فرنسواز داستور: لا أعتقد أن بإمكان الفلسفة أن تصير شعبية


فئة :  حوارات

فرنسواز داستور:  لا أعتقد أن بإمكان الفلسفة أن تصير شعبية

فرنسواز داستور(1):

لا أعتقد أن بإمكان الفلسفة أن تصير شعبية(2)

أجرت الحوار: كيارا باستوريني(3) (Chiara Pastorini)

ترجمة: يحيى بوافي

هي إحدى الوجوه البارزة للفينومينولوجيا الفرنسية، تلك التي تعتبر نفسها مُدرِّسةً قبل كل شيء، وما من وجود لن يضاهيها كي يأخذ بيدنا لمساءلة لغز وجودنا، ناهلةً من هايدغر كما من التقاليد الشرقية.

تقديم

لمَّا التقينا بها في حانة فندق لوتيسيا Hôtel lutetia، استحضرت فرنسواز داستور في لحظة باكرة من لقائنا ذكرى آخر زيارة لها إلى هذا الفضاء، كانت لأجل لقاء جاك دريدا الذي كان لها معه نقاش حيوي حول مشكل الحيوان. فالواقع أن دريدا في الجزء الأخير من مشروعه قد شرع في تفكيك "الاستثناء الإنساني" والحال أن اللغة والزمن، بالنسبة إلى فرنسواز داستور، كلاهما ينمذجان في العمق وجود الإنسان ـ في ـ العالم ويميزانه بوضوح عن الحيوان.

فرنسواز داستور تلك الفيلسوفة التي تعيش في قرية صغيرة بأرديش ـ Ardèche مُؤْثِرةً البقاء على هامش أشكال المبالغة الإعلامية، تُعدُّ اليوم من بين الوجوه الأساسية للفينومينولوجيا الفرنسية؛ فمؤلفاتها حول هايدجر تمثل سلطة أكاديمية، وهي لم تتوقف عن الاشتغال على مشكل الزمن. لكن إذا كان من الصعب قراءة مؤلفاتها - لأن أعمالها لا تتوجه إلى المبتدئين في الفلسفة اللهم على سبيل الاستثناء- فإنها تظل وفية على الخصوص للنقل والتلقين الشفوي، بل هي ذاتها تؤْثِرُ أن توصف بـ"المُدَرِّسة" و"الموقِظَة". إنها تتكلم بسخاء منقطع النظير ولا تخشى لومة لائم في الكشف عن أسس نهجها وطريقتها. وفضلا عن ذلك، تبقى إحدى أوجه الأصالة المميزة لمقاربتها، هي تلك المتمثلة في انفتاحها؛ فهي تفكر بصحبة هايدغر وهوسرل، ولكن أيضا من خلال الاستشهاد بالشعراء والفنانين-هولدرلين، رامبو- وبالحكمة الهندية أيضا. لقد عرفت، بشكل من الأشكال، كيف تربط بين فكر هايدجر والمُثل الخاصة بالحراك الطلابي لسنة 1968؛ أي بين البحث حول الدازين من جهة، ومن جهة أخرى البحث في التسامح واكتشاف التقاليد غير الغربية والتعاطف مع البيئة.

نص الحوار:

كيارا باستوريني: هل لك أن تقدمي لنا وصفا لمساركِ؟

فرنسواز داستور: لقد كان لي مسار من دون سجل، وإن شئت قلت مسار سديمي وخارج التصنيف، إذ لم أمر عبر المدرسة العليا للأساتذة، فانتمائي إلى أسرة عاملة جعلني أتجه إلى التعليم التقني، وهو ما كان يمثل خلال الخمسينيات من القرن العشرين أمراً عاديا؛ بيد أنني توصلت إلى الالتحاق بالسلك الكلاسيكي. فقد كانت لي أستاذة لمادة الفلسفة في القسم النهائي - مونيك ديكسو Monique Dixsaut - إليها يعود الفضل في فتح اهتمامي على هذه المادة. وفي نفس السنة، حصلت على الجائزة الأولى في المباراة العامة للفلسفة، وهو القسم الذي كان حكرا على أبناء البورجوازية، وقد شجعني هذا الأمر كثيرا، مع أن ميلي لحدود هذه الفترة، كان متجها بالأولى إلى الرسم والفن التشكيلي. هكذا تابعت دراسات الفلسفة بالسوربون، ثم في نونتير مع بول ريكور، وبعدها بفريبورغ، معهد الفينومينولوجيا، وفيها تابعت محاضرات وويرنير ماركسWerner Marx، وهو يهودي نفي إلى الولايات المتحدة طيلة الحرب العالمية الثانية، ثم عاد إلى ألمانيا ليشغل كرسي مارتن هايدغر، كما تابعت دروس أوجين فينك Eugen Fink، مساعد إدموند هوسرل. وفي سنة 1969، كان لي حظ الحصول على وظيفة بجامعة السوربون، حيث شغَلت منصب أستاذة مساعدة ثم أستاذة محاضرة لمدة تقرب من 25 سنة. ومنها غادرت إلى جامعة من جامعات الضواحي، ثم إلى جامعة بروفانس. وعلى عكس معظم زملائي، لم أدافع عن أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، بل قدمت أطروحة حول الأعمال المنجزة، والتي دافعت عنها منذ حوالي 50 سنة بجامعة لوفان في بلجيكا، كما أنني حصلت على تقاعدي مبكرا عند بلوغي 61 سنة، ومنذ تلك الفترة، وأنا أدرِّس بين الفينة والأخرى بالخارج، غير أنني أقيم معظم الوقت، بقرية صغيرة في أرديش Ardèche.

كيارا باستوريني: القرية التي تُنَظِّمِين بها حلقات دراسية في الفلسفة موجهة لجمهور محبِّيها...

فرنسواز داستور: نعم، لقد واجهت صعوبات متزايدة على مستوى التدريس ضمن التصور الأكاديمي، خصوصا بمستوى الماستر، على إثر الإصلاحات المتتالية للجامعة. يبدو لي أن الفلسفة الجامعية تعيش طور الاحتضار. عبر انغلاقها داخل التفسير الخاص بالنصوص، مُدْرَكَةً بوصفها غاية، وليس باعتبارها غطاء لسؤال ممكن. لهذا السبب، وجدتني أبحث عن فضاءات أخرى لإلقاء محاضراتي، منظمة لاجتماعات عمومية في القرية التي أقطن بها، وهي الاجتماعات التي تضم خمسين شخصا. وما أريد قوله أيضا هو أنني أعتبر نفسي أولا وقبل كل شيء مدرِّسة للفلسفة، ولا أنظر إلى نفسي على أنني فيلسوفة لها مذهب عليها تلقينه. وقد صار الضغط الذي يمارسه الإعلام على الفلاسفة يطلب منهم أن يكونوا خبراء، بينما أعتقد أن واجب الفلاسفة بالأحرى هو أن يكونوا موقِظِين على الدوام وأناسا يطرحون الأسئلة.

كيارا باستوريني: هل يمكنك أن تقدمي لنا الفينومينولوجيا الفرنسية، باعتبارك أحد وجوهها البارزة؟

فرنسواز داستور: لي تصور جد شاسع للفينومينولوجيا الفرنسية، فهي أولا ليست مدرسة؛ فما من وجود لقائد يتزعم صفها، بل من يوجد هم شخصيات متنوعة المشارب بدرجة كبيرة مثل سارتر وميرلوبونتي ولفيناس ودريدا، واليوم نجد جون لوك ماريون أوجونسيلين بونوان. لذلك، فإن عملهم النظري يبقى شديد الاختلاف، لكن هناك أمر يوَحّدهم مع ذلك هو المتمثل في انخراطهم جميعا ضد النظرة إلى العالم المنحدرة من الأفلاطونية فما يتقاسمه، ويشترك فيه الفينومينولوجيون هو اعتقاد عميق يجد صورته في أنه ليس من اللازم البحث عن الحقيقة وراء الأشياء التي تظهر لنا، بل لابد من محاولة إضاءة ما يظهر وما هو قائم مسبقا هنا وما هو معطى داخل التجربة وتَجْليَّتِه، وما تحول أحكامنا المسبقة دون رؤيته. وكما يقول هوسرل المؤسس الألماني للفينومينولوجيا، ما يعنيه إلغاء وحذف الأحكام المسبقة هو مجابهة "الدوكسا" والرأي المشترك، والأفكار التي تم تصورها مسبقا. فالفينومينولوجيا مفهومة على هذا النحو هي منهج وليست مذهبا؛ فهي في واقع الأمر استعادة لفكرة الفلسفة الأصلية. صحيح أنه ليس من السهل ولا هو هيِّنٌ على الدوام قراءة ما يكتبه الفينومينولوجيون، غير أن هذه الصعوبة تعود إلى طبيعة مشروعهم ذاته، فحتى يتم الاقتدار على حذف وإلغاء الأحكام النابعة من الحس المشترك والأفكار الراسخة مسبقا، لابد من ممارسة نوع من الزهد الفكري. وإخضاع النفس لنوع من "الإرجاع الفينومينولوجي"، إن شئنا استعادة أحد مفاهيم إدموند هوسرل كذلك، إذ غالبا ما نقوم باستخدام الأشياء التي تحيط بنا، ونحن نسميها، غير أننا لا نراها. وتبعا لهوسرل كي نبلغ الأشياء، أول ما علينا القيام به هو حذف كلمات وألفاظ اللغة الجارية؛ أي تلك البطائق التي نقوم بإلصاقها فوقها، والتي تحول دون رؤيتنا لها كما هي، من دون أحكام مسبقة. وبعبارة أخرى، يلزمنا العودة إلى تجربة أولى، خفيَّة ومستَتِرة. وهنا بالتحديد تصير الأمور صعبة. ولنأخذ على سبيل المثال مفهوما الزمان والمكان؛ فهما مفترضان مسبقا بالنسبة إلى إدراكنا- بل إن كانط يقول بأنه من المستحيل إدراك أي شيء دونهما- ومع ذلك بمجرد ما أن نبحث عن فهم ما هما، فإننا عندها نوضع وجها لوجه مع صعوبات هائلة وجمة. إن كتاب "قول الزمن dire le temps" هو كتاب موجز جدا من بين كتبي، بيد أنه من بين كتبي التي أتمسك بها أكثر من غيرها؛ لأنه يقدم على نحو أفضل العمل الذي أقوم به. لابد من فهم هذا العنوان على جهة التمني، بمعنى هل من الممكن قول الزمن؟ وكما يدافع نتشه عن ذلك، فإن الفلسفة الغربية قد حاولت القيام بتشييد منطق يعمل على إخراج الفكر والوجود من الزمن وتجريده منه، حيث أرادت التفكير في وحدات فلسفية- الأشياء، الإنسان والله - من خلال وضعها إن جاز لنا القول خارج الزمنية. Sub specie aeternitatis (تحت مظاهر الأبدية). وبكتابه "الوجود والزمان"، شرع هايدغر في الحركة المعاكسة: بدلا من خلق تعارض بين الوجود والزمن، شجب الإلحاح الميتافزيقي الغربي الذي فكر دائما في الوجود انطلاقا من الحضور، دون أن يقوم بتاتا بإدراجه داخل الصيرورة. هكذا سيكون من اللازم بذل مجهود لأجل تفكير الأشياء كما تصير وليس كما هي كائنة. لكن عندما تريدون التفكير بعبارات الصيرورة والحالة هذه، فإن سؤالا يفرض نفسه: هل بالإمكان قول الصيرورة؟ هل هناك منطق ممكن للزمن؟ وما هي اللغة التي ستكون ملائمة هنا؟ لقد حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال الاستناد إلى فلسفة اللغة عند فلهيلم فون هومبولدتWilhelm von Humboldt وعلى الفكر الشعري لهولدرلين. فالواقع أن ما وجدته لدى هذين المؤلفين هو اعتبار خاصية الأشياء المرتبطة بالسيرورة. وأن الزمن غير قابل لأن يتم القبض عليهinsaisissable، كما أن اللغة نفسها تبقى كيفية لتجميد ما لا ينفك ينفلت منا. فهل من اللازم الانطلاق أيضا في البحث عن لغة أخرى مفتوحة على الصيرورة.

كيارا باستوريني: إذا كان سؤال الزمن والصيرورة يثير شعورك بالتواضع، فإن الموت بدوره يبقى كلي الحضور في كتبك.

فرنسواز داستور: عندي ميل إلى ربط مفهوم "الموت" بمفهوم "التناهي". فما هو التناهي؟ إنه وعي الفرد بأنه كائن فانِ، وهي خاصية ينفرد بها الكائن الإنساني. لهذا السبب أجدني لا أفهم التناهي بما هو مفهوم ثيولوجي؛ فالأمر لا يرتبط بخلق تعارض بين طابع تناهي ما هو إنساني وبين لا تناهٍ إلهي. إن لفظ "لامتناه" ليس لفظا سلبيا بمحض الصدفة: فهو أخذ معناه، بالنسبة إلي، من جهة كونه يعدم وينفي الوعي الذي لدينا بكوننا كائنات منذورة للموت.

إن التعبيرين الكبيرين عن العلاقة بالموت هما بالنسبة إلي القلق والضحك، وخصوصا الضحك بجنون؛ الأول لأنه يجعلنا وجها لوجه مع اللغز الذي نحن إياه بالنسبة إلى أنفسنا عينها من حيث نحن كائنات إنسانية. والثاني لأنه تجربة لتجاوز العادات التي تربطنا بالعالم الذي يحيط بنا، تجاوزُ عن طريقه نسلم ذاتنا لأنفسنا.

يؤكد هايدغر في الوجود والزمن على الطابع الأساسي للتناهي، ولتجربة "الوجود -من أجل- الموت" غير أنه يظهر لي مع ذلك، أنه من اللازم أن نرى فيه أثرا لبطولة جنائزية؛ لأن هايدغر عندما يوجب علينا التحمل الكامل لموتنا، فإنه لا يطلب منا أن نكون أبطالا. كما أن الأمر لا يتعلق بمشكل تجاوز الموت كما نجد ذلك في الميتافيزيقا والأديان التي تلقي بنا في الما وراء، وداخل عوالم خارج هذا العالم، وغاية ما يقوله هايدغر هو أن نعي كوننا كائنات منذورة للموت عبر صيرورتنا ما نحن إياه؛ أي أن نكون كائنات فانية. وبالنسبة إلي ليس التناهي مرتبطا ضرورة بالأسف والأسى، بل يمكن حتى أن يكون مرتبطا بحافزية وحماسة للحياة. وبالتالي، فالموت يمكن أن يكون وسيلة أكثر مما هو غاية؛ لأن وعي الموت هو وحده الذي يفتح إمكانية الوجود هنا والآن.

كيارا باستوريني: تقولين بأن الوعي بالوجود الفاني المحكوم بالموت هو خاصية إنسانية. وبالتالي، فأنت لا تضعين الإنسان والحيوان على قدم المساواة؟

فرنسواز داستور: لقد اختلفت مع دريدا بخصوص هذا الموضوع ! ذلك كان أن الميل منذ بداية الميتافيزيقا كان في اتجاه تعريف الإنسان بأنه "حيوان ناطق"؛ بمعنى أنه حيوان يمتلك شيئا إضافيا مقارنة بغيره: أي العقل. وقد تم التخلي عن هذا التحديد من طرف هايدغر، ليس بسبب كونه خاطئا، حسب ما أرى، ولكن لكونه غير كافٍ. إنه يفترض أننا نتقاسم مع الحيوانات كل شيء اللهم قدرتنا المفهومية وعقلنا. والحال أنني أعتقد أنه من اللازم أن نذهب أبعد من ذلك: إن جهة وجودنا تبقى مختلفة بالكامل عن تلك التي تخص الحيوان. فمع كائن إنساني آخر يمكنني على الدوام أن أتقاسم شيئا ما، باستقلال عن اختلافاتنا الثقافية، واختلافاتنا الحركية أو اللغوية، لكن مع الحيوان لا يسري الأمر على هذا المنوال. إنني أحبّ الحيوانات وقد عشت دائما محاطة بها. لكن عندما أكون في مواجهة كلبي، كحيوان تم تدجينه ويعيش مع النّاس، لا أكون في مواجهة غيرية مطلقة. يمكنني أن أتقاسم معه بعض الأحاسيس، لأن له مقامات وجدانية، لكن لا يمكنني أن أنفذ إليه عبر التجربة التي أمتلكها عن نفسي عينها، ولا يمكنني أن أضع نفسي مكانه.

إن الخطر الذي يطبع المناقشات الجارية اليوم حول الحيوان هي النزعة الأنتروبومورفية، بمعنى إسقاط سلوكيات وكيفيات وجود خاصة بالكائن الإنساني على الحيوان. والحال أن الفرق بيني وبين الحيوان هو اختلاف كلي، وهو ما لا يعني أن الإنسان أرقى من الحيوان وأسمى منه، بل يعني إنه آخر. لأنه يمتلك لغة، أما الحيوانات، فلها رمز. إن التركيب يفترض ضبط الزمن، مما يتيح إرجاع التعدد إلى الوحدة. وكل هذه الجوانب تنقص الحيوان، بما فيها قرد الشمبانزي الأكثر ذكاء. وفضلا عن ذلك، لا يمكننا حتى الحديث عن حيوانات عليا وأخرى دنيا؛ ذلك أن الأمبيا أو الحيوان الوحيد الخلية ليس أدنى اكتمالا من الشمبانزي في نوعه.

بالنسبة إلي الإنسان حيوان قد تحول بحكم سيرورة الأنْسَنَة le processus d’hominisation التي فصلته عن باقي الحيوانات وأفقدته طابعه الحيواني، وهو ما يبقى غير قابل للتفسير، على الرغم من نظرية التطور وعلوم الأعصاب. مما يمثل لغزا لا يمكن أن يتم حله من قبل الموقف ذي النزعة الطبيعية. ذاك هو موقفي الذي يتعارض مع موقف جاك دريدا، مؤلف كتاب: "de l’animal que donc je suis(éd Galillé, 2006)"، لأنه، حسب ما أرى، قد أساء فهم موقف هايدغر.

كيارا باستوريني: بخصوص هايدغر، ألم يزعجك التزامه لصالح النازية؟

فرنسواز داستور: أعتقد أن تجربة هايدغر النازية قد تحقق تصريفها عبر لحظتين؛ حيث رأى أولا في هتلر ثوريا قادرا على قلب مسار التاريخ، حيث نجد داخل فكر هايدغر أن القطيعة مع الخط الذي اتبعه الفلسفة والحضارة منذ الأزمنة الحديثة كانت ضرورية. فقد كان يحلم بالعودة إلى التجربة الإغريقية للفلاسفة الما قبل سقراطيين. وكان يريد التخلي عن مثال النسقية والكلية العائد إلى هيجل، والذي تبعا له، يمكننا أن نفسر كل شيء. كما أن هايدغر رأى كذلك في النازية الأداة السياسية لهذه القطيعة مع الحداثة. لكن منذ سنة 1938 باعتبارها سنة تأملاته الأولى حول التقنية، يظهر أنه قد أدرك أن النظام النازي- مثله مثل غيره من الأنظمة التوتاليتارية- يستند تحديدا إلى فكرة النسقية والكلية، بالشكل الذي يجعله يسير إذن في اتجاه الحداثة، وبأنه يثير ويهيج أسوأ عيوبها ونقائصها. فقد رأى هايدجر عن قرب كيف كان يتم استخدام التقنيات الحديثة داخل المعسكرات، وربما انطلاقا من هنا أراد إبراز خطرها. وقد تم فيما بعد انتقاد صمته عن اختياره السياسي، الذي أدنى شك خطأ، لكنني أعتقد بأنه قد شرح ذلك داخل الفلسفة. فقد رفض الإرساء الميتافزيقي للمشروع التوتاليتاري وأدان النظرة التقنوية للعالم. لكنه لم ينبس ببنت شفة بخصوص الملايين من ضحايا هذا المشروع التوتاليتاري؛ أي اليهود، ولكن أيضا الغجر والمرضى العقليين والمثليين جنسيا....

كيارا باستوريني: من بين مراكز اهتمامك نجد تحليل الدازاين أو الفينومينولوجيا الطبنفسية؛ فبماذا يرتبط الأمر تحديدا؟ هل قمت بممارسة هذا التحليل؟ وما هي ملامح العلاج عن طريق تحليل الدازاين؟

فرنسواز داستور: أنا من بين المؤسسين الأربعة للمدرسة الفرنسية لتحليل الدازاين، التي تم خلقها سنة 1993. فقد كانت حركة الفينومينولوجيا العيادية خلال الخمسينيات والستينيات تحظى بالكثير من الأتباع في فرنسا. هكذا اهتم مشيل فوكو بلودفيغ بينسفانغرLudwig Binswanger، الطبيب النفسي السويسري مؤسس تحليل الدازاين. وقد ظل هذا التيار حيا بمدينتَيْ نيس ومارسيليا، ولكن ببلجيكا إيطاليا وسويسرا وأمريكا اللاتينية كذلك. ففي السوربون، يتم تنظيم أسابيع دراسية تجمع منذ عشرين سنة المعالجين والأطباء النفسانيين والفلاسفة حول هذه الموضوعات، وهي تجري بكيفية نظرية مرفقة بمناقشات حول النصوص، وكيفية عملية مع نتائج دراسات الحالة.

كيارا باستوريني: ما الذي يجعل تحليل الدازاين مختلفا عن التحليل النفسي؟

فرنسواز داستور: التحليل النفسي تحليل للنفسية، بينما تحليل الدازاين تحليل وجودي، تحليل لوجود أو كينونة الإنسان، حيث نقوم بالكشف عن العلاقة بكل ما هو كائن. فهذا التحليل يأخذ بعين الاعتبار كلية الوجود الإنساني، دون تقسيمه إلى جزء نفسي وآخر جسدي. ويتمثل هدف تحليل الدازاين في إتاحة المجال أمام الآخر، كي يتحمل مسؤولية ذاته عينها. فليس ينبغي للمحلل أن يفرض شبكة قراءته من خلال بحثه عن المعنى الكامن والرمزي مثلما يفعل فرويد ذلك بالنسبة إلى الأحلام، بل عليه أن يترك المريض يكون فاعلا ومُؤَوِّلاً لتجربته الوجودية، وفي البيداغوجيا يتم نفس الشيء تقريبا، وقد حاولت تطبيق هذه الممارسة دون فرض مذاهب، بل عن طريق محاولة إيقاظ الأذهان كما هو عليه الحال في التوليد السقراطي. إن المريض يعيش في عالم ليس بالأعلى ولا هو بالأدنى من عالمنا، بل هو عالم مختلف، والمعالج يمكنه النفاذ والولوج إليه من خلال توسل الحوار؛ فكل شيء يتم عن طريق الكلام داخل تجربة من الاختلاط الاجتماعي، يمكن أن تتم داخل عيادة مثلما يمكن أن تتم داخل حانة، حيث يكون المعالج أكثر انخراطا في الخطر مقارنة بالتحليل النفسي الكلاسيكي. فالمعالج قبل أن يكون طبيبا هو كائن إنساني يلتقي بكائن إنساني آخر. وداخل تحليل الدازاين، ليس هناك من وجود لمذهب، كما أنه لا جود لما وراء علم النفس، بل غاية ما يوجد هي الحالات الفردية وغالبا ما تكون خطيرة جدا، تنم عن اضطرابات مثل الفصام والكآبة العميقة، والهستيريا، والعصاب الاستحواذي.

كيارا باستوريني: ما المكانة التي يحتلها بالنسبة إليك الكلام مقارنة بما هو مكتوب؟

فرنسواز داستور: باستثناء كتاب أو كتابين، فإن جميع كتبي قد نشأت من تدريسي، مُدْرَكاً بوصفه فضاء مفضلا للحوار. إن هدف تدريس الفلسفة يتمثل في طرح الأسئلة دون أن يقدم مع ذلك حلولا للغز وجودنا. فهو يفيد في إيقاظنا وليس في جعلنا نعتنق مذاهب فلسفية. لقد وصلت إلى الكتابة في فترة جد متأخرة، حوالي الأربعين سنة من عمري، من خلال توسيع دروسي التي تعلمت منها الكثير دائما عبر التبادلات مع الطلبة. وكما يقول ميرلوبونتي، الذي أكنُّ له تقديرا كبيرا، المكتوب هو تحويل للكلام (وهنا أيضا يكمن اختلاف آخر مع جاك دريدا). فعندما أقدم على الكتابة، فإن ما أبثه في الورق هو كلام حي وصوت مصحوب في الغالب بحركات وتعبيرات. والكتابة من خلال عملها على ملاشاة كل هذا، تدون الكلام، لكن الذي يقوم بقراءته يعيد بعثه واستعادته، وبالتالي فالقراءة هي إذن إعادة منح الحياة لكلام ميت، وهو ما يتم دائما بكيفية شخصية.

كما أنني أضفي قيمة أيضا على الصمت الذي ينبغي على الكلام الحقيقي أن يحافظ عليه، فكما يعلمنا فتغنشتاين هناك اللامقول؛ إذ ليس في مقدورنا أن نشرح كل شيء عن طريق الكلام، كما يريد ذلك العلم المعاصر. إن وجودنا سرّ، وعلينا أن نكون حساسين تجاه اللغز، من خلال المحافظة على الصمت. فهناك لحظات يكون من اللازم فيها إخفاء ذواتنا. لذلك من اللازم على المثقف أن يعثر على نقطة توازن بين الانسحاب وعرض ذاته عبر وسائل الإعلام، لأن الحدّين المتطرفين كلاهما يبقى مطبوعا بالخطورة. ومن جهتي، لا أعتقد أن في إمكان الفلسفة أن تصير شعبية. فأنا لست في صف الفلاسفة الحاضرين بقوة في وسائل الإعلام مثل مشيل أونفري وأندري كونت سبونفيل، مثلما أنني لست في الصف الآخر، الصف الهايدغري المتطرف، الذي ينغلق على نفسه في محراب ممتنع عن الكلام مع أي أحد. لذلك، لابد من العثور على سبيل وسط من خلال التمسك بالحذر والصرامة فيما نقوم به، وهو أمر ينطوي على قضية احترام.

كيارا باستوريني: تعتبرين من بين الفلاسفة الغربيين الذين يدرسون الحوار مع الفلسفة الشرقية، ما هي المصادر التي تنهلين منها؟

فرنسواز داستور: عندما ذهبت لمتابعة الدراسة في ألمانيا كان يستبد بي عندها الفضول للتعرف على اليابان، لأنني كنت أعلم أن هايدجر له تلاميذ وقراء يابانيين، ثم التقيت بعد ذلك بزوجي، الذي كان هنديا زرادشتيا، وهو الذي جعلني أنفتح على الزرادشتية، باعتبارها ديانة ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، على الرغم من أن أصلها يبقى من الصعب تأريخه بدقة، ما دمنا لا نتوفر على وثائق مكتوبة بهذا الخصوص، وهي ديانة على قدر كبير من الأهمية، لأن الأمر يتعلق بأخلاق، ونتشه لم يكن على خطأ عندما رأى في زرادشت الأخلاقي الأول. هكذا يكون من الواجب على معتنقي الزرادشتية ألا يكذبوا أبدا. وعليهم أن يحترموا الطبيعة، وألا يلوثوا عناصرها. لهذا السبب، كانوا يعرضون جثت موتاهم للنسور على قلاع وحصون الصمت (هذه الأخيرة لم تعد تقريبا مستعملة، لأن النسور هلكت بفعل المبيدات)؛ بهذه الكيفية لا يلوث الموتى الأرض والماء والنار والهواء. كما أن هذه الديانة تحظر التضحية بالحيوان والعلاقة الوحيدة التي يمكن أن تكون لنا بالإله هي الصلاة؛ أي علاقة كلام. وقد تم اكتشاف الزرادشتية في الغرب في القرن الثامن عشر، وهي ديانة أثرت في اليهودية والمسيحية معا. وربما يكون الأمر في حالتها مرتبطا بأول ديانة توحيدية دقيقة وصارمة، أدخلت فكرة خطية الزمن، وفكرة الإسكاتولوجيا والحكم الأخير وفكرة الجنة والنار، وقد تلاشت هذه الديانة عمليا في موطنها الأصلي؛ أي إيران والمجال الترابي الذي كانت تشمله الإمبراطورية الفارسية، والذي اعتنق الإسلام عند بدايات التاريخ الهجري، القرن الثامن الميلادي، فكان أن نزح بعض الزرادشتيين إلى الهند لأجل المحافظة على معتقداتهم.

أما فيما يرتبط بالفكر الهندي، فإنني أهتم بمفهوم darsana، "وجهة النظر"، فالهنود لا يتحدثون عن الفلسفة باعتبارها "حبا للحكمة"، بل بوصفها بالأحرى، "كيفية في النظر". كما لدي نية قراءة اللغة السانسكرتية بوتيرة أكبر (لغة تم تكلُّمُها بشكل ثابت منذ أكثر من ثلاثة الآلاف سنة، ولازالت تُنطق بنفس الكيفية التي نُطِقت بها في أول أزمنتها)، ولا سيما تلك النصوص العائدة إلى المدرسة التي تسمى بمدرسة النحويين. إن للغرب دعامتين؛ أثينا والقدس، لكن، وراءهما هناك برسيبوليس Persépolis والفكر الفيدي védique والبوذي، وهو الأمر الذي لدينا ميل شديد إلى نسيانه.


 

[1] فرنسواز داستور Françoise Dastur: فيلسوفة مترجمة فرنسية، أستاذة شرفية بالجامعات، درست بجامعات؛ باريس الأولى وباريس 12 وجامعة نيس صوفيا- أنتيبوليس متخصصة في الفينومينولوجيا، ولها العديد من الكتب التي الأكثر إضاءة وتوضيحا لعدد من المفكرين الذين يطبع التعقيد فكرهم من بينها:

- Husserl. Des mathématiques à l’histoire (PUF, 1995)

- Heidegger et la question du temps (PUF, 2011)

- Chair et langage. Essais sur Merleau-Ponty (Encre marine, nouv. éd., 2016).

[2] Françoise Dastur: “Je ne pense pas que la philosophie puisse devenir populaire”, Philosophie Magazine n° 72septembre 2013.Propos recueillis par Chiara Pastorini.

[3] كيارا باستوريني Chiara Pastorini حاصلة على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وقد تابعت دراساتها في كل من فرنسا إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، لتناقش أطروحة عن لودفيغ فيتغنشتاين بجامعة باريس الأولى - السوربون، لتُدرِّس بعد ذلك بجامعة باريس السابعة ديدرو، وقد نشرت سنة 2011 لدى دار النشر Poket كتاب بعنوان: Ludwig Wittgenstein. Une introduction، وسنة 2016 كتاب الفلسفة للأطفال: (Pourquoi je ne suis pas un griffon? Une aventure avec Platon (Les Petites Lumières Editions(كتاب الفلسفة للأطفالالسوربون وقد تابعت دراساتها في كل من فرنسا إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية) [المترجم]