قراءة في كتاب فلسفة الكذب والخداع السياسي


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب فلسفة الكذب والخداع السياسي

مقدمة

تُعَدُّ علاقة السياسة بالأخلاق من القضايا الشائكة التي تصل إلى حد التعقيد واللبس والغموض، وبالتالي فلا غرابة في أن نجد العديد من الفلاسفة عبر تاريخ الفكر الفلسفي قد تعرضوا لهذه العلاقة بالشرح، والتفسير، وتقريب المسافات بينهما في حال وجود الخلل والفجوة والهوة، حتى ذهب بعضهم إلى أنه إذا لم يكن للفعل السياسي معنى أو دلالة أو قيمة أخلاقية، فهو فعل لا جدوى من ورائه.

من هذا المنطلق، كانت العلاقة بين الفعل السياسي والأخلاق علاقة متشابكة في نظر بعض المفكرين السياسيين وفلاسفة الأخلاق. ولعل هذه العلاقة الشائكة هي التي دفعت الدكتور/ حمدي عبد الحميد الشريف أن يقدم للقارئ العربي كتابه «فلسفة الكذب والخداع السياسي»([1])، وقد صدَّره الأستاذ الدكتور/ محمد مجدي الجزيري بمقدمة أبان فيها عن أهمية هذا العمل الأكاديمي ومدى جديته وأصالته. والدكتور حمدي هو واحد من أبرز الباحثين والأكاديميين في مجال الفلسفة في مصر، ويشغل -حاليًا- وظيفة مدرس الفلسفة السياسية بآداب سوهاج، وقد نشر العديد من المؤلفات المهمة، منها -على سبيل المثال- "الدين والثورة" (2016)، "مفهوم العدالة في فلسفة مايكل ولتزر السياسية" (2020)، "الأسطورة والتاريخ عند هانز بلومنبرج" (2020).

قام المؤلف في هذا الكتاب بممارسة نوع من الحفر المعرفي لمفهومي الكذب والخداع السياسي، محاولًا البحث عن حقيقة الكذب، مرتكزًا على دعامتي «النية في الخداع»، و«الدلالات الزائفة»، اللتين يحملها فعل الكذب، واللتين يُظهر من خلالها الكاذبُ خلافَ ما يُبطن، وعارضًا في الوقت نفسه لتطور مفهومي الكذب عبر تاريخ الفكر الفلسفي بصفة عامة، والفكر السياسي بصفة خاصة، وموظفًا بذلك عمق إلمامه بالثقافة الغربية والعربية.

الفكرة المحورية للكتاب

حاول الدكتور حمدي الشريف من خلال هذا العمل تناول فكرة الكذب والخداع السياسي من منظور فلسفي، وفي ضوء من إسهامات فلاسفة السياسة والأخلاق عبر العصور، ليقدم لنا رؤية فلسفية اعتمد فيها على مكنونات النص الفلسفي في المقام الأول، مستخدمًا رؤيته النقدية الثاقبة في التحليل والمعالجة. وبالتالي، اتسمت معالجته بالعمق، حيث استطاع الوقوف بدقة على مفهومي الكذب والخداع وما يرتبط بهما من مفاهيم أخرى كالتزييف، والتلفيق، والإخفاء، والحجب، والقصدية، وذلك كله من خلال تضافر السياسي بكل من الأخلاقي والقانوني، حيث ربط بين المفاهيم الفلسفية حول الكذب والخداع السياسي والمفاهيم الأخلاقية والقانونية حول المنفعة، والقيمة، والمسؤولية، والمصلحة العامة. ولهذا اتسمت رؤيته بالطابع الشمولي أو النسقي، والطرح الفلسفي لطبيعة الكذب والخداع السياسي في الفكر الفلسفي الغربي تحديدًا.

وقد عالج المؤلف مجموعة من القضايا والمسائل المختلفة المتعلقة بماهية الكذب؛ من حيث المعنى والدلالة، وكذلك دور الخداع في عملية الكذب السياسي، ومدى استخدام الحقيقة كأداة للخداع، ومسألة قدم الكذب السياسي ودوره في إحداث الوعي الزائف. ومن خلال هذه المعطيات النظرية العامة، انطلق المؤلف لمعالجة فكرة «الأكذوبة النبيلة» عند أفلاطون، وفلسفة الكذب والخداع السياسي عند مكيافيلي، ولا أخلاقيات الكذب عند أوغسطين وكانط، وغيرها من القضايا والإشكاليات الأخرى.

محتويات الكتاب

في القسم الأول من الكتاب، يتناول المؤلف ماهية الكذب والخداع السياسي، وعلى الرغم من أنه قدم لنا العديد من التعريفات للكذب من خلال وجهات نظر الفلاسفة أنفسهم، إلا أن القارئ يستطيع أن يصل في النهاية إلى حقيقة أرادها المؤلف ذاته؛ وهي أن الكذب يشير إلى نية إظهار الزيف وإخفاء الحقيقة. ومن جانب آخر، يرى المؤلف أنه يستلزم لنجاح الكذب نوعًا من الخداع الذاتي أولًا؛ لأن الحاكم أو رجل الدولة يلجأ إلى الكذب لتكوين صورة إيجابية عن ذاته، وبالتالي يحتاج هو نفسه أن يعيش خبرة هذه الأكذوبة ويصدقها، ثم يُصدِّرها للآخرين! الأمر الذي يوحي أن المؤلف أراد أن يقول لنا: إن الكذب كفعل سياسي يعد ظاهرة مذمومة؛ لأنه يعتمد منذ البداية على قدرة الحاكم على خداع ذاته أولًا؛ مما يستلزم معه نوعًا من الضغط النفسي المرهق وصولًا إلى أثر الكذب على المجتمع أخلاقيًا واجتماعيًا.

من هنا يطرح لنا المؤلف تعريفًا بسيطًا للكذب السياسي، ومؤداه أنه «صورة من صور الخداع المتعمد؛ فهو سلوك إنساني يرتكز على مقوم النية في الخداع، ويستهدف إخفاء الحقيقة عن الآخرين (الخصوم، والأجانب) أو على الأقل تشويهها، أو تدميرها في أحيان أخرى؛ من أجل تحقيق هدف أو مجموعة من الأهداف السياسية، وقد يكون هذا الهدف نبيلًا، وقد يكون غير نبيل في كثير من الأحيان»([2]). ويُلاحَظ على هذا التعريف، أن الكذب نوعٌ من الخداع، ولكن ليست كل صور الخداع بالضرورة كذبًا بالمعنى الدقيق؛ إذ يشمل الخداع أنواعًا أخرى مثل الكتمان، والتلفيق Fabrication، وهما ليسا كذبًا بالمعنى الدقيق. ومن هنا -وكما يقول المؤلف- فإن دراسته في هذا الكتاب لا تقتصر على إشكالية الكذب فحسب، بل تتناول أيضًا مسألة الخداع السياسي.([3])

ولا يخلو القسم الأول من نقد لدور الدعاية الزائفة المتمثلة في الإعلام المضلل للعقول، والذي يعمل على تغييب العقل الجمعي وإرادة الشعب. وقد أصبح الإعلام اليوم، هو الوسيلة الأكثر رواجًا في العالم، لكن هذه الوسيلة تُستخدم في كثير من الأحيان للتضليل والتعتيم والكذب لصالح السلطة الحاكمة. وهنا وجد المؤلف نفسه أمام فرصة مناسبة، ليقدم نقده للأيديولوجيا الليبرالية من خلال طرحه لنقد ماركس لليبرالية؛ لأنها نزعت إلى تغييب الوعي بطبيعة الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون ومن يفتقرون إلى ضرورات الحياة، حيث تعمل الليبرالية على تقسيم المجتمع إلى طبقات مما يمثل شرخًا في العلاقات الاجتماعية، كما أنها تستخدم الكذب المتعمد والخداع الخفي لصالح السلطة القائمة. ومن هذه الزاوية، كشف المؤلف عن دور بعض رجال الدين الذين جعلوا من الدين سلاحًا في يد الحاكم موجهًا ضد شعبه، وكذلك نقده لاعتماد بعض رجال الدين على الكذب والخداع والأساطير الدينية لإخفاء مآرب معينة.

وإذا كانت مسألة صعوبة تعريف الكذب محورًا لاهتمام المؤلف في هذا القسم الأول، فإن المؤلف في القسم الثاني يبرهن على حقيقة معينة؛ عندما قدَّم لنا أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة على أنه أول من أباح الكذب والخداع في تاريخ الفكر السياسي، حيث عرض المؤلف بعض ملامح دولة أفلاطون المثالية من حيث صفات الحاكم الفيلسوف، ودور القانون في الدولة. ويرى الباحث هنا أن أفلاطون عندما أباح الكذب وبرر الخداع السياسي (وهو ما يُعرف "بأسطورة المعادن") كان هدفه الأساسي هو العدالة؛ فأفلاطون وإن كان قد أعطى الاهتمام الأكبر للهدف، إلا أنه في المقابل لم يعط نفس هذا الاهتمام للوسيلة. ويؤكد الباحث هنا على قول أفلاطون بالأكذوبة السياسية، ولكن هذه الأكذوبة لا يمكن إطلاقها على العموم، حيث إن أفلاطون، عندما برر للحاكم الفيلسوف استعمال الكذب والخداع السياسي لم يكن ذلك إلا من أجل تقريب صورة العدالة نفسها إلى البشر العاديين. لكن هذا لا يعفي أفلاطون -وفقًا لما يراه المؤلف- من النقد؛ لأن الكذب لا يمكن أن يكون هو الوسيلة التي نعزز من خلالها فهمنا للعدالة (كما يفهمها أفلاطون)، باعتبارها الفضيلة العليا في الدولة.([4])

إن أول ما يتبادر إلى أذهاننا، عندما نتحدث عن الكذب والخداع السياسي هو مكيافيلي، وليس أفلاطون، ولكن المؤلف حرص هنا على رفض هذا الزعم في القسم الثالث من الكتاب، حيث قدم لنا مكيافيلي في شكل مختلف من خلال رؤية جديدة، حيث يذهب إلى أنه يتعين علينا أن نفسر تسويغ مكيافيلي للكذب والخداع في سياق عصره، بل يتحتم علينا تناول فلسفته السياسية ككل في ضوء عصره([5]). وكأن الباحث أراد أن يرفع ما وقع على مكيافيلي من ظلم عبر القرون الطويلة من النقاد، حيث لا ينكر أحدٌ أن مكيافيلي دعا إلى الكذب والخداع السياسي في فلسفته. لكن وكما ينبهنا المؤلف، فإن مكيافيلي لم يدع الحاكم إلى اتباع الكذب والخداع إلا في حالة الضرورة القصوى فقط، وبالتالي فعلينا ألا نغفل أن مكيافيلي قدم هذه الرؤية تحت تأثير مناخ الحرب والصراع وعدم الاستقرار الذي كانت تعيشه مدينته فلورنسا. وبعبارة أخرى، فإن تسويغه للكذب في ظل ظروف معينة ومحددة، لا يعني نهائيًا إطلاق الكذب وتبريره على وجه العموم، بل يجب علينا أن نتوقف لنرى طبائع الأمور السياسية، وحقائق الأشياء، ونفعل كل ما يمكننا فعله أخلاقيًا، ثم يكون الكذب والخداع هو الخيار الأخير -وليس الأول أو الوحيد- لدى الحاكم.

وفي القسم الثالث أيضًا، يعرض المؤلف للفيلسوف الأمريكي مايكل ولتـزر الذي يرى فيه أنه يشترك مع مكيافيلي في مواضع عديدة؛ وعلى رأسها فكرة الضرورة، حيث لا يمانع ولتـزر من ممارسة الحاكم لبعض الأكاذيب السياسية، إذا كان ذلك من شأنه أن يحقق مصلحة الدولة ككل، وهو ما يرفضه المؤلف، حيث يرى أن حجة ولتـزر ضعيفة ومحدودة النظر، وقد أراد ولتـزر من خلالها تبرير الكذب والخداع الذي مارسته دولته عبر تاريخها المعاصر، بل إنه ذهب إلى القول بأنه لا مانع من الكذب والخداع السياسي، مادام الحاكم يشعر بالألم والندم والعقوبة أحيانًا([6])!

ومن المفاهيم المهمة التي تناولها المؤلف بالتحليل مفهوم "الأيدي القذرة"، وهو مفهوم ورد في أعمال جان بول سارتر الأدبية، ويقصد به السياسيين الذين يستخدمون الكذب والخداع والقتل والتعذيب من أجل الوصول إلى بعض المنافع والمكاسب السياسية. وقد استطاع الباحث أن يجيب عن تساؤل مهمّ: لماذا ظل الكذب والخداع السياسي قائمًا، وأن ينتظم في المجتمعات الغربية والعربية إلى الآن؟ وكانت إجابة الباحث دقيقة ونظرته واقعية، حيث يرى أن عصر اليوم أصبح أكثر استهلاكًا للأكاذيب السياسية، مما كان عليه الحال في الماضي. ففي حين كان الكذب يُستخدم قديمًا ضد العدو أو عند الضرورة كما سبق وأشرنا، فإنه أصبح اليوم سلعة أساسية في سياسة الحكام تُصنع ليس فقط ضد الأعداء في الخارج، بل أيضًا للاستهلاك الداخلي وتغييب العقول، وقد ساعد على ذلك كون العالم قد أصبح أكثر انفتاحًا وتطورًا في وسائل الاتصال([7]). ويقدم المؤلف الأمثلة الحيّة على الكذب والخداع السياسي من خلال عرضه للأنظمة السلطوية والفاشية التي تحاول السيطرة على عقول البشر من خلال الكذب والتضليل والقهر.

وإذا كان المؤلف في كل ما سبق قد عرض لنا الكذب من منظور دعاته والمدافعين عنه في العملية السياسية، فإنه حاول في القسم الرابع من الكتاب أن يوجه قراءاتنا البحثية نحو أهم الفلاسفة الذين رفضوا الكذب والخداع رفضا صريحًا وقاطعًا، وهو القديس أوغسطين الذي كانت نقطة انطلاقه لرفض الكذب والخداع السياسي دينية؛ أي الامتثال لما أمر به الرب، فكان رفضه للكذب ذا صبغة دينية واضحة. أما المفكر الآخر الذي رفض تبرير الكذب والخداع السياسي، فهو فيلسوف الواجب كانط الذي رفض الكذب رفضًا صريحًا، من منطلق أن قول الصدق هو قول مستقل أيّ لا يمكن أن يقع تحت تأثير أي نوع من المؤثرات الخارجية مهما كانت، وبالتالي فلا يجب على الإنسان أن يكذب مهما كانت المغريات والظروف القهرية([8]). وهنا نجد المؤلف يميل إلى رأي كانط، إلا أنه -في اعتقادنا- أغفل نقطة في غاية الأهمية، وهي ما البديل للكذب والخداع؟ هل هو الصدق؟ وهل الصدق في ذاته يمكن استخدامه كوسيلة سياسية مغرية للحكام؟ ومن جانب آخر لم يوضح المؤلف ما الذي يجب علي المواطن فعله لمواجهة الكذب والخداع السياسي؟ أهو الصمت لعجزه أو قبوله للكذب؟ أم إن على المواطن الاعتراض؟

ويحتوي الجزء الأخير من الكتاب على تطبيق عملي لفلسفة الكذب والخداع السياسي، حيث يعرض المؤلف في هذا القسم لحرب أمريكا على فيتنام عام 1964، موضّحًا كيف استخدمت أمريكا آليات الكذب في الحرب بكل دقة، ليحدثنا من خلال هذه الحرب عن دور المثقف بصفة عامة، وكيف يتم استغلال هذا الدور لتمرير الأكاذيب وتضليل العقول، وكيف تحول البشر في تلك الحرب إلى سلعة ليس لها قيمة، وهو ما يمكن أن نعتبره نقدًا للأنظمة الديمقراطية القائمة على الكذب والخداع([9]). وكذلك، فقد عرض لنا المؤلف نموذجًا تطبيقيًا آخر لفلسفة الكذب والخداع السياسي، وهو حرب أمريكا على العراق في 2003، والتي اعتمد فيها جورج بوش على التضليل وتزييف الحقائق على الرأي العام العالمي.

خاتمة

في نهاية حديثنا أو عرضنا لهذا الكتاب، تتضح قيمته في أنه يمثل أحد المؤلفات المهمة في تشريح فلسفة الكذب والخداع السياسي؛ من خلال الاعتماد على النصوص الفلسفية الأصلية، والنماذج الحية في الحياة السياسية. وعلاوة على ذلك، فهو أول كتاب باللغة العربية -في حدود علمي- يتناول هذه المسألة في مجال الفلسفة بوجه عام، وفلسفة السياسة والأخلاق بوجه خاص، وهو يحمل بين ثناياه رؤى واقعية للمؤلف، ودلالات منطقية، وحجج نقدية.

لكن تتبقى بعض الملاحظات النقدية، ومن بينها أنه على الرغم من أن المؤلف أفاض في شرح وتوضيح وتحليل فلسفة الكذب والخداع السياسي، فإنه لم يحدد لنا البديل لفلسفة الكذب والخداع: فهل نلتزم بالصدق دائمًا كما قال كانط؟ وهل الصدق في حدّ ذاته، يمكن استخدامه كوسيلة سياسية ناجعة للحكام؟ ومن جانب آخر لم يوضح المؤلف ما الذي يجب على المواطن فعله لمواجهة الكذب والخداع السياسي. كذلك، فإن المؤلف وهو بصدد تناوله العميق والثري لفلسفات الكذب والخداع في تاريخ الفكر السياسي، لم يتناول فلاسفة الإسلام ومن قبلهم مفكرو الشرق القديم في هذا الموضوع، اللهم إلا إشارات بسيطة إلى الفارابي.

[1] د/ حمدي الشريف: فلسفة الكذب والخداع السياسي، القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 2019

[2] المرجع السابق، ص. 116

[3] المرجع السابق، نفس الموضع.

[4] المرجع السابق، ص. 165

[5] المرجع السابق، ص ص. 182-183

[6] المرجع السابق، ص. 220 وما بعدها

[7] المرجع السابق، ص. 102-105

[8] المرجع السابق، ص. 247-254

[9] المرجع السابق، ص 272-292