واقعنا الديني: فيض في الروحانية أم تخمة في الطقوسية؟


فئة :  مقالات

واقعنا الديني: فيض في الروحانية أم تخمة في الطقوسية؟

في لقاء "صالون جدل للفكر والثقافةِ" بمقر "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" بالرباط، حول موضوع "الاتجاهات الجديدة في فلسفة الدين" (السبت 18-01-2014م)، أُثيرت مسألةُ عودة الدين في الغرب وعودته في عالمنا الإسلامي، وذهبت الآراء إلى أن العودتين مختلفتان؛ إذ عودة الدين في الغرب جاءت كنوع من الاستجابة للحاجة إلى المعنى، في ظل مجتمع غارق في الاستهلاكية والعلمنة، في حين يطغى الإسلامُ السياسي، والرهانُ الإيديولوجي، على عودةِ الدين في مجتمعاتنا. وقد ذهب بعضُ المتدخلين، إلى أن الغرب يحتاجُ اليوم إلى الروحانية بعد أن تشبع بالحداثة والعقلانية، في حين نحتاجُ نحن للعقلانية، لأننا نعاني من تخمة في "الروحانية"، وهنا كان لي تعليق على هذا الرأي، بأن اعتبرتُ أننا نعاني من تخمة في "الطقوسية" لا في "الروحانية"، و هاهنا بعضُ الأفكارِ تعميقًا للحوارِ والتأمل في المسألة.

من المعلوم، أن الروحانيةَ تشير إلى جوهر الإيمان، بما هو تصديق بالباطن، وإقرار بالمقال، وسلوك بالحال؛ إنها تعني، في ما تعنيه، ذاك التواصل الوجداني، والتماهي العميق مع الحقيقة الدينية، والذي يظهرُ في الوعي الديني الإيماني للمؤمن، من خلال الاعتقاد والشعائر والأخلاق، حيثُ ينسجمُ اعتقادهُ مع شعائره، ويثمرُ ذلكَ سلوكا مَرْضِيا في أخلاقه. ولما كانَ الباطنُ غيبًا، إذ هو من السرائر التي يتولاها الله سبحانهُ، أُمِرنا أن نحكم على الظاهر فقط. وللظاهر مجليان: مجلى تعبدي شعائري، يُعتبرُ تُرجمانًا للإيمانِ ومُغذيًا لهُ، إذ يُعدُّ هذا المجلى لحظة مُقدسةً للتواصل مع الإلهي، واستكناه الروحانية من فيض الطهرانيةِ التي تتحقق في هذه اللحظة وبها. فيما يُعتبرُ المجلى السلوكي الأخلاقي، هو المجلى الحَقُّ للإيمان، ومَبْداهُ في الظاهرِ؛ فهو يُعَدُّ مرآةَ صدقِ الباطنِ، وعلامةً على مصداقيةَ الشعائرِ، وقبولِ العباداتِ، لأنها تغدو آنئذٍ مُثمرَةً أخلاقيًا. والنصوص التي ترهنَ قبولَ الشعائِرِ والعباداتِ، بمدى إثمارها في الأخلاق والسلوك، كثيرةٌ وصريحةٌ، قال تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» (العنكبوت، الآية 45). و قيل للنبي صلى الله عله وسلم: "إن فلانا يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق ؛ فقال: سينهاه ما تقول، أو قال: ستمنعه صلاته" (رواه أحمد). وقال عليه السلام عن عبادة الصيام: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (صحيح البخاري)....والنصوص الواصلة بين سائر العبادات والمعاملات غزيرة، حتى شاع بين الناسِ أن الدين المعاملةُ، ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء متمما لمكارمِ الأخلاقِ، وأن صاحبِ الخُلُقِ الكريم يُدرِكُ عند الله مرتبةَ القائم والصائم، لقوله صلى الله عله وسلم: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار" (أخرجه أحمد والحاكم)، في حين تفْقِدُ العباداتُ كل قيمةِ حين لا تُثمر في المتعبِّد بها قيماً وأخلاقاً؛ إذ يغدو صاحبُها مفلسًا، كما جاء في الحديث النبوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار" (صحيح مسلم)؛ بهذا المعنى تصبحُ العباداتُ، التي لا تُثمِر أخلاقًا في سلوك المتعبِّدِ، علامةً على إفلاسٍ روحي، أو قل تُصبِحُ مجردَ طقوسٍ بلا معنى.

الروحانية إذن، هي ثمرةُ الإيمان الصادق، فيما الطقوسيةُ علامة على إفلاس روحي، بما هو فقرٌ في صدق الإيمان؛ الروحانية روح وجوهر، فيما الطقوسية رسومٌ ومظهر. لقد اهتم العقل الفقهيُّ (فقهًا وأصولًا) بتقعيد العبادات، وضبط آليات استنباط الأحكام، لكنه لم يشغل نفسهُ بالبعد الروحي والجوهراني في التعبد؛ إذ هذا البعدُ خارجٌ عن العقل والضبط؛ اهتم العقلُ الفقهي بشروط صحة الصلاةِ مثلا، ولم يجد سبيلا لتحصيل الخشوع، فاكتفى بالتنبيه على أهميةِ الحضور القلبي في الصلاة. هنا ظهر الروحانيون في الإسلام، أعني علماء القلوب؛ أي الصوفية، والذين أسسوا لعلمهم، لما رأوا سطوةَ الدنيا والمادة والحس على الآخرة والروح والمعنى؛ فراحوا يبحثون في ما به يمكنُ تحقيق الوصل بين الظاهر والباطن، بين الحس والمعنى، بين المظهر والجوهر، بين الكثافة واللطافة، بين عبادة الجوارح وطهارة الجوانح...إلخ، فأتوا بلغةٍ ومعجمٍ وخطابٍ يختلف عن لغة ومعجم وخطاب الفقيه، لم يُلغوا العقلَ الفقهي، بل أقروا بضرورتهِ، لكنهم لم يظلوا أُسارى هذا العقل، بل تمكنوا منه ووقفوا على محدوديتهِ، فراحوا يهتمون بما قَصُرَ عن معالجته؛ وذلك اعتمادا على ذاتِ المصادر التي اشتغل بها وعليها هذا العقلُ، من كتاب وسنة وسير سلف صالح، فاجتهدوا في مخاطبة الروح واستثارة الأذواقِ ومعالجةِ القلوب، لتثمر العبادةُ في السلوكِ، و يَظهرَ صدقُ الإيمانِ في صلاحِ الأخلاقِ. ويكفي لتبين هذا الأمر،ِ الرجوع إلى كتاب "إحياء علوم الدين " للإمام أبي حامد الغزالي، وكيفيةِ تناولهِ للعباداتِ، وجمعهِ بين بيانِ أحكامها الفقهيةِ، وبين استكناهِ أسرارِها الباطنيةِ، والتي لا إحياء للدين بدونِ استبطانها.

واليوم، وفي عالمٍ تسيدت واستأسدت فيه الاستهلاكيةُ، وتمت عولمةُ تأليهِ الربح وتغليبِ المصلحةِ الذاتيةِ، وتسييد الفردانية،ِ واستثارةِ الغرائز، وتبضيعِ الإنسان...على حساب قيم التراحم والتضامن والتساكن والإيثار..إلخ، نعيشُ عودةً للديني بما هو طقوسية، لا للدين بما هو معنى إيماني عميق، والأدلةُ على ذلكَ أكبرُ من أن تعد أو تحصى، يكفي أن نطرحَ أسئلةً بسيطة هذه بعضُها: لماذا ينهزم كثير من المُصلينَ أمام إغراءِ الرشوة؟ ولماذا يَضعُفُ وازعُ ضمير الدين عن منعِ الكثيرين من الكذبِ؟ وقد عرف أحدُ العارفينَ الصدقَ بأن تصدُقَ في مواقفَ لا يُنجيكَ منها سوى الكذب؛ ولماذا تنتشرُ أدواءُ الغش والنفاقِ، والأنانيةِ والحسدِ، وحب المالِ والتعلقِ الجنوني بالجاهِ، والرياسةِ والجهر بالسوء من القول، وسوءِ الظن والسكوت على الحقِّ، واستعظام معاصي الغير، واستصغارِ زلات الذاتِ، واسترخاص دم الغير...إلخ، بين جم غير قليل ممن يرتادونَ المساجِدَ، ويُواظبونَ على إظهارِ التعبد والصلاحِ؟ كيفَ حصلَ أن صارت تتعايشُ في دخيلةِ "المؤمنِ" اليومَ، رسومُ الشعائرِ وتواري الأخلاق؟ بل كيفَ صارتِ الشعائرُ ومظاهر التعبد ذات دلالات اجتماعيةٍ، وسيمائية سياسويةٍ، حجبتْ المعاني الروحية التي من أجلها فُرضت تلك الشعائر والعبادات؟ (انظر مثلا أبعاد التباهي الاجتماعي التي تتخذها عبادات، مثل الزكاة أو الحج أو عيد الأضحى...إلخ؛ والتي تطغى في الغالبِ على أبعادها الروحية).

إنها إذن الطقوسيةُ، والتي يعجزُ الخطابُ الوعظي السائدُ عن إحلالِ الروحانيةِ محلها، مثلما صارَ الخطاب الصوفي الطرائقي أيضا، مصابًا بذاتِ العجز والقصور، رغم ما قد يبدو من إقبالٍ جماهيري وإعلامي على هذا أو ذاك. إنهُ إقبالٌ على الرسومِ والأشكال، أكثر من أن يكونَ تحققًا بمكارم القيم والأخلاقِ التي يكتنزها الدينُ، وتحتاجُ إليها الإنسانية اليومَ بإلحاح. ولا أدلَّ على ذلكَ من شُيوع الإفلاس الروحيِّ، بدءًا من استسهالِ الكذبِ في أصغر الأمورِ، إلى الجرائم والدماء المسفوكة والمسفوحةِ اليوم باسم الدين نفسه. من هنا ضرورةُ تجديد الخطابِ الديني، بما يُعيد إنتاج المعنى الروحي، لا بما يُكرِّسُ التدينَ الطُقوسي؛ لسنا ضدَّ الشعائر والطقوس الدينيةِ، بل ضد أن تصبحَ أشكالاً عقيمةً، فيما وظيفتها إثمارُ المعنى بشكل متجددٍ في القلوب والسلوك. نحتاجُ إلى تجديدٍ ينتجُ معنى روحيا، يكفلهُ العقلُ المنفتحُ على كل أبعاد الإنسان، هنا والآن، مثلما يَكفلهُ خطابٌ روحي تنويري كونيٌ، يعي حدودَ العقل الفقهي مقارنةً مع كونية الروحانيةِ، التي يكتنزُها القرآن الكريمُ وتُشعُ بها سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ تلك المدرسةُ الجامعةُ بين بلاغةِ المقالِ، وقرآنيةِ السلوكِ، وربانيةِ الأحوال، وكونية الرحمة. نحتاجُ إذن، إلى نقد خطاباتنا الدينية لمعرفةِ مواقع قصورها عن تفجير هذه الروحانية في حياتنا الدينية، وتحريرنا من نير الطقوسيةِ في الخطاب، والتعبد، واللباسِ، والتدينِ بوحهٍ عام. إن داءنا اليوم هو الطقوسيةُ، حيثُ حضور رسومِ الدينِ مع فقر في المعنى، وغيابٍ للتحلي بمكارم الأخلاق. أزمتنا أخلاقيةٌ؛ فهل من سبيلٍ لإنقاذنا من تدينِ الأشكالِ و الطقوس، وتجديدِ إيماننا ليصيرَ تدينُنا روحانيةً مُثمِرةً، وأخلاقا منظورةً، ضمن شروطِ سياقنا وراهننا؟ تلكَ هي المُعضلة.