في أسئلة تحريرِ فهمِ القرآن الكريم


فئة :  قراءات في كتب

في أسئلة تحريرِ فهمِ القرآن الكريم

في أسئلة تحريرِ فهمِ القرآن الكريم([1])

مهاد لابد منه

إننا، إزاء موقف وأفق، الموقف المعرفي يتأسس على ضرورة تحرير الفهم السائد والسائر للقرآن الكريم من أغلال "الآبائية" التي ترفع شعار: "بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا" (البقرة، 170)، والأفق استشرافٌ معرفي ومنهجي شعاره "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق، 1). في ضوءِ هذين المعلمينْ، نقترحُ أن نقتربَ من الكتابِ من خلال ثلاثة أسئلةٍ مفتاحية: سؤال الرؤية؛ وسؤال المنهج؛ وسؤال الحوار؛ وهي أسئلة متجاورة متحاورة، يجيب الأول منها عن الاستفهام: ماذا؟ والثاني عن: كيف؟، والثالث عن: لماذا؟. على أن هذه المداخلَ متوالجة ومتواشجة مما يجعل التمييز بينها تمييزٌ إجرائي ليس إلا.

لنسجل بداية ملاحظتين؛ هما من قبيل التلقِّي الأولي أو قل مُسَوَّداتِ ما قبل القراءة:

أ- الملاحظة الأولى: وعلى غرار كتاب "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم...سورة البقرة أنموذجا"[2]، يكتب د. مولاي أحمد صابر، في كتابه الأخير "الوحي... دراسة تحليلية للمفردة القرآنية" بلغة سلِسةٍ منسابة؛ لكنه يختار فيه أسلوبًا يكاد يتحرر من الصرامة الأكاديمية دون التحرر من الرصانة العلمية؛ أسلوب يذهب فيه مباشرة بنوع من الوضوح إلى الأفكار بطريقة قد تصدم فريقين؛ ذاكَ الذي تعود على الحذر المنهاجي والمفاهيمي والمقدمات الإبستمولوجية في تناول مثل القضايا التي يعالجها الكتاب؛ كما تصدم ذاك الفريق الذي لم يتعود على مثل ما يتخللُ الكتابَ من خلاصات صادمةٍ لبعضِ البداهات، كالقول مثلا بتاريخية التشريع وزمنيته وتقادمِه، مقابلَ استمرار القيمة والغاية والمقصد من التشريع؛ بل وتقديم أمثلة واضحة على ذلك مثل "مسألة إرث المرأة"، أو مسألة "التشطيب"، ومنذ التمهيد، على السنَّة النبوية وإخراجها من دائرة "الوحي" كما هو متواتر ومقرّرٌ عند "أهل السنة والجماعة" وفي التقليد الإسلامي السائدِ منذ قرون. وغيرُ ذلك في الكتابِ كثير.

ب- الملاحظة الثانية، تكمن في النّفَس النقدي الذي يواكب كل صفحاتِ الكتاب، فمولاي أحمد صابر، مثلا، وهو يجدد في كل مرةٍ الدعوةَ إلى تحرير القرآن الكريم والإسلام من اعتقالهما في تدين تاريخي معين، مميزا بين الدين والتدين؛ بين إسلام الرسالة وإسلام التاريخ، فإنه يستحضر آفاتِ الأصولانية[3] الدينية التي تعتقل الدين وتختزله في جزء من تاريخه، وتهجُر معاودة النظر والاقتباس من القرآن الكريم، منتقِدا هذا الفهم الأصولاني الذي يؤسس للانغلاق والتعصب ومجافاة العلم والعقلانية، ويشرعنُ للعنف والقتل وسفك الدماء حين يقدس التاريخ باسم الدين؛ مثلما ينتقدُ، في لحظة لاحقة، أصولية أخرى هي الأصولية التاريخية التي تعتقل، من جهة ثانية، القرآن الكريم في التاريخ، تشريعا وقيمة، دينا وتدينا، حيث يصير القرآن الكريم بالنسبة إليها وثيقة تاريخية لا تتجاوز سياقها وزمانها ومحيطها الأنثربولوجي. والتصوران معا يحولان دون استجلاء الرؤية القرآنية الكونية للوجود والإنسان والعالم والمعنى والحقيقة، والتي تطلبها القراءة القرآنية الكلية التي يرومها د. صابر في مؤلَّفه.

1- سؤال الرؤية

ينطلقُ الأستاذ صابر، على هذا المستوى، من تسجيل تجزيئية التفاسير الموروثة، تلك التي تقارب القرآن الكريم بتشظية وتعضيةِ[4] آياته؛ ذلك أنها تفسِّره آيةً آيةً، وسورة سورة، دون أن تنتبهَ إلى الوحدة البنائية التي تشكل النسيج الناظم للقرآن الكريم، معتبرا أن هذه التجزيئية أفضتْ إلى إهدار الرؤية القرآنية الكلية والكونية للوجود والإنسان والعالم، وهي تجزيئية من أسبابها حسب المؤلِّف؛ أولا اعتمادُ الثقافة العربية السائدة زمن نزول الوحيِ بأحكامها وعاداتها وتقاليدها وتصوراتها ومفاهيمها لقراءة النص من أجل فهم مفردات الوحي، بدل التعرف الداخلي والنسقي على شبكة تلك المفردات ضمن نظامها الدلالي القرآني وكما تبلورها بنائيتهُ الخاصة؛ ثانيا توسيعُ مفهوم الوحي ليستوعبَ السنة بدءا من لحظة الشافعي، بحيثُ التبسَ المتعالي بالثقافي، والأفق التحريري والكوني القرآني بمحدودية التصورات السائدة في الجزيرة العربية خلال القرن السابع للميلاد؛ ثالثا اعتماد تلك التفاسير لعلوم القرآن مثل "المكي والمدني"، و"المحكم والمتشابه"، و"الناسخ والمنسوخ"، و"أسباب النزول"..؛ وهي معارف تشظِّي التعاملَ مع النص، وتنسفُ وحدتهُ البنائية الداخلية. ومن ثم تضافرت هذه الأسباب في تجزيء وتعضية القرآن الكريم، وتغليب خارجه على وحدته الداخليةِ، مما حجبَ رؤيته الخاصة للوجود والعالم والإنسان، وطمَسَ أفقهُ العلمي العقلاني، والمعرفي الإنساني، والأخلاقي الكوني، والذي يتجاوزُ معطياتِ تلك علوم القرآن السائدة ومحدداتها، مثلما يتجاوزُ أطرَ الفهم وسُلَّم القيم والتصورات اللغوية والثقافيةِ الناظمة والحاكمة للوعي العربي في الجزيرة العربية خلال القرن السابع للميلاد.

ولبيان محدودية تلك المقاربةِ التجزيئيةِ، ورحابة أفق المقاربة الكلية والداخلية للوحي، يتتبع المؤلف مفردة "الوحي" عند المتقدمين، حيث يتبين أنَّ كلمة "وحي" بما تشير إليه في اللغة من كلام وإشارة وإلقاء خفي وإلهام كانت مستعملةً بين العرب بهذه المعاني، ولم تكن قط ذات دلالة دينية، مما يعني الأفق الجديد الذي فتحه القرآن الكريم في التعامل مع مفردة الوحي نفسها، وهو ما جعلها موضوعًا للمنازعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين الرسول وأصحابه، وبين المشركين وأهل الكتاب؛ لا سيما وأن "الوحي" جاء بالصدع. ويتجاوز مدلول مفردة الصدع، كما يتتبعها المؤلف في القرآن الكريم، مجردَ الجهرِ بالدعوة بعد فترة السرية، والخروجِ إلى العلن استجابةً للأمر الإلهي: "اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر: 94)؛ بل يتخذ الصدعُ بالوحيِ في البنائية القرآنيةِ دلالةَ تفجيرِ الأنساق الثقافية والعقدية والاجتماعية المغلَقة للعرب آنئذ، والتي لم تكن تقبل بالحوارِ والجدل وإعمال العقل، وهو ما جعل المؤلِّفَ يتوسَّع في قراءة بعض معالم تاريخ الفكر بما يوضح ثنائية "الصدع / الاستهزاء"، باعتبارها من مفاتيح فهم سنن الاجتماع البشري، خصوصا وأن هذه الثنائية تفصِحُ عما جاء به الوحي من انقلاب في سُلَّم القيم، حيث "صَدَّعَ" مألوفَ مسلمات وبداهات العرب آنئذ، فأخرجهم من الأمية إلى أمة الكتاب، أي إلى أمة تملك رؤية كوسمولوجية للوجود والإنسان والعالم[5]. لكن هذا الرؤيةَ طمستها قراءةُ مفرداتِ القرآن الكريم قراءة خارجية، تجَزئ النصَّ لتطَوِّعَ مدلولاتهِ لمألوف الفهم في الثقافة السائدة آنئذٍ، بدل العمل على الاكتشاف الداخلي لما أشرقَ به القرآن من أفق. ولقد كان هذا أولَ سببٍ لإهدار تلكَ الرؤية كما أشرنا إلى ذلكَ آنفا.

ولمزيد إضاءةٍ لمفرده "الوحي" المصدوعِ بهِ، وقف المؤلف عند واحدة من أهم لحظات تطورها، وتوسعها، وهي لحظة "الشافعي" في القرن الثاني للهجرة، حيث وسَّع صاحب "الرسالة" مفهوم الوحي ليشمل "السنة"؛ وذلك لما قرأ مفردةَ "الحكمة" الواردة في جم من الآيات القرآنية مقرونة بالكتاب، قرأها بوصفها دالة على "سنة" الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن اصطلاح "السنة" لم يظهر إلا في نهاية القرن الأول للهجرة، ولمْ يكن رأي الشافعي سوى إجابة على نقاش كان ملتهبا في زمانه حول كيفية التعامل والتعاطي مع أقوال وأفعال وآثار النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا اعتبر الشافعي أن "الحكمة إذًا تم إلقاؤها في روع الرسول كما ألقي في روعه القرآن"[6]، مما ألحق السنة وحيًا ثانيا مع القرآنِ؛ وإن كان الشافعي يرى أن السنة تابعة ٌومفسرةٌ لما أُجمل في القرآن الكريم، وليست ناسخةً له[7]. على أن هذا التوسيع لمفهوم الوحي بدءا من رسالة الشافعي سيكون له أثر كبير في بناء وتحديد العقل المسلم على مدى التاريخ. وهو سببٌ ثانٍ من أسبابِ إهدارِ الرؤية الكلية القرآنية كما رأينا آنفا.

السبب الثالثُ لهذا الإهدار مواصلةُ التوسلِ اليوم بعلوم القرآن المتوارَثةِ، والتي تسهم في تشظية القرآن وتعضيتهِ. وقد كان من نتائج ذلكَ، حسب الأستاذ صابر، تغييبُ إسلام الرحمةِ والسماحة وحرية التدين والبعدِ عن الإكراه، والتبخيسُ من شأن الحوار والعقل والنقد. وها هنا أيضا سعى المؤلف إلى تتبع مفردة "الوحي" في علوم القرآن (علم أسباب النزول، علم المكي والمدني، علم الناسخ والمنسوخ، علم أصول التفسير، المحكم والمتشابه، علم القراءات...)، وهي علوم متعددة، لم يكن يرى السلف ضيرا في تعددِها ولو بلغت أنواعُها الآلاف كما هو الشأن مع أبي بكر بن العربي في كتابه "قانون التأويل"؛ وهو ما رأى المؤلف أنه "يدل على الوعي المنهجي للمتقدمين بكون المعرفة بالقرآن وبعلومه رهينة بتطور المعرفة الإنسانية، إلا أن علوم القرآن مع الأسف -يضيف المؤلف- من حيث المبنى والمعنى قد توقفت عند عتبة القرن التاسع، بل قبله بكثير"[8].

وهنا، يؤكد المؤلف أن علوم القرآن هذه ظهرت بتفاعل مع معارف عصرِها، وأنها لم تكن على عهد نزول القرآن الكريم، رغم وجود الآيات التي سوف تستند عليها بعض مباحثِ هذه العلوم مثل آيات النسخ أو المحكم والمتشابه... مما يعني، حسبه، أننا "أمام أصل وفرع من حيث جلبُ وبناء المعنى" فالأصل يتمثل في النص القرآني ولولاه لما ظهرت علوم القرآن، أما الفرع فيتمثل في علوم القرآن[9]، مشيرا أيضا إلى أن هذه المباحث سوف تعرف غنى في الآراء واختلافا في وجهات النظر وتعددا في المقاربات يدل على بشريتِها، وأنها مرتبطة بالحمولاتِ المعرفية لأصحابها بل والإيديولوجية ومقتضيات القراءة في عصورهم؛ وسوف يصف المؤلفُ بـ"الهجر المنهجي للقرآن"، التشبثَ بالفرع أي بهذه العلوم على حساب الأصل؛ أي بالقرآن الكريم، ويستند في ذلك إلى قوله تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان 30)، معتبرا أن هجرانَ هذا الهجر يقتضي "العودةَ بالتفكير والنظر من الأصل في اتجاه الفرع والواقع، حينها قد يحظى الفرع بالغربلة على ضوء الأصل"[10]، وقد نصيرُ إلى عدم الانحجاب عن الأصل بالفرع، أي عدم الانحجاب بالثقافة عن الوحي، وحينذاك سيُفْهَم الأصل تبعا لتجدد ثقافة الواقع وصيرورةِ التاريخِ، ومقتضياتِ المعيش المتطور.

ولمزيد بيان محدودية موضوعات علوم القرآن، سيقف المؤلف عند نموذج "الناسخ والمنسوخ" الذي اعتبره، استنادا إلى نصر حامد أبو زيد، أكبر مجلى لجدلية الوحي والواقع؛ لكنه انتقد صاحب "مفهوم النص" حين غيَّب ملكته النقدية في دراسة موضوع "الناسخ والمنسوخ" من داخل النص؛ أي من داخل البنائية القرآنية بدل الانطلاق من مسلَّمات الأقدمين[11]. وهو الأمر نفسُه الذي انتقده الأستاذ صابر بخصوص تعامل نصر حامد مع أسباب النزول كمسَلَّمة غير قابلة للنقاش[12]، حيث كرس أبو زيد، من خلال هذه المسلّمة، المرورَ من الفرع إلى الأصل، مما فوَّت عليه نقدَ علوم القرآن وتفكيكها في ضوء النص القرآني نفسِه[13]. ومن ثم يخلص د.صابر إلى أن "ما أثاره أبو زيد لا يرتقي إلى القراءة التأويلية والفهم المعاصر لما يكتنزه الأصلُ من دلالات ومعان وتصورات تجاه العالم والإنسان والوجود"[14].

وهنا، وكيما يجمع المؤلفُ، في مقاربةِ "الناسخ والمنسوخ"، بين الموقف والأفق، أو بين النقد وتقديم قراءة أخرى من داخل النسق القرآني، راح يفحصُ مفهوم "النسخ" كما يراه الأقدمون، بدءا من حضور النسخ في القرآن الكريم بدلالات الإزالة والتحويل والتثبيت والنقل، وصولا إلى اختلاف العلماء بين الغلبة الذين يثبتون النسخ في القرآن وقلةٍ ممن ينفونهُ، وهو ما كانت "له تبعات منهجية كبيرة جدا" حسب عبارة المؤلف[15].

هكذا، تطرق الأستاذ صابر لاختلاف العلماء حول نسخ السنة للكتاب، وعرج على غيرها من قضايا النسخِ كما تناولها القدماء، قبل أن يأتي إلى بيت قصيده وهو اختبارُ أفقهِ، وتتبعُ مفرده "النسخ" تبعا لآيات القرآن الكريم. وقد وقف خصوصا عند الآيات المشْكِلَة، والتي يستند إليها القائلون بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة، 160). ولمعرفة دلالة النسخ المتعلق بالآية في قوله تعالى: "ما ننسخ من آية"، راح يتتبع أولا مفردة "الآية" في القرآن الكريم، حيث ألفاها تشيرُ إلى "البرهان والدليل والحجة القاطعة على ما جاء به الأنبياء والرسل"[16].

و"الآية" هي العلامة التي تتجاوز بدلالاتها ذاتَها، إنها أيضا الحجة والبينة والمعجزة. على أن الآيات صنفان: آيات متلوة ومقروءة لفظا وحروفا، ومنها ما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن، والصنف الثاني آياتُ مبصرَة محسوسة ومشهورة في سنن الله في خلقه[17]، وهو ما تشير إليه نعوتٌ أخرى حين تميز بين الآيات المسطورة والآيات المنظورة، أو بين آيات التدوين وآيات التكوين. وقد انتقلت الرسائل السماوية في تاريخها من خرق السنن من خلال الآيات والمعجزات الحسية والمادية التي أعطيَها الأنبياء، إلى ختم تلك الرسائل بما هو أفضل من ذلك، وهو الاستغناء الكلي عن ذلكَ بآيةِ الكلمة، آية استنفارِ العقل المتسائل لاستنطاق آيات الله تعالى المبثوثة في الخلق، آياتِ اللهِ في الآفاقِ والأنفس. والقرآن، بهذا الاعتبار، هو آية مفتوحة نحو الدفع الدائم لاستنطاق عجائب الخلقِ الكامنةِ في سننِ الأكوان؛ وذلك للاستبصار العلمي والإيماني لهذه الآيات الدالة على وحدانيةِ الله وعظمةِ خلقهِ[18]. قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت، 53).

على أن من مظاهر رحموتية الله بالبشرية بعد البعثة الخاتمة، أن توقفت المعجزاتُ الحسية لأن من سنن اللهِ في الأرضِ أن تكذيبَها يوجب تعجيل العذاب في الدنيا، قال تعالى: )وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ((الإسراء 59)، والأولون الذين كذبوا بالآياتِ الحسيةِ نالهم العذاب في الدنيا، كما تبسط ذلك قصصُهم في القرآن الكريم؛ فيما نزلت مع رفعِ تلك الآياتِ الحسيةِ، رحمةُ فتحِ باب التوبة، وتأجيلِ الحسابِ إلى الآجلة والآخرة، قال تعالى: "وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" (سورة النحل، الآية 26)[19]. من هنا، كانت التحدي القرآني بآيةِ الكلمة لا بغيرها، نقرأ في سورةِ الإسراء: )قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا( (سورة الإسراء، الآية 88).

ما يلزم الاحتفاظ به مما سبق، هو أن "الآية" في القرآن الكريم قد تكون معجزة حسيةً، وقد تكون كلمةً إلهيةً، وبناء على ذلك، سيتتبع المؤلفُ دلالة مفردة "النسخ" ضمن البنائية القرآنية ليقرأ قوله تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" (سورة البقرة، الآية 160). وقد خلصَ في فحصهِ إلى أن "النسخ" في الآية المذكورة يفيدُ الإبقاء والنقل والتسجيل، مبينا خطأ المتقدمينَ حين فهموها بمعنى "إلغاء"، منطلقين في ذلك من قوله سبحانه: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (سورة الحج، الآية52). يكتب المؤلّف: "فالأمر هنا لا يتعلق على الإطلاق بكون الشيطان ألقى بأقوال في صدر الرسول لتختلط مع ما أوحى الله إليه به، ليتدخل الله جل وعلا، ويزيلَ ما ألقى به الشيطان ليُحْكِم آياته من جديد، وهذا فهمٌ من الخطأ الموروث، فيه إعلاء للعقل الشيطاني على حساب الفعل الرحماني، كما أن الروح هي قناة التواصل بالوحي بين الله ورسله، والروح من الله ولا قبل للشيطان بها"[20]. وقد انتهى الأستاذ صابر، إلى أن مفردةَ "النسخِ" في الآيةِ التي يُؤسَّسُ عليها علم "الناسخ والمنسوخِ" تفيدُ الإثبات والنقل والتدوين والإبقاء، وأن "الآيةَ" فيها لا تتعلق بالعلاقات بين الآيات الملفوظة، أي بما هي وحدات لغوية صغرى داخل المتن القرآني، بل تتعلق بالعلاقة بين الرسائل السماوية فيما بينها. وهو ما كان قد فصل فيه د. صابر ضمن مؤلفه الأول "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم...سورة البقرة أنموذجا". ولتعضيدِ رأيهِ بخصوص إبطالِ القول بالنسخِ، يقدمُ المؤلف مرافعة علمية يبطلُ فيها مسألةَ تحويلَ القبلةِ، باعتبار ذلك معدودا من أول النسخِ لدى القدماءِ.[21]

وفي نفسِ الأفقِ، تبيانًا لمحدوديةِ علوم القرآن، ودورها في إهدار الرؤية الكلية القرآنية، انتقل المؤلف لتناول علم أسباب النزول، فأبرز في البداية أقوال القدماء في أهمية هذا العلم لفهم معاني آي القرآن، ووقف عند أقسام وأضرُبِ أسباب النزول ومسائله، ليطرح عليه جملة من الأسئلة الإشكالية، مؤكدا أن "القول بسبب نزول الآيات القرآنية ظهر بعد اكتمال نزول النص القرآني، نتيجة أسباب ودواع منها ما هو ثقافي وما هو إيديولوجي وما هو معرفي"[22]؛ موضحا أن معدل أسباب نزول الآيات القرآنية حسب ما وصلنا لا يتجاوز في مجمله 14% (أي بعدد محدود من الآيات)[23]، مما يعني أنه لا يجوز اعتماد مادةٍ مفقودة أو ناقصة؛ فضلا عن نسبيةِ ما هو موجود منها. ثم إن اعتماد هذه الأسباب وترتيبَ النزول حسبها يُهدّد، حسب المؤلف، وحدة البنية القرآنية. وهذا ما جعله ينتقد تفسير محمد عابد الجابري الذي اعتمد ترتيب النزول قائلا: "التوسل في فهم القرآن بحسب ترتيب النزول أخذ المؤلف إلى فهم القرآن من خلال أحداث ووقائع السيرة النبوية، أي فهم ما هو مطلق وكوني وعالمي من خلال ما هو نسبي وزمني، وهذا يكرس الفهم التراثي للقرآن، ويزيد من توسيع دائرة آليات علوم القرآن القديمة، ولا يقدم الدرس القرآني المعاصر..."[24]. ولنا في انتقاد مولاي أحمد صابر للجابري رأي سنعود لهُ عند معالجةِ سؤال المنهج.

وإجمالا، وبعيدا عن كل دعوى إحاطة بالتفاصيل الواسعة في الكتاب، فإن تتبع المؤلِّفِ لأسبابِ إهدار الرؤية الكليةِ القرآنية، أكَّدت تضافر َثلاثة عوامل في إنتاجِ التجزيئية التي كانت وراء هذا الإهدار، تغليبُ ثقافة محيطِ النص على بنائيته وهويته الداخلية، وتوسيعُ مفهوم الوحي مع الشافعي ليستوعبَ إلى جانب القرآن السنةَ النبوية، ثم طبيعةُ العلوم والمعارف التي تمت مقاربةُ النص القرآني من خلالها، والتي أضحت حاجبةً للنص ولخصائصهِ البنيويةِ المخصوصة، مثلما أسهمت في تشظيته وتعضيته، كما هو الشأن مع علمي "الناسخ والمنسوخ" و"أسبابِ النزول"، والذي كشفَ المؤلفُ أنهُما يفتقرانِ إلى ما يؤسس شرعيتَهما من داخل النص؛ وذلك حين نَتوسل بمنهاج القراءة الداخلية للمفردات القرآنية، ونحاولُ استخلاصَ الرؤية القرآنية الكليةِ من نسق شبكته المعجميةِ وبنائيتها الدلالية. هذا المنهاج الذي قدم المؤلفُ نماذجَ لامعةً في تشغيله، حين تناول بالدراسة والتحليل قضايا مثل "الوحي والطبيعةِ والإنسان" أو "الوحي والعلم" أو "الوحي والأخلاق". وهنا نأتي إلى السؤال الثاني الذي نتخذه مدخلا ثانيا للاقتراب من مؤلفِ د.صابر، أعني سؤالَ المنهج.

2- سؤال المنهج

على عتبة هذا المدخل، تثارُ الاستفهاماتُ التالية: كيف يمكن تبني هذه القراءة البنائية النسقية لمفردات النص دون إلغاء التاريخ والسياقِ الأنثربولوجي الحاضن للنص؟ ألا يؤدي ذلك الانغلاقُ على هذه البنائيةِ إلى عزل النص عن التاريخ والثقافة واللغة وسائر الأطر التي تَبلورَ من داخلها النصُّ وخرج من رحمها؟ ثم حين تطلب هذه القراءة الإعراض عن المعارف القديمة لأن التاريخ المعرفي قد تجاوزها، فإنها تطرحُ بقوة سؤال التعامل مع هذه المعارف؛ إذ بأي معنى يجب فهم التجاوز في هذا السياق؟ وكيفَ السبيلُ لتفكيك هذه المعارف وتحديثِ آليات قراءة القرآن الكريم استنادا إلى المناهج المعاصرة؟ ألا يطرح ذلك إشكالات جمة على المستوى المنهجي والإبستمولوجي؟ إشكالات تتعلقُ بحجم هذا الموروث المعرفي وتشعب أبعاده اللغوية والحديثية والأصوليةِ (نسبة إلى أصول الفقه) والكلامية والصوفية والفلسفية، وأخرى تتعلق بضرورة ممارسة نقد إبستمولوجي يخص تلك المناهج الحديثة التي نشأت في نسق معرفي وثقافي وانطلاقا من خلفيات فلسفية وإبستمولوجية تحتاج بدورها لتعامل نقدي قبل الإفادة منها في الاقتراب من نص له الاستثناءُ مصدرًا ولغةً وتاريخًا وتلقيا وأفقًا؛ نصٍّ يجمعُ بين التعالي والتاريخ، بين المفارق والمحايث، بين القداسةِ والثقافة، بين اللامرئي والمرئي، بين الروحاني والاجتماعي، بين الأنطولوجي والأخلاقي، بين الانكتاب بلغةٍ بشريةٍ نسبية تاريخية والإشراقِ بأفقٍ نسكي شعائري ميتافيزيقي....؛ نصٍّ كانَ منبعَ حضارةٍ أغنت الحضارة الإنسانية في العلوم والآداب والفلسفة والأخلاق والفنون والعمران، مثلما تعرضَ لاختطافٍ قاسٍ، فعُطِّلَ باسمهِ العقلُ، ومورسَ باسمه الاستبدادُ، وسُفكتْ باسمه الآمالُ والدماءُ.

إن الأستاذ صابر، وعلى طول الكتاب، يُشْعركَ بالوعي المنهجي بهذه الإشكالات والقضايا، والتي تلخصها إشكاليةُ "التعامل مع التراث". لذلك، نجدهُ يدخل في نقاش منهجي يستحضرُ فيه بعض المشاريع الكبرى في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، والتي حاولت الإجابة عن هذه الإشكالية. هكذا عرض في عُجَالة لأعمال المفكرين حسين مروة والجابري وطه عبد الرحمن ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. ورأى أنهم جميعا، مع اختلافِ زوايا نظرهم، يتفقون في مسألة ضرورة تفكيك وتحليل ونقد التراث، وهو ما يعُدُّه أمرا رئيسا قبل أية إعادة تركيب أو بناء فهم جديد لهذا التراث[25].

ونسجّل هنا، أن مولاي أحمد صابر لا يُدرجُ القرآن ضمن مفهوم التراث، فهو يميِّز على غرار أركون، بين الحدث القرآني والحدث الإسلامي، ويعتبر هذا الأخيرَ، وما يندرجُ فيهِ من مدونات تفسيرية وفقهية ومعارف شرعية تشكلت حول النص، أي كل تلك النصوص الحافة المشكلة حول القرآن؛ يعتبرُ الحدثَ الإسلامي قد طمسَ لحظة القرآن وحجبَ النص، لذا لابد من اختراقِ هذه الطبقات للتواصل مع القرآن في طراوته ووهجه ولحظة انبثاقه الأولى، مؤكدا على أهمية التفكيك والنقد والتحليل كخطوة رئيسة نحو إعادة البناء والتركيب[26].

من هنا انتقاد المؤلف للمرحوم الجابري، والذي أشرنا إليه آنفا؛ حيث يعتبرُ أن ما قام به الجابري هو "قراءة في التراث المتعلق بعلوم القرآن والتفسير، بدل أن يكون دراسة في فهم مكنون القرآن وفلسفته عن الكون والإنسان والوجود"[27]، بمعنى أنهُ ظل أسيرَ هذا التراث ولم يسهم في تفكيكه ونقده، وهو ما نتفق فيه مع المؤلف، لكننا لا نعتقد أن استخلاص تلكَ الفلسفة القرآنية وذاك الفهم يمر عبرَ إلغاء التاريخ، ونسيان كل ما جاءت بهِ علوم القرآن أو احتفظت به السيرة النبوية من أحداث ووقائع. فالمطلوبُ هو القيام بنقد تاريخي لهذه العلوم لبيان حدودها الإبستمولوجية من أجل تجاوزها نحو المعارف والمناهج الحديثة، فمعارف اليوم ليست هي معارف الأمس، لكن كلمة "تجاوز" معارف الأمس تقتضي الاستيعاب من أجل التحرر من التاريخي في هذه المعارف، وتستلزم الاقتراب النقدي والتجديد من الداخل من أجل إعادة الامتلاك في السياق المعاصر.

ثم إن ما هو مطلق وكوني وعالمي في القرآن الكريم لا يمكن التقاطه إلا بالالتفات إلى تجليه وكيفية انبثاقهِ في التاريخي والنسبي والثقافي الخصوصي. فالقرآن وكما يؤكد المؤلف على طول الكتاب أنه لم ينزل في فراغ. لذلك، لابد من الانفتاح على المعارف التي تعمق من إدراك جدلية التعالي والصيرورة في نص وحياني نزل في التاريخ، وصاغ فلسفته الكونية من التفاعل مع التاريخ مثل القرآن الكريم.

إن للنص أبعادا تاريخية يستمدها من كونه نزل في التاريخ وفَعَل في التاريخ وارتسمت معالم التاريخ في نسيجه النصي، مثلما له أبعادٌ متعاليةٌ يستمدها من بعده المتعالي والقيمي الكوني، وهي التي يرسخها التلقي الروحاني والتنسكي الشعائري، هذا التلقي الذي يُسهِمُ في تحقيقِ وحدة النص البنائية، والتي قد تضيع في القراءة التجزيئية والتاريخية للنص[28]. وهو ما يعني، على صعيدِ الوعي المنهاجي، ضرورةَ اجتراح منهاج يخرجنا من مأزقين اثنين: مأزقِ القراءة الانغلاقية على النص، لأنها تفضي إلى مغالطات حين تغيب التاريخ الحاضرة آثارُه في النص؛ ومأزقِ القراءة التاريخية التي تريدُ اعتقال النص في وقائع وأحداث وتصورات تاريخية تعصف بالأفق الكوني الذي شكل روح النص وسدى تعاليه. ها هنا تأتي أهمية المقاربة التأويلية التي تحترم التاريخ ولا تنسجِنُ به، وتطلب الأفق الكوني والمتعالي في النص من خلال التعامل مع التاريخ لا بإلغائه. فلا لتحطيم بنية النص وانسجامه البنائي، ولا لإلغاء التاريخ باعتباره السياق الذي تولدت منه مكونات تلك البنية وتخلقت من رحمها[29].

أما الاقتصارُ على النص وحدهُ لاستنطاق سياقه التاريخي، فهذه مغامرة غير مضمونة العواقب، بدلَها نرى تطوير مقاربة تراعي الخصوصيات البنيوية والدلالية والتاريخية والحضارية لنص مقدس مثل النصّ القرآني؛ فلابد من مقاربة منهجيةٍ تعي جدلية الداخل والخارج في التعامل مع النص. وإذا كان ينبغي اعتماد القرآن الكريم لفهم السيرة النبوية لا العكس كما ذهب إلى ذلك هشام جعيط، فإننا نرى أن العلاقة بينهما جدلية، وأنه لابد من تعميق الأبحاث الأركيولوجية والأنثربولوجية والتاريخية واللسانية والفلسفية لإعادة فهم هذه العلاقة بما يحفظ للنص القرآني أبعادَهُ التاريخية والمتعالية، السياقية والكونية، اللغوية والروحانية على حدٍّ سواء.

على أن ثنائية "داخل وخارج النص" نَفْسَها تثير إشكالا أوليا، مفادهُ أن القراءة أصلا، كفعل تأويلي منتِج، ومهما كانت ملتصقة بالنصِّ لابد وأن تعيَ ذاتها كحوار معه؛ من حيث هي تفاعلٌ بين ثقافة وسياق ومنهاج وأسئلة القارئ، وبين ثقافة وعوالمِ و"شخصية" النص اللغوية والمعرفية، وهو ما يعني أن إنجاز قراءة داخلية للنص تقتضي إعادة بناءِ السياق الذي تخلقَ النص في رحمه، وهو إن كان يبدو من جهة منتميا إلى خارج النص، من لدن المقاربة البنيوية المغلَقة، فهو ينتمي إلى جهة النص من منظورِ القراءة السياقية، والتي تقابلُ بينَ سياقِ النص في كليتِه داخلاً وخارجًا، وبين السياق المختلف لقارئ هذا النص في الزمن المعاصر. بعبارة أوضح قد يكون الإطار التاريخي والثقافي والأنثروبولوجي للنص مُسْعفا بوصفهِ مداخلَ ومفاتيح لداخل النص، مادام القارئُ اليومَ ينطلق من سياقه التاريخي والثقافي والأنثروبولوجي المغاير جذريا لسياق تنزيل النص؛ سيما وأننا إزاء نصٍّ كان في البدء خطابا شفاهيا، ونزل منجما وتشكل على مراحل طوالَ ثلاث وعشرين سنة، وتفاعل في ذينك التنجيمِ والتشكُّل مع تاريخه وسياقه، فهو في يحملُ في بنائه الداخلي أسئلةَ أهل زمانه، ويتفاعل مع أسماء تاريخية ارتسمت دوالها على آياته في سياقه (زيد، أبو لهب...)، ويراعي المعطيات الأنثربولوجية لزمانه، فقد قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (سورة إبراهيم، الآية 4). واللسان، كما تبين لنا الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة لعلاقة اللغة بالفكر، يستوعبُ الفكرَ والخيال والذاكرة والوجدان ومستويات الإدراك وسقف المعرفة لدى أهل ذاك اللسان. والوحي يراعي كل هذه الأبعاد؛ إذ بقدر كونيته وتعاليه كان يطلب هاتين الكونية والتعالي من داخل سياق المتلقي التاريخي الأول، لذا كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذب الله ورسوله"[30].

وبإجمال، فإن معرفة مكونات السياق الخاص بتنزيل النص وأحوالِ مخاطبيه الأوائل شرطٌ في الدخول إلى بنائية النص، وشرطٌ في الوصل معه، قبل محاولة امتلاك النص في سياقنا المعاصر. وإعادة الامتلاك هاته لا تعني شيئا آخر سوى محاولةِ جعله عنصرا من "داخل سياقنا"، وهذا معنى "أن نقرأ القرآن وكأنه علينا أنزل". لأجل ذلك كان فضل الرحمن، قد اقترح للإجابة عن هذه المسألة منهجًا أطلق عليه اسم "هيرمونيطيقا الحركة المزدوجة" أو "التأويلة ذات الحركة المزدوجة"، وهي "حركة تراوح بين السياق التاريخي للوحي والسياق الخاص بالقارئ"[31]. على أن استدعاء هذا المنهاج وإفادته من أسباب النزول هو استدعاء منهاجي ولا يعني ذلك أبدا تبني فضل الرحمن لأي مقاربة تجزيئية للخطاب القرآني، بقدر ما يعتبر ذلك إجراء منهاجيا على طريق صياغة قراءة كلية تطلب تحديد المقاصد الأخلاقية والروحية والاجتماعية والاقتصادية التي يطلبها النص. و"ذلك يعني أنه، ونحن ننطلق من دراسة الفترة القرآنية، يجب التوصل إلى إبراز المنحى الكوني الذي برَّر هذا الجزء من التنزيل، وبصفة أعم إبرازُ ما يبرزُ الرسالة المحمدية في السياق الخاص بالإنسان العربي، ذلك هو المقصد الكوني الذي سيمكِّنُ بعد ذلك من تدبر كونية الخطاب القرآني"[32].

إن هذا السؤال المنهاجي، كان يشتغلُ ظاهرا وضامرا، في مختلفِ فصولِ الكتابِ ومباحثهِ، ومن زاوية هذه الإشارات المنهاجية يمكن مناقشة الكثيرِ من الأفكار النفيسة التي وردت في الكتاب، سواء في علاقة الوحي بالثقافةِ وتحديدا باللغةِ العربيةِ، والاستضاءة بالشعر في التفسير، أو في علاقةِ الوحيِ بالرسول. فبخصوص علاقة الوحي باللغةِ العربية، يؤكد مولاي أحمد صابر أن ثمةً اختلافا في حضورِ اللغة العربية ومفرداتها في القرآنية عن حضورها في الشعر العربي آنئذٍ، وإن كان القرآن قد نزل بلسان عربي مبين، وأنه راح يعطي حياةً جديدةً لكثيرٍ من المفردات ضمن نظامه الدلالي الخاص والمفارق للنظام الدلالي الذي كانت تُستعملُ فيه المفرداتُ عند العرب آنئذ، وخصوصا في ذروة شكلهم التعبيري أي الشعر بما هو ديوان العرب[33]. وهو ما جعل المؤلف يعتبر اختزالَ فهم اللغة القرآنية في مألوف لغة العرب وعاداتهم في الاستعمال، نوعا من اعتقال القارئ في التصور الثقافي العربي السائد في القرن السابع للميلاد، في حين أن التصور القرآني لم يأت خصيصا للعرب، بل جاءَ لأم القرى ومن حولها، وللناس كافة؛ إنه خطاب كوني وعالمي أرسل للعالمين من رب العالمين بواسطة رحمة العالمين، وحصره في فهم العرب وعاداتهم وأعرافهم وتصوراتهم في القرن السابع للميلاد يُعَدّ "جناية على القرآن" حسبَ المؤلف[34]. وقد قدم نماذجَ أمثلةً تطبيقيةً تضيء أطروحته هاته (مثل مفردات "المس"، "عوج"، "الحجاب"، "الخمار"، "راعنا"...).

أما بخصوص علاقة الوحي بالرسول، فقد انتقد الصورة اللاتاريخية التي تشكلت عن النبي الأمين، وطرح مسألة تجربته الروحية الجوانية التي لانعرف عنها الكثير، والتي تبلغ ذروتها حسب المؤلف في "شرح صدره"، والنبي في نظر مولاي أحمد صابر، وكما يقدمهُ الوحي، بشر ياكل الطعام ويمشي في الأسواق، وغير مهتم بالتفاصيل الحياتية بقدر ما تشغله الكلياتُ الوجودية وإصلاح الإنسان، وأنه لا يعلم الغيبَ إلا عن طريقِ الوحيِ الذي ما فتئ يوجهه في الكثير من القضايا والمواقف. مما يعني نزعَ كلِّ أسطرةٍ عن النبي الكريم، وردِّهِ إلى بشريتهِ التي تجعل وعيه المعرفي، بما هو بشر، أقل بكثير مما عليه وعينا المعاصر. يكتب "فمحمد صلى الله عليه وسلم لا يملك الدليل العلمي على ما جاء في القرآن: (تحدث القرآن عن الشمس والقمر والنجوم والكواكب... وغير ذلك). ونحن نملك الكثير من الأدلة العلمية على ذلك، وبهذا نحن أمام خلق/ الطبيعة تحكمه قوانين السيرورة والتطور، وإنسان تحكمه قوانين السيرورة في الوعي والإدراك، ووحي اكتمل مع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نبي ولا رسول بعد محمد عليه السلام، ولا كتاب بعد القرآن الكريم"[35].

ليس من غرضنا هنا، أن نناقش النموذجين انطلاقا من الإشكال المنهجي الذي رصدناه آنفا، إلا أننا نسجِّلُ إجرائية الأمثلة التي قدمها د. صابر على أطروحته، مثلما نذكرُ بضرورة الحذر من الذهابِ إلى إلغاءِ التاريخ، فالقرآن اجترح نظامه الدلالي من التفاعل الجدلي مع لغة العرب في القرن السابع، واستخلص كونيتهُ من السياق العربي الخاص، وهذا وجه إعجازه في نظرنا. مثلما نرى بخصوص علاقة الوحي بالرسول، أنه يستحيلُ فصلُ البعدِ البشري عن البُعدِ النبوي في شخصيةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنهما بعدان متفاعلان، يحدد أحدهما الآخر، وهذه البرزخية التي ميزت شخصيةَ الرسول، هي وجه من أوجه نجاحه في تغيير التاريخ. وصحيحٌ أن الوعي المعرفي في زماننا قطع أشواطا وعرف فتوحات وانقلابات وثورات في المعارف والعلوم غيرت علاقة الإنسان بالعالم، على مستوى الوعي والإدراك، بل ذهبت بالتقنية إلى مداها حتى عدها هايدجر أكبر مجلى لاكتمالِ الميتافيزيقا؛ لكن مقارنة هذا الوعي المعرفي بوعي الأنبياء في أزمنتهم أمرٌ يحتاج إلى المراجعة، خصوصا وأن الأنبياءَ لا يؤخذون ولا يؤاخذون بوعيهم العلمي والمعرفي، بل يُستحضرونَ بوصفهم لحظات في مسار تفاعل التاريخ مع التعالي الميتافيزيقي، ومحمد نبينا مثلا هو أفق للهداية الروحية، وعنوان لتجربة نبوية روحية وجدانية تلهم جوانيا علاقة المسلم مع المطلق، وتوجِّهُ صلته بالتعالي؛ وذلك من حيثُ كونها مكونا رئيسا من مكونات تغذية الظمأ الأنطولوجي للمعنى بالنسبة إلى المؤمن، ومن ثمَّ فالنبي ليس أبدا لحظة معرفية مرتبطة بالوعي العلمي، بل هو بشر يوحى إليه، وما يعنينا من رسالتهِ هنا هو هذه التجربة الأنطولوجية الروحانية للنبي الخاتم؛ إذ به أغلق باب وحي السماء، وانفتحت الأبواب أمام العقل الراشد لاستقراء ما أوحى الله به من نواميس وسنن للطبيعة. وهو ما أدركه محمد إقبال حينَ اعتبر أن ختم النبوةِ يشيرُ إلى رُشدِ العقلِ وأهليتِهِ لبلوغِ أسرارِ تدبير عالمِ الشهادةِ، وهيَ الأسرارُ التي ما فتِئَ الرُّسُلُ يُؤهِّلونَ البشريةَ لزمامِ تدبيرِها، مما جعل عينَ كمال النبوةِ في إعلان ختمها، يقول إقبال في كتابه: "إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالةِ بقاءِ الوجود مُعتمِداً إلى الأبدِ على مقود يُقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته بنفسه ينبغي أن يُتْرَك ليعتمدَ على وسائله هو"[36]. هكذا نفهمُ أن أعظمَ ما أوحى الله به في الرسالة الخاتمة هو ضرورة استمرار نور الوحي في العقل المتسائل والمتحاور مع وحي الكلمات ووحي السنن الوجودية بشكل دائم. الأمر الذي يُبعِدُ النبي محمدا، وعلى المستوى الميتافيزيقي، عن أن يكون طرفا في المقايسة والمقارنة حين نتحدث عن الوعي المعرفي. فوظيفته ونمط خطابه هو من صميم وحي الكلمات التي يبلغها الأنبياءُ للعالم بما هم وسطاء منتقونْ وأصوات مصطفاة لهذه المهمة، وختمهُ للنبوةِ إعلانٌ على رشدِ العقلِ في تلقي وحي الكلمات والوجود على السواء، فيما الوعي التاريخي هو المسؤول عن تلقي خطاب النبوة بما يحفظ للوحي تطوره، حسب قدرة الوعي المعرفي على تجديد قراءة هذا الوحي في القرآن المسطور والقرآن المنظور والقرآن المستور؛ أي في آيات الذكر وآيات الآفاق وآيات الأنفس.

3- سؤال الحوار

في المدخل الثالث والأخير، واعتبارا لأهمية ما طرحهُ د. صابر في كتابهِ النفيس من رؤى تقتضي تعميق الحوار، أريدُ إثارة حوار بخصوص ثلاث مسائل، أبدي فيها وجهةَ نظر، مسائل أنتقيها انتقاء من كتاب لا تُحصى دررهُ التي تغري بالمحاورة.

المسألة الأولى: تتقدم بعض خلاصات مولاي أحمد صابر في كتابه وكأنها مصادرات؛ لأنه يطرحها بوصفها اقتناعات دون أن تستند إلى ما يكفي من الأدلة والحجج لتأسيسها. أستحضرُ هنا، تمثيلا، دعوةَ القرآن الكريم إلى نبذ الآبائية في قوله تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ( (سورة البقرة، الآية 169)، حيثُ يكتب صابر: "لاشك أن العقل الذي يدعو إليه القرآن هنا لا يتوقف على الخصوصيات التي يتصف بها العقل العربي في الجزيرة العربية زمن نزوله، فهي دعوة إلى العقل بمفهومه الكوني الإنساني، تبعا للتطور والارتقاء الذي يطرأ عليه"[37].

تقتضي هذه الفقرةُ ثلاث ملاحظات نقدية على الأقل، نشير إليها باقتضابٍ كبير:

أ- إن د.صابر ما فتئ يؤكد أن القرآن لم ينزل في فراغ، وأنه يرتبط بسياق نزوله ومحيطه الأنثروبولوجي في الجزيرة العربية خلال القرن السابع للميلاد؛ فكيف إذن ينتقل من استعمال مادة "عَقَل" بخصوصياتها في الجزيرة العربية زمن نزول القرآن الكريم، بل وبمعالمِها المخصوصة في الشبكة الدلالية القرآنية، إلى الحديث عن "العقل بمفهومه الكوني الإنساني"؟؟؟، قد يعترض أربابُ المقاربةِ التاريخيةِ على ذلكَ بكون المؤلِّف يعترف بـ"تاريخية النص"، غيرَ أنهُ يُحمِّل النصَّ من حيثُ القراءةُ ما لا يحتملهُ تاريخيا؛ بينما نقول، نحنُ الذين لا ننكِرُ التاريخَ لكننا لا نشاطرُ التاريخيينَ في تجميدِهِم النصّ ودلالاتِه في فترة انبثاقهِ، إن المؤلِّفَ يحَمِلُ النصَّ على دلالاتٍ تتجاوز شروطَه التاريخية دونَ أن يُسوِّغَ ذلك إبستمولوجيا.

ب- يؤكد ما سبقَ الملاحظةُ الثانية، وهي أن مفردةَ "عقْل" نفسَها ليست "قرآنية"؛ إذ لم يستعمل القرآن الكريم المصدر "عقْل" في شبكته المعجميةِ، بل ورد فعلُ "عَقَلَ" مصرَّفا في تسعة وأربعين موضعا قرآنيا. ويذهب الأستاذ أركون، بأن لفظ "عقْل" لم يدخل إلى الثقافة العربية إلا في القرن الثالث للهجرة عندَ ترجمة الفلسفة الإغريقية، ومن ثم فكل فهم لأفعال التعقل في القرآن الكريم على مقتضى مفهوم "العقل" الأرسطوطاليسي اللاحق على زمن التنزيل يُعَد، بالنسبة إليه، مغالطةً تاريخية تقوِّلُ النص مالا يقولُه. نقرأ للأستاذ أركون: "إن مفهوم العقل غيرَ موجود في القرآن كما سيحدثُ لاحقا بعد إدخال الفكر الإغريقي إلى الساحة العربية الإسلاميةِ، ولكننا نجد أن الموقف المستمِرّ الذي يتخذه التفسيرُ الإسلامي للقرآنِ يتمثلُ في القول: إن القرآن يحثُّ على استخدام العقلِ. أقصد العقلَ كما انتشر في البيئة الإسلامية وتطور في ما بعد، أي العقل الأرسطوطاليسي. هذه مغالطة تاريخية، وهذا إسقاط لمفاهيمَ لاحقةٍ على فترةٍ سابقةٍ لم تعرفها ولا يعيبُها أنها لم تعرفها. هذا إسقاط لمفاهيم العصر العباسي على لحظة القرآن قبل ثلاثة قرون"[38].

ج- الملاحظة الثالثة كونُ الحقلِ الدلالي لـمادة "عَقَلَ" في القرآن الكريم، واشتغالها في نسيجِه اللغوي ومساقات استعمالها القرآنية، كل ذلك ليس مفصولا عن الإدراكِ الشعوري والباطني القلبي، بحيثُ يبدو التقابلُ عقل/قلب ليسَ قرآنيا؛ إذ يتنزل التعقل من القلب منزلةَ الإبصار من جارحة العين، والاستماع من جارحة الأذن، قال تعالى: "أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج، الآية 46). ومن ثم، فإن القراءة السانكرونية للمعجم القرآني، لا تقبلُ ثنائيةَ العقل والقلب، حيثُ العقلُ أداة منطق وبرهان، والقلب مركز لشعور ووجدانّ؛ إن هذه الثنائية، في هذا المنظور، غيرُ قرآنية.

أخذا في الاعتبار بهذه الملاحظات الثلاثِ، كان يَلزمُ المؤلِّفَ، في نظرنا، تطارحُ هذه الإشكالاتِ والتأسيسُ من داخلها لـ"عقل كوني إنساني" في القرآن الكريم، بحيثُ يستحضرُ القراءتين التاريخيةَ واللسانية السانكرونيةَ في فهم النص القرآني، ويناقشهما نقديا من أجلِ بناء أفق آخر يفتحُ النَّصَّ على تنزلات جديدةٍ في الفهم؛ تنزلاتٍ تمتلك شرعيتها الإبستمولوجية، وتستند إلى منظور هيرمينوطيقي، يتيحُ إمكانيةَ قراءات مفتوحةٍ تُمكِّنُ من إعادةِ امتلاكِ النص القرآني في سياقات لا نهائيةٍ، بحيث تجعلُ معناهُ ما يفتأ يعودُ في تجدد، وعجائبهُ لا تنقضي، وطاقتَه دوما فعاَّلة في التاريخ[39].

المسألة الثانية: يعلق المؤلِّف على قوله تعالى: )الشمسُ والقمرُ بحسبانـ والنّجمُ والشَّجرُ يسجُدَان( (سورة الرحمن 5-6) فيقول: "هذا توجيه منهجي لما ينبغي أن تنحوه عملية البيان لدى الإنسان، فالظواهر الكونية والأشياء وكل المخلوقات خاضعة لعملية الحساب؛ ولا فائدة في السجود للشمس ولا للقمر، وهي الحالة الثقافية التي ذكَّرنا بها القرآن بقوله: "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (سورة فصلت، الآية 37)"[40].

صحيح أن الحق سبحانه أراد أن ينقلنا من التعامل مع الطبيعة من الطبيعةِ الآلهةِ إلى التعامل مع الطبيعة الآية[41]؛ ومن السجود للظواهر الطبيعية المخلوقة إلى السجود لخالقها، لكن معنى سجود الطبيعة نفسها لله، حسب ما أرى، هو التسبيحُ، قال تعالى: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء، الآية 44). وليس هذا التسبيح سوى دلالتها على موجدها وعلى أسمائه الحسنى، وهنا تلك الثنائية التي تميز علاقة القرآن بالطبيعة. إنها تجمع مع الاعتبار والاختيار. نحن، في المنظور الإسلامي، لا نرى الطبيعة فقط في بعدها الفيزيائي والمادي والكمي، باعتبارها كتابا من الأرقام والمعادلات الرياضية؛ أي لا يراها القرآن الكريم مادة فيزيائية فارغة من كل معنى وروح؛ بل إنها طبيعة ساجدة، طبيعة مسبِّحة، أو آية دالة على موجدها وبديع صنعه، وعظيم إبداعه، وهنا تأتي الرؤية الاختبارية؛ وهي أن من مجالي هذا التسبيح وذاك السجود انتظامُ خلقها في سنن ونواميس وحساب وقوانين ونظام محكَم في الصنع والخلق. ومن ثم على المؤمن المسبِّح أن يبذل جهده لاكتشاف هذه السنن والتعرف عليها وإنتاج معرفة علمية بها، فذاك هو السبيل إلى تسخير الطبيعة المسبحة للكائنِ المسبِّح[42]. وهذه الخصوصية المميزة للرؤية الكوسمولوجية القرآنية للطبيعة هي التي انتبهَ لها محمد إقبال، حين اعتبر تلك الآيات القرآنية ذات الطاقة الروحية مؤشرةً على الاتجاه التجريبي العام في القرآن الكريم، فضمن هذه الرؤية عمل علماء الإسلام على الجمع بين الإدراك العقلي التجريبي والإدراك التأملي الإيماني لآيات الكون؛ إنها رؤية قرآنية واشجة بين هذين الإدراكين للطبيعة ألهمت العلماء في الإسلام النظر إلى الطبيعة في معناها الروحي من خلال ماديتها الفيزيائية لا بإعدامها، يقول محمد إقبال: "إن أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملاحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في الإنسان الشعور بمن تعدُّ هذه الطبيعةُ آيةً عليه، ولكن ينبغي الالتفات إلى الاتجاه التجريبي العام للقرآن، مما كون في أتباعه شعورا بتقدير الواقع وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث"[43].

المسألة الثالثةُ: يذهب المؤلف إلى أن مجموعة من الفلاسفة والصوفية وقعوا في القراءة البرانية للنص القرآني، وأنهم في سعيهم إلى صياغةِ رؤية كلية قرآنية، لم يستخلصوا ذلك من داخل النص، بل فرضوا عليه حمولتهم الثقافية من خارجه، وهذا حال ابن سينا وابن عربي وغيره. طبعا ودون، أن أكرر ما سبق بيانه بخصوص العلاقة بين الداخل والخارج في النص. أسجلُ أن كلَّ تآليف الشيخ الأكبر مثلا تستمد حقائقها من آيات القرآن وأسماء الله الحسنى وتجلياتها في الآفاق والأنفس"[44]، يقول مثلا ابن العربي في نص من "فتوحاته": "فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه، أعطيتُ مفتاح الفهم فيه والإمداد منه، وهذا كله حتى لا نخرج عنه، فإنه أرفع ما يمنح، ولا يَعرف قدره إلا من ذاقه، وشهد منزلته حالا من نفسه، وكلمه به الحق في سره"[45].

وهذا ما يمكن أن يكتشفهُ كلُّ من يواظب على معاشرة كتب ابن العربي، ومن ثم من الصعب أن نعتبر مقاربته للقرآن برانية، لأنه يذهب بعُدَّة قرائية مختلفة إلى النص ليشكل بها رؤيته الكليةَ. فهي بدورها قراءة للنص من الداخل وبعين قرآنية جوانية. ويبقى الأمر متصلا أساسا في فهم الارتباط ببنائية القرآن، والفلسفةِ الناظمةِ لفهم ثنائيةِ الداخل والخارج، والوقوف عند بعدها الجدلي المتحرك كما رأينا مع فضل عبد الرحمن.


[1]- ورقة بحثية قُدمت ضمن أشغال الندوة الدولية التي نظمها "مختبر الإنسان والفكر وحوار الأديان"، بالتعاون مع "اتحاد جامعات العالم الإسلامي" و"الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد" و"معهد إقبال الدولي للبحوث والحوار؛ وذلك بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط - جامعة محمد الخامس - يوم الخميس 27 دجنبر 2018م.

[2]- صابر، مولاي أحمد، "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم...سورة البقرة أنموذجا"، منشورات مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2017"

[3]- نستعمل هنا اصطلاح "الأصولانية" للإشارة إلى التيار المتحجر والمتشدد في ادعائه التمسك بالأصول، فيما نحتفظ بلفظ "الأصولية" لاستعماله في النسبة إلى علم أصول الفقه.

[4]- يستمِدُّ اصطلاح التعضية من قوله تعالى: "كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِينَ. فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". (الحجر،90-93)

[5]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م. س، ص.35-40

[6]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م. س، ص.46

[7]- نفس المرجع والصفحة.

[8]- المرجع نفسه، ص.49

[9]- نفس المرجع والصفحة.

[10]- المرجع نفسه، ص.50

[11]- المرجع نفسه، ص.51

[12]- المرجع نفسه، ص ص.51-52

[13]- المرجع نفسه، ص.52

[14]- نفس المرجع والصفحة.

[15]- المرجع نفسه، ص.55

[16]- المرجع نفسه، ص.58

[17]- نفس المرجع والصفحة. انظر كذلك بهذا الصدد:

إزيتسو، توشيهيكو، "بين الله والإنسان في القرآن، نظرة القرآن إلى العالم"، ترجمه عيسى علي العاكوب، دار نينوى، دمشق، 2017، ج1، ص.185 وما بعدها.

[18] - راجع كتابنا "مباسطات في الفكر والذكر"، دار أبي رقراق، الرباط، 2019، ص.47-54

[19]- نفس المرجع، ص.61-62

[20]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م.س، ص.63

[21]- المرجع نفسه، ص.67-73

[22]- المرجع نفسه، ص.75

[23]- المرجع نفسه، ص.76

[24]- المرجع نفسه، ص ص.77-78

[25]- المرجع نفسه، ص.27

[26]- المرجع نفسه، ص.30

[27]- المرجع نفسه، ص.78

[28]- في لقاء مفتوح مع المفكر المصري عبد الجواد ياسين بتاريخ 12/01/2019 بمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، وتعيينا بصالون جدل بالرباط، أثارني جواب الأستاذ ياسين على سؤال طرحه أحد الحاضرين عن آيات الأحكام في القرآن الكريم، والتي يعتبرها من معالم التدين في النص القرآني لا الدين؛ حيث ذهب عبد الجواد ياسين إلى إسقاط كل تعال عن هذه الآيات، وهو في نظرنا ما يتوافق، بشكل من الأشكال، مع الداعين جهارا إلى إسقاط أو حذفِ الآيات التاريخية من النص القرآني، أي تلك الآيات ذات الصلة الوثيقة بأحداث ووقائع مخصوصة في زمن التنزيل وسياقه الاجتماعي والتاريخي والأنثروبولوجي. ولنا على هذا الفهم اعتراضات من بينها: أ- بغض النظر عن الاختلاف الذي قد يلحق التمييز بين آيات الدين وآيات التدين في النص القرآني، أي آيات القيم المتعالية والروحية والأخلاقية الكلية العابرة للأزمنة والأمكنة وآيات التقنينات والأحكام المرتبطة بطبيعة الإشكالات المطروحة على الرسول صلى الله عليه وسلم زمن التنزيل وفي سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي المخصوص، فإن ثمة إغضاء عن البعد المتعالي في آيات الأحكامِ نفسها، والذي تستمده من الوحدة البنائية العضوية للنص القرآني من جهة، بحيث تتجاور وتتحاور وتتآثر وتتبادل التحديد مع آيات أخرى في نسيج قرآني يعيد بناء دلالية النص في أفق روحاني وشعائري ينطلق من التاريخ لينفصل عنه، وذلك ما يسعف فيه الترتيب "التوقيفي" للآيات الذي لا يلتزم بالشروط التاريخية، وهو بذلك يشيد أفقا دلاليا متعاليا لا يتقيد بالتاريخ وتصير فيه للغة كينونة روحية تلبي أشواقا وتنسج بواطن وتستجلب طاقة جوانية تنتظم في إدراك إيماني يتعذر وصفه بالأدوات المفاهيمية التاريخية أو الوضعانية.. هذا الإدراك هو الذي يدعمه التجاور والتوالج البنيويان بين الآيات في النص كيفما كانت طبيعتها "الدينية"او "التدينية"، مثلما تدعمه التلاوة الشعائرية لتلك الآيات في الصلاة والتنسك والتعبد. ب- إلى جانب هذا التعالي الذي تستمده الآيات "التدينية" من داخل النص، ومن تلقيه الشعائري والروحاني، ثمة أفق آخر في تلقي النص القرآني يلغي ذاك النزوع إلى إلغاء التعالى وإسقاطه عن تلك الآيات، وهو تلقيها الإشاري العرفاني في التفاسير الصوفية للقرآن الكريم، بحيث يتم تأشير (من الإشارة الصوفية) تلك الآيات، وفتح دلالاتها على آفاق إدراكية روحية تنسجم مع كليات النص الروحية والأخلاقية، وتضمن لها الاستمرار في "التدليل" وإنتاج المعنى خارج سياقاتها التاريخية، وذلك بما يلائم بنية النص وتلقيه الشعائري والروحاني، وهو أفق ظل منسيا في قراءة المفكر عبد الجواد ياسين، ومن يسير في اتجاهه. ج-الأمر الثالث، أنه يمكن، وخارج التلقي التعبدي او الإشاري للنص، قراءة تلك الآيات "التدينية" قراءة تاريخية تأويلية لا تاريخوية وضعانية؛ بمعنى أن لا نقصيها ونسقطها بذريعة ارتباطها بسياق تاريخي انتهى وانقضى وتلاشت معطياته ومحدداته، بل أن نميز فيها بين "الموقف" و"المضمون" إذا استعرنا لغة المفكر المغربي عبد الله العروي ("نقد المفاهيم"، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2018، ص.114). فقد يكون المضمون تاريخيا، لكن الموقف، أي منطق التعامل مع الحدث في السياق المخصوص، هو المشمول بالتعالي. وهو أفق مفتوح للاستنباط وتجديد القراءة والتأويل متى ما توافر شرطا الاجتهاد العقلي والمجاهدة الروحية، وهما شرطان متضافران لا ينفصلان في القراءة العقلانية الإيمانية. ولعل هذا هو الأفق الذي يجب فيه تجديد فهم القاعدة الأصولية التي تقول بـ"الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"؛ إذ ربما وجب الأخذ بمنطق الحكم وفلسفته الأخلاقية والروحية الكامنة فيه، لا الأخذ بمنطوق الحكم الذي تغيرت شرائطه التاريخية. وهنا يبدو وكأن الحكم الوارد في الآيات التدينية في ذاته ذو وظيفة بيداغوجية لاستبطان الموقف والمنطق لا المضمون والمنطوق في حرفيته.

هكذا نخلص إلى أن ثمة أبعادا تدعونا إلى رفض المزالق التي يقودنا إليها توجه الأستاذ عبد الجواد ياسين الذي شرحه في كتابه "الدين والتدين" وأكده في لقاء "مؤمنون بلا حدود" المشار إليه، وسار فيه غيره إلى حد الدعوة إلى حذف آيات من القرآن الكريم. وهي دعوة، كما يبدو، داحضة متهافتة، لكونها لا تنتبه إلى مطب التجزيئية التي تقع فيها حين تفكك أوصال النص وتشظيه، وهو ما لا يؤهلها في نظرنا لتكونَ مدخلا للإصلاح أو التجديد أو التنوير في التعامل مع النص القرآني في السياق الراهن.

[29]- انظر كتابنا: "إني ذاهب إلى ربي...مقاربات في راهن التدين ورهاناته"، دار أبي رقراق، الرباط، 2016

[30]- "صحيح البخاري"، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا.

[31]- سنغاري، يوسف، "القرآن والتاريخانية.. مدخل إلى ذكر فضل الرحمن (ت.1988)"، ترجمة أحمد فاضل الهلايلي، منشورات مؤمنون بلاحدود، الرباط، 2018، ص.24

[32]- المرجع نفسه، ص.26.

[33]- بخصوص علاقة الوحي بالشعر، كان بالإمكان الإفادة من الأفق التأويلي المتفرد الذي تفاحه المقاربة العرفانية، وتعيينا مع الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي كما يطرحها في مقدمة "ديوان المعارف الإلهية" (نشرها جعفر الكنسوسي أول مرة ضمن مقال: "ابن عربي، سفينة الحقيقة"، في الجريدة المصرية "أخبار الأدب"، ع 30 ماي/ 1999؛ ثم نشرها محقَّقَة عبد الباقي مفتاح في: مفتاح، عبد الباقي "السّماع والمصطلحات والرّموز الصوفية عند عبد الكريم الجيلي وابن العربي... مع تحقيق كتاب (غنية أرباب السّماع) لعبدالكريم الجيلي"، تقديم محمد التهامي الحراق، عالم الكتب الحديث، إربد، 2018، ص.245-252). ولتوسيع النظر في الأفق المشار إليه يمكن الرجوع إلى: بلقاسم، خالد، "الكتابة والتصوف عند ابن عربي"، دار توبقال، الدار البيضاء، ط.1/2004م.

[34]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م. س، ص.131

[35]- نفس المرجع، ص.88

[36]- إقبال، محمد، "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، ترجمة عباس محمود، راجع مقدمته والفصل الأول منه عبد العزيز المراغي، وراجع بقية الكتاب مهدي علام، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، 2000، ص 149

[37]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م. س، ص.20

[38]- أركون، محمد، "قراءات في القرآن"، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 2017، ص.318

[39]- راجع دراستنا: "القرآن الكريم والعود الأبدي للمعنى"، ضمن كتاب: "إني ذاهب إلى ربي..."، م.س، ص.99-118

[40]- "الوحي...دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، م.س، ص ص.111-112

[41]- بوحناش، نورة، "الاجتهاد وجدل الحداثة"، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، الرباط/الجزائر2016، ص، 171 وما بعدها. 15

[42]- "مباسطات في الفكر والذكر"، م. س، ص.47-54

[43]- "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، م. س، ص.23

[44]- مفتاح، عبد الباقي، "شروح ومفاتيح لمفاهيم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي"، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2016، ص.47 في هذا الأفق نفهم عنوانين دالين لعملين عن ابن العربي؛ الأول من تأليف عبد الباقي مفتاح بعنوان "ختم القرآن محيي الدين بن العربي" (دار القبة الزرقاء، مراكش، 2005)، والثاني عمل روائي لعبد الإله بنعرفة عن الشيخ الأكبر بعنوان "جبل قاف" (منشورات ضفاف- بيروت، دار الأمان - الرباط، منشورات الاختلاف - الجزائر، ط2، 2013)، أي جبل القرآن.

[45]- ابن عربي، محيي الدين، "الفتوحات المكية"، دار صادر، بيروت (د.ت)، 3/334