرر قواعد مصلحية غاية في المعقولية ((common sense مثل أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وأن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين ونحوها من القواعد، وإذا كان التشريع في الجملة ابنَ بيئته، فإن تغير الواقع المؤطر له ضرورةٌ توجب إعادة النظر في النصوص التراثية وتجاوز تلك التقسيمات التي قد تسافر بالشعوب البريئة في الزمن الماضي وتجرّها إلى خوض حروب دينية في عالم استنفذ مسوغات الحرب، ولم يعد في حاجة لأسباب جديدة لها!

في العالم القديم، ساد منطق الحرب بين الشعوب، فكانت الحرب أصلا معتبرا وأمرا متوخى في كثير من الأنظمة، وكانت الإغارة أمرا شائعا أو متوقعا بين كثير من الحدود. من جهة أخرى، فإن الفقه السياسي كان في مراحل تطوره الأولى، وهذا يعني أن الشق العملي للنظام المؤطر للعلاقات الدولية وقتها سبق الشق النظري، وعليه فليس من الغريب أن يقسم الفقهاء العالم إلى دار حرب ودار سلم اعتبارا لتلك الظروف الهشة. لقد رجح المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أن الإسلام يقرر أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش السلمي. أما تقسيم الدور في الفقه الإسلامي، فيعود إلى الصدر الأول وفي سياق حالة الحرب، وهي حالة استثنائية، بالتالي، فإن جميع ما تضمنه الفقه الإسلامي من آثار ذلك التقسيم والأحكام الشرعية المترتبة عليه كان تبعا للحالة القائمة يومئذ بين الدولة الإسلامية وسائر العالم من حولها. أما الدول الغربية بصفة عامة، فهي بلاد التعددية الدينية والثقافية القائمة على السلم المحقق للأمن والكافل للحقوق المشتركة. (صناعة الفتوى وفقه الأقليات: 291، 292)

لقد اعتبر مؤتمر ماردين أن فتوى ابن تيمية قد تم تحريف نصها وتزييف فهمها في آن واحد، وهو ما أكدته دار الإفتاء المصرية بعد سنتين من ذلك؛ فالصواب في نص الفتوى هو "...ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، وهو المثبت في النسخة المخطوطة الوحيدة الموجودة في المكتبة الظاهرية، كما استأنس الباحثون بنقول لنص الفتوى في مصادر حنبلية مثل الآداب الشرعية والدرر السنية في الأجوبة النجدية، وأرّخوا التحريف الواقع إلى طبعة فرج الله الكردي من القرن الماضي، ومن هناك انتقل التحريف إلى طبعة الشيخ عبد الرحمن القاسم واشتهر النص هكذا "... ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه."

في الحقيقة، إن فكرة المؤتمر فكرة عبقرية، وسيكون من المفيد اتباعها بتفعيل التوصيات وبتنظيم مؤتمرات في السياق نفسه، على أن تحظى بتغطية إعلامية أوفر، تتجاوز التقريرات الصفحية إلى الأفلام الوثائقية والسنيمائية التي تصنع المفاهيم وتوسع آفاق البحث. لقد استغلت هذه الفتوى في تفعيل مفاهيم متشددة بتنفيذ جرائم إرهابية طوال قرن دمويّ كامل. إن الفضول وحس المسؤولية والشفقة على الضحايا تجعلنا نفكر في الجهة التي تتحمل وزر هذا الخطأ الجسيم، لكن التساؤلات الأكثر عملية في هذا الموقف قد تكون: هل ستستوعب الجماعات المتطرفة والإرهابية الدرس؟ هل ستكف الأيديولوجيات المتطرفة عن التأصيل للعنف والجماعات الإرهابية عن ممارسته، انطلاقا من نصوص محرفة؟ وماذا عن دور الحكومات وعموم المسلمين في تصحيح مسار الدين؟ المتوقع على المدى القريب لا يبعث على الأمل لوجود ثلاثة موانع، هي:

  • أن النمط الديني السائد في العالم الإسلامي لم يتحرر بعدُ بشكل منهجي من ربقة التقليد؛ فمن لم يعتمد على ابن تيمية في فتوى تعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد، قد يقلد فتوى لفقيه معاصر لا تقل خطورة عن فتوى ماردين.
  • أن الاجتهاد المقاصدي- الأصولي لم يأخذ بعدُ مكانته المناسبة بين مساحة النصوص الواسعة التي يكتفي بها الفقه النقلي.
  • أن العقل الإسلامي لم يتصالح بشكل متكامل مع العالم الذي يعيش فيه؛ فهو متوجس من التعامل مع المتغيرات، ومتردد في التواصل العقلاني مع الآخر، ولهذا نجد أن الخطاب الإسلامي السائد (خطاب الإسلام السياسي)، يعاني من ازدواجية في المواقف الإنسانية، وهذا لا ينتج إلا عن ضعف استيعاب معالم الحاضر وقوانين الحضارة.

فقه الأقليات

إن الناظر في الموروث من الفقه الإسلامي وأصوله، يدرك أنه لا يتناول بصفة مباشرة ما بات يُعرف منذ أواخر القرن الماضي بفقه الأقليات، ولكن الباحثين والفقهاء في الجملة لا يختلفون حول اشتمال ذلك الموروث على إشارات أصولية متعددة المستويات، يمكن ردّها إلى قواعد الخصوصيات والاستثناءات، وما تشتمل عليه من فروع التيسير القريبة من الرُخَص، وفتاوى النوازل، والآراء المرجوحة، باعتبار السياق الحضاري لا الدليل الشرعي، وإلى الكليات الفسيحة من قبيل المحافظة على الوجود النوعي للإنسان بمجتمع منتظِم بالذوق الروحي والخلق المتسامي، مما يمكن استثماره بتحديث عبارته وترتيب صياغته وتقريب منطقه بهدف نجدة الأقليات المسلمة في وضعها الطارئ، والتصالح مع الجيل الجديد من المسلمين في أسلوب حياتهم المعقد والسريع، وإلهام المجتمع الإنساني عموما في تحدياته الحضارية.

بناء على هذا، فإنه من الممكن القول إن فقه الأقليات قد تجاوز حرج الابتداع في الدين لاستناده إلى أصول تشريعية معتبرة، كما تكونُ روحُ تشريعه والمنظومة الفكرية المؤطرة له سليمة من أي تشويش هرطقي أو تكلف حداثي؛ فهو عبارة عن ترجيح انتقائي مستند إلى مصادر الفقه وطرائق الاستنباط التقليدية، وكونه يحاول الإجابة عن أسئلة واقع جديد مركب من عناصر سريعة التفاعل والتغير، فإنه لابد أن يستحدث في ممارسته سلّم أولويات مناسب، وإلا كان ضربا من العبث الذي تمجّه فلسفة الدين.

في تحديد الإطار الاجتهادي لفقه الأقليات يقول معالي الشيخ عبد الله بن بيه:

"...فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة، قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة. واجتهاد في تحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي؛ لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة، وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون، بل يستوي فيه المجتهد والمقلد. أما النوع الثالث، فهو اجتهاد ترجيحي، وهو اختيار قول قد يكون مرجوحا في وقت من الأوقات، إما لضعف المستند- وليس لانعدامه - فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل."

(صناعة الفتوى: 170)

ضرورة فكرية

إن الاجتهاد المنشود لهذا الباب الفقهي هو تفعيل لآليات الاستنباط التي تمنح حياة جديدة لفقه ما بعد أزمة غلق باب الاجتهاد، تلك الأزمة التي نكبت المعرفة الإسلامية لقرون بسبب عدم تطابق الأحكام مع الأحداث والوقائع (incompatibility). بالتالي، فإن فقه الأقليات من هذه الزاوية ضرورة عملية لتعلقه بمتطلبات المجتمع المسلم في الوقت الراهن، وضرورة فكرية لدوره الدافع في إنعاش حركة المعرفة بشكل عام من خلال الأسئلة التي يولّدها التفكير الجاد في المعطيات المعقدة والمتجددة في هذا الشأن، ثم إن درجة الاضطرار إلى هذا المنهج تشتد عند تقييم عقود من آثار الخطاب الإسلامي المؤسَس على مخلفات النكبة المعرفية. لقد شهدنا بالتجربة تصاعدا مخيفا لمشاعر الكراهية وأحلام النصر المتشوفة للقتال والمتذرعة بالوسائل غير الحضارية مثل الأعمال التخريبية ، بالرغم من جهود الدول والمنظمات والأفراد في مكافحتها بشتى الطرائق والوسائل، سواء في الدول الإسلامية أو الغربية. حسب تقرير نشره مركز إفريقيا للدرسات الإستراتيجية (The Africa Center for Strategic Studies, 2020)، فإن أعمال العنف المرتبطة بالجماعات الإسلامية المتطرفة في إفريقيا قد تضاعفت سنة 2019. التقرير نفسه يشيد بتراجع أحداث العنف الديني في شمال إفريقيا دون أن يُغفل حقيقة استمرار تولّد الجماعات المتطرفة الجديدة، والتي قد تنجح في استقطاب أفراد من معتنقي الإسلام في الغرب، أو في تصدير أيديولوجيات متشددة إليهم بفضل الموقع الاستراتيجي لدول المغرب الكبير وديناميكية الحركة بالمنطقة المتوسطية.

إذا تبيّن أن هذا المنهج الاجتهادي وسيلة فعّالة للإصلاح الديني بهدف استدراك التخلف ومواجهة خطاب التطرف، فإنه لا تكلّف في إلحاق هذا النمط الجديد–القديم من الفقه بالضروريات من الوسائل التي استحدثها الجيل الأول من المسلمين في ضوء قاعدة الضرورة وما يشبهها، كتدوين الكتب واستحداث الخطط وتقعيد القواعد واستنطاق النصوص بما لم يكن في الأمر الأول ولم تعالجه النصوص بشكل مباشر، وكلٌ ضرورةٌ في وقته.

الضرورة والحاجة

إن فقه الأقليات، بالإضافة إلى كونه ضرورة معرفية، فإن بُنيته تعتمد اعتمادا كبيرا على أصل الضرورة في التشريع الإسلامي، ولأجل ذلك ينبغي التذكير بخلاصة عن مصطلح الضرورة لتتوضح صلته المزدوجة بفقه الأقليات.

الضرورة في العربية من الاضطرار وهو الافتقار إلى الشيئ، وقد (اضطر إليه) أمرٌ: أحوجه وألجأه، وفي الآية: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) (البقرة 173)؛ أي فمن أُلجئ. وأصله من الضرر وهو الضيق، والضَّرُّ والمضرة خلاف النفع والمنفعة. (تاج العروس من جواهر القاموس: 12/388، مختار الصحاح: مادة ضرر)، وفي حديث عليّ رفَعَه أنه نهى عن بيع المضطر. (معرفة السنن والآثار: 8/183، مصنف ابن أبي شيبة: 6/180.) أما في الاصطلاح، فالضرورة إما فقهية أو أصولية. فالأُولى تطلق على إطلاقين؛ أحدهما على الضرورة القصوى التي تنقل المحرم إلى دائرة الإباحة، والثانية دون ذلك، وهي المعبَّر عنها بالحاجة. وأطلق عليها "ضرورة" في الاستعمال توسعا. وأما الأصولية، فهي الضرورة العامة بالجنس؛ فهذه ثلاثة أقسام بيانُها كالتالي:

1. الضرورة الفقهية بالمعنى الخاص:

وهي متعلقة بقدرٍ متقدمٍ من الاحتياج قد يلحق بالفرد أذى شديدا. عرف السيوطي هذا المستوى من الضرورة بقوله: "فالضرورة: بلوغه حدا إن لم يتناوله الممنوع هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام." (الأشباه والنظائر: 1/85)، وهي التي قال عنها إمام الحرمين: "لا تثبت حكما كليا في الجنس، بل يعتبر تحقيقها في كل شخص؛ كأكل الميتة." (البرهان في أصول الفقه: 2/144) والدردير: "الضرورة هي حفظ النفس من الهلاك أو شدة الضرر." (الشرح الصغير: 2/183)، والجصاص: "هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل." (أحكام القرآن: 1/130).

2. الضرورة الفقهية (بالمعنى الاستعمالي الواسع):

لقد درج الفقهاء في كتبهم على استعمال الضرورة مع إرادة معنى الحاجة، وبخاصة عندما يكون الضرر اللاحق بالفرد أخف من ذلك الذي وصفه الفقهاء في المستوى الأول من الضرورة (بالمعنى الخاص). ومن تلك الاستعمالات ما جاء في تبيين الحقائق: "قال (وشعرِ الخنزيرِ وينتفعُ به للخرَز) أي لا يجوز بيع شعره ويجوز الانتفاع به للخرَز... وإنما جاز الانتفاع به للأساكفة لأن خرْز النّعال والأخفاف لا يتأتَّى إلا به، فكان فيه ضرورة." (4/51، 52). ومن ذلك أيضا: "والتراب والطين في الظفر لا يمنع لأن الماء ينفد فيه، وما على ظفر الصبّاغ يمنع وقيل لا يمنع للضرورة." (البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 1/49) ومنه عند المالكية: "وقد يجوز الغرر اليسير إذا دعتْ الضرورة إليه، ولا يجوز إذا لم تدع إليه حاجة." (التاج والإكليل لمختصر خليل: 4/294).

3. الضرورة الأصولية:

ومعناها هو ما أشار إليه إمام الحرمين بقوله: "والقسم الثالث ما يرتبط في أصله بالضرورة، ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص، وهذا كالبيع وما في معناه." (البرهان: 2/144) وقال في شأنها الإمام الشوكاني: "إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية: أن تكون من الضروريات الخمس (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل) وبالكلية: أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض، أو في حالة مخصوصة دون حالة." (إرشاد الفحول: 1/404) فهي ضرورية؛ إما لانتظام حياة الناس بها، أو لأن اعتبارها معلوم بالضرورة لكونها مقصودة للشارع بأدلة غير محصورة، وهذا هو الكلي المعبر عنه بالضروري كما يذكر علماء الأصول والمقاصد.

أما وقد ذكرت الحاجة مرارا، فتعريفها في اللغة كما جاء في تاج العروس: "(والحاجة) والحائجة :المأْرَبة... وقوله تعالى: (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم.) (سورة غافر:80) والحاجة: القصور عن المبلغ المطلوب، يقال: الثوب يحتاج إلى خرقة." (5/495) أما في الاصطلاح فتأتي على ضربين: حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة، وهذه هي الحاجة الأصولية، وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعاً لمعنى الضرورة.

*- الحاجة العامة (الأصولية):

قال إمام الحرمين: "والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة، ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضن ملاكها بها على سبيل العارية، فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره، ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة للشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس، لنال آحاد الجنس أضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد." وقال: "...وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الأشخاص." (البرهان: 2/602، 603)، وقال في معناها الإمامُ السيوطي: "القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة." (الأشباه والنظائر: 1/88).

*- الحاجة الفقهية:

يقول الشيخ عبد الله بن بيه: "هي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار؛ إذ الضرورة لفظ مشكك، وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى (الضرورة). وليس هذا من باب القياس، وإنما هو من باب الأدلة اللفظية." (صناعة الفتوى: 215) وتطبيقات هذه القاعدة: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجة الناس، وكذلك إذا احتيج إلى نوع من التصرفات والعقود، بحيث ينال الناس الحرج والضيق بتحريمه فأبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه ولو كان محظوراً لما فيه من الربا أو شبهته، بناء على أن الحاجيات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات. (انظر: عبد الوهاب خلّاف، علم أصول الفقه: 210، ومصطفى الزرقا، شرح القواعد الفقهية: 1/ 209-211)

إن تأطير الحاجة إلى فقه الأقليات بأصل الضرورة، مثله مثل انبناء الاجتهاد في فقه الأقليات على أصل الضرورة، لا يعني عدم وجود أصول اجتهادية أخرى من شأنها تحسيس الباحثين والعلماء بضرورة هذا المنهج الاجتهادي من جهة، وإنعاش الاستثمار الفقهي في باب الأقليات من جهة أخرى. من بين تلك المرتكزات الاجتهادية أصل "المصلحة"، وهي غالبا اسمٌ آخر للحاجة إذ تقوم مقامها ويشيع في اللسان الفقهي التعبير بالمصلحة عن الحاجة والعكس. وكذلك أصل "عموم البلوى"، وهو الحالة التي تشمل كثيراً من الناس حتى يتعذّر الاحتراز منها فتستدعي تغير الحكم. وقاعدة "الاستحسان"، وهي من أدق وأعقد مسالك الاجتهاد، وتكاد تكون من القواعد "المنقرضة" للاختلاف النظري الشديد حول مفهومها وتطبيقاتها المعاصرة.

لقد فتحت فتوى ابن تيمية فضاء من الجدل، قبل تحريفها بطرح فكرة الدار المركبة وتجاوز التقسيم المذهبي السائد، وبعد تحريفها بتمييز مواقف المسلمين؛ فأقلية اندفعت واتخذت من الفتوى ذريعة، لتمكين الكراهية وبعث الخلافات الدينية التاريخية وتغذية الإرهاب، وأقلية أخرى تريثت ورجعت إلى مصدر ومكان المشكلة وعالجته بما يجلي عذر الماضين ويؤصل لسلامة اللاحقين ويؤمّن المخالفين. فأي منهج هو الأصلح للإنسانية بعد هذا؟

 

المصادر والمراجع:

Sahel and Somalia Drive Rise in Africa’s Militant Islamist Group Violence, The Africa Center for Strategic Studies, August 9, 2022.

https://africacenter.org/spotlight/sahel-and-somalia-drive-uninterrupted-rise-in-african-militant-islamist-group-violence-over-past-decade/

ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد، المصنف، ت: محمد عوامة، دار القبلة.

ابن تيمية،: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني، مجموع الفتاوى، ت: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء.

ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، دار المعرفة.

بن بيه، عبد الله، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، ط1، دار المنهاج، 2007

البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، معرفة السنن والآثار، ت: عبد المعطي أمين قلعجي، ط1، دار الوعي، ودار قتيبة، 1991

الجصاص، أبو بكر أحمد الرازي، أحكام القرآن، دار الفكر.

الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله إمام الحرمين، البرهان في أصول الفقه، ت: صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية، 1997

خلاف، عبد الوهاب، علم أصول الفقه، ط 8، مكتبة الدعوة - شباب الأزهر.

الرازي، زين الدين محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح، مؤسسة الرسالة، 2001

الزبيدي، أبو الفضل محمد بن عبد الرزاق الحسني، تاج العروس من جواهر القاموس، ت: مجموعة من المحققين، دار الهداية.

الزرقا، أحمد، شرح القواعد الفقهية، ت: مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، 1989

الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي الحنفي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، دار الكتب الإسلامي.

السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، دار الكتب العلمية، 1982

الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ت: محمد سعيد البدري أبو مصعب، دار الفكر، 1992

العبدري، محمد بن يوسف، التاج والإكليل لمختصر خليل، دار الفكر، 1978

المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ع4-5، ع7

موقع الشيخ عبد الله بن بيه، 2010

https://binbayyah.net/arabic/archives/1037

موقع دار الإفتاء المصرية، 15 نوفمبر 2016

https://www.daralifta.org/ar/ViewResearchFatwa/2309/%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%AA%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9%D9%81%D9%8A%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%86