قراءة في كتاب: التنوير والثورة: دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب:  التنوير والثورة: دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع

1. الكتاب في إطاره: مدخل لقراءة النصّ

صدر كتاب "التّنوير والثّورة: دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع؟" للكاتب التّونسيّ محمّد الحدّاد في تونس عن دار محمّد علي الحامّي سنة 2013، ويمثّل آخر أركان سلسلة "التّنوير" الّتي شرع فيها الكاتب منذ سنة 2005 حين وضع "مواقف من أجل التّنوير"، ثمّ أردفه بكتاب في "قواعد التّنوير" سنة 2009، وقد صدر الكتابان الأخيران عن دار الطّليعة ببيروت.

هذا الكتاب إذن هو جزء من مشروع فكريّ بناه صاحبه على تصوّر فلسفيّ لمجالات الاجتماع والسّياسة والثّقافة، ولا ريب أنّ هذا التّصوّر مستوحى من فلسفة الأنوار الّتي اعتُبرت الثّورة الفرنسيّة تتويجا لها أو تحويلا لمقولاتها من مجال المكتبات إلى مجال الشارع، ومن الأذهان إلى الواقع.

إنّ عنوان الكتاب خير مدخل إليه، فصاحبه مؤمن بأنّ ثورات الرّبيع العربيّ الّتي انطلقت من تونس بين تاريخي 17 دجنبر 2010 و14 يناير 2011 تحتاج إلى إطار ثقافيّ حداثيّ يضمن انتقالا ديمقراطيّا سلسا، ويقطع مع قرون من الاستبداد أو الفوضى. ومن شأن هذا الإطار الثّقافيّ أن يحتضن تجديد التّفكير الدّينيّ، بعيدا عن إقصاء التيّارات الإسلاميّة وبعيدا عن ولاية الفقيه السّنّيّ أو الشّيعيّ، وهو بذلك يستحضر الثّورة الإيرانيّة الّتي أطاحت بنظام استبداديّ، ولم تغيّر إلاّ رموزه، فجاءت بنظام صادَرَ الحريّات، ومن شأنه أيضا أن يكيّف تواصلنا مع "الذّات الموروثة" في إطار النّظام العالميّ الجديد.

إنّ الثّورة في حاجة إلى التّنوير ضروريّة، حتّى تحقّق أهدافها وتبلغ مراميها ولا تحيد عن خارطة الطّريق. وإذا كانت دلالة العطف في العنوان الكبير يمكن اختزالها في العلاقة الجدليّة، فإنّ بنية الاستفهام في العنوان الصّغير تعبّر عن رغبة ورهبة: رغبة في دمقرطة الحداثة بمعنى تعميمها على كافة فئات الشّعب ورفض طابعها النّخبويّ، ورهبة من أخونة المجتمع على غرار ما حصل في الصّومال والسّودان وإيران؛ أي فرض أطروحات الإسلام السّياسيّ التّقليديّة باسم الدّيمقراطيّة، بما أنّ الانتخابات التّونسيّة والمصريّة بعيد الثّورة أفرزت صعود الإسلاميّين الّذين يخصّهم الكاتب بمصطلح "الإخوان" دفعا لالتباسهم مع المسلمين.

إنّ الدّاعي الرّئيس للكتابة هم الدّفاع عن نظريّة "الانتقال الدّيمقراطيّ" ورفض نظريّتي "الاستبداد العادل" و"الفوضى الخلاّقة"، وللكتاب ثلاثة مقاصد متكاملة: تقديم تفسير علميّ لظاهرة الثّورة، وتقديم آفاق إيجابيّة لثورات الرّبيع العربيّ، وتنزيل هذه الثّورات ضمن مسارات المشروع الإصلاحيّ والتّنويريّ العربيّ.

وفي هذا الإطار، يعتبر محمّد الحدّاد مشروعَه حداثة نقديّة مخالفة للعلمانيّة النّخبويّة وللأصوليّة الاستبداديّة. واحتاج إلى خمسة فصول لعرض معالم هذا المشروع وبلوغ مقاصده.

2. مضامين الكتاب ومناهجه: التّنوير والثّورة:

الفصل الأوّل: نظريّة الانتقال الدّيمقراطيّ

لا نجانب الصّواب، إنّ قرّرنا أنّ أهمّ ما شغل محمّد الحدّاد هو إقناع الفاعلين السّياسيّين في العالم العربيّ بجدوى تبنّي نظريّة الانتقال الدّيمقراطيّ بديلا عن "الفوضى الخلاّقة" وسياسات الاستبداد. ولا نشكّ أنّ فصول الكتاب الخمسة تتقاطع في هذه النّقطة المحوريّة. وقد توزّع الفصل الأوّل بين ثلاث لحظات زمنيّة عودا على طبيعة الحكم في التّراث الإسلاميّ، وتشخيصا لخصوصيّات الفترة الانتقاليّة واستشرافا لمآلات الثّورات الممكنة.

تتكرّر منهجيّة الالتفات إلى الوراء في مشروع ّالتّنوير والثّورة، إمّا لاستلهام المنهجيّة السّليمة للانتقال الدّيمقراطيّ والتّحذير من المزالق والارتدادات والانحرافات الّتي وقعت فيها ثورات الشّعوب على أنظمتها الفاسدة، وإمّا لتأكيد مدنيّة السّلطة في الإسلام المنفتح على الحريّة والدّيمقراطيّة، رغم الانزياح -عمليّا- عن هذا الطّابع المدنيّ وهدر الحريّات الفرديّة والجماعيّة على السّواء.

يؤكّد الكاتب إذن مدنيّة الدّولة في الإسلام، لكنّ ذلك لم يمنعها من الاستبداد بسبب "العقد التّفويضيّ"؛ فالبيعة تفويض للخليفة أن يحكم مدى الحياة وأن يورّث عرشه. وينبّه إلى أنّ "الدّيمقراطيّة ليست عقدا تفويضيّا مطلقا"، بيد أنّ غياب الدّيمقراطيّة -بمعنى سلطة الشّعب- لا يسم تجربة الخلافة وحدها؛ ذلك أنّ "مشروع التّحديث التّونسي لم يكن في مساراته السّابقة ديمقراطيّا" (التنوير والثورة، ص12). وإنّما كان نخبويّا مع خير الدّين التّونسي ومع الحبيب بورقيبة. ما يُستخلص من ماضي الدّولة الإسلاميّة البعيد وماضي الدّولة التّونسيّة القريب أنّ "مسار تعميق الحداثة من جهة، ودمقرطتها من جهة أخرى، مسار طويل وشاقّ ينبغي أن يرعاه المجتمع المدنيّ" (ص13).

يترتّب عن ذلك أنّ الفترة الانتقاليّة الّتي تعيشها "دول الرّبيع العربيّ" منذ سنة 2011 وصولا إلى 2013 -سنة طبع هذا الكتاب- هي فترة حرجة وغائمة؛ لأنّها مختلفة عن الشّكل الكلاسيكيّ للانتقال الدّيمقراطيّ، ففي ألمانيا وإيطاليا ودول أوروبا الشّرقيّة حصلت ثورات على النّازيّة والفاشيّة والأنظمة الشّيوعيّة، لكنّ تراث هذه الدّول وفّر للثّائرين نمطا ديمقراطيّا اكتفوا بالدّعوة إلى العودة إليه، بينما لا عهد للدّول العربيّة بالدّيمقراطيّة فكرا أو ممارسة، ممّا يجعل الهدف الثّوريّ غائما.

وقبل تحديد هذا الهدف، ينفي الحاجة إلى مُوجّه إيديولوجيّ، إذ "لا تحتاج الثّورات كي تنجح في تحقيق أهدافها إلى إيديولوجيّات ثوريّة، لا علمانيّة ولا دينيّة"، (المصدر. ص14)؛ لأنّ الإيديولوجيا تحنّط الفكر وتنمّطه. يجب أن يكون الهدف "تغيير آليات ممارسة السّلطة وليس تغيير شخوص الحاكمين". (المصدر. ص15). وما ذلك بالأمر الهيّن، فبالعودة إلى التّجربة التّونسيّة يلاحظ الحدّاد أنّه "كان سهلا على الشّعب أن يتوحّد في الإرادة والعمل طالما كان الهدف ذا طبيعة محسوسة (الدّكتاتور وعائلته). أمّا إسقاط النّظام بالمعنى العميق، فهو أبعد من ذلك وأصعب منالا" (المصدر. ص11). وتتضاعف هذه الصّعوبة باستحضار واقع أنّ الشّعب التّونسيّ -مثلا- تخلّى عن شعارات الانتقال الدّيمقراطيّ وصارت أولويّاته تتعلّق بالخبر والعمل والأمن. ويتساءل الكاتب إن كان هذا الانحراف مقصودا وموجّها من نخب سياسيّة إعلاميّة أم موقفا شعبيّا عفويّا سليل قرون من الاستقالة السّياسيّة وسنوات من الفقر والبطالة.

إنّ كلّ هذه المزالق الحادثة والممكنة لا يمكن أن تحجب في المقابل "النّقلات التّاريخيّة الخمس للرّبيع العربيّ"، ويقصد رفع القداسة عن السّلطة السّياسيّة، فلم تعد "تابو" ممنوعا من النّقد والمساءلة، والتّضييق على إمكانيّة تزييف الانتخابات وترسيخ شعور الخوف من المحاسبة لدى المسؤولين وحريّة التّعبير والاحتجاج السّلميّ، وإدماج التيّار الإخوانيّ في العمل السّياسيّ العلنيّ

إدماجا من شأنه أن يجعل زعماءه قابلين للنّقد من جهة، وعارفين باحتياجات واقعنا الحقيقيّة لا المثاليّة.

الفصل الثّاني: حفريّات في الثّورات العربيّة

يبحث هذا الفصل في أسباب قيام الثّورات العربيّة بدءا بتونس مرورا بمصر وليبيا وصولا إلى سوريا واليمن، ويستبعد التّفسير بالطّفرة والمؤامرة، فمسار التّاريخ قلّما يخضع للصّدفة، والتّعليل بالمؤامرة يغضّ الطّرف عن مجموعة من المقدّمات المحليّة والإقليميّة، بعضها سياسيّ وبعضها اجتماعيّ واقتصاديّ ومعلوماتيّ. حاول الفصل التّعمّق في هذه المقدّمات من زاويتين مختلفتين، ولكن متكاملتين في تعليل قيام هذه الثّورات:

1. حفريّات في "الرّبيع العربيّ": مسار المراهنة على النّخبة: يرى محمّد الحدّاد أنّ الثّورات العربيّة تتويج غير مباشر لجملة من المبادرات والملتقيات الّتي انطلقت من "مسار برشلونة" عام 1993، ثمّ تبلورت في مشروع "الشّرق الأوسط الكبير" الّذي قدّمته الإدارة الأمريكيّة إلى الرّأي العام العالميّ في 2004. وتوزّع هذا المشروع في ثلاثة محاور كبرى، هي الإصلاح السّياسيّ بإرساء الدّيمقراطيّة، وبناء مجتمع المعرفة، والإصلاح الاقتصاديّ. وجدت الأنظمة العربيّة نفسها مجبرة على إعلان "مشاريع إصلاح" نتيجة هذه الضّغوط الأمريكيّة والأوروبيّة، وبالفعل ظهرت مبادرات إصلاح سنة 2004 في اليمن وقطر وتونس ومصر ولبنان. وقد قام الكاتب بتحليل مضامينها وانتقد نخبويّتها، ولكنّه اعتبرها مع ذلك المهد الأوّل للفعل الثّوريّ اللاّحق، يقول: "من الواضح أنّ سنة 2004 كانت محوريّة في قضيّة الإصلاح وأنّها مثّلت البذرة البعيدة للثّورات العربيّة، فهذه الثّورات استعادت في الواقع نفس ما كان قد طرح في تلك السّنة من أهداف ومطالب". (المصدر. ص55). ومن هذا المنظور، فإنّ الثّورات العربيّة لم تكن معزولة عن تطوّرات التّاريخ البشريّ الحديث، وخاصّة سقوط حائط برلين وثورات أوروبا الشّرقيّة وأمريكا اللاّتينيّة وإندونيسيا. ولكنّ الكاتب بذلك يربط الحراك العربيّ بطرفي نقيض: ذلك أنّ المؤتمرات الّتي كانت ترعاها الولايات المتّحدة خاصّة لم تكن تسير في خطّ واحد مع هذا التّراث الثّوريّ، فالأهداف تتباين تباينا شديدا، ثمّ إنّ تلك المؤتمرات كانت في شكلها وبرامجها أقرب إلى التّآمر منها إلى أن تتوفّر على رؤى إصلاحيّة، لذلك نعت الكاتب مشروعها بـ"الإصلاح المستحيل"، ولذلك نرى عدم وجاهة نفي التّعليل بالمؤامرة في تفسير الثّورات العربيّة، دون حجب الأسباب الأخرى طبعا. لقد نزّل الحدّاد الرّبيع العربيّ ضمن حركة التّاريخ الرّاهن، وقاده هذا التّنزيل إلى نتيجتين على قدر كبير من الأهميّة؛ أولاهما "أنّ الثّورات العربيّة جزء من حراك تاريخيّ شامل" وترتبط هذه النّتيجة بنتيجة ثانية سيقاربها في الكتاب من زوايا مختلفة، مفادها أنّه "لا معنى للزّعم بأنّ الثّقافة العربيّة أو الدّين الإسلاميّ يتعارضان مع الدّيمقراطيّة والحريّات". (المصدر. ص56).

2. حفريّات في "الرّبيع العربيّ": مسار المراهنة على الإسلاميّين: يرى الكاتب أنّ الإدارة الأمريكيّة وعت منذ بداية القرن الحادي والعشرين بتهرّم الأنظمة العربيّة الحاكمة وبفقدان النّخب اللّيبراليّة ثقة شعوبها وبتنامي الإسلام السّياسيّ في المنطقة فراهنت عليه لمحاربة الإرهاب الّذي صار كونيّا، مع العمل على "دمقرطة" هذه الحركات الإسلاميّة وضمان "اعتدالها"، يقول الحدّاد مصوّرا هذا التّحوّل في السّياسة الأمريكيّة الخارجيّة: "لقد انتهج بوش الابن منهج القطيعة والاحتراس من الإسلام السّياسيّ بسبب أحداث سبتمبر 2001، ثمّ انتهج باراك أوباما منهج التّقارب معها". (المصدر. ص62). وكان هذا التّقارب مشروطا بمقوّمات الاعتدال الأمريكيّة الّتي فرضتها على الحركات الإسلاميّة، وهي: الإعراض عن تطبيق الحدود/الشّريعة، واحترام المرأة، واحترام حقوق الأقلّيات، وتعريف الدّولة بطابع مدنيّ، ونبذ كلّ أشكال العنف. لقد قام الكاتب بمجهود معرفيّ كبير في تحقيق تقارير المؤسّسات والمخابر الأمريكيّة والأوروبيّة المنشغلة بالمنطقة العربيّة وبقراءة خطب السّياسيّين والنّظر الدّقيق في استبيان معاهد سبر الآراء، وانتهى إلى أنّ القوى الخارجيّة المؤثّرة اقتنعت أنّه لا يمكن توقّع مزيد من الدّيمقراطيّة والانفتاح اللّيبراليّ في منطقة الشّرق الأوسط خارج التّعامل مع الحركات الإسلاميّة المعتدلة.

وختم الفصل بتساؤل طريف ولكنّه عميق، ففي ظلّ التّجاذبات بين الغرب والإسلاميّين والمجتمعات العربيّة: من يروّض من؟

الفصل الثّالث: آفاق الثّورات العربيّة

إذا كان الفصل الأوّل ينظّر للانتقال الدّيمقراطيّ، والثّاني ينظر في الأسباب العميقة للثّورة، فإنّ هذا الفصل يستشرف آفاقا ممكنة للرّبيع العربيّ، ولكنّها تتوقّف على شرطين خصّص لكلّ شرط منها مبحثا، وهما إعطاء مضمون للعدالة يضمن الحريّات والمحافظة على الطّابع الاجتماعيّ للثّورة.

أ- جدليّة العدالة والحريّة في ضوء الثّورات العربيّة:

يربط الحدّاد الحراك العربيّ الرّاهن بغياب العدالة عالميّا ومحليّا؛ ذلك أنّ "الرّبيع العربيّ جزء من رفض كونيّ لنظام العولمة الحاليّ المتميّز بالظّلم والإجحاف" (المصدر. ص84). و"لن تتحقّق الثّورة إلاّ بتحقيق القطيعة مع "الاستبداد الشّرقيّ الضّعيف"... الاستبداد الشّرقيّ يقوم على قوّة النّظام الحاكم، وليس على قوّة الدّولة". (المصدر. ص90).

إلاّ أنّ الثّائرين العرب، وهم يحطّمون أصنام الظّلم والاستبداد لم يحدّدوا مفهومهم للعدالة؛ أي لم يحوّلوا العدالة من "الإحساس" إلى "المضمون". فجاء هذا الفصل محاولة لملء الفراغ بربط العدالة بالممارسة من جهة وبالتّراث العربيّ الإسلاميّ من جهة أخرى.

بنى الكاتب تصوّره على مقارنة بين كتاب "فكرة العدالة" لأمارتيا سين وكتاب "نظريّة العدالة" لجون راولس. وقام هذا التّصوّر على تحويل العدالة من المأزق الفلسفيّ إلى الفعل الميدانيّ؛ فالعدالة ممارسة وليست مؤسّسات وقوانين نجح الاستبداد الحديث في جعلها شكليّة، وفي تغطية استبداده بآليّات ديمقراطيّة في ظاهرها كالانتخاب والدّستور. لقد سعى سين إلى تخليص العدالة من محوريّة المؤسّسة إلى محوريّة الإنسان، ولم يتجاوز محمّد الحدّاد ترديد مقالته وشرحها. وحتّى حين طرح السّؤال المنهجيّ العميق: كيف السّبيل إلى الدّولة العادلة؟ اكتفي جوابه بضرورة تقييد العنف والهيمنة بالعدل. وبذلك ظلّت مقاربته لمسألة العدالة دائريّة، وإن وعت بضرورة توفّر العدالة على مضمون إنسانيّ حقيقيّ.

والحقّ أنّ الضّبابيّة طبعت أيضا دعوة الكاتب إلى ضرورة تطويع التّراث كي يتقبّل الدّيمقراطيّة بعمق، ويقصد بالتّطويع التّدرّج التّنازليّ "من المدينة الفاضلة إلى الدّيمقراطيّة باعتبارها عدالة". والبادي أنّ الارتباط بالتّراث في هذه النّقطة لا يتعلّق بالمستوى الفكريّ، وإنّما بالبعد النّفسيّ، دليلنا على ذلك التّفسير الّذي قدّمه لفكرة ضرورة استلهام التّراث التّشريعيّ القديم، فليس الغرض من ذلك تطبيق أحكام الماضي على الحاضر، وإنّما حمل المواطن العربيّ على الاقتناع بأنّ نظريّة الدّيمقراطيّة نظريّته هو، ممّا يجعله يقبل عليها ويحميها. ويشترط في كلّ ذلك مراجعة أحكام الشّريعة الّتي لا تناسب العدالة، ولا سيّما انعدام المساواة بين المرأة والرّجل، وبين المسلم وغير المسلم، وبين السيّد والعبد.

ب- الطّابع الاجتماعيّ للثّورة التّونسيّة:

عاد الكاتب إلى فصول من الثّورة التّونسيّة، ليجلّي عمقها الاجتماعيّ الّذي حاول السّياسيّون الانقلاب عليه غير مرّة. فذكّر باعتصام المهمّشين بالقصبة 1 و2، وقد واجهتهم حكومة محمّد الغنّوشي بتفريقهم بالقوّة فأسقطوها بمدد شعبيّ يوم 27/02/2011. وإذا كان الإسلاميّون يمثّلون في كلّ العالم العربيّ قوّة جماهيريّة مهمّة لاختلافهم عن بقيّة القوى السّياسيّة ذات الطّبيعة النّخبويّة، فإنّ ما يميّز تونس وجود قوّتين أخريين، هما الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل وقاعدة نسائيّة حديثة، ومن دور النّقابات العمّاليّة والجمعيّات النّسائيّة تحقيق نوع من التّوازن السّياسيّ والاجتماعيّ.

كما حلّل الكاتب خطاب "حركة النّهضة" الانتخابيّ الّذي مكّنها من الفوز في انتخابات أكتوبر 2011، وقدّر أنّ هذا الخطاب ذاته سيورّطها وهي في سدّة الحكم إذا نسي قياديوها الطّابع الاجتماعيّ للثّورة. وفعلا، شهدت السّاحة التّونسيّة تراجع المطالب الاجتماعيّة وطغيان الإيديولوجيا، فطفت على سطح النّقاشات قضيّة الخلافة وتطبيق الشّريعة وغيرها من المسائل الإيديولوجيّة الّتي لم تكن مطروحة مع الثّورة، ويحمّل الكاتب الإسلاميّين وخصومهم معا مسؤوليّة الانزياح من الاجتماعيّ إلى الإيديولوجيّ قائلا: "ومن الإنصاف أن نقرّر أنّ حركة "النّهضة" ليست المسؤولة وحدها عن هذا الانحراف بالثّورة التّونسيّة" (المصدر. ص117).

الفصل الرّابع: التّنوير والثّورة

لا يلتقي الفصل الرّابع مع الكتاب برمّته في مستوى العنوان فقط؛ أي مقاربة ثنائيّة "التّنوير والثّورة"، وإنّما يعتبر هذا الفصل نموذجيّا في التّمثيل لمنهجيّة الكتاب القائمة على تجميع مقالات نشرتها مجلّة "الحياة" في سياقات معرفيّة وأزمنة مختلفة، ممّا جعل مادّته غير مبوّبة في خطّ فكريّ واحد يجمعها وينظّمها. لذا ألفينا الحديث عن "حوار إسلاميّ علمانيّ" مثلا مكرّرا بين ثلاثة مباحث أو مقالات حملت العناوين الآتية: "حوار إسلاميّ علمانيّ ترسيخا لمدنيّة الدّولة" ص...، "الهندسة المتدرّجة للمجتمع" ص. هويّات فائضة وديمقراطيّات مهدّدة" ص.... وهدتنا عمليّتا تفكيك النصّ وإعادة تركيبه إلى استخلاص ستّ مسائل أساسيّة: أشكال توظيف التّراث، المسألة الإيديولوجيّة، نقد التيّارات اللّيبراليّة واليساريّة والإسلاميّة، الحوار الإسلاميّ العلمانيّ، أخطاء المعارضة العربيّة، المثال التّونسيّ والمثال المصريّ والمثال العراقيّ.

يحتلّ التّراث موقعا مهمّا في مشروع التّنوير، رغم الاقتناع بأنّ "الأفكار السّياسيّة الجديدة في العالم الإسلاميّ لم تنشأ أساسا من التّراث، بل التّراث قد أعيدت قراءته قراءة متحرّرة بدافع إعجاب المسلمين بالواقع السّياسيّ الجديد في الغرب" (المصدر. ص137). ولئن فُهم الإصلاح في عصور الانحطاط على أنّه عودة إلى الماضي، فإنّ الإصلاح بالمعنى الحديث له مدلول آخر، "فهو اندماج في الرّاهن الكونيّ وتطلّع نحو المستقبل، مع إعادة تأويل الماضي ليكون حافزا في الاندماج والتّطلّع بدل أن يكون عائقا يحول دونهما". (المصدر. ص122). يُستفاد من ذلك، أنّ التّراث لا يمكن معرفيّا أن يوفّر سبل التّنوير، بل يُخشى أن يحول دونها. لذا لا بدّ من إعادة مراجعته وتأويله لتذويب نقاط التّصادم بينه والحداثة، وحتّى لا يُرفض التّحديث من منطلق إيديولوجيّ أو بسيكولوجيّ.

إنّ سؤال التّراث يرتبط إذن بسؤال الإيديولوجيا، ومثلما أرهقت الحداثة الارتباط بالماضي كادت تقوّض الإيديولوجيّات التّقليديّة، و"إنّ الفراغ الإيديولوجيّ الحاليّ، وقد ساهنا فيه بنقدنا للإيديولوجيّات السّابقة، قد أصبح مطيّة لعمليّات تلاعب بالعقول تمارسها الإيديولوجيّات الجديدة في أشكالها الجديدة". (المصدر. ص126). وقد انتهى الصّراع بين الإيديولوجيّات في القرن العشرين إلى إضعاف بعضها البعض وبروز مقولة "انهيار الإيديولوجيّات" وقيام أنظمة انتهازيّة لا تقيّد نفسها بفكر أو مشروع أو رؤية. من هنا يرى محمّد الحدّاد، أنّ "نجاح المسارات الدّيمقراطيّة العربيّة مرتهن بالنّجاح في تطوير هذه الثّقافة التّنويريّة بدل العودة إلى الإيديولوجيّات التّقليديّة". (المصدر. ص135). والحقّ أنّه ظلّ متردّدا بين الإيمان بضرورة الإيديولوجيا، انطلاقا من مبدأ أنّ الإيديولوجيّات لا تنهار مادامت هناك مصالح، والإيمان بجدوى المواجهة العمليّة للمصاعب الموضوعيّة.

ويبدو أنّ النّقد الّذي وجّهه الكاتب إلى القوميّين والماركسيّين والإسلاميّين، ارتكز هذا البعد الإيديولوجيّ أساسا. فمشكلة القوميّة العربيّة أنّها مشروع لم يقم على مبدأ المواطنة، ومشكلة اليسار الماركسيّ خلوّه من العنصر الأهمّ في عمليّة التّحديث وهو التّصنيع، وقد استبدلت هاتان الإيديولوجيّتان بعد سقوط حائط برلين عام 1989 بأخريين: التّكتّل الطّائفيّ واللّيبراليّة معزولة عن قاعدتها: الحريّة. أمّا الإسلاميّون، "فلا يبدو جليّا واضحا أنّهم طلّقوا طلاقا بائنا فكرة اعتبار الدّيمقراطيّة في أحسن الحالات مجرّد وسيلة لبلوغ السّلطة وليست فلسفة في تسيير الشّأن السّياسيّ". (المصدر. ص162).

وعلى الرغم من هذا التّزمّت الإيديولوجيّ أو ربّما بسببه، فإنّ المرحلة الثّوريّة الرّاهنة تقتضي إرساء "حوار إسلاميّ علمانيّ ترسيخا لمدنيّة الدّولة"، وذلك لقطع الطّريق أمام الاستبداد والفوضى، وأمام التّوظيف السّياسيّ للدّين وهو جوهر العلمانيّة.

وإذا كانت المعادلات السّياسيّة تفرض تكوين قطب منافس للإسلاميّين في الحكم أسماه التيّار الحداثيّ، فإنّ على المعارضة العربيّة تجنّب خطأين قاتلين، أوّلهما التّمسّك بنزعة استئصاليّة؛ أي استئصال الحركات الدّينيّة ومنعها من العمل السّياسيّ؛ ذلك أنّ "الممارسة السّياسيّة والبناء الدّيمقراطيّ المتدرّج وحريّة التّعبير والجدل السّياسيّ هي العوامل الّتي ستنتهي بتراجع الحركات الإخوانيّة". (المصدر. ص169). وثانيهما المراهنة على الشّارع لإسقاط الأنظمة الإخوانيّة، وإذ ينبّه الكاتب هنا إلى خطورة الفوضى، فإنّه ينفي الحسّ الدّيمقراطيّ عن الجميع: الإخوان ومعارضيهم.

نقرأ في ثنايا الفصل الرّابع مباحث مبثوثة حاولت أن تستخلص من التّجربة العراقيّة، ثمّ النّموذجين التّونسيّ والمصريّ دعائم التّحوّل الدّيمقراطيّ والمزالق الّتي تهدّده. فلم تتحقّق دمقرطة العراق بعد عشر سنوات من إسقاط نظام صدّام حسين؛ لأنّ الدّيمقراطيّة ثقافة وليست مؤسّسات، وللدّور السّلبيّ للطّائفيّة والقبليّة في هذا البلد. إنّ الدّيمقراطيّة يجب أن تحتوي كلّ الرّوابط الأخرى بما فيها شعار الأمّة الّذي تحمل رايتَه التيّارات الإسلاميّة. وقد توجّس الكاتب خيفة من خطاب صدر عن مسؤول في حزب "العدالة والتّنمية" المصريّ حاول به تبرير الإعلان الدّستوريّ الّذي فرضه الرّئيس محمّد مرسي يوم 21/11/2012 بقوله: "إنّ الأمّة فوق كلّ السّلطات". يبدو هذا التّبرير مخيفا؛ لأنّه يعيد إلى الأذهان اعتبار سلطة الخليفة فوة كلّ السّلطات، ممّا سيؤسّس لولاية الفقيه السنيّ على الشّاكلة الشّيعيّة في إيران.

ومن المجال التّونسيّ، استخلص الكاتب أهميّة الطّبقة الشّعبيّة في اندلاع الثّورة ثمّ في نجاحها، ذلك أنّ 17 ديسمبر 2010 فاجأ نظام بن علي، "النّظام الّذي كان متعوّدا على محاربة اليساريّين بتهمة الإلحاد والإسلاميّين بتهمة الإرهاب وجد نفسه فجأة أمام بائع خضار، وارتبك وكان ارتباكه بداية تهاويه". (المصدر. ص164). وكان بن علي قد راهن على الطّبقة الشّعبيّة المتصاعدة منذ "ثورة الخبز" عام 1984، وذلك لتفكيك الطّبقة الوسطى الّتي تضمّ تيّارات المعارضة. فالطّبقة الشّعبيّة هي الّتي أوصلته الحكم، وهي الّتي عزلته. وبالمثل، ركّزت حركة النّهضة حملتها الانتخابيّة على استقطاب الطّبقات الشّعبيّة عبر وسائل اتّصال غير تقليديّة مثل منابر المساجد ومواقع التّواصل الاجتماعيّ، في حين اكتسحت الشّخصيّات اليساريّة واللّيبراليّة الإعلام التّقليديّ الّذي يُنظر إليه بريبة باعتباره من مخلّفات النّظام البائد.

الفصل الخامس: القضيّة الثّقافيّة

لا يعود تأخير المسألة الثّقافيّة إلى الفصل الأخير من الكتاب إلى هامشيّتها في مشروع التّنوير الّذي انخرط فيه محمّد الحدّاد، وإنّما إلى رسم معالمها وفق احتياجات المسألتين السّياسيّة والاجتماعيّة الّتين تناولهما في الفصول الأربعة الأولى من مختلف جوانبهما.

وتوزّع تناول القضيّة الثّقافيّة بين عهدين: ما قبل الثّورات وما بعدها. جاء الخطاب الوصفيّ للزّمن الأوّل وجدانيّا متشائما من ثقافة مبتذلة اخترقها الإسفاف ومستوى متدنّ للتّعليم في الجامعات، فوجد الكاتب نفسه مشاركا في "نعي الثّقافة العربيّة" وناظرا في "مأزق الثّقافة العربيّة" المتأتّي من المماهاة بين الثّقافة والهويّة، ومن تعطيل تفاقم مشكلة البطالة للتّحديث الثّقافيّ. وفي الزّمن الثّاني "عودة الأمل"، إذ "تتوفّر اليوم فرصة تاريخيّة نادرة لتجديد الفكر العربيّ وإخراجه من المثاليّة إلى الواقعيّة". (المصدر. ص183-184). ويقتضي ذلك أن يتخلّص التيّاران العريضان في هذا الفكر -أي التّيّار الإخوانيّ والتيّار الحداثيّ- من أحاديّة الطّرح ومن سلفهما المتخيّل، وأن يكفّا عن التّنظير للخلاص من خلال وضع مثاليّ غير تعدّديّ. إنّ الثّورات العربيّة مطالبة اليوم ببناء مضمون ثقافيّ ديمقراطيّ، حتّى لا ننتقل من استبداد فرديّ إلى استبداد الجميع بالجميع، يقول: "إنّ الحداثة الاستئصاليّة قد انهارت فلسفيّا منذ زمن طويل، وإنّ الحداثة النّقديّة تظلّ مشروعا ضروريّا في العالم العربيّ". (المصدر. ص193). وقد جاءت المباحث الأخيرة في الكتاب بمحاولات لمقاربة هذه الحداثة النّقديّة في مستوييها الثّقافيّ والتّقنيّ وفي بعديها المحليّ والكونيّ، فطرح قضايا الاستعمار والعولمة والهيمنة والحريّة والتّطرّف... وفي ذلك وعي بأنّ القضيّة الثّقافيّة يتقاطع فيها السياسيّ والدّينيّ، والاجتماعيّ والاقتصاديّ. وعلى المثقّف أن ينظّر لأشكال التّعالق ويوجّهها في خدمة "التّنوير والثّورة".

3. الخاتمة: مشروع تنويريّ ولكن

قدّم محمّد الحدّاد في هذا الكتاب مشروعا فكريّا تنوّعت مصادره وتكاملت. ففي حديثه عن صورة المثقّف -مثلا- قدّم للقارئ التّصوّرات الفلسفيّة الغربيّة المختلفة، والمنهج يتكرّر مع "نظريّة العدالة"، وبالإضافة إلى الدّراسات السّوسيولوجيّة والسّياسيّة والانثروبولوجيّة الحديثة، عاد الكاتب إلى مصادر التّراث الإسلاميّ ليقوم بإعادة تأويلها. ولم يقتصر على هذه المصادر "التّقليديّة" في المعرفة، وإنّما حلّل خطب السّياسيّين والبرامج الانتخابيّة للأحزاب ونتائج معاهد سبر الآراء... ومكّنه هذا التّنويع من نظر عميق في قضيّة التّنوير والثّورة. فحدّد المقدّمات وفصّل القول في طبيعة الانتقال الدّيمقراطيّ العربيّ واستشرف المزالق الّتي ستهدّده. كما مكّنه من ربط دقيق بين التّاريخ والرّاهن والمآل، وبين قطاعات المعرفة والسّياسة والاجتماع والاقتصاد. ولئن اعتبر أنّ الثّورة الفرنسيّة لم تعد ملهمة عمليّا؛ لأنّها كانت مكلفة بشريّا وممتدّة زمنيّا، فإنّ المشروع احتذاء بفلسفة الأنوار الّتي ابتدعت نظاما سياسيّا كاملا يتأسّس على الدّيمقراطيّة في صيغة حداثيّة وعلى الفصل بين السّلط وإعطاء قيمة للفردانيّة وللإنسان. ولكنّ الخطاب السّياسيّ العربيّ لم يبتدع نظاما جديدا، بل هو وجد الحلّ غربيّا جاهزا فتبنّاه، وإن كرّر أنّه "أقلّ الأنظمة سوءا" وأنّ إجرائيّته متوقّفة على المصالحة مع التّراث. إنّ فلسفة الأنوار سبقت الثّورة فأطّرتها، بينما يكتب الحدّاد بعد الثّورة يلاحقها، فكأنّها هي الّتي تكيّف خطابه.

هذا كتاب نقديّ بامتياز، سلّط الآلة النّقديّة على مسلّمات الماضي وعلى العولمة الشّاملة وعلى العلمانيّة النّخبويّة وعلى التيّارات الإسلاميّة وعلى أطروحات اليساريّين... مشروع فكريّ حاول أن يضبط المسار الثّوريّ بفعل تنويريّ، لكنّ مادّة الكتاب المجمّعة لمجموعة من المقالات كتبت بين سنتي 2009 و2013 جعلت الرّابط الفكريّ بين فصوله، أو مباحثه يقوم على نوع من التّقطّع والتّداخل، فيجد القارئ نفسه في بعض المواطن في صلب المشروع الانتقاليّ ثمّ يرتدّ فجأة سنوات إلى ما قبل الثّورة، لا لضرورة معرفيّة ولكن لمجرّد أنّ المبحث اللاّحق كتب في زمن سابق. ولا شكّ أنّ هذا التّجميع يقف أيضا وراء ظاهرة التّكرار اللاّفتة لعديد المضامين الفكريّة.

البحث في الوسم
التنوير