فكرة الدّستور عند "جون رولز" على هامش كتاب "نظريّة العدالة عن جون رولز" للأستاذ محمّد هاشمي


فئة :  قراءات في كتب

فكرة الدّستور عند "جون رولز" على هامش كتاب "نظريّة العدالة عن جون رولز" للأستاذ محمّد هاشمي

فكرة الدّستور عند "جون رولز"

على هامش كتاب "نظريّة العدالة عن جون رولز"(*) للأستاذ محمّد هاشمي


في مُعجم مصطلحات "جون رولز" الّذي أعدّه صامويل فريمان([1])، تُعرّف "الأساسيّات الدّستوريّة وقضايا العدالة الأساسيّة" (constitutional essentials and matters of basic justice)، بأنّها: ضروب المسائل السّياسيّة الّتي ينبغي البتّ فيها وفقًا للقيم السّياسيّة للعقل العموميّ؛ حيث تتضمّن الأساسيّات الدّستوريّة أسئلة الحقوق الأساسيّة والحرّيّات، وذلك فضلًا عن السّلطات الدّستوريّة والإجراءات الحكوميّة، وتتضمّن العدالة الأساسيّة القضايا المرتبطة بتكافؤ الفرص، والحدّ الاجتماعيّ الأدنى، وكلّ القضايا الأخرى ذات العلاقة بالممارسة الفعّالة للحرّيّات الأساسيّة والفرص المنصفة([2]).

ينقلنا هذا التّعريف المليء بالكثافة إلى المشروع الفكريّ الاستثنائيّ لجون رولز (1921 - 2002م)، بمعجمه وشبكة مفاهيمه المنحوتة بكثير من الجهد والعمق والقدرة على التّركيب النّظريّ.

لذلك؛ فاستقراء دلالات حضور فكرة الدّستور ضمن المعمار المركّب لهذا المشروع، يقتضي - بالضّرورة - تمثّل العناصر والإشكالات الكبرى النّاظمة لفلسفة "رولز".

أوّلاً: "رولز" وفلسفة العدالة:

يشتغل المشروع الرّولزيّ - بالنّسبة إلى الأستاذ هاشمي - على بنيات أعمق بكثير ممّا يعتقده السّياسيّ المتمرّس بجماليّة خطاب التّعبئة، أو مقارنة بالمقاربة الاقتصاديّة الّتي تكتفي بتدبير محفظة الخيرات، فعدالة السّياسيّ لا تتجاوز أن تجعل آليّات التّدافع السّياسيّ الشّرعيّة تصبّ مزيدًا من الحجم والثّقل لصالح الجماعة الّتي يمثّلها في إطار ميزان قوى القرار السّياسيّ؛ فهو - بطبيعته - متمركز في جانب ضدّ آخر، بينما رجل الاقتصاد معنى قبل كلّ شيء بخدمة حجم الخيرات العامّة، فانشغالاته الكمّيّة تجعل رؤيته للقضايا الأخلاقيّة مسألة جانبية وعارضة، لنقل: إنّ كليهما يسعيان إلى استثمار القواعد الجاهزة بأفضل شكل، وتحدوهما "رغبة ما" في الانتصار، مادام مُنطلق السّياسيّ والاقتصاديّ يتجذّر في فكرة المواجهة([3]).

بعيدًا عن مُقاربات السّياسيّ والاقتصاديّ، في المقابل، لا يبدو "رولز" مُنشغلًا بتقديم مفهوم جديد ومُتفوّق للخير، يلزم عل الآخرين الانخراط ضمنه أو ضدّه، فذلك سيجعله يقع في ما يدعوه بالنّزعات الكماليّة الّتي تحاول أن تدفع جميع أعضاء المجتمع إلى تنميط مشاريعهم وغاياتهم الوجوديّة على نفس إيقاع ووتيرة دعوته، وهذا ما من شأنه أن يُحوّل الفلسفة السياسية إلى تنويع على الأوامر المتعالية لما يشبه "الوصايا العشر"، وهو ما لا ينسجم مع الاعتراف بحرّيّة الإنسان وعقلانيّته، ورفضه لكلّ أشكال الوصاية في الوصايا، أو التّعاليم، أو الأوامر الخارجيّة الغريبة عن الموافقة والقناعة الحرّة للأفراد، الّذين يملكون الأهليّة الأخلاقيّة المساهمة في التّداول حول كلّ مُتعلقات الشّأن العامّ، تدبيرًا وتعليلًا([4]).

في نفس الأُفق، لا تطمح فلسفة "رولز" إلى مُصاحبة الشّعارات المطلبيّة الجديدة؛ لأنّها لا تريد أن ترهن مشروعها في خدمة "الشّعور"؛ لذلك فهي تتّجه نحو بناء العدّة النّظريّة اللّازمة للعدالة الاجتماعيّة، والمبتعدة عن منطق الحساسيّات العامّة، أو التّفضيلات بالمعنى الاقتصاديّ والسّيكولوجيّ([5]).

لقد ساهمت تصوّرات "رولز" في إنجاز تحوّل نوعيّ، في النّظر الأخلاقيّ والسّياسيّ إلى مفهوم العدالة، ولم يعد بإمكان أحد اليوم، أن يقترب من مفهوم العدالة دون أن يجد في طريقه المنجز الرّاولزي المتمثّل في ربطه العدالة بالحرّيّة والإنصاف وتكافؤ الفرص، وربط المفاهيم المذكورة بالدّيمقراطيّة والإصلاح السّياسيّ الدّيمقراطيّ([6]).

فأبحاث "رولز" من أهم نصوص نظريّات العدالة في الفكر المعاصر، بحكم أنّها اتّجهت نحو تركيب نظريّة في العدالة، جمعت بين الوفاء بمكاسب نظريّة التّعاقد (لوك - روس - كانط) مع خيار فلسفيّ آخر، يفضي إلى نقد المذهب النّفعيّ المهيمن على التيارات الفكريّة في أمريكا، كما حاولت بناء منظروها للعدالة في ضوء معطيات البنية الأساسيّة للمؤسّسات؛ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة في المجتمعات الدّيمقراطيّة([7]).

لذلك؛ يذهب الكثيرون إلى اعتبار "رولز" فيلسوف اللّيبراليّة ومُنظّرها؛ الّذي طبع - أكثر من غيره - القرن العشرين([8])، وهو ما جعله يستحقّ لقب "روسو القرن العشرين".

الإشعاع الكبير لنظريّة "رولز" يعود إلى جملة من الأسباب، يمكن إيجازها في ما يأتي([9]):

- بلورة نظريّة "رولز" حول العدالة جاء في سياق خاصّ، جعل تقديم نظريّة جديدة ومتماسكة حول العدالة الاجتماعيّة يُعدّ جرأة فكريّة وفلسفيّة كبرى.

- البناء النّظريّ المحكم والمنهجيّ للأطروحة المركزيّة لرولز، رغم أنّ موضوعها له علاقة بمجال المعتقدات والقيم السّياسيّة.

- طبيعة النّظريّة الفلسفيّة القائمة على مراجعات نقديّة للتّقليد الفلسفيّ الكانطي وللمدرسة النّفعيّة، الّتي تستعمل أدوات تحليليّة مستلهمة من العلوم الاقتصاديّة.

- أهميّة موضوع العدالة الاجتماعيّة وراهنيّته.

يُركّز "رولز" على الحرّيّة، ويؤكّد "أنّه لا يمكن أن تحدّ الحريّة إلّا باسم الحرّيّة"، غير أنّها حرّيّة "حقيقيّة" لا "صوريّة"، بمعنى أنّها متوافقة مع السّمة الأساسيّة للعدالة الاجتماعيّة: حرّيّة الوصول إلى ما يسمّيه "الأصول الاجتماعيّة الأوليّة"؛ فالموضوع الأساسيّ للعدالة هو البنية الأساسية للمجتمع؛ أي كيف توزّع المؤسّسات الاجتماعيّة الكبرى الحقوق والواجبات، وتحدّد تقسيم الامتيازات من التّعاون الاجتماعيّ([10]).

ينطلق "رولز" من التّطلّع إلى مفهوم للعدالة يمكنه أن يحرز تأييد إجماع معقول يصلح أساسًا عامًّا للتّسويغ([11])، وينبثق من إرادة تعاقديّة عموميّة وعقلانيّة.

وفي سبيل ذلك يقترح "رولز" إحدى مفاتيح بنائه النّظريّ والمنهجيّ - الأكثر شهرة - ألا وهو "الوضع الأصليّ" كموقف نموذجيّ وافتراضيّ، يتحوّل فيه المتعاقدون إلى شخصيّات مثاليّة باحثة عن مبادئ العدالة، بعيدًا عن منطلق المساومة السّياسيّة والاجتماعيّة، ذلك أنّ أطراف التّعاقد لا يعرفون شيئًا عن الّذين يمثلونهم من ناحية المعتقدات والمواقع، فهم يقفون وراء "حجاب الجهل" الشهير في الأطروحة الراولزية.

يحرص الأستاذ هاشمي على التأكيد على أنّ الوضعيّة البدئيّة وحجاب الجهل، لا يرسمان ملامح تجمّع فعليّ يُناقش فيه حسب هذه الضّوابط الّتي لا تبدو واقعيّة؛ بل إنّهما - بالأحرى - تقنيّة منطقيّة خاصّة، يمكن استحضارها في سياق التّفكير في التّصوّر العموميّ للعدالة، لذلك؛ فهي ليست "حدثاً" بقدر ما هي "تقنيّة" توفّرها نظرية العدالة، لأجل اللّجوء إليها في كلّ لحظة وحين.

إنّ الحرمان القصديّ من مجموعة متعارف، يسمح للمتعاقدين بتجاوز السّقوط في عمليّة "مساومة" تنطلق من دفاع كلّ طرف عن مصلحته بشكلٍ ضيّق، وهو ما من شأنه إغراق التّداول المجتمعيّ داخل لجّة المؤثّرات اللّاعقلانيّة للنّزوعات الأنانيّة والعواطف المختلفة، بينما يمكن "حجاب الجهل" دون الوقوع في ذلك([12]).

ثانيًا: في ملامح دستور "رولز":

يحضر الدّستور في الأطروحة "الرّولزيّة"، كوعاء معياريّ ومرجعيّ لمبادئ العدالة الاجتماعيّة، وهو - قبل ذلك - يُشكّل مرحلة من مسار التّعاقد الافتراضيّ، عندما تصل الشّخصيّات الأخلاقيّة المشكّلة لأطراف التّعاقد إلى اللّحظة التّأسيسيّة/ الدّستوريّة، وهو - في الأخير - مؤسّسة مركزيّة في ديمقراطيّة "اللّيبراليّة السّياسيّة"، وفي بنائها للشّرعيّة.

النّظر في التّركيب المحكم لفلسفة "رولز" من زاوية، موقع فكرة الدستور، سواء داخل نظريّة العدالة أو في سياق مشروع الليبرالية السّياسيّة، يقتضي الوقوف على مبدأي العدالة موضوع الدّسترة المتفاوتة في الطّبيعة، تبعًا لتراتبيّة المبدأين، وإعادة بناء سياق مسلسل التأسيس الدّستوريّ في علاقة مع العودة التّدريجيّة لذاكرة المتعاقدين، والانطلاق من الخلفيّة المؤسّساتيّة لفكرة العدالة ذاتها، ثمّ التّطرّق إلى طبيعة الشّرعيّة اللّيبراليّة التّعاقديّة للأساسيّات الدّستوريّة، واستحضار التّمييز بين مفهومَي؛ الدّيمقراطيّة الدّستوريّة والدّيمقراطيّة الإجرائيّة، والتّعرّض للإطار النّاظم لدستور "رولز"، المتعلّق بديمقراطيّة امتلاك الملكيّة، مع إثارة الانتباه لفكرة الحياد العقائديّ لهذا الدّستور، كامتداد لحياد الدّولة - نفسها - في مشروع اللّيبراليّة السّياسيّة، والإشارة لتمرين اختبار الدّستور كآليّة لحماية الحرّيّات، حرية الضّمير نموذجًا، وآخرًا: الاطّلاع على الحُضور العَرَضيّ لفكرة المراجعة القضائيّة ضمن دستورانيّة "رولز".

1- مبدآ دستور "رولز": المساواة والتّفاوت:

يقترح "رولز" مبدأَين متكاملَين، هما جوهر الدّستور، يكون لأوّلهما أولوّيّة على الثّاني؛ الّذي لشقّه الأوّل أولوّيّة على شقّه الثّاني([13])، كالآتي:

أ- "لكلّ شخص الحقّ ذاته الّذي لا يمكن إلغاؤه في ترسيمه من الحرّيّات الأساسيّة المتساوية والمتّسقة مع نظام الحرّيّات للجميع ذاته".

ب- "يجب أن تحقّق ظواهر اللّامساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة شرطَين:

أوّلهما: يُفيد أنّ اللّامساواة يجب أن تتعلّق بالوظائف والمراكز المفتوحة للجميع في شروط مُساواة منصفة بالفرص.

ثانيهما: يقتضي أن تكون ظواهر اللّامساواة محقّقة مصلحة أكبر لأعضاء المجتمع الّذين هم الأقلّ مركزًا... (مبدأ الفرق)([14]).

يُحدّد "رولز" الحريّات والحقوق الأساسيّة، في حرّيّة الضّمير وحرّيّة التّفكير، والحرّيّات السّياسيّة (على سبيل المثال: حقّ التّصويت والمشاركة في السّياسة، وحقّ إنشاء الجمعيّات)، وكذا، الحقوق والحرّيّات المحدّدة بحرّيّة الشّخص الجسديّة والنّفسيّة وكرامته، وأخيرًا؛ الحقوق والحرّيّات الّتي ينظّمها حُكم القانون([15]).

تُمكّن الحرّيّات السّياسيّة المتساوية وحرّيّة التّفكير المواطنين من التّطوّر، ومن ممارسة هذه الحقوق في الحكم على عدالة البنية التّحتيّة للمجتمع وخططه الاجتماعيّة.

كما أنّ حرّيّة الضّمير وحرّيّة الاجتماع تمكّنان المواطنين من التّطوّر، ومن ممارسة قواهم الأخلاقيّة في تشكيلهم لمفاهيم الخير ومتابعتها عقليًّا (بطريقة فرديّة أو بالاشتراك مع آخرين غالبًا)([16]).

إنّ الإرادة السّياسيّة الّتي يمثّلها الدّستور حاسمة في تحقيق العدالة الاجتماعيّة، ذلك أنّ المساواة المنصفة في الفرص وظواهر التّفاوت ناقصة التّأمين في الثّقافة الدّيمقراطيّة، لذا؛ يكون التّرشيد بشأنها ضروريّ.

لكن مع ذلك، لا بدّ من التّمييز بين المبدأين على مستوى درجة التّكريس الدّستوريّ، ذلك أنّه إذا كان الدّستور مطالبًا بضمان كامل وحاسم وباتٍّ لمبدأ الحرّيّات، الّذي اتّفق شركاء العقد على عدم قابليّته للمساومة أو الاستثناءات؛ فإنّه في مواجهة مطالب المبدأ الثّاني ذات الطّبيعة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهي مطالب تثير النّقاش والأخذ والرّدّ، يُفترض التّداول من وجهة نظر المشرّع التّمثيليّ الّذي يستحضر - في الآن ذاته - معايير تصوّر العدالة والتّوجّهات الدّستوريّة، وهذا ما يستدعي ذهابًا وإيابًا مستمرًّا لهذه القوانين بين المجلس الدّستوريّ المشروط بمبدأي العدالة، وبين المجلس التّشريعيّ إلى غاية بلوغ التّوازن المطلوب([17]).

الدّستور الدّيمقراطيّ، عند "رولز"، يرسّخ إجراء سياسيًّا عادلًا بمقدار ما يُلبّي شرط مبدأ المشاركة (وهو جزء من المبدأ الأوّل)، ويكون غير كامل فيما يخصّ توفير شروط أخرى للعدالة، "يُلبّي الدّستور شروط مبادئ العدالة، ويُعدّ أفضل السّبل المفضية إلى تشريع عادل وفعّال"([18]).

لكن يبقى "مبدأ الحرّيّة المتساوية؛ المعيار الأوّل الرّئيس للدّستور، وتتمثّل شروطه في حرّيّات الفرد الأساسيّة، مع توفير الحماية لحرّيّة الوجدان والفكر، إضافة إلى ضمان كون السّيرورة السّياسيّة، بمجملها إجراءً عادلًا".

توفّر شروط العدالة الأخرى معايير تشريع عادل، وهذا يقود إلى فكرة أنّ أيّ دستور يطرح قضيّة "عدالة إجرائيّة غير كاملة"، وتتولّى مقولة العدالة كإنصاف، عبر مبادئها الجوهريّة، الأساس اللّازم لتقويم التّشريع، ويتعيّن على مؤسّسات سياسيّة أقرّها الدّستوران، تكون مصمّمة على أساس الالتفات، جزئيًّا، إلى العمل على اقتراح تشريع يقدّم الأجوبة الصّحيحة؛ حيث تكون العمليّة التّشريعيّة موجّهة صراحة - في المقام الأوّل - نحو ضمان العدالة([19]).

2- في مُسلسل صياغة دستور "رولز": الرّفع التّدريجيّ لحجاب الجهل

بعد أن يستطيع المتعاقدون الوصول إلى توافق حول مبدأي "العدالة من حيث هي إنصاف"، ينتصب أمامهم سؤال تنزيل المبدأين على المستوى الواقعيّ، والانتقال من مرحلة التّدبّر إلى مرحلة التّدبير، وهنا ينطلق التّباحث حول أفضل السّبل في التّنزيل المؤسّساتيّ لمضامين المبدأين على أرض الواقع، في سياق اجتماعيّ وتاريخيّ واقتصاديّ مُحدّد.

إنّها اللّحظة الّتي يسمّيها الأستاذ هاشمي: (التّحدّي الأمبريقيّ) لتفعيل المكاسب النّظريّة لمشروع "رولز" في جانبه المثاليّ([20])، صعوبة هذه اللّحظة تتعلّق بكون مطلب التّنزيل ليس مجرّد تطبيق آليّ لفكرة العدالة، ذلك أنّ السّياق الفعليّ للمجال السّياسيّ: هو - دائمًا - أكثر تعقيدًا من السّياق الصّوريّ والنّظريّ([21]).

لمواجهة هذا التّعقيد؛ يقترح "رولز" عمليّة انتقاليّة وتدريجيّة لاستعادة ذاكرة المتعاقدين، وللخروج من الوضعيّة الأصليّة، والتّخلّص من حجاب الجهل، وذلك كي يكون بالإمكان الحصول على شبكة من الإجراءات الّتي تمنحنا خطاطة واضحة لأجل مواجهة كلّ من الأسئلة الآتية:

- السّؤال التّأسيسيّ: المرتبط بالدّستور وبالمرجعيّة المعياريّة لاختيار مدى التّوافق بين التّشريعات والاختيارات - السّياسيّة والاقتصاديّة - وبين مبدأي العدالة.

- السّؤال الاجتماعيّ والاقتصاديّ: المرتبط بالتّشريع.

- سؤال مشروعيّة السّلطة ومقتضيات المواطنة([22]).

يتحوّل المتعاقدون - في هذه المرحلة - إلى وكلاء تُعهد إليهم مهمّة اختيار النّظام السّياسيّ والدّستوريّ المناسب، المنسجم مع مقتضيات مبدأي العدالة، وفي ضوء ذلك تُحدّد السّلطات الدّستوريّة للحكومة في توازن مع نظام عام من الحقوق الأساسيّة، وهو ما يستدعي رفعًا جزئيًّا لحجاب الجهل؛ حيث تكون عمليّة اصطفاء النّظام المُناسب قائمة على مُعطيات تُظهر خصوصيّة المجتمع، الذي يُتدَاول فيه حول مؤسّساته الدّستوريّة، وهكذا سيُسمح لهؤلاء الوكلاء بمعرفة سياق الموارد - الطّبيعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة - السّائدة، ومستوى النّمو الاقتصاديّ، وذلك مع الاستمرار في حجب معرفة وضعيّتهم داخل الرّقعة الاجتماعيّة على جميع الأصعدة؛ فالوكيل لا يزال يمارس - في هذه الوضعيّة - دور الشّخص التّمثيليّ، بالمعنى الأخلاقيّ والعقلانيّ، وليس دور السّياسيّ المدافع في مصالح الفئات الّتي يُمثلها([23]).

يُدمج "رولز" - في هذه اللّحظة - مطلب الفعاليّة مع المطالب الأصليّة المتعلّقة بالإنصاف والعدالة، معبّرًا عن خصوصيّة التّعاقد في هذه المرحلة المتأرجحة بين شروط عامّة ومنصفة، وبين مطالب جزئيّة وعمليّة؛ إذ على الوكلاء الّذين تحوّلوا إلى آباء مؤسّسين للميثاق السّياسيّ الأسمى، أن يختاروا "الدّستور الأكثر عدلًا والأكثر فعاليّة، ذلك الّذي يتوافق مع مبدأي العدالة، والّذي "حُسِبَ" جيّدًا كي يقود إلى تشريع عادل وفعّال"([24]).

يرتبط التّداول التّأسيسيّ - في هذه اللّحظة - بضرورة الانتباه إلى العمق المعياريّ للدّستور المتعلّق بمبدأي العدالة، وكذا، إلى الدّستور نفسه كسيرورة اختيار عادلة، فضلًا عن المضمون القانونيّ للتّشريعات العاديّة المُصاغة على ضوء مرجعيّة الدّستور.

لذلك يتموقع "التّعاقد التّأسيسيّ" ضمن الخطاطة الرُّباعية لبناء المتعاقد الكبير من أجل العدالة، المرتبط بالمراحل الآتية:

- المرحلة الأولى؛ حيث يتواضع الأطراف على مبادئ العدالة خلف حجاب كثيف من الجهل، يتناقض تدريجيًّا، كلّما تقدّمنا في المراحل القادمة.

- مرحلة التّعاقد التّأسيسيّ/ الدّستوريّ: الّتي يُطبّق فيها المبدأ الأوّل؛ حيث تحتلّ الحرّيّات والحقوق الأساسيّة موقع الصّدارة.

- المرحلة التّشريعيّة: الّتي تُسنّ فيها القوانين، وفقًا لما يجيزه الدّستور، وبما تتطلّبه مبادئ العدالة.

- مرحلة تطبيق القواعد من طرف الإداريّين والمواطنين، وتفسيرها من قبل القضاء([25]).

يسمح - في النّهاية - تمرين المرحلة الدّستوريّة الافتراضيّة، اختبار عدالة الدّستور، ذلك أنّ الدّستور العادل ليس سوى الدّستور المرشّح لأن يختاره– أو أحد الدّساتير القابلة لأن يختارها - مندوبو مجلس تأسيسيّ يهدفون إلى تطبيق مبادئ العدالة في ضوء الوقائع ذات العلاقة بشان مجتمعهم([26])، على أنّ عدالة الدّستور ترتبط باتّجاهين؛ الأوّل: يرتبط بعدالة السّيرورة السّياسية المُفضية إليه، والثّاني: يرتبط بعدالة الحصيلة المترتّبة على تلك السّيرورة.

تتحدّد عدالة السّيرورة السّياسيّة بحماية الحقوق والحرّيّات الواردة في المبدأ الأوّل، بينما تقوم عدالة الحصيلة عبر العودة إلى المبدأ الثّاني([27]).

3- في الخلفيّة المؤسّساتية لدستور "رولز": العدالة من الخاصّ إلى العامّ

إذا كانت فلسفة "رولز" قد قامت على نوع من التّواصل والتّصالح مع مشروع عصر الأنوار، عبر التّراجع على القراءات النّقديّة المتعدّدة لهذا الإرث، سواء في نُسخها الماركسيّة المتعدّدة أو في مظهرها النّفعيّ؛ فإنّ "جون لوك" شكّل المرجعيّة الأكثر تناسبًا مع أطروحة اللّيبراليّة السّياسيّة([28]).

في المقابل؛ نهضت نظريّة العدالة عند "رولز" من الوعي بقصور فلسفة "لوك" التّعاقديّة، المتمثّل في إغفال دور المؤسّسات في ضمان استدامة العدالة.

ذلك أنّ "لوك" اشتغل - في رؤيته للعدالة - بمقارنة تأسيسيّة قانونيّة، تنطلق من القانون المدنيّ بوصفه قانونًا خاصًّا، وفق الاصطلاح القانونيّ الدّقيق، في حين اشتغلت نظريّة "رولز" على مستوى التّأسيس للعدالة الّتي يُعبّر عنها القانون الأساسيّ أو الدّستور بوصفها: وثيقة تنصّ على تحديد كلّ ما يأتي دونها من شرعيّات، بكونها أصلًا معياريًّا للقانون العامّ([29]).

لذلك؛ فالخلفيّة المؤسّساتية لفكرة العدالة، عند "رولز" ترتبط بما يسمّيه بالبنية الأساسيّة، الّتي تشمل المؤسّسات السّياسيّة والاجتماعيّة الرّئيسة، وتتضمّن القانون السّياسيّ الأساسيّ، بما ينصّ عليه من قضاء مُستقلّ وصُور من الملكيّة المعترف بها قانونيًّا، وبنية الاقتصاد والأسرة..([30]).

بالنّسبة إلى رولز؛ ليست العدالة إنصافًا إلّا من أجل الدّيمقراطيّة - في المقام الأوّل - لأنّ مبادئ العدالة تتطلّب نظامًا سياسيًّا ديمقراطيًّا، وتلك المبادئ تؤيّد دستورًا ديمقراطيًّا، مع مجلس تشريعيّ تمثيليّ، وحقوق سياسيّة شاملة (بما فيها حرّيّة التّعبير والاجتماع والتّنظيم)، وانتخابات دوريّة منتظمة تتنافس فيها على الحكم أحزاب تطرح آراء متباينة عن الخير العامّ.

بعد ذلك، يتطلّب مبدأ الشّرعيّة اللّيبراليّ أن تُسنّ القوانين وفق دستور تكون "أساسيّاته" مقبولة لدى العقل العموميّ، يُضاف إلى ذلك؛ أنّ القوانين نفسها يجب أن تكون قابلة للتّدعيم بـ "قيم العقل العموميّ السّياسيّة"([31]).

ما معنى عقل عموميّ؟

إنّه يخصّ أنواع المبرّرات الملائمة للقرارات الحكوميّة، والخطاب والتّبرير السّياسيّين الموجَّهين إلى الجمهور.

في التّقليد الفلسفيّ للعقد الاجتماعيّ - لدى روسو وكانط - ثمة فكرة عن العقل العموميّ؛ حيث يفترض الفيلسوفان أنّ على القوانين والدّساتير - كي تكون مقبولة من الجميع - أن تكون مبرّرة لدى الجميع لأسباب يستطيعون قبولها أيضًا([32]).

على أنّ تفسير هذه الجملة الأخيرة لا يجب أن يذهب نحو إمكانيّة تبرير نفس القوانين بحجج مختلفة، حسب فئة اجتماعيّة معيّنة، ذلك أنّ فكرة العقل العموميّ تعني أنّ الجميع يجب أن يكونوا قادرين على قبول الدّستور والقوانين للأسباب نفسها.

إنّ العقل العموميّ لا يتحدّد إلّا على خلفيّة وجود مؤسّسات ديمقراطيّة، ولا يقوم إلّا على افتراض التّسامح مع سائر المواقف الدّينيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة المختلفة، وهو عقل يخاطب الأشخاص باعتبارهم مواطنين ديمقراطيّين، لا على أنّهم وكلاء اقتصاديّون أو معتنقون لدين معيّن، أو لأيّ تصوّر شامل آخر للخير؛ بل بوصفهم مواطنين، لا أقلّ ولا أكثر([33]).

4- دستور "رولز": في الشّرعيّة التّعاقديّة الأساسيّات الدّستوريّة:

بالنّسبة لرولز، تشمل الأساسيّات الدّستوريّة([34]) المبادئ الأصليّة الّتي تحدّد البنية العامّة للعمليّة السّياسيّة، وجملة حقوق المواطن والحرّيّات الأساسيّة المتساوية الّتي يتعيّن على الأكثريّات التّشريعيّة أن تحترمها.

لكنّ السّؤال الّذي يطرحه "رولز" - هنا - هو سؤال الشّرعيّة، أو بلغته: "ما المبرّر الأخلاقيّ لفرض قوانين من صنع مؤسّسات أكثريّة على أعضاء أفراد من كتلة سكانيّة مؤلّفة - افتراضيًّا - من أشخاص أحرار ومُتساوين؟" إنّه السّؤال نفسه حول: "كيف لمواطنين - في أيّ نظام ديمقراطيّ - أن يُمارسوا حرّياتهم على نحو سليم، عبر أصواتهم سلطة قسريّة بعضهم على بعض؟"

هذه الأسئلة المتناسلة ترتبط - بالنّسبة إلى رولز - بإشكاليّة أكبر: هي إمكانيّة تحقيق مشروعيّة سياسيّة في مجتمعات تعدّديّة حديثة، "بقدرة عقائد شموليّة معقولة، متناقضة بعمق على التّعايش، والإجماع على تأكيد شرعيّة أيّ نظام دستوريّ!"([35]).

جواب "رولز" ينطلق من فكرة اللّيبراليّة السّياسيّة، بوصفها تعاقدًا دستوريًّا، ومن مبدأ الشّرعيّة اللّيبراليّ؛ حيث إنّ السّلطة السّياسيّة تكون قابلة للتّبرير (لدى الآخرين بوصفهم أحرارًا ومتساوين)، حين تُمارَس طبقًا لدستور يكون مُتوقّعًا أنّ أساسيّاته متمتّعة بالتّأييد من جهة جميع المواطنين، في ضوء مبادئ ومُثل مقبولة لديهم على أنّها معقولة وعقلانيّة([36]).

5- في التّمييز بين الدّيمقراطيّة الدّستوريّة والدّيمقراطيّة الإجرائيّة:

يميّز "رولز" بين الدّيمقراطيّة الدّستوريّة، وبين الدّيمقراطيّة الإجرائيّة القائمة في كثير من الأنظمة؛ حيث ترتبط الأولى بحالة نفاذ الدّستور ورقابته الدّائمة للحرص على تأكيد مبدأي العدالة، ذلك أنّ ما يجب أن يكون عليه النّظام الدّستوريّ العادل؛ هو اتّساقه مع حقوق وحرّيّات أساسيّة ثابتة، مثل تلك الّتي يشملها المبدأ الأوّل للعدالة.

إنّ فكرة الدّستور ترتبط هنا– بغضّ النّظر عن وجود دستور مكتوب أو عرفيّ - بالتّوفّر على لائحة حقوق تُعيّن الحرّيّات، تفسّرها المحاكم القضائيّة على أنّها حدود دستوريّة مفروضة على التّشريع.

أما الثّانية (الدّيمقراطية الإجرائيّة)؛ فتحتوي - عكس ذلك - على حدود دستوريّة تضبط التّشريع، ويكون كلّ ما يصدر عن الأكثريّة قانونًا، بشرط أن تتبع الإجراءات المناسبة؛ أي مجموعة القواعد التي تحدّد ماهيّة القانون([37]).

إنّ وجود هذه الإجراءات لا يجعلها تفرض حدودًا على التّشريع؛ إذ يمكن للمجلس التّشريعيّ - على سبيل المثال - إلغاء الحقوق السّياسيّة المتساوية لجماعات معيّنة، أو تقييد حرّيّة التّفكير والكلام.

6- في الإطار النّاظم لدستور "رولز": "ديمقراطيّة امتلاك الملكيّة"([38])

يقدّم "رولز" رؤيته لما يجب أن يكون عليه النّظام اللّيبراليّ الّذي تتحقّق فيه العدالة الاجتماعيّة المثاليّة في إطار "ديمقراطيّة امتلاك الملكيّة"، بعدّها يوتوبيا واقعيّة كاشفة للزّيف الّذي تنطوي عليه إيديولوجيا النّظم القائمة، متمثّلًا في تمويهها علاقة التّحقق بين الحرّيات التي تدّعي تأكيدها، والمساواة الّتي تُمثّل أهميّتها([39]).

واقعية هذا الإطار النّاظم للمجتمع العادل، تنطلق من تعمّق فهم العلاقة الفعليّة بين قيمتي الحرّيّة والمساواة، على جانب الإمكان الواقعيّ لتحقّقهما، الأمر الّذي تنشغل بتأكيده عبر الرّقابة الحقيقيّة للدّستور العادل على التّشريع، لضمان عدم انتهاك أيّ من الحرّيّات والحقوق الأساسيّة، وبالتّوفيق بين التّوجهَين؛ الاجتماعيّ واللّيبراليّ - خاصّة - في مشكلتَي الملكيّة وإعادة توزيع الثّروة([40]).

مقابل هذه الدّيمقراطية "الرّولزية"، كيوتوبيا ممكنة، تتحوّل خطابات الأنظمة الأخرى إلى إيديولوجيّات بما تحمله من وعي زائف؛ فخطاب الحرّيّة المطلقة لمبدأ "دعه يعمل"، يُخفي حقيقة أنّ الحرّيّة تغدو - بالنّسبة إلى الفقراء - بلا معنى، كما أنّ خطاب المساواة المطلقة يُضمر حقيقة أنّ ذلك لا يمكن تحقيقه إلّا بالتّدخّل والسّلب الكاملَين للحرّيّة.

لكنّ "رولز" لا يميّز فقط بين نظام ديمقراطيّة امتلاك الملكيّة، وبين نظامَي "رأسماليّة دعه يعمل" و"اشتراكيّة الدّولة"؛ بل يحرص - أساسًا - على التّمييز بين ملامح "اليوتوبيا الممكنة" لمشروعه، وبين نماذج "دولة الرّعاية" و"الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة"، وهما النّموذجين الأكثر اقترابًا (خاصّة الأخير) من محاولة الجمع بين الحرّيّة والمساواة.

7- في الحياد العقائديّ لدستور "رولز": دستور اللّيبراليّة السّياسيّة

ينطلق "رولز" من أنّ إشاعة مبدأ الحرّيّات ودعم حرّيّة الاعتقاد والتّفكير، يقتضي من الجميع اختيار نظام سياسيّ يلزم نفسه بحماية حرّيّة أعضائه، وهو الأمر الّذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا في دولة غير مذهبيّة، لا تجعل من مهامها التّكفّل بالشّأن الدّينيّ.

لذلك؛ "ينبغي على الجمعيّة التّأسيسيّة أن تختار دستورًا يضمن أن تكون حرّيّة الاعتقاد متساوية بالنّسبة إلى الجميع، منظّمة - فقط - بأشكال استدلاليّة مقبولة من طرف الجميع"، فـإنّ "الحرّيّة لا تدار ولا تدبّر إلّا بالشّروط الضّروريّة للحرّيّات"([41]).

لكنّ هذا لا يجعل الدّولة محايدة - بشكل تامّ - تجاه الشّأن الدّينيّ؛ فهي ليست علمانيّة بالمعنى القويّ للكلمة؛ بل يحقّ لها التّدخّل لتدبير حدود العقائد الدّينيّة والفلسفيّة، كلّما بدا ذلك يمثّل خطرًا على نسق الحرّيّات العامّ داخل المجتمع، لكنّ هذا الخطر يجب أن يبرّر بمعارف مقبولة من الجميع، وليس عبر حساسيّات أو قناعات خاصّة([42]).

من جهة أخرى، ترتبط فكرة الحياد العقائديّ لدستور "رولز" بجملة من قواعد تدبير المجتمع اللّيبراليّ (فكرة المجتمع المحكم التنظيم)، نذكر منها:

- سعي اللّيبراليّة السّياسيّة إلى إدماج الاختلافات المذهبيّة والاعتراف بضرورتها؛ حيث يصبح السّؤال هو تأسيس المجتمع الديمقراطيّ الّذي يحترم قيمتي الحرّيّة والمساواة، ويحافظ على استقراره، رغم وجود اختلافات مذهبيّة عميقة تتعلّق بالمواقف الفلسفيّة والدّينيّة والأخلاقيّة للمواطنين([43]).

- التّداول السّياسيّ في القضايا الّتي تهمّ العدالة من حيث هي تصوّر عموميّ، يرتبط بتحييد العامل الثّقافيّ، كلّما تداخل مجتمع ديمقراطيّ دستوريّ، ما دامت الأرضيّة العميقة لهذا المجتمع والنّظام السّياسيّ تفرض على كلّ المذاهب الأخلاقيّة الشّموليّة تطعيم منظومتها القيميّة بالمسلّمات العامّة لهذا المجتمع، حتّى تكون قادرة على المشاركة في التّداول العموميّ([44]) (فكرة إعادة تأهيل التّصوّرات المذهبيّة).

- تتّجه السّلطات السّياسيّة إلى التّقرير في القضايا الأساسيّة الدّستوريّة والعدالة الأساسيّة المتعلّقة بالبنية الأساسيّة، انطلاقًا من قيم سياسيّة، وذلك بتحييد القيم الدّينيّة والأخلاقيّة بالمعنى المحليّ والثّقافيّ، ثمّ بعد ذلك عليها تبرير هذه الاختيارات للمواطنين، حسب منطق "العقل العموميّ"، وحين يُقبَل بهذه القرارات في إطار التّداول العموميّ، تصبح القوانين المجسّدة لها قرارات متحصّلة على الشّرعيّة السّياسيّة اللّيبراليّة([45]).

- يختلف المجتمع الدّيمقراطيّ على فكرة "الجماعة القوميّة"، إذا فهمنا هذا المصطلح من حيث تعبيره عن فكرة إقامة الوحدة الاجتماعيّة على أساس عقيدة دينيّة أو فلسفيّة أو أخلاقيّة؛ فهذه الوحدة الشّموليّة تتعارض مع الوحدة القائمة على أساس "العقل العموميّ" والمبادئ الدّيمقراطيّة الدّستوريّة الأساسيّة([46]).

- لا يعدّ الانتماء إلى مذهب عقائديّ معيَّن، متضمّنًا أيّ تفوّق على الانتماءات الأخرى، لذلك؛ ليس من المقبول اعتماد السّلطة السياسيّة وسيلة للإقناع المذهبيّ؛ إذ لا يمكن اللّجوء إلى أدوات الدّولة - الّتي هي ملك للجميع - لأجل حماية مذهب خاصّ بجزء من المجتمع([47]) (فكرة المساواة العقائدية).

إنّ الأساس - فضلًا عن ما سبق التّطرّق إليه - في حياد دستر "رولز"؛ هو فرصة التّمييز بين الليبرالية بوصفها فلسفة، واللّيبراليّة السّياسيّة؛ حيث العلاقة ليست علاقة بين العامّ والخاصّ؛ فاللّيبراليّة السّياسيّة الّتي يدافع عنها المشروع "الرّولزيّ"، تتجاوز الفلسفة اللّيبراليّة لتقف منها على مسافة تظلّ أقل من مثيلاتها، لكنّها تسمح لمن لا يعمل النّظام اللّيبراليّ على تفضيل أيّ عقيدة شموليّة في دستوره، كي يتحوّل إلى إيديولوجيا قمعيّة تفرض مذهبها، بما في ذلك اللّيبراليّة أو أي مذهب علمانيّ آخر؛ لأنّ ما تنشغل اللّيبراليّة السّياسيّة به هو الوصول بالمجتمع إلى درجة لا يعود فيها لهذه العقائد دور أساس، وهي - إن وُجدت - لأسباب: أحدها التّسامح اللّيبراليّ السّياسيّ ذاته، فإنّها تظلّ محدودة الأثر([48]).

إنّ فكرة حيادة دستور "رولز" في سياق لحظة مشروع الليبرالية السّياسيّة، تجسّد - في النّهاية - امتدادًا لفكرة مركزيّة داخل هذا المشروع، وهي - في الأساس - فكرة "حياديّة الدّولة"([49]) نفسها.

8- في اختيار حماية "دستور رولز" الحرّيّات: حرّيّة الضّمير نموذجًا:

في سياق تحليله قواعد إنضاج التّعاقد التّأسيسيّ/ الدّستوريّ وشروطه، يدعو "رولز"، محاولًا تجاوز الطّابع التّجريديّ لتركيبه النّظريّ، إلى اختيار مبدأي العدالة في تبرير حرّيّات بعينها وحمايتها، ويأخذ حرّيّة الاعتقاد نموذجًا؛ حيث لازال وكلاء المجلس الدّستوريّ، كما رأينا، تحت مقتضيات حجاب الجهل؛ فهم يعرفون أنّهم "شخصيّات أخلاقيّة"، ويمثّلون أجيالًا أخرى، جميعهم يرون أنّ لهم مصالح شخصيّة مباشرة، تتمثّل في قناعاتهم الدّينيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة، لكنّهم لا يعرفون ما هي هذه القناعات بالضّبط، كما لا يعلمون وضعهم داخل المجتمع؛ هل يمثّلون الأقليّة أم الأغلبيّة، وعليهم - في هذا السّياق - أن يقرّروا وضعيّة حرّيّة الاعتقاد/ حرّيّة الضّمير في نسق الحرّيّات العامّ([50]).

من الواضح أنّه - في وضعيّة كهذه - لن يكون هناك محيد عن اختيار الاعتراف بهذه الحرّيّة؛ لأنّه لا يوجد أحد يمكن أن يُغامر بوضعيّته الرّوحيّة، وذلك بأنّ يختار رفضه لحرّيّة الاعتقاد تحت حجاب الجهل، ثمّ بعد رفع هذا الحجاب يجد نفسه في وضعيّة الأقلّيّة، وخاضعًا لنوع من الاضطهاد الدّينيّ والعقائديّ([51]).

فضلًا عن ذلك؛ فالدّفاع عن حرّيّة الاعتقاد، لا بدّ أن يستحضر أنّ هذه الحرّيّة ليست سوى واحدة من مستتبعات مبدأ الحرّيّات الّذي تَوافَق عليه في لحظة الوضع الأصليّ، بالتّالي، فهذه الحرّيّة لا تبرّر حسب منطق الاعتقاد ذاته؛ إنّما انطلاقًا من مبدأ الحرّيّة الّذي يتضمّن بشكل ما، كون الحرّيّة الدّينيّة لا يمكنها أن تكون مبرّرة إلّا في إطار الحرّيّة للجميع؛ أي حرّيّة الاعتقاد بغضّ النّظر عن ما هو هذا الاعتقاد، بالتّالي، الحرّيّة الدّينيّة والفلسفيّة الشّاملة لجميع المذاهب والمعتقدات، وهو ما يعني؛ أنّ المتديّن - أو المتمذهب - في تمتّعه بهذه الحرّيّة الدّستوريّة، عليه أن يستحضر ولاءه نحو مبدأ الحرّيّات، ويمنحه الأولويّة على ولائه تجاه عقيدته([52]).

9- دستور "رولز" وفكرة "المراجعة القضائيّة:

لم يصل الأمر عند "رولز" لدرجة الإقرار بأنّ توفّر مقتضيات "المراجعة القضائيّة": هو واحد من الشّروط الأساسيّة المباشرة للعدالة.

لكن مع ذلك؛ فإنّه يعدّ أنّ إمكانيّة قيام القضاء المستقلّ، بتفصيل الأساسيّات الدّستوريّة في مواجهة أكثريّات تشريعيّة مشاكسة أو طائشة، تبقى ملائمة لأغراض العدالة وغاياتها([53])؛ إذ قد تتمخّض المراجعة القضائيّة عن تحسين أداء النّظام السّياسيّ على صعيد إيصال الأساسيّات الدّستوريّة، بما فيها الحرّيّات الشّخصيّة والسّياسيّة، إلى مستويات أفضل، لكن ذلك ليس كافيًا كي يبدي "رولز" حماسة خاصّة نحوها.

إنّ تقديم "المراجعة القضائيّة" - بعدّها مجرّد سمة عرضيّة للنّظام الدّستوريّ العادل - لا شكّ في أنّها ترتبط بالجدل حول الطّبيعة الدّيمقراطيّة للصّيغة القضائيّة، وتدخّلها في النّظام السّياسيّ، عندما ترتهن الأساسيّات الدّستوريّة للمواطنين بالقرار النّهائيّ لهيئة قضائيّة تتعذّر محاسبتها انتخابيًّا([54])، لذلك؛ يُعدّ "رولز" من الّذين لم يرغبوا في وجود هيئة قضائيّة مستقلّة تملي - باسم الدّستور - جميع القرارات ذات العلاقة بتنفيذ مضمون هذا الدّستور([55]).


* محمّد هاشمي "نظرية العدالة عند جون رولز: نحو تعاقد اجتماعيّ مُغاير"، دار توبقال للنّشر، البيضاء، الطّبعة الأولى، 2014م.

([1]) أستاذ كرسي لمادّتي الفلسفة والحقوق، في جامعة بنسلفاتيا، تولّى تحرير كتاب جون رولز (1999) Collected Papers.

([2]) محمّد هاشمي، "نظرية العدالة عند جون رولز: نحو تعاقد اجتماعيّ مثغاير"، دار توبقال للنّشر، ط 1، 2014م، ص 289.

([3]) محمد هاشمي، مصدر سابق، ص 16.

([4]) محمد هاشمي، مصدر سابق، ص 14.

([5]) محمد هاشمي، مصدر سابق، ص 15.

([6]) كمال عبد اللّطيف، "الثّورات العربيّة: تحديات جديدة وعارك مرتقبة"، منشورات كليّة الآداب في الرّباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 61، الطّبعة الأولى، 2013م، ص 146.

([7]) كمال عبد اللطيف، مصدر سابق، ص 144.

)[8]( Flix Heidenreich et Gary School « Introduction à la philosophie politique », traduit de l’allemend par Claire Saillour CNRS Editions, Coll « Bibls ». Paris, 2012. P121.

)[9]( R.Boudon « le juste et le vrai »: Etudes sur l’objectivité des valeurs et de la connaissance », Fayard 1995. P405-406

([10]) مراد دياني، "حرّيّة- مساواة- اندماج اجتماعيّ: نظرية العدالة في النّموذج اللّيبراليّ المستدام"، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت، ط1، 2014م، ص ص 90- 91.

([11]) جون رولز، "العدالة كإنصاف: إعادة صياغة"، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، ط 1، 2009م، ص 140.

([12]) محمد هاشمي، مصدر سابق، ص119.

([13]) محمد عثمان محمود، "العدالة الاجتماعيّة الدّستوريّة في الفكر الليبراليّ السّياسيّ المعاصر: بحث في نموذج رولز"، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت، الطّبعة الأولى، 2014م، ص 28.

([14]) جون رولز، "العدالة كإنصاف: إعادة صياغة"، مصدر سابق، ص 148.

([15]) المرجع السّابق، ص 151.

([16]) المرجع السّابق، ص 152.

([17]) محمّد هاشمي، مصدر سابق، ص 144.

([18]) جوشوا كوهن، "من أجل مجتمع ديمقراطيّ"، في "اتّجاهات معاصرة في فلسفة العدالة جون رولز نموذجًا"، تحرير: صمويل فريمان، ترجمة: فاضل جتكر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات- بيروت، 2105م، ط 1، ص 124.

([19]) المرجع السّابق، ص 125.

([20]) المرجع السّابق، ص 141.

([21]) المرجع السّابق، ص 141.

([22]) المرجع السّابق، ص 142.

([23]) المرجع السّابق، ص 143.

([24]) المرجع السّابق، ص 143.

([25]) محمد عثمان محمود، "العدالة الاجتماعيّة..."، مصدر سابق، ص ص 208- 207.

([26]) جوشوا كوهن، "من أجل مجتمع ديمقراطيّ"، مصدر سابق، ص 125.

([27]) المرجع السّابق، ص 125.

([28]) محمد هاشمي، "جون رولز والتراث الليبرالي"، دار توبقال، البيضاء، ط 1، 2015م، ص 237.

([29]) محمّد عثمان محمود، "العدالة الاجتماعيّة"، مصدر سابق، ص 139.

([30]) المرجع السّابق، ص 95.

([31]) صموئيل فريمان، "جون رولز- نظرة إجماليّة" في "اتّجاهات معاصرة في فلسفة العدالة: جون رولز نموذجًا"، تحرير: صموئيل فريمان، ترجمة: فاضل جتكر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت، 2015م، ص 66.

([32]) المرجع السّابق، ص 67.

([33]) المرجع السّابق، ص ص 67- 77.

([34]) يشمل الدّستور- حسب رولز- وفضلًا عن الأساسيّات الدّستوريّة، قضايا العدالة الأساسيّة المرتبطة بالتّكافؤ، وقضايا ممارسة الحرّيّات وتفعيل "مبدأ الفرق".

([35]) فرانك أ.ميتشلمان، "رولز عن النّزعة الدّستوريّة والقانون الدّستوريّ"، في "اتّجاهات معاصرة في فلسفة العدالة: جون رولز نموذجًا"، تحرير: صموئيل فريمان، ترجمة: فاضل جتكر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت، 2015م، ط 1، ص 482

([36]) المرجع السّابق، ص 483

([37]) جون رولز "العدالة كإنصاف..."، مرجع سابق، ص 309

([38]) اختلفت ترجمات مفهوم "Property Owming Democracy" بين عبارة "ديمقراطيّة ملكيّة الملكيّة"، كما ترجمها د. حيدر حاج إسماعيل، وبين عبارة "ديمقراطيّة امتلاك الملكيّة"، كما ترجمتها دة. ليلى الطّويل.

أمّا بعض الباحثين؛ فقد فضّلوا عبارة "ديمقراطيّة الملكيّة المقيَّدة بالقانون"، كما هو الحال بالنّسبة إلى محمّد عثمان محمود، أو "ديمقراطيّة المُلّاك الخاصّين"، بالنّسبة إلى محمّد هاشمي.

([39]) محمّد عثمان محمود، "العدالة الاجتماعيّة..."، مصدر سابق، ص 37.

([40]) المرجع السّابق، ص 260.

([41]) محمد هاشمي، "نظرّية..."، مصدر سابق، ص 149.

([42]) المرجع السّابق.

([43]) مصدر سابق، ص 207.

([44]) مصدر سابق، ص 208.

([45]) مصدر سابق، ص 209.

([46]) مصدر سابق، ص 217.

([47]) مصدر سابق، ص 224.

([48]) محمد عثمان محمود، "العدالة لاجتماعية..."، مصدر سابق، ص ص 23- 24

)[49]( Felix Heidenreich et Gary School « Introduction à la…. » op.cit, p.149.

([50]) محمّد هاشمي، "نظرية ..."، مصدر سابق، ص 147

([51]) مصدر سابق، ص 148

([52]) مصدر سابق، ص 148

([53]) فرانك ميتشلمان، "رولز عن النّزعة الدّستوريّة..."، مصدر سابق، ص 492

([54]) المصدر السّابق، ص 493.

([55]) المصدر السّابق، ص 494.