قراءة في شروط النهضة لمالك بن نبي


فئة :  مقالات

قراءة في شروط النهضة لمالك بن نبي

قراءة في شروط النهضة لمالك بن نبي

بدت المجتمعات العربية والإسلامية بعد عقود من الاستعمار شاحبة، ومصابة بأعراض التخلف والتبعية والفقر والجهل والمرض. ومع انتصار حركات التحرر الوطني، بدأت مرحلة طويلة من عودة الروح إلى هذا الجسد الشاحب الهزيل.

انطلقت أقلام المفكرين بالكتابة تدافع عن الهوية الحضارية للأمة التي شوهها الاستعمار الغربي، وتداول جمهور المثقفين كتابات تعبر عن عمق الأزمة الروحية التي تحيا فيها الأمة العربية والإسلامية لمثقفين من أمثال: مالك بن نبي وعلي شريعتي وغيرهم. أزمة تمكنت من الإمساك بخناق المجتمعات الكولنيالية فأصابتها بتشوه هائل في اقتصادياتها ووعيها، ودفعت هؤلاء المفكرين إلى المجاهرة بالعداء لمشروع التحديث السائر على النمط الغربي.

كان المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) ممن أطلقوا سهام نقدهم على مشروع التحديث وتمثلاته في الوعي والاجتماع العربي والإسلامي، وكتب بن نبي عدة كتب تحمل مشروعه، مثل (الظاهرة القرآنية)، و(لبيك)، و(وجهة العالم الإسلامي)، و(الفكرة الإفريقية الأسيوية)، وكتابه موضوع الدراسة: "شروط النهضة" إصدار ندوة مالك بن نبي وترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين الصادر في 1979 م عن دار الفكر بدمشق.

يتمحور كتاب "شروط النهضة" حول نقد المجتمع العربي الجزائري وصفوته الدينية الإسلامية، التي مالت إلى الاستعمار، واندمجت في النظام السياسي الذي صممته وهندسته فرنسا، واضعاً في مقالات موجزة ملاحظاته الناقدة لتداعيات ذلك الاندماج على الجزائر، وكيف أثر هذا الاندماج بالسلب على الشعب الجزائري المسلم.

بداية تجدر الإشارة إلى أن مفكري الحقبة الكولنيالية وما بعدها ذو التوجه الإسلامي، رأوا أن التجربة السياسية للمستعمرات أثناء فترة الاستعمار الأوروبي تمثل التطبيق العملي والوافي للأفكار الليبرالية، وأن هذا التطبيق قد حقق فشلاً ذريعاً أصاب كافة جوانب الحياة في تلك المستعمرات، وأن الحل يكمن - من وجهة نظرهم - في العودة للجذور الثقافية للحضارة العربية والإسلامية، وردم الهوة السحيقة الفاصلة بين الحضارة العربية الإسلامية والمجتمعات العربية الناهضة؛ بالتخلص من ثقافة الدروشة التي تكيفت مع التخلف وارتبطت عضوياً به وهجر البدع الجديدة المستحدثة القادمة من الغرب بحكم التفاعل بين الحضارة الأوروبية وسكان المستعمرات. وهنا مكمن الخلل الذي يراه كاتب السطور؛ فالتجربة السياسية العربية أثناء الاستعمار لا تعبر عن أفكار الليبرالية الأوروبية لأسباب سيلي ذكرها، وبالتالي فالجزم بأن الليبرالية كنظرية فشلت تماماً ولا عودة لها، لأنها غريبة عن التربة العربية الإسلامية يعد في نظر كاتب السطور خاطئ، أولا: لأن الديمقراطية العربية لم تولد ولم تعش في ظروف طبيعية؛ فالاستعمار مثّل طرفاً فاعلاً وضاغطاً على النظام السياسي لتلك المجتمعات، ولم يكتف بالاحتلال، ولكن كانت له تدخلات عنيفة مست جوهر هذا النظام، وتدخلات ناعمة لدعم حلفاء له وموالين في الانتخابات البرلمانية ثانيا: ضعف الطبقة الوسطى بتلك المجتمعات التي لم تمتلك أية قدرة على تحقيق تراكم رأسمالي يثبت من جذورها في الأرض العربية، وينافس المنتجات الغربية الفكرية والمادية، بالإضافة إلى هشاشة الثقافة السياسية لعموم الناخبين الذين بحثوا عن الأب داخل تلك الأحزاب التي تماهت مع ذلك الدور، ونجحت فيه مثل حزب الوفد في مصر.

ويرى ابن نبي أن الله قد سن سنة في خلقه، فعندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا؛[1] بمعنى أن المجتمعات عندما تفقد مشروعها الحضاري، وتنسى أهدافها تهتم بالشكل الظاهري بدون المضمون النافع من المذهب، وقد بزغ هذا الصنم-على حد قوله-في تاريخ الجزائر مع اندماج الجزائريين في الحياة السياسية الجديدة في عام 1936 م، وانشغل الدعاة بالترويج والدعاية السياسية وبتملق الناخبين، واللهث وراء المصالح الشخصية، وهذا ما تكرر في النموذج المصري بعد إقرار دستور 1923، وكان سبباً لثورة يوليو 1952، وهو ما يعيد إلى الأذهان عبارات حسن البنا عن مصر، حيث صرح قائلاً: "فالأمة في قلق واضطراب وحيرة وارتباك وقد يئست من صلاحية هذه المناهج والنظم"[2] قاصداً المناهج والنظم الغربية الليبرالية والاشتراكية، مع التذكير بما تحويه كلمة صنم من دلالة دينية سلبية آثر ابن نبي استخدامها.

رأى ابن نبي أن الحكومات مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعاً للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفاً حرّا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان متسماً بالقابلية إلى الاستعمار، فلابد من أن تكون حكومته استعمارية،[3] وهي وجهة نظر جديرة بالتركيز عليها نظراً لتركيزها على العوامل الذاتية بدون إلقاء التهمة كاملة على الاستعمار؛ فالجريرة اشتركت فيها الأمة باستعدادها للاستعمار.

يشير المفكر الجزائري إلى مقياس عام في عملية الحضارة؛ "فالحضارة هي التي تلد منتجاتها"[4] مشيراً إلى أنه ليس من الواجب لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات الحضارة الأخرى ربما كان مفهوم "إنشاء حضارة عربية" مثار اختلاف بين كاتب السطور ومالك بن نبي، فكاتب السطور يرى أن المسألة الحضارية يجب ألا تشغل بال مثقفي الجنوب الفقير؛ فالأولى توجيه الأنظار والرؤية نحو الاقتصاد والتركيز على التعامل البراغماتي والأداتي مع مسائل التحديث والتنمية والتذكير بعبارة رئيس الصين الراحل "دنج هسياو بنج": "لا يهم لون القط ولكن المهم أن يقتل الفأر" وذلك حل معضلة التنمية بدون أن يغمر سؤال الأصالة والمعاصرة والحداثة والتقليد أصحابه في محيط هائل من التفاصيل التراثية.

ويذكر ابن نبي أن الناتج الحضاري يتكون من الإنسان والتراب والوقت[5]، رافضاً أن يكتب المادة بدلاً من التراب لما لكلمة "المادة" من شحنة دلالية سلبية، خاصة أنها تأتي دائمة مقرونة بالمذهب المادي الموصوم لدى المعارضين له بالإلحاد.

يرى مفكرنا الجزائري أن الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، ويؤكد أيضا أننا ينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها[6]، ويصل إلى أن مؤلفات ماركس وأنجلز تُخفي في الواقع التكوين الحقيقي للظاهرة الشيوعية؛ بفصلها ظاهريا عن دورة الحضارة المسيحية،[7] ويبدو نعت ابن نبي للحضارة الغربية بالمسيحية، وإغفال طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي الحاكم لصيرورة عمل تلك الحضارة في نظر كاتب السطور، تجاهلاً عن عمد لجوهر تلك الحضارة التي سترغم مالك بن نبي على الاقتراب من موضوع شائك، وستضطره لاستخدام مقاربة مادية اجتماعية، إشارة مالك بن نبي للعقيدة الدينية كباعث للحضارة تتسق مع أفكاره الدينية ومشروعه إلا أنها تجانب الحقيقة –من وجهة نظر كاتب السطور- فالغرب كان دوماً مسيحياً، ولكنه لم يخطو إلى الأمام سوى مع تبنيه لنمط انتاج مخالف وجديد، وهو النمط الرأسمالي السائد حالياً هناك.

ثم يعاود يقول مالك بن نبي: "إن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة، لا تتصور هذه الصناعات بدونها، فهي الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية، يعاود مالك الإشارة مجدداً إلى الأصل الديني المسيحي للحضارة الأوروبية".[8]

وننتقل مع ابن نبي في كتابه إلى فكرة بالغة الأهمية، حيث رصد ظاهرة (المثقف الحِرفيُّ) حامل اللافتات العلمية وسليل الأسرة ذات الفقر المدقع وصاحب القدرة على المتاجرة بالأفكار أيا كانت وتسويقها بدون أن يلتفت لصراع مع ضميره[9]، وهي ظاهرة يراها كاتب السطور نتيجة لواقع عربي أعطى ظهره للثقافة، وانبهر بجمع المال وتسليع كل منتج قابل للتبادل حتى الثقافة مع انفتاح ثغرة ضئيلة للغاية أمام المثقف الفقير والطامح لجني الثروات في واقع غني بالثروات المادية.

وختاماً، الكتاب يضم أفكار أخرى عديدة، ولكن كانت الملاحظات التي دونها كاتب السطور السابق ذكرها أبرز ما استوقفه من أفكار في الكتاب.


[1]- مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، سوريا، 1979، ص 28

[2]- رفعت السعيد، حسن البنا متى كيف ولماذا؟، دار الطليعة الجديدة، سوريا، الطبعة العاشرة، 1997، ص 120

[3]- مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، سوريا، 1979، ص 30

[4]- المرجع السابق، ص 42

[5]- المرجع السابق، ص 44

[6]- المرجع السابق، ص 50

[7]- المرجع السابق، ص 54

[8]- المرجع السابق، ص 89

[9]- المرجع السابق، ص 84