البنابية، قراءة ما بعد كولونيالية: براديغم الهويّة مقابل براديغم الهجنة


فئة :  مقالات

البنابية، قراءة ما بعد كولونيالية: براديغم الهويّة مقابل براديغم الهجنة

 

عندما نطّلع على تاريخ العلوم والأفكار والنظريات نلاحظ أنّ المفاهيم ينتابها الكثير من الانزياح ويعتورها الكثير من التحريف، ويرجع سبب ذلك إلى الانغلاق الدوغمائي الذي يسيّج هذه المنظومة المعرفية. لهذا، نستطيع التعرّف بسهولة على سبب نجاح بعض الأفكار وسبب فشلها؛ فالنظرية حينما تتحول إلى نزعة أو أيديولوجيا منكمشة لا بدّ أن يسارع أصحابها ومريدوها إلى فتحها على آفاق أخرى، واستنباتها في إطار قطيعة معرفية تنزع عنها وثوقيتها وعناصرها المعيقة.

حينما وضع ماركس الأسس الجديدة للمادية الجدلية، راح ينتقد المثالية الألمانية مبيناً الطابع الجدلي في رؤيته الاقتصادية. لهذا استوعب بطريقة جيدة الدينامية التي يشتغل بها رأس المال الغربي في طبعته الإنجليزية، فاكتشف أنّ المنظومة الرأسمالية تنقصها الجوانب الأكسيولوجية (القيمية) على الرغم من نجاحاتها. إنّ النجاح الموجود في الرأسمالية يعكس رؤية واحدة فقط للعالم هي رؤية البرجوازي الجشع الذي يشتري عمل البروليتاري لكي يحقق أطماعه ويجسّد أرباحه.

في بدايات القرن العشرين انقسم الماركسيون إلى قسمين: هنالك من رأى في أفكار ماركس طابعاً كونياً متعالياً يترفع عن النقد لأنّه يحمل الحقيقة المطلقة، فراح يستعيد أفكار الاقتصاد السياسي وفق طريقة طقوسية سحرية تعتورها الإسقاطية التي تصل مرّات إلى درجة الطغيان مثلما حصل مع الستالينية، وهنالك من اكتفى بالموقف الماركسي La position marxiste معتقداً أنّ مفهوم الجدل يبين أنّ الظرفيات التاريخية تحوّل المفاهيم، وتفتحها على قارات جديدة من الأسئلة وآفاق متنوعة لاستشراف المستقبل.

حينما نحاول إعطاء مثال عن أقلمة المفاهيم وعن تبيئتها فإنّنا نجد المثال الماركسي يمثل مركز جاذبية في هذا الميدان، لم يستسغ جورج لوكاتش المدونة الماركسية الهزيلة التي كانت في بدايات تطور الرأسمالية الجديدة فراح يدخل الكثير من المفاهيم التي استقاها من ميادين مختلفة مثل التشيؤ والوعي الطبقي، من جهة أخرى اكتشف غرامشي أنّ مفهوم الطبقة يحتاج إلى تدقيق فابتكر مفهوم الكتلة التاريخية، ولا ننسى أنّ رواد مدرسة فرانكفورت انغمسوا في عمق الرأسمالية الجديدة التي ابتكرتها الحضارة التكنولوجية، فابتكروا مصطلحات جديدة أحدثت قطائع في الماركسية، مثل العقل النقدي البديل للعقل الاستعمالي ومفاهيم مثل الصناعة الثقافية والعقل السالبي والتسامح القمعي ونزعة تنظيم العالم والعقل التواصلي والاعتراف.

كان لا بدّ من هذا التقديم لكي نعرف المشكل النظري الذي تتخبط فيه البنابية Le Bennabisme. إنّ المطلع على أهمّ ما كتب عن مالك بن نبي من منظور دعائي أو من منظور استثماري سيكتشف أنّ البنابية دخلت في نزعة دوغمائية ترفض كلّ محاولة لفتح هذا العقل على مساحات وميادين جديدة ومتنوعة. ويرجع السبب إلى التقديس الذي يكنّه البنابيون لصاحب مشكلات الحضارة، كما يرجع السبب كذلك إلى الاعتقاد بأنّ أفكار بن نبي حكر على جماعة معينة نصبت نفسها لكي تتكلم باسمه.

حينما نطلع على أفكار الرجل نكتشف أنّ ما حصل لأفكاره كان محل تخوف كبير بثه في العديد من كتبه، لقد دأب بن نبي على التذكير بأنّ الصراع الأيديولوجي حالة معقدة جداً، فالاستعمار يستغل كثيراً القابلية للاستعمار لكي يتحرش بالأفكار ذات الفاعلية إمّا بتحريفها أو بطمسها أو بتغليفها بطابع فولكلوري وكرنفالي.

إنّ تصليب البنابية فيما كتبه بن نبي يُعدّ موقفاً أنطولوجياً معادياً لجوهر أفكاره، حينما نقرأ بن نبي قراءة كرونولوجية نكتشف أنّه لا يفتأ في كلّ كتابة جديدة يغيّر بعض المفاهيم ويطور أخرى ويتراجع عن بعضها الآخر، يدلّ هذا الأمر على شيء مهم، لو استعرنا كلمات بن نبي لوجدنا عبارة تدلّ عليه في مذكراته، إنّها عبارة دائرة القلق، لقد عاش بن نبي حياة قلقة من الناحية الوجودية، كان يشعر دائماً بأنّه في عالم غير مستقر يتطلب منه دائماً الحيطة الحضارية والرغبة الدؤوبة في الوصول إلى برّ الأمان.

ترمي هذه المقالة إلى فتح بعض المقولات البنابية على ما يطلق عليه الآن في الدراسات الفكرية بالدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، ليس الغرض من هذا الفتح سحب البنابية إلى الدراسات الكولونيالية أو سحب الدراسات ما بعد الكولنيالية إلى الفكر البنابي، فالأخلاق العلمية تقتضي منّا البداية بأسئلة من طبيعة استكشافية يمكن أن تساعد، في بحوث أخرى، على الوصول إلى مرحلة البحث عن تصاقب المفاهيم أو تناظرها.

من جهة أخرى، تفادياً لإلحاق الضرر بالمقولات، لكيلا نخدم المصالح الاستعمارية وما يسميه بن نبي بالمكتب رقم 2 سنحاول قراءة كلّ الأفكار في سياقها الذي استنبتت فيه، تجنبنا هذه الاستراتيجية القرائية الوقوع في نزع الفاعلية عن الأفكار بجعلها خارج الإطار السوسيولوجي، لهذا سنتعكز كليّاً على قراءة براديغماتية، تولي الاهتمام بإنتاج المعرفة داخل سياق ثقافي تحمله جماعة ما كرؤية للعالم متعينة في الزمان والمكان.

حقل الدراسات الكولونيالية وما بعدها:

إنّ الظلم التاريخي والسياسي والفكري والثقافي الذي مارسه الفكر الغربي المتمركز على ذاته انطلاقاً من مبدأ الأنانة الفلسفي، ولد ردة فعل قوية في الأوساط الغربية الرافضة لهذا التمركز وفي الأوساط التي كانت ميداناً لهذا الظلم في النصف السفلي من المعمورة وفي بعض الأوساط التي تعيش المنافي في الميتروبول. لهذا سيكون نشوء مجال نظري يهتمّ بتفكيك المركز وبإعادة الاعتبار لكلّ ما هو هامشي حالة طبيعية في مسار صراع الإيديولوجيات والتحولات الجدلية للتاريخ.

لو نقوم بإطلالة على أهمّ المبادرات المعرفية الجريئة في نقد الثقافة الغربية المتمركزة على ذاتها فسنجد أنّ بداية تحسّس المثالية الألمانية بخطر العلموية le scientisme والنقد الماركسي بمخاطر احتكار رأس المال وأثره على التمييز الطبقي وتسببه في صناعة الكولونيالية وتهديد النيتشوية بزوال القيمة الأكسيولوجية وتحذيرات الفرويدية من مضاعفات النرجسية العقلية، ستكون قاعدة خلفية للكثير من النظريات النقدية في القرن العشرين، الساعية إمّا إلى كبح جماح العقل الغربي الملوث بالعنصرية والشوفينية أو إلى نسف أسس الفكر الأنواري الذي يُعدّ عند البعض بمثابة المرتكز الرئيس للحداثة الغربية المريضة بالبارانويا والإطلاقية.

عندما أسّس تيودور أدورنو مع ماكس هوركهايمر مدرسة فرانكفورت لم تكن الغاية من وراء ذلك بناء ترسانة مفاهيمية تساهم في تفجير العقل الأنواري بقدر ما كانت الغاية محاولة تصفية هذا العقل من براثن اختلاط هذا العقل بأنياب العلموية، لهذا راح العديد من المنتمين إلى هذه المدرسة يفرقون بحسم بين العقل النقدي الذي هو سمة جوهرانية في فكر الأنوار وبين العقل الأداتي الذي جعل العالم يسقط في براغماتية مقيتة بشرت بنهاية الإنسان (فوكو) وبداية التشيؤ (لوكاتش).

من جهة أخرى حاول فلاسفة الاختلاف، نذكر منهم فوكو ودولوز وديريدا، متأثرين في ذلك بالنزعة المعادية للأفلاطونية عند نيتشه وبنقد الميتافيزيقا عند مارتن هيدغر أن يجتثوا ويحفروا ويفككوا النزعة العقلانية الإطلاقية التي كانت سبباً حسب رأيهم في إنتاج المركزيات، لهذا لم يؤمن هؤلاء الفلاسفة بأنّ المشكلة تكمن في تحريفية طالت مبدأ العقل، بل راحوا يبرهنون على أنّ المشكلة جوهرية في العقل ذاته، لأنّه يقوم على الثنائيات الفضفاضة بسبب النزعة الهوياتية فيه، لهذا لكي يتمّ إنقاذ العالم من جبروت هذا العقل الكلياني La raison totalitaire كان لابدّ من فتحه على مبدأ الاختلاف والغيرية والآخرية وفق رزنامة الاعتراف والضيافة والتسامح.

لقد شكلت هذه المواقف، سواء تلك المستمدة من التيارات التصحيحية لمبدأ العقل الأنواري أو تلك المستمدة من فلك التفكيك، روافد قارة في حقل الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. فحضور فوكو وديريدا وجون فرانسوا ليوتار وجون بودريار وجاك لاكان من جهة، مع حضور فالتر بنيامين ويرغن هابرماس وهربرت ماركوز وإريك فروم وكلّ المدارس الماركسية مثل الغرامشية واللوكاتشية والفانونية والإيغلتونية (نسبة إلى تيري إيغلتون) جعل النقد ما بعد الكولونيالي مدججاً بأسلحة نقدية قوية ومؤثثاً بآليات حصيفة وضعته في مصاف النظريات المقنعة نسبياً.

كما أنّ عودة هذا النقد إلى هذه الفسيفساء المعرفية جعله يبلور مفاهيم أقرب إلى الاقتصاد السياسي الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، لقد ساهم هذا النقد في إعادة إنتاج هذه المصطلحات التي تُعدّ قوية الإجراء: الهيمنة ومكونات الخطاب واستراتيجيات التمثيل والصناعة الثقافية ونهاية السرود الكبرى ومبدأ التفاوض بدل مبدأ التعارض والقراءة الطباقية والسجل الاستشراقي والكتابة ضدّ الإمبراطورية والتوزيع المانوي لفضاء الاستعمار واحتكارية الإنتاج والمخيال الرمزي ومبدأ الاستغلال.

تقول "ماري كلود سموت" في كتاب "الوضعية ما بعد الكولنيالية" في هذا السياق: "يُعدّ ما بعد الكولونيالي عبارة عن مقاربة، عن مبادرة نقدية تهتمّ بشروط الإنتاج الثقافي التي تطول المعارف الخاصة بالأنا وبالآخر، كما تهتمّ بقدرة الانهمام وبالفعل عند المضطهدين في سياق من الهيمنة التفوقية. انطلاقاً من هذه القاعدة المشتركة، تطورت الدراسات ما بعد الكولونيالية في اتجاهات مختلفة لكي تنطبق اليوم على معظم أشكال الهيمنة (النساء والمثليون والأقليات الإثنية إلخ...)، لهذا لا يمكن أن نجد "نظرية ما بعد كولونيالية"، كما لا يمكن أن نجد تعريفاً صارماً لكلمة "ما بعد كولونيالي""[1]

لقد تبين في نهاية هذا الاستشهاد أنّ الباحثين المعاصرين يلقون مشكلة كبيرة في تحديد مجال هذه الدراسات، لأنّ الأمر مرهون بالتعدد الكبير للمرجعيات التي اتكأت عليها، كما أنّ الأمر مرهون كذلك بانفتاح هذه الدراسات على مجالات أخرى تتطابق معها في الوضعية (الهيمنة) وتختلف معها في الجوهر، فالذات المستعمَرة ليست هي الذات المتجاذبة عبر الجنسية وليست هي الذات الطبقية.

لقد جعل امتناع التعريف هذا جماعة بيل أشكروفت يعرفون هذه الدراسات تعريفاً بيداغوجياً: "ومع ذلك فإنّنا نستخدم مصطلح "ما بعد الكولونيالية" ليشمل كلّ ثقافة تأثرت بالعملية الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية إلى يومنا هذا، ويرجع هذا الاستخدام إلى استمرار هذا الانشغال طوال العملية التاريخية التي بدأت بالعدوان الإمبريالي الأوروبي. كما أنّنا نطرح أيضاً أنّ هذا المصطلح هو الأكثر ملاءمة، بوصفه مصطلحاً للنقد الثقافي الجديد الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي يتأسس من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى، يمكن القول... إنّه معني بالعالم كما كان موجوداً أثناء فترة الهيمنة الإمبراطورية الأوروبية وبعدها، وبتأثيرات تلك الفترة في الآداب المعاصرة."[2]

يتجلى لنا هنا الطابع البيداغوجي في هذه النزعة الاختزالية Réductionnisme داخل القول؛ أولاً نجد هنالك اقتصاراً مفرطاً حينما حاول مؤلفو هذا الكتاب ربط الاستعمار فقط بما هو أوروبي، متناسين في ذلك بلداناً أخرى ساهمت في العملية الاستعمارية يمكن مقاربتها بمقولات نقدية كونية نوعاً ما، مستمدة من حقل هذه الدراسات، كما نجد من جهة أخرى محاولة لشرعنة خطاب يحاول أن يطال كلّ التجارب التاريخية الاستعمارية التي حصلت في العالم، في حين نجد أنّ الإيهام بوجود نظرية كونية شمولية يمكن تطبيقها على كلّ المستعمرات يُعدّ ضرباً من المستحيل، لأنّ المؤسسات الاستعمارية والمستعمرات في حدّ ذاتها تختلف من منطقة إلى أخرى. فهل يمكن مثلاً تطبيق مصطلح الإمبراطورية بحذافيره، لأنّه أصبح الآن سائداً في النقد ما بعد الكولونيالي الذي استمدّ مقولاته من التجربة التاريخية للمستعمرات الإنغلوساكسونية؟ هل يمكن تطبيقه على الاستعمار الفرنسي؟ فعلاً لقد سادت فترات من الإمبراطورية في الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، ولكن ما يلاحظ تاريخياً فإنّ ما جعل الاستعمار الفرنسي يدوم ويطور نفسه ويتجذر في مستعمراته داخل إفريقيا وخارجها هو تداول الجمهوريات، خاصة الجمهورية الثالثة التي قامت على أنقاض ثورة كمونة باريس المعروفة بانتهاء مرحلة نابليون الثالث. لهذا فكلمة جمهورية يمكن أن تكون مصطلحاً نقدياً مهمّاً يساعد على فهم ميدان استعماري كان له وجود تاريخي معروف.

للأسف لم نجد اهتمامات بالنقد ما بعد الكولونيالي داخل الثقافة الفرنسية المعاصرة، ويرجع الأمر إلى أنّ مبادئ الجمهورية لا تريد أن تعترف بماضيها الاستعماري، لأنّه يُعدّ مفارقة في تاريخها ومفارقاً لنزعتها اليعقوبية. فكيف يتسنى لفرنسا التي تُعدّ مركز الأنوار في أوروبا أن تعترف بتاريخ دموي، فتواجه ذاكرتها دون أن تقع في تناقض من طبيعة أنطولوجية Ontologique؟ إنّ بداية التفكير في الذاكرة الاستعمارية داخل الجمهورية سيبدأ بتشريح وبتدمير لكلّ الأساطير المؤسسة التي بنيت عليها الدولة-الأمّة في فرنسا. لهذا يمكن الاعتقاد بأنّ فرنسا مازالت تعيش حالة الجبن الذي تكلم عنها كثيراً المفكر والشاعر إيمي سيزار في كتابه "خطاب حول الاستعمار".

لم يكتفِ مؤسسو الدراسات ما بعد الكولونيالية بالتركيز على ثنائية مستعمَر/مستعمِر، بل راحوا يفتحون المجال لما يمكن أن يطلق عليه اليوم مصطلح الذوات الكولونيالية، ضمن إطار التوابع Les subalternes، والزنوجة والجندر.

تقول مثلاً قياتري شاكرافورتي سبيفاك، التي تُعدّ من مؤسسي دراسات ما بعد الكولونيالية في شقها الخاص بدراسات التابع عن المجال الذي تشتغل عليه: "تنطلق هذه الدراسة حسب مسار منعرج بالضرورة، من نقد للجهود المخولة حالياً في الغرب لأشكلة الذات، وللوصول إلى سؤال يطول الكيفية التي تُتَمَثَّل بها الذات في العالم الثالث في كنف الخطاب الغربي.... سأركز أكثر على الحجة، التي يمكن أن تفاجئ البعض، بأنّ الإنتاج الثقافي الغربي شريك، بطرق عدة، مع المصالح الاقتصادية العالمية الغربية".[3]

حينما نقرأ أهمّ ما كتبه نقاد ما بعد الكولونيالية، نكتشف أنّهم استطاعوا تفكيك التمركز الغربي بفسح المجال للهامش أن يتكلم ويثبت به نفسه في عالم لا تسوده العدالة الخطابية. فما فعله إدوارد سعيد وهومي بابا وسبيفاك، كمثقفين يعيشون المنافي في الغرب، هو اكتشاف النتائج الوخيمة للاستعمار الذي جعل الذوات المستعمرة تعيش حالات من الانشطار والتمزق.

لهذا، سيتمّ التركيز في هذا الحقل الذي اغترف الجزء الكبير المساهم في تشكيل قوته الخطابية من مقولات ما بعد حداثية تفكك كلّ هويّة منغلقة وكلّ تمركز جديد. حينما نقوم بإطلالة على مفهوم الهويّة عند نقاد ما بعد الكولونيالية سنجده يقوم على براديغم الغيرية الذي تبلور في كنف سياسة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فلكي يتمّ تجاوز العنصرية والصراعات العرقية المدعية للسمو والمساهمة في الدمار الذي لحق بالإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين، راح الكثير من الفلاسفة والنقاد والمثقفين يركزون على ضرورة تقويض المقولات المتمركزة على ذاتها فاتحين بذلك براديغماً جديداً: الغيرية.

البنابية وبراديغم الحضارة:

يحاول بن نبي أن يفهم مشكل التخلف الذي يعاني منه المسلمون ضمن إطار شامل يطلق عليه مصطلح الحضارة. والحضارة عنده مركّب من معادلة تضمّ الزمن والتراب والإنسان ضمن جدلية فاعلية تصنعها الثقافة كذهنية وليس كركام من المعلومات والأفكار المبعثرة.

حينما يحاول بن نبي فهم ظاهرة الاستعمار لا يكتفي كما هو الحال عند العديد من الدارسين باعتباره سبباً لكلّ المصائب التي طالت العالم الثالث عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً، إنّ بن نبي يضع دائماً مصطلحاً مقابلاً لمصطلح الاستعمار هو مصطلح القابلية للاستعمار الذي يُعدّ من طبيعة بنوية؛ يمكن بواسطته تغيير المعادلة الخاطئة التي وقع فيها العديد من الدارسين.

إنّ الكثير من المهتمين بتشريح ظاهرة الاستعمار من أمثال إيمي سيزار وفرانز فانون يعتقدون أنّ التخلف الذي تتخبط فيه الكثير من الدول المستعمرة سابقاً يرجع إلى الاستعمار الذي استأصل الثقافة المحلية ولم يستطع، إرادياً ولا إرادياً، استبدالها بالثقافة الوافدة المهيمنة، لهذا تعتبر مرحلة ما بعد الاستعمار مرحلة متعثرة، لأنّ الذوات المستقلة وجدت نفسها مفرغة من مشاريع البناء والبعث.

لا يرفض بن نبي هذا التفسير التاريخي، ولكن لا يقبله على علاته، لأنّه اختزالي وتبسيطي ويتناسى أنّ الاستعمار قبل أن يكون سبباً في تخلف المستعمرين كان بدوره نتاجاً لهذا التخلف. فمفهوم القابلية للاستعمار الذي يحدّده بن نبي تاريخياً ابتداء من سقوط دولة الموحدين جعله يسم الحالة الإسلامية بانعدام الفاعلية لانتفاء إنسان الحضارة. بل من الناحية البنوية يرجع بن نبي تراجع العالمية الإسلامية بعودة النعرات الحزبية وطغيان فكر الزعامات الأناني وبروز الفكر القبلي من جديد في معركة صفين.

حينما جاء الإسلام، حسب بن نبي، حرّر الفرد بالقضاء على القبيلة وبإضفاء مفهوم الخلافة التي فهمهما الجيل الأول كغائية في الوجود، فكان الضمير الأخلاقي يبعث الفرد في إطار الجماعة على تحديد دوره الحضاري المنوط به، لهذا تُعدّ هذه اللحظة لحظة خروج من العقل الذري إلى العقل الكوني. لقد شكلت هذه المرحلة المحرك والدينامو الحضاري للشعوب المسلمة، ورغم توقف هذا المحرك عن الشحن في التحولات التي حصلت في صفين إلا أنّ البطارية وحدها بقيت شغالة لمدة تزيد عن أربعة قرون وصولاً إلى عصر الموحدين، وهذا ما يفسّر القوة الحضارية التي مني بها الإسلام والسبب الذي جعل التاريخ الإسلامي ينبض على شكل صدمات كهربائية هنا وهناك على الرغم من موته الإكلينيكي الذي ابتدأ في عيادة صفين.

إنّ هذه الحالة من التراجع الحضاري ولدت في العقل الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا سمات ذهنية يطلق عليها بن نبي مصطلح إنسان ما بعد الموحدين. لا يتوانى صاحب شروط النهضة عن الاعتقاد بأنّ مصطلح ما بعد الموحدين مقولة تحليلية من طبيعة أنثروبولجية وبسيكوسوسيولوجية. فالواقع يبين صفات بارزة في الإنسان المسلم منذ سقوط الموحدين، أصبحت بمثابة أنماط جاهزة سبقت ظهور المستشرقين بزمن طويل.

لم يتوقف بن نبي عن تشخيص الحالة الباتولوجية لإنسان ما بعد الموحدين، فهو فرد أو جماعة لا تعيش الفاعلية لأنّها لا تحترم الإنسان ولا التراب ولا الزمن، تقدّم الدين دائماً كحالة فردية متعلقة بالآخرة وحديث النهايات ولا تقدّمه كحالة اجتماعية تساهم في توطيد النسيج المجتمعي، تطالب دائماً بحقوقها متناسية واجباتها، في حين يقوم إنسان الحضارة الحقيقي بالعكس تماماً، لا تفكر الأمور في سياق شامل يربط الكيان بالصراع الأيديولوجي، بل تفكر دائماً في إطار طائفي وقبلي ومذهبي.

انجرّ عن هذا الوضع إنسان خمول، ثقافته إن وجدت لا تفضي إلى الفاعلية وسياسته لا تؤدي وظيفتها لأنّها بدون مشروع حضاري، فانقلبت إلى بوليتيك، تصنم الزعامات ولا تكترث ببناء الحضارة انطلاقاً من بناء الإنسان ثم الدولة ثم الأمّة. لقد انجرّ عن هذا الوضع ذهنية جديدة متعفنة سيطلق عليها بن نبي القابلية للاستعمار، التي ساهمت بقدر كبير في فتح أبواب القلعة أمام المستعمِر ليعشش فيها.

يقول بن نبي ملخصاً كلّ هذا: "تصبح نتائج الفاعلية بدهية في البداية في الحالة الاجتماعية والاقتصادية لكلّ مجتمع متحضر، فلا تعد الحضارة سوى تعبير عن مستوى معين من الإنسان والتراب والزمن، كعناصر متورطة في كلّ من هذه المنتوجات، أي بصفة عامة تندرج كلّ هذه الأمور ضمن تركيب أصيل"[4]

حينما نفهم هذه الرؤية، نستنتج أنّ بن نبي يتجاوز في منظومته المعرفية الدراسات ما بعد الكولونيالية التي تحاول إعطاء الاستعمار دوراً أكبر منه بكثير، فالاستعمار قبل أن يكون سبباً في تخلف الجزائريين مثلاً كان الجزائريون يعانون من أسباب التخلف البنيوي (الداخلي). لهذا قد يجانب الكثير من الدارسين المتأثرين مثلاً بإدوارد سعيد الصواب حينما يعتقدون أنّ ما حاول الاستشراق العالم أو الرمزي (المخيالي: الأدبي والفني والتشكيلي) إلصاقه بالشرقيين من تنميطات جاهزة مثل الكسل والسرقة والتخلف والتفرّق يُعدّ من قبيل الصفات غير الحقيقية، بل التاريخ قمين بأن يبين أنّ العرب في شمال إفريقيا قبل وجود الاستعمار عاشوا هذه الظواهر، ولعل ما كتبه ابن خلدون في مقدمته دليل على ذلك.

قد نبتعد عن حقيقة أنفسنا حينما نكذّب واقعاً تاريخياً موجوداً بالفعل، فما قاله المستشرقون وما وصفه الرحالة في القرن التاسع عشر لا يخالف الحقيقة في كلّيته، فما يمكن أن نختلف فيه مع المستشرقين والعنصريين الاستعماريين هو جعل هذه الصفات الناتجة عن التخلف صفات جوهرانية من طبيعة كليانية وغير تاريخية يمكن أن تنسف مع عودة الحضارة. بعبارة أخرى لم يولد الشرقي بصفات سلبية، ولو وجدنا هذا الشرقي بهذه الصفات فهي من صنع التاريخ وليس الفطرة.

البنابية ورهانات ما بعد الاستعمار:

هنالك حالة تميز بن نبي كذات وجودية، لقد عاش التجربة الكولونيالية وراقب الثورة الجزائرية محللاً وناقداً وساهم في بناء الجزائر المستقلة، لا نكاد نجد تجربة متنوعة ومتابعة لثلاث حقب مثل تجربة مالك بن نبي. لقد عايش بن نبي الفترة الاستعمارية في الجزائر وفرنسا، كما عايش الثورة الجزائرية مدافعاً عنها في المحافل الدولية في القاهرة، وعايش الجزائر المستقلة في مدينة الجزائر العاصمة مديراً للتعليم العالي.

إنّ الفترة التي عاشها في القاهرة أغنت كثيراً تجربته على الرغم من المعاناة التي حكى بعضاً من تفاصيلها في دفاتره (1958-1973). لقد تواجد بن نبي في زمن ازدهار الناصرية، وهو الزمن الذي بدأ يفكر فيه المشروع الأفروآسيوي. في هذه الفترة بالذات كتب بن نبي كثيراً عن مفهوم الثورة وأسباب تعثر الثورات في العالم الثالث. تفطن إلى أنّ مسار الثورة بدأ ينحرف عن اتجاهه الصحيح في 1956 بعد مؤتمر الصومام الذي ولد حسّ الزعامة وصراع العصب في قلب المعركة.

بعد الاستقلال كرّس بن نبي معظم محاضراته ومقالاته للكيفية التي يمكن بوساطتها أن يُفعِّل شعب ما فاعليته لبناء حضارة تُعدّ غائية الغائيات، وللظروف المواتية السانحة لتشكل ثقافة فعالة بعيدة كلّ البعد عن الفولكلورية والتَبَرْجُز الرث، وللوعي النقدي الذي سيساهم في تجسيد أيديولوجية بعيدة كلّ البعد عن الاستلاب والترقيع المجاني، وللأبعاد السياسية الديموقراطية الجديرة بخلق دولة تعد نتاج قاعدة عريضة تأخذ بعين الاعتبار مركب الإنسان والتراب والزمن، بعيداً عن أوجاع البوليتيك ودهاني السهولة والمستحيل.

البنابية مقابل الفانونية:

عندما نحاول التعرف على العلاقة الموجودة بين بن نبي وفرانز فانون نندهش من وجود فانون عند بن نبي وعدم وجود بن نبي عند فانون!. فعلى الرغم من أنّ أفكار بن نبي، التي يعد نقد الاستعمار مركز جاذبية فيها، أصبحت منذ مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم محل دراسة واستشهاد ونقد إلا أنّنا لا نجدها تستقطب مفكراً كرّس كلّ حياته لنقد الاستعمار.

حينما نقوم بعملية مقارنة بين فكر بن نبي وفانون نلاحظ أنّهما يشتركان في نقطة مهمة جداً، تتعلق بمسألة قصور العناصر الثورية واللاثورية عن القيادة بعيد الاستقلال. لقد طرح بن نبي هذه المسألة حينما سلط الضوء على ظاهرة الزعامة التي راحت تحتكر فكرة النضال وتنبذ كلّ رؤية مخالفة وكلّ مقاربة نقدية. لقد عانى بن نبي كثيراً ممّا يسميه المكتب رقم 2، الذي يعده مناوئاً لأفكاره الحضارية من جهة القابلية للاستعمار، لهذا كرّس الجزء الأخير من مذكراته لتعرية التعفن الذي بدأ ينتشر أخطبوطياً في النزعة النضالية الجزائرية.

تفطن بن نبي إلى أنّ الزعماء الذين بدؤوا يتقاتلون فيما بينهم بوساطة التصفيات الجسدية والنفي والتعتيم لا يمكنهم بأيّ حال من الأحوال تسيير جزائر ما بعد الاستقلال، لأنّهم يفتقدون إلى المشروع الحضاري، ولأنّ الأنانية السياسية تنخرهم إلى النخاع. فاحتكار الثورة بدأ بعد مؤتمر الصومام حيث استولت جماعة على روحها، وراحت تبني مستقبلاً للجزائر مضبباً انطلاقاً من أيديولوجيا متقهقرة قائمة على يعقوبية منحطة.

في الوقت الذي كتب فيه فانون معذبو الأرض كان على يقين من أنّ الشعوب التي اختارت طريق التحرر ستنال الحرية عاجلاً أم آجلاً، ولكن، لم يكن هذا الاعتقاد همّ فانون، بل كان همّه الحقيقي الرهانات والسناريوهات المسرودة للتنبؤ بمرحلة ما بعد الاستقلال. فليست العبرة عند فانون بالاستقلال ولكن العبرة بالمحافظة على هذا الاستقلال، والثورة الحقيقية لا تنتهي عند خروج المستعمر بل تبدأ فعلياً عند مرحلة الاستقلال.

يحاول فانون أن يفسّر تشاؤمه من مرحلة الاستقلال انطلاقاً من تفسير طبقي يقوم على أسس سوسيولوجية. إنّ الواقع يبين أنّ الثورة التي قام بها الجزائريون هي ثورة فلاحين تقاعست عنها البرجوازية الجزائرية في المدن ولم تستسغها البرجوازية الوطنية التي شككت دائماً في عفويتها. يقتنع فانون بأنّ الفلاحين لا يمكنهم تقديم نموذج معقلن للدولة، لهذا سيتمّ التركيز على الطبقة المثقفة التي تُعدّ العمود الفقري للبرجوازية الوطنية، ولكن هل تستطيع هذه الطبقة البرجوازية الوطنية تسيير جزائر ما بعد الاستقلال؟

يقول فانون: "إنّ البرجوازية الوطنية التي ستأخذ بزمام السلطة بعد نهاية النظام الاستعماري برجوازية متخلفة. تُعدّ قوتها الاقتصادية هشة، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال مقارنتها مع القوة الاقتصادية للبرجوازية الميتروبوليتانية التي تدعي استخلافها. انطلاقاً من نرجسيتها التطوعية، تتوهم البرجوازية الوطنية بسهولة أنّها تستطيع أن تكون مكان البرجوازية الميتروبوليتانية".[5]

إذن، على الرغم من الاختلاف النسبي في المنطلقات المتواجد بين بن نبي وفانون إلا أنّ النظرة الواقعية التي تنطلق من التجربة والقلق الوجودي جعلت الرجلين يتفقان على أنّ مرحلة الاستقلال ستعاني ممّا يمكن أن نطلق عليه أزمة البدائل.

يختلف بن نبي مع فانون في تشخيص الظواهر النفسية والسوسيولوجية، إذ لا يعتقد بن نبي أنّ الباتولوجيات الموجودة في الذوات الكولونيالية يمكن اختزالها فقط في السبب الاستعماري، إنّ هذه الباتولوجيات لها جذور بنوية تمتدّ في التاريخ تغير شكلها، وما الاستعمار سوى سبب ساهم في تكوين شكل من هذه الأشكال التي سلط فانون الضوء عليها.

فعلاً، استطاع فانون أن يكتشف حالات باتولوجية خاصة بالمستعمر مثل تبدّد الشخصية، ولكن حينما يتكلم عن الاستلاب الثقافي الكولونيالي فهو بذلك يرجعه إلى حالة جدلية لا تخرج عن ثنائية مستعمَر/ مستعمِر. لا يرى بن نبي ظاهرة الاستلاب الحضاري نتاج الصدمة الكولونيالية، بل يعتبر بطريقة ديالكتيكية الصدمة الاستعمارية هي نتاج الاستلاب الحضاري في شكله البسيكو-سوسيولوجي: القابلية للاستعمار.

لهذا السبب خصّص بن نبي ملاحظة عميقة لفانون في دفاتره، بيّن فيها احترامه لكتاب "معذبو الأرض"، ولكن لامه على الطابع التعميمي حينما لم يولِ اهتماماً بالبنية الثقافية الخاصة للشعوب المسلمة المستعمرة عموماً وللشعب الجزائري على الخصوص.

قال بن نبي في خاطرة بعنوان فرانز فانون والثورة الجزائرية يوم 26-03-1962: "كلّ ثورة لها موسيقى خاصة يمكن ترجمتها إلى فلسفة ثورية في علاقة مع الثورة في موضوعيتها الشاملة ومع الجذور العميقة للذاتية وللروحية السحيقة للشعب الذي يقوم بها. لهذا، يُعدّ كتاب فانون، على الرغم من قيمته وعبقريته، بعيداً عن ترجمة فلسفة الثورة الجزائرية وموسيقاها. لم يكن فانون في يوم من الأيام في حياته على علاقة بموضوعيته الكليّة، ولا بروحانية الشعب الجزائري. لقد كان غائباً عنه بطريقة مزدوجة".[6]

إنّ من يقرأ هذا الكلام سيشعر بنوع من الحكم القاسي الذي وجّهه بن نبي لفانون، ويمكن أن يعتقد البعض أنّ بن نبي جانب الصواب لأنّ فانون عاش في الجزائر بالبليدة كطبيب للأمراض العقلية والتحق بالمجاهدين الجزائريين وعاش في الكنف السياسي للثورة. كيف يعقل أن نتهم رجلاً باللاواقعية وهو منخرط تماماً في قلب المجتمع الجزائري؟

حينما نعرف جيداً فكر بن نبي نفهم أنّ ما قصده من هذا الحكم نحو الرجل لا يرتبط بالشك في إخلاص فانون تجاه الثورة الجزائرية، فالرجل يُعدّ من المناضلين الكبار في صفوفها، ولكن ما يقصده بن نبي أنّ فانون تناسى العنصر الأنثروبولوجي الثقافي النسبي الخاص بكلّ مجتمع عاش الاستعمار على حده.

فعلاً يمكن أن يتسرع المرء إلى التفكير في نظرية كونية حول ظهور ظاهرة الاستعمار والميكانيزمات المتحكمة في الأيديولوجيا الاستعمارية والنتائج المترتبة على ذلك نفسياً واجتماعياً، ولكن لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الدقيقة المتواجدة بين المستعمرات في العالم.

لقد سقط في الفخ المعرفي نفسه الكثير من المنظرين في الدراسات ما بعد الكولونيالية، حينما أرادوا توطين نظرية كونية في الدراسات الاستعمارية، ممّا جعل البعض الآخر مثل آنيا لومبا وتيري إيغلتون يحذرون من قراءة تواريخ وحيوات الاستعمار قراءة واحدة تمحو الفوارق القمينة بتعميق نظرتنا حول الاستعمار.

في نقد الاستشراق:

بعد المقدمة التي كتبها بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية عن الاستشراق، عاد إلى دراسته في 1968 ضمن ثلاثة أعداد من مجلة "الثورة الإفريقية". اهتمّ بن نبي في هذه الدراسة بظاهرة الاستشراق التمجيدي.

يفرّق بن نبي بين نوعين من الاستشراق: نوع من الاستشراق الحاقد والمتورط مع المؤسسة الاستعمارية والأجهزة الغربية، ونوع من الاستشراق الذي يمجّد الحضارة الشرقية والمسلمة بالعودة إلى ثرائها الثقافي وفتوحاتها العلمية. من الذين اهتمّ بهم بن نبي في دراسته مكسيم رودنسون الذي افتتح مقاربة استشراقية جديدة من الناحية المنهجية حينما استعان بالفرودية والماركسية في دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

حينما عالج بن نبي مسألة الاستشراق التمجيدي حاول أن يطرح السؤال الآتي: هل يخدم هذا الاستشراق الثقافة والبناء الحضاري المسلم؟ لماذا نلاحظ احتفاء كبيراً بهذا النوع من الاستشراق؟ ولماذا يمكن لهذا النوع من الدراسات أن يكون خطيراً على الشعوب المتخلفة؟

في البداية يندهش بن نبي من المحاولة المنهجية الغريبة التي راح من خلالها رودنسون يدرس شخصية النبي عليه الصلاة والسلام. فحسب صاحب كتاب الظاهرة القرآنية لا يمكن الاستغناء عن الفترة المكيّة التي تُعدّ دالة في التعرف على ظاهرة الوحي بالتركيز فقط على الفترة المدنية. كما لا يمكن تطبيق منهج استمدّ أصوله التحليلية ومقولاته الإدراكية من زمن مغاير ومختلف عن الزمن المحمّدي.

لم يستسغ بن نبي هذا النوع من الخطاب الاستشراقي التمجيدي، لأنّه ينأى بالفكر الإسلامي عن الواقع ويخلق عقدة نقص تعويضية نجدها عند الكثير من العرب والمسلمين المتأثرين بهذا المنهج، ويضرب بن نبي مثالاً على ذلك بتفسير الطنطاوي الذي راح يرحب بالكثير من آراء المستشرقين التمجيديين الغارقين في الاحتفاء بالماضي دون ردّ الاعتبار لما هو معاصر يساعد على تفعيل الثقافة وتدجيج الروح الحضارية.

من جهة أخرى لاحظ بن نبي بطريقة ذكية جداً أنّ هذا الخطاب الاستشراقي التمجيدي راح يركز كثيراً على الجوانب الفولكلورية في الإسلام متناسياً الجوانب الثقافية البارزة في استنبات إنسان الحضارة. وهنا بالضبط تتدخل المؤسسة الاستعمارية، في مستوى الصراع الأيديولوجي، حينما تلاحظ وجود أفكار حيّة تتجه نحو المستقبل فتستبدلها بأفكار ميتة تتجه نحو الماضي للقيام بعملية مراوغة ومخاتلة.

يقول بن نبي في هذا الصدد: "سنلاحظ في ظروف معينة الكيفية التي يتهيأ بها المختصون من المستعمرين حينما تقدّم فكرة عمل أو تأمل جاد للجماهير الإسلامية، إنّهم يحاولون تحريف النقاش بتقديم أفكار مغرية من الحلم للجماهير نفسها وفي الظروف عينها، مثل أفكار ألف ليلة وليلة".[7]

استطاع بن نبي في هذا المضمار أن يتفطن للطابع الإيكزوتيكي المستغل في الدراسات الاستشراقية، بحيث، كما يرى إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، عمّق الهوّة بين الشرق والغرب وخلق شرقاً كما يحبه الغرب وليس شرقاً شرقياً.

لا يمكن للمنظومة الفكرية البنابية تقبل هذا النوع من الاستشراق، لأنّه يُعدّ بمثابة ذرّ الرماد في العيون. ففكرته عن الحضارة والكيفية التي تفعل بها الثقافة لصناعة الإنسان المسلم لا تتماشى مع استشراق يولد العقد الدونية ويحرف النقاش الحقيقي عن مساره.

يشترك بن نبي في هذا المجال مع إدوارد سعيد الذي استطاع أن يدرس الاستشراق كمنظومة من التمثلات التي ساهمت في صناعة شرق مزيف بعيد كلّ البعد عن روحية الشرق. فالرجلان يشتركان في نزعة شكّية تجاه الخطاب الاستشراقي وصلت عند بن نبي إلى تفسيره في المستوى النفسي وعقد النقص، أمّا عن إدوارد سعيد فراح بعيداً عندما بلور مقولة اللاشعور الكولونيالي، ساهمت بطريقة عميقة في استكناه المسكوت عنه والمكبوت في الخطابات الاستشراقية.

في الأخير، لا يمكن فتح الدراسات ما بعد الكولونيالية في طبعتيها ما بعد الحداثية المتأثرة بحفريات فوكو وتفكيكية ديريدا على الفكر البنابي، لأنّ بن نبي لا ينتمي إلى زمان يروم نسف ثنائية عالم إسلامي وعالم غربي، إنّ بن نبي يؤمن بأنّ الصراع الذي يحاول مفكرو ما بعد الكولونيالية رفضه يُعدّ عصباً حسّاساً في تدافع الحضارات عبر التاريخ. لذلك فمفهوم الهويّة الإسلامية من البدهيات التي لا يمكن لأيّ بنابي أن يضحي به. أمّا عن الدراسات التي تتواجد هنا بصدد المقارنة فهي تبحث عن الهجنة كبديل لكلّ هويّة تسمها بالميتافيزيقية والوهمية.

يبقى، لكي لا نغلب طرفاً واحداً في الدراسات المذكورة، التذكير بأنّ هنالك مدرسة أخرى يمكن أن يطلق عليها مدرسة تصفية الاستعمار، يقودها مثلاً آشيل مامبي، تقترب كثيراً من البنابية حينما تدعو إلى مبدأ دعا إليه كثيراً بن نبي حينما قال: "في كلّ بلد يتحمّل الحضارة لا بدّ أن يكون الفعل الأكثر ثورية هو الفعل الذي يصفي الإنسان من الاستعمار".[8]

لقد كرّس أشيل مبامبي كتابه حول فترة ما بعد الاستعمار بدراسة تتصدّى للانحراف الذي وقعت فيه دراسات التابع والدراسات ما بعد الكولونيالية، خاصة عندما سقطت في مشكلة عويصة، تتجسّد في خلق هوّة سحيقة بين الغرب والعالم الثالث لدرجة انتفاء القطبين بسبب الحقد الدفين للغرب، وبسبب ربط كلّ منابع الهيمنة بالاستعمار والإمبريالية، فهنالك الكثير من المنابع اللاشعورية التي تجاهلتها هذه الدراسات، وهي منابع قريبة ممّا حاول بن نبي تبيانه طيلة مساره الفكري.

يقول آشيل مبامبي: "عوضاً عن تفسير طبيعة وأسباب الهيمنة بوساطة الأسباب الآتية (الاستعمار والإمبريالية والصراعات الطبقية والإثنيات وإلخ...) يقترح هذا الكتاب تحديداً، بطريقة عامة، لمنبع الهيمنة في العلاقات الحميمية بين من يريد استعمالها ورغبة من يذعن لها، يريد أن يبين هذا الكتاب أنّ الانقياد في المستعمرات تتواجد بعض منابعه في اللاشعور، سواء عند المستعمِر أو المستعمَر، ضمن دلالة تشتغل وفق اقتصادين: اقتصاد المتعة واقتصاد الرغبة اللذين ليسا ببعيدين عن دافع الموت".[9]


[1] Marie-Claude Smouts et les autres, La situation postcoloniale, Ed, Sciences Po, Paris, 2007, p: 33.

[2] بيل أشكروفت وآخرون، الردّ بالكتابة، النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، تر/ شهرت العالم، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2006، ص 16

[3] Gayatri Chakravorty Spivak, Les subalternes peuvent-elle parler? Ed, Amsterdam, Paris, 2009, pp: 13-14.

[4] Malek Bennabi, Les conférences, éd, El Borhane, 2015, Alger, p: 28.

[5] Frantz Fanon, Les danmés de la terre, in Œuvres, éd, Hibre, 2014, p: 554.

[6] Malek Bennabi, Mémoires d'un témoin du siècle, éd, Somar, 2006, p: 464.

[7] Malek Bennabi, Les conférences, p: 103.

[8] Malek Bennabi, Articles de presse, 1964-1968, éd, El Borhan, Alger, 2013, p: 45.

[9] Achille Mbembé, De la postcolonie, Essais sur l'imagination politique dans l'Afrique contemporaine, éd, Karthala, 2000, Paris, p: 21.