فكرة التسامح في رواية "القلعة البيضاء" للكاتب الروائى التركي أورهان باموق


فئة :  مقالات

فكرة التسامح في رواية "القلعة البيضاء" للكاتب الروائى التركي أورهان باموق

لطالما كانت فكرة التسامح موضوعا أكاديميا يشتغل عليه العلماء والباحثون، وتتنادى في شأنه المؤتمرات وحلقات الدراسة، حتى ينشأ ذلك اليوم الذي تجد فيه الأطروحات طريقها نحو الواقع والممارسة؛ فالموضوع – في ذاته – نخبوي، ولكنه مع ذلك يمس العامة من الناس، وهو أيضا يخترق عموديا العلاقات بين الفئات والطبقات حتى يشيع فيها نمط من التفكير الداعي إلى القبول بالأخر والقائم على حب الخير وقهر الأنانية، ما يساعد حقا على التعايش والتفاعل.

وتنشأ ضرورة فكرة التسامح من حيز المختلف والمنفرد؛ فلا معنى للتسامح بين أصحاب الفكر الواحد أو اتباع الإيديولوجيا الواحدة. إن معنى التسامح الكبير يتولد من تلك اللحظة التي تتصادم فيها العقول والأفكار على قاعدة التعارض في مقاربة الاشياء، وفي التعاطي مع القيم بالتنازل مؤقتا عن مرجعية متعالية أو بالتحرر من إكراهات براغماتية مستحكمة، وذلك من أجل غاية كبرى، وهي تأصيل جسور من التواصل البشري تكون بديلا عن المشاحنات وعن العداء الذي – بالتأكيد – يجد فضاء له في نظام القيم وفي أبنية الأفكار والمعتقدات.

إن إنزال فكرة التسامح من علياها الفلسفي ومن مدارات السجال النخبوي إلى الفضاء الروائى، وباعتبارها معيشا يوميا بين الشخصيات المختلفة هو ما يمثل جانب الفرادة في رائعة "القلعة البيضاء" للكاتب التركي الكبير "اورهان باموق" الذي لم يكف على امتداد رواياته السابقة عن مسائلة الأفكار الكبرى والقيم البشرية بالمنظور الروائى وبتقنيات السرد وبقلم الكاتب المحترف الذي لا تعنيه السجالات النظرية ولا الخطب الحجاجية، وإنما ما يهمه هو ترصد تلك القيم الكبرى، وهي في حالة المعيش الإنسانى أو وهي متأثرة بأمزجة الناس وبضغط المصالح الطارئة في العلاقات فيما بينهم، وبحسية ومادية حقيقة الاختلاف والتنوع الديني والمذهبى، وبعشق الإنسان لذاته ولحقيقة نفوره من الآخر، خاصة في زمن الأزمات والحروب.

للخيال الروائى مساحة لا يمكن أن توفرها لا الخطابات الفلسفية ولا المناظرات الدينية ولا حتى البحث الأكاديمي الرصين الذي يتجرد من قهر الوقت ومن إلزامات اللحظة. إنها مساحة من الحرية تنجلى فيها أنماط من الصراع بين شخصيات تنشد إقامة متخيل خاص بها مع القدرة والحق الكاملين في تعليل دوافع هذا المتخيل ودوافعه، من دون أن تكون خاضعة لأحكام معيارية سابقة، ومن دون أن يأخذ الروائى أي موقف منحاز إلى أي طرف، ومع التزام قدر كبير من الموضوعية قد تغيب عن أشكال أخرى من التعبير، مثل التعبير الإعلامي والميديولوجي’ أو تحتجب وراء فنون الكلام وجمال العبارة، مثل التعبير الشعري والفني. أما في الرواية، فإن المجال مفتوح لأقوى أشكال الصراع في أكثر الفضاءات – دعنا نقول – ديمقراطية؛ فالرواية أدب ديمقراطي بامتياز.

فى روايته "القلعة البيضاء" يبدو العنوان مؤشرا عن الدولة العثمانية في عز قوتها في القرن 16، ويعمد اورهان باموق إلى أسلوب الفانتازيا التاريخية لكي يباشر مسألة التسامح، باعتبارها قضية معيشة وسلوكا يوميا فى تاريخ دولة الخلافة. لم يغب عن الروائي أن العثمانيين محاطون بأجناس وأديان مختلفة عنهم وأن هذا الخلاف يمكن أن يتأجج في أي حين، ولكنه أيضا استحضر بكل جماليات الصنعة الروائية ممكنات التعايش السلمي والأخوي العادل بين الأفراد الذين باعدت بينهم الأديان والمعتقدات، ولكنهم أدركوا ضرورة الوفاق اللذي يعلو عن كل احداثيات الصراع والفرقة، وأيقنوا بإمكانية ممارسة حيواتهم في ظل الاختلاف الذي هو قدرهم واختيارهم في ذات الوقت.

من أجل أن يبين الكاتب التركي البارز اورهان باموق مساهمة الأتراك فى خلق عقلية التعايش مع الآخر، وردت روايته كلها على لسان رجل مسيحي اقتاده الأتراك مصفدا في الأغلال بعد أن أغرق القراصنة السفينة التي كان على متنها، وكانت تتجه إلى إيطاليا؛ وبهذا المعنى، فإنه سينقل لنا تجربته التي بدأها أسيرا في أول عهده مع الأتراك، وأنهاها رجلا من كبار أعيان السلطة والخلافة، بل ومقربا إلى السلطان العثماني، وليس أي سلطان، سليمان القانوني الذي كان يحكم الأرض لخمسين سنة متتابعة.

وفي هذه الرحلة تتغير أقدار هذا الرجل ويحتك فيها بالأتراك من كل الطبقات بدءا من السجان إلى السلطان العثماني، وفي كل جزء من هذه الرحلة يتولد لدينا انطباع بأن الأتراك قد قبلوه بينهم وواحدا منهم كما هو، بدينه المسيحي، وبسحنته الافرنجية، وبشعائره الغامضة التي يمارسها. في أول صفحات الرواية أرغموه على تغيير دينه، ولكنهم افتتنوا بصلابة تمسكه بمعتقده، ومنذ تلك اللحظة أدخل هذا الرجل إلى الفضاء الإسلامي العام بمسيحيته التي لم يعد أحد يجادله فيها، وكان تعلمه للغة التركية – وهو في السجن – المدخل الثاني لولوجه لعالم الأتراك العثمانيين ثم كان لقدرته الفائقة على الكلام والحجاج وجعل الآخرين في موقع الانصات، مما أسهم في بناء جسور التواصل والتفاهم بينه وبين من كان يأسره.

تبدو العلاقات بين الشخصيات قائمة على كلمة واحدة، هي أقوى الكلمات في البرنامج السردي للراوي/البطل، وهي التي تخلق كل الممكنات والبدائل: التبادل؛ فالسارد الأسير الذي لم يسمه الكاتب كما أنه لم يسم نفسه، كان صاحب خبرة في الطب والعلم والفلك، وكان الأتراك العثمانيون باحثين عن تلك الأشياء بحثهم عن التنوير وعن التقدم الذي - فيما يبدو – مقدر له أن ياتي من الغرب ومن أوروبا. ولم يناقش اورهان باموق صحة هذه الفرضية أو مدى مشروعيتها، ولكنه كان محكوما بهاجس البحث عن الحكمة والمعرفة أيا كان مصدرها وأصلها. ولأجل ذلك، تقدم الخطاب الروائي في " القلعة البيضاء " على إيقاع حضور هذا الآخر، هذا الأسير واندماجه الكامل في الحياة التركية من دون أن يكون لدينه ولعرقه أية مشكلة. وفي البدء عينت السلطات العثمانية رجلا يرافقه في حله وترحاله، ويتعلم منه العلوم والفلك وخاصة تصنيع السلاح ثم، وبتقدم الأحداث، يأخذ هذا الأسير مكانة هذا المرافق التركي الذي كان أستاذا مقربا من الخليفة العثماني الذي أيقن المآثر التي صنعها هذا الأسير للجيش التركي الذي كان يحارب على جبهات كثيرة في وقت واحد. وفي لحظة ما آثر هذا الراوي الأسر على الحرية، فقد كان بمقدوره أن يهرب عبر البحر إلى إيطاليا، ولكن نشأت بينه وبين آسريه الأتراك ألفة ما ومحبة غامضة لا تخلومن وهج الشعر ومن سحره.

إذن، الغريب والأسير والمختلف الذي هو الآخر قد غدا مؤتلفا مع أهل البلد، ومع السلطة القائمة ومع المجتمع، وبقدر اندماجه في الحياة اليومية لدولة الخلافة تتبدد في وعيه أحاسيس الريبة والاستثناء والهامش ويتحرك في ظل مفاعيل الألفة والتقارب والتبادل. تلك هي رسالة اورهان باموق من وراء هذه الرواية، غير أن هذا الغربي الذي انحل في السلطنة العثمانية، ظل مع ذلك حاملا لنظام تفكيره عن الآخر؛ فهو لا يزال يطلق الأحكام ويفاضل بين حضارته وبين الحضارة العثمانية، ويعقد مقارنات تتجه كلها لإثبات علوية الغرب على الشرق، إذ لم يستطع التحرر من هذه العقدة الاستشراقية إلا في آخر صفحات سيرته مع الأتراك "كان اليوم التالي أمتع أيام عبوديتي"فقد أيقن أن معاشرتهم له، قد ولدت في وعيه رؤية جديدة إلى الآخر لم ينتجها هو أو يخترعها من وحي استيهاماته كما اخترع الرسامون الأوربيون صورة الشرق في لوحاتهم وأذاعوها بين الناس، وإنما نشأت من صميم عمليات التبادل الفكري والحواري واليومي غير الخاضعة للمواقف المعيارية أو للأحكام الما قبلية.

إن رواية "القلعة البيضاء" تمتاز بخاصية بنيوية تجدها عادة في الروايات ذات الأفق الفلسفي، وهي ضآلة عدد الشخصيات مقابل غنى خطابها وتمدد حركتها؛ فالشخصيات الفاعلة لا تتعدى الخمسة أو الستة، والكاتب اورهان باموق اختار أن يتخفى وراء تقنية الراوي العليم لكي يستقصي العلاقات المعقدة وغير المنمذجة بين الأسير الإيطالي، وبين الأستاذ التركي في علاقة عبد بسيد، ثم علاقة صديق بصديق أوعلاقة سيد بسيد، ثم علاقة الأفضل بالأقل منه، وتنمو هذه العلاقة تراكميا وتاريخيا، وفي أثناء هذا التطور يكف خطاب الأسير الايطالي عن تمحوره على ذاته وتتضاءل مركزيته، بعد أن يغتني بمعاني السماحة التي ألفها في تركيا حتى لكأنه من الممكن أن يقول للأستاذ التركي إنه ليس بالضرورة الأعلم منه أو الأعقل منه وإنه ليس الأنموذج المحتوم للاقتداء، وهذا يعد مخالفا للوعي الاستشراقي الغربي الذي جعل الغرب محور العالم ومدار حركة التاريخ منذ العصر اليوناني إلى عصر النهضة وصولا الى عصر الثورة الصناعية والذرية وما بعدها.

ليس من ينطق بهذا الخطاب واقعا بالضرورة في مقام الضعف أو منزلة العاجز، وإنما يؤسس لممكنات أخرى في التعايش البشري بين الأجناس والأديان؛ ولأجل ذلك لم ينعت هذا الأسير الإيطالي بالكفر إلا مرة واحدة، وفي أول الرواية، حينما ألقي عليه القبض في السفينة، ولكن فيما بعد أدرك الباشا التركي الذي حرره من الأسر أنه " من المؤكد أن الآخرين ليسوا كلهم سيئين" ص.61 وهكذا استطاع الأسير الايطالي أن يمارس دينه ومعتقده في أحد الاديرة بالجزر العثمانية من دون أن يخضع لأية مساءلة من اي نوع على نقيض ما كان يتعرض له الموريسكيون في اسبانيا على يد محاكم التفتيش في الحقبة التاريخية ذاتها. وفي هذه اللحظة يعمد الأديب التركي الكبير إلى كتابة التاريخ بمواد الرواية أو كتابة الرواية بمواد التاريخ وبحيثياته ووقائعه، فكأنما يبلغنا بأن سماحة الأتراك مع الآخر هي ممارسة على الأرض ومعيش يومي وصيرورة تاريخية واستكشاف تجريبي، وليست فلسفة نظرية أو قواعد في منهجية السلوك.

إن الالتقاء بين الشرق والغرب في هذه الرواية من خلال نموذجي الأسير الايطالى وأستاذه التركي هو في الآن ذاته التقاء بين الإيمان بالله، وبين الإيمان بالعقل على قاعدة من الخلاف الابيستيمي الذي لم يكف عن الاتساع بفعل الثورات العلمية التي أعقبت عصر النهضة الاوربي وبفعل فتوحات العقل الغربي وصراعه مع سلطة الكنيسة وتراثها الارسطي، وفي هذه الرواية، وحينما انتشر الوباء في المدينة التركية تباينت التفسيرات؛ ف "النبوءة نوع من التهريج " ص.84 فيما الوباء " كارثة لا يمكن قهرها " ص.84 ويظهر منطق آخر في التفسير يمكن ان ننعته بالمنطق الرشدي، وهو أنه " لا ينكر علاقة الله بالكارثة ولكن علاقة الله غير مباشرة " ص.84 وفي صميم هذا السجال العقائدي المطروح بهدوء وبحرفية بالغة، تنشأ براغماتية مشتركة فيما يتوارى فقه التفسير خلف هول الكارثة وجلل المصاب؛ ولاجل ذلك لم نجد في الرواية حوارية بين العقائد والأفكار الدينية كما كان الأمر في روايته " ثلوج" الصادرة سنة 2006، وإنما نجد بحثا عن مساحات السماحة والألفة بين المختلفين.

المؤكد أن الأمور لا تسير دوما بالمثاليات أو بمنطق يجافي منطق الصراع بين العقول والثقافات؛ فالسارد تستوقفه معي كبير المنجمين الأتراك " صدقي أفندي " في معالجة الوباء، باعتباره " شيطانا يجوس في المدينة " فيما كانت جهود الراوي قائمة على السيطرة الميدانية والمكانية للحد من انتشار الوباء، فثمة مقاربتان إذن، ولكن اللافت أن العثمانيين، وخاصة في هرم السلطة والمجتمع، قد تبنوا المقاربة الثانية، مقاربة الأسير الايطالي، خاصة بعد أن بدأت تتناهى إلى أسماعهم تباشير النهضة الإيطالية في أبعادها الفنية والجمالية أم في أبعادها الفكرية والابيستيمية، مما يعني أن الاتراك قد تفاعلوا وبصورة مبكرة مع التنوير الآتي من الغرب، وهذا التنوير قد حدسه الأتراك حينما لاحظوا الازدهار النوعي للعمارة والفنون والآداب في إيطاليا.

إن التقاء الشرق والغرب قد حدث روائيا على صعد مختلفة؛ ففي "موسم الهجرة الى الشمال" كان الانتقام والرغبة في الإخضاع هما المحركان اللذان يحكمان مسار الشخصية الرئيسة، فيما كانت الدهشة من الآخر هي التي تحكم الموضوع في "الحي اللاتيني ". أما لدى طه حسين في كتابه " أديب"، فالاغتراب ووالتغريب والذوبان في الآخر هي الموضوعات التي تحسم الجدل الدائر في وعي الشخصية.أما لدى اورهان باموق، فإن الندية والتبادل – باعتبارهما مسارا وحركة – هما اللذان تتأسس عليهما فلسفة العلاقة بين الأسير الايطالى والأستاذ التركي.

للتسامح إذن، سردية كبرى ف "القلعة البيضاء" وقد أدركت ذروتها على لسان الراوي الايطالي بقوله عن صديقه الأستاذ التركي: "كأن آلامه وهزائمه هي آلامي وهزائمي" ص.100، ومع تطور السردية نلاحظ أن إعطاء التسامح بعدا سياسيا أمر لا مفر منه، إضافة إلى بعده اليومي والاجتماعي المعيش؛ فقد أدرك الراوي "أن السلطان بدأ يشعر بفضول لمعرفة ما يدور في ظلمة عقولنا" ص.104 وأصبح السلطان العثماني يتحرك أكثر في اتجاه قسم التفاهم والتكامل مع هذا الأسير الايطالي الذي أدرك بدوره ذكاء السلطان وانفتاحه وإنصاته إلى غيره وإلى المختلف عنه.

في هذه اللحظة من لحظات السرد القوية تتسرب رسالة اورهان باموق إلى القراء الاتراك والاوروبيين بوجه خاص، وهي أن التاريخ العثماني مرصع بآيات الإخاء مع الشعوب الاخرى، وأن مساهمة الاتراك في إشاعة أدبيات التسامح يجب أن تكون موضوعا للاعتراف من الآخر. إن الأوربيين أساؤوا للإنسان التركي وأشاعوا عنه أخبارا غير صحيحة، بل إن ديكارت نفسه يقول إن كتابه "حديث في المنهج" موجه إلى جميع الناس والأجناس بما في ذلك الاتراك كما لو أن للأتراك حظا أقل من العقل مقارنة بالغرب أو بغيرهم من الشعوب.

ويتركز السرد في الثلث الأخير من الرواية على اندماج الأسير الايطالي في الفضاء السياسي للخلافة العثمانية، إذ يصبح الأسير الايطالي – بفضل اقتداراته الخاصة – سميرا للسلطان وصديقا ملازما له؛ فقد كف السلطان عن مساءلته عن سبب تمسكه بدينه كما أن لا أحد أرغمه على تغيير ملابسه الفلورنسية وهيئته الافرنجية مع ما نعلمه نحن بالاضطهاد الذي لقاه الموريسكيون على يد الاسبان لما آلت إليهم الأمور كما أن لا احد قد منعه من ممارسة شعائره، ولكن هذا الاندماج الوظيفي للعضو الأجنبي في الجسد الأم كان دافعا لاورهان باموق أن ينظر باعتدال وموضوعية إلى التاريخ العريق للخلافة العثمانية فهو ليس موسوما بالتسامح في كليته، والأمثلة المضادة للسماحة وللحلم لا تدخل تحت عد أو حصر، مع الأسف؛ ففي حروب الغزو والفتوحات يستخدم فعل من الأفعال يلخص لنا سياسة الاتراك مع الأعداء وهذا الفعل هو "خوزق " الذي تكرر استعماله على لسان الراوي أكثر من سبع أو ثمان مرات وفي مقامات متعددة. وغني عن البيان الحديث عن الفظاعات التي تقترن به. ولكن ما يهمنا – نحن القراء – هو نزع المثالية عن التاريخ العثماني والنظر إليه بروح نقدية وعلى علاته، وهذا لا يتاح إلا بأخذ الاعتبار بسردية الآخر عنا وقراءتها القراءة الهادئة البعيدة عن التوصيفات المعيارية وما شابهها.

إن الأمثلة عن التسامح والأمثلة المضادة عن انعدامه كثيرة، ولكن سردها بأسلوب تراكمي لا يخدم الغايات المهمة والنبيلة في إرساء أدبيات التعايش بين الافراد والأمم؛ فالمهم في نظرنا هو البحث عن البنية والنسق العام السائد، فهو الذي يساعد على شيوع الأمثلة الأولى أو الثانية. وفي كل الأحوال نرى اورهان باموق يتعالى عن أمثلة التاريخ التركي حتى وهو في أكثر لحظاته ألقا وتوهجا، وحين كانت الخلافة العثمانية تحكم العالم بأسره أو تكاد، ومع ذلك ظل هذا الروائي الفذ متعقلا في الحديث عن حضارة بلاده؛ فلسان حاله ينطوي على اعتراف بأن هناك انتهاكا لحقوق الإنسان قد حدث فعلا خاصة في زمن الحروب وفي اوروبا الوسطى وعلى مشارف بولندا وفي مناطق الهامش، حيث يسود الحكم العسكري. و يبدو لنا – نحن معشر القراء – أن تسييد روح التسامح والألفة بين المختلفين أصعب وأشق من تسييد منطق القوة والإخضاع والتعصب، وذلك لأن التسامح قوة ناعمة مدارها العقل والتفكير والتبادل فيما التعصب قوة عمياء مدارها العنف والإقصاء وسياسة الأمر الواقع، كما تضج هذه الرواية بفصول من التسامح بين البشر، تضج أيضا بفصول من العنف والشدة إزاء الآخرين حتى لكنا نتساءل هل من المعقول أن تكون تلك أخلاق الأتراك العثمانيين مع غيرهم من الشعوب والأمم؟

إن المؤكد لدينا أن اورهان باموق يسعى إلى فرض بنية التسامح في العلاقات بين الشخصيات المحورية: الأسير الايطالي والأستاذ التركي إلى درجة أنه في آخر الرواية يجعل هذا الأسير مندمجا في بيئته التركية حتى لكأنه واحد من الاتراك، بل وأصبح مدافعا عن الثقافة التركية ومتمثلا لسلوكيات الاتراك العثمانيين مع الأسرة والزوجة والأبناء ’ فهو يبدو مسلما ولكن بدون شعائر الإسلام، ومن مؤشرات هذا التفاعل الخلاق الذي يضرب المثل في نديته وتكافئه، أن أصبحت مشورة هذا الرجل تحظى بالإنصات من لدن الباب العالي في كل ما يتصل بشؤون الحكم والعلم والإدارة غير أن أهم المؤشرات جميعا هي تلك التي تتصل بالتساؤل حول الهوية، فيبدو أن اورهان باموق يرى أن الهوية ليست في "من نحن؟" بل فيما نكتسب ونمارس؛ فالافعال في ما بين البشر هي التي تحدد من هم وليس العكس، وهذا في تقديرنا يصلح أساسا لبناء نظرية براغماتية حول التسامح والهوية صاغه في آخر روايته على هذا النحو "ما أهمية أن يكون الإنسان ’ المهم هو ما يفعله؟" ص.139

إن الآخر في هذه الرواية هو الراوي العليم، وهو الإيطالي الأسير الذي بعد عشرين عاما من البقاء مع الأتراك، لم يتوان عن التعبير عن الافتتان بهم وبطبائعهم وتقديرهم، وقد بادلوه هذه العواطف السامية على الرغم من أن التاريخ مشرع لحظتئذ على الصراع والحروب، ولكن نداء المحبة والألفة والسلام كان أقوى في النفوس العاشقة لتلك القيم.

وفي آخر الرواية مقاطع سردية مؤثرة ربما من النادر أن نجد مثيلا لها في روايات أخرى، وهي أن الراوي يضع سرديته على محك النقد من قبل قراء آخرين، وتحديدا من شيخ تركي يطلب منه أن يكتب عن فلورنسا على نهج كتاب ألف ليلة وليلة، حتى يكون الافتتان أيضا متبادلا على صعيد اكتشاف المرأة الفاتنة واللذة الغامرة، مما يساعد حقا على بناء متخيل إنساني مشترك تسود فيه قيم المحبة والبهجة وتغلب فيه قصص السلام عن قصص الحرب.