العقل عند الغزالي
فئة : أبحاث محكمة
العقل عند الغزالي
المستخلص:
نسعى من خلال هذا البحث إلى النظر التحليلي في نصوص الفيلسوف والفقيه أبو حامد الغزالي أملاً في الكشف عن موقفه الحقيقي من العقل؛ إذ هناك تصور لدى بعض الدارسين والنقاد في الفلسفة الإسلامية يذهب إلى اعتبار الغزالي معادياً للعقل وللنزعة العقلية عموماً، خاصةً عندما ينصب اهتمامه على موقف أبي حامد من فئة من الفلاسفة، مثل أرسطو وأفلاطون، وأتباعهما من فلاسفة الإسلام كابن سينا والفارابي.
وبإمعان النظر في نصوصه، يتبيّن لنا أنّ الغزالي غالباً ما كانت له مواقف إيجابية من العقل، وهو لم يكن ضد الفلسفة في حد ذاتها بوصفها فكرًا عقليًّا منطقيًّا، بل كان ضد نزعة الفلاسفة الذين يتأملون بواسطة العقل في مسائل تتجاوز قدراته على غرار المواضيع الغيبية والماورائية المتصلة بالشرع.
وأمّا الغزالي في حدّ ذاته، فيبدو من خلال نصوصه فيلسوفًا عقليًّا له نظرة عميقة لمفهوم العقل بوصفه الأداة المُثلى لاكتساب المعرفة، فيقسمه إلى أقسام متعددة، فهو العقل الذي يميّز بين الإنسان والحيوان، وهو كذلك العقل النظري المستعد لتلقي العلوم وقبولها، ولعله كذلك العقل الذي يكون بمثابة الغريزة، فهو فطرة في الإنسان، ويتحدث عن العقل الظاهر الذي يميّز بين المُمكن والمُحال، وهناك عنده العقل المرتبط بالتجربة، تمامًا مثلما يذكر العقل المرتبط بالمجال الأخلاقي من حيث إنه رادع للغرائز والشهوات، ويذهب الغزالي إلى حد اعتبار العقل سبب سعادة الإنسان.
وأمّا بالنسبة إلى نقد الغزالي للفلاسفة، فقد بيّنا في هذا البحث أنّ أبا حامد يرفض أن يدخل العقل في متاهات عالم الغيب، ولكنّه يقبل بكل المواضيع الفلسفية التي لا تتعارض مع الأحكام الدينية، في تصوره، مثل المسائل الرياضية والفلكية والهندسية والمنطقية والطبيعية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى علم الكلام للدفاع عن عقيدة أهل السنة كما يتصورها.
ومع ذلك، تبقى نظرة الغزالي إلى العقل نظرة خصوصية يسعى من خلالها إلى الجمع بين العقل والنقل، وليأخذ في الغالب موقفًا وسطًا بينهما، فالشرع يحتاج إلى العقل لفهمه وشرح مبهماته، والعقل بدوره يحتاج إلى الشرع لطمأنينة القلب كما يقول صاحب "إحياء علوم الدين".
مقدمة:
تهتم هذه الورقة البحثية أساسًا بدراسة فلسفة الغزالي من حيث جمعها بین معارف متنوّعة؛ وذلك في اِتّجاه قد يوحي لنا بوجود نفور من النّزعة التّجزيئية من جهة، ومن جهة أخرى يُمكن أن نَلْمس ذلك التّكامل المعرفي بين العلوم التي تتناولها النّصوص الأساسية لفيلسوفنا وفقيهنا، وهو تكامل يُلامس أكثر الموضوعات والمقاصد. فقد جمع أبو حامد بين البحوث الشرعية والبحوث العقلية، وبين هذه وتلك أقام الدّليل على أهمّية البعد الأخلاقي والاجتماعي في تربية الإنسان من خلال الطرح الصّوفي خاصة. ویری بعض الدّارسين أن الغزالي بـوصفه "أشعريًّا" أهمل العقل وتغاضى عن دوره في المشروع المعرفي، ولكن نظرة عميقة إلى نصوصه من شأنها أن تبيّن لنا موقفه الحقيقي من العقل؛ هذا العقل الذي يُمكن أن يتحوّل عنده إلى وسيلة منهجية لبلوغ اليقين، إن لم يكن هو العنصر الجامع للعلوم بأنواعها، الشرعية والإنسانية والاجتماعية. ويُمكننا أن نفهم جيّدًا هذا الأمر بالرّجوع إلى النّصوص المنطقية للغزالي، حيث يتناول بالدّرس أنواع البراهين والأقْيسَة والأدلّة، ويُبَيّن أهمّيتها المنهجية للوصول إلى الحقيقة، وهذا الإقرار بقيمة المنطق العقلي يجعلنا نقارن مع أبي حامد، بين منطق الفلاسفة وجدل المتكلمين، ونتساءل عمّا إذا كان علم الكلام علمًا عقليًّا يعتمد البراهين المنطقيّة، أم إنه يحيد عن أن يكون علمًا برهانيًّا؟
إن المشكل الأساسي الذي سنتناوله بالدّرس في سياق هذا البحث، هو كيف أمكن للغزالي الفيلسوف والفقيه أن يجمع بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، حتى يمكن لنا أن نتحدّث عن تكامل معرفي يذهب في اِتّجاه بناء مشروع معرفي يخدم الهدف الإنساني في أبعاده المختلفة دون فصل بين القطاعات المعرفية؟
ولعلّ فهم هذا المشكل فهمًا دقيقًا يتطلّب منا الاشتغال أساسًا على نصوص الغزالي نفسها، لنتبيّن من خلالها تباعًا مشروع التّكامل المعرفي لديه؛ وذلك بِتَتَبّع مفهوم العقل عنده، وعلاقة العقل بالنّقل، مرورًا بنقده للفلاسفة والمتكلّمين وتصوّره لقيمة المنطق العقلي، وانتهاءً بتناول المعرفة الصّوفية وأبعادها الأخلاقية كما يراها الغزالي.
في مفهوم العقل عند الغزالي ودوره في اكتساب المعارف:
يقول المفكّر التونسي المعاصر محجوب بن ميلاد (1916-2000): "نحن على ذكر من أنّ الغزالي إنّما زُلزلت نفسه زلزالها وانكسرت عنه زجاجة تقليدها، وانتهى أمرها إلى البلبلة والحيرة والشكّ في موروث الاعتقادات لما بدا لها من اِضطراب الفِرق واختلاف الأئمّة والطّرق، وعسر عليها التّمييز بين المتسَنّن المبتدع والتّفرقة بين المحقّ والمبطل. ونحن على ذلك كذلك من أنّ الحيرة لم تصرعه، بل كانت الحافز الذي حفزه كي يُقبل على الدرْس والطلب والتأمّل والنّظر! ولكن ما عسى أن يكون الميزان الذي يجب أن توزن به شؤون التفكير والاعتقاد بعد أن أصبحت الأدلّة متكافئة لديه، وانتفى المرجح الذي كان يحمله على أن يصدق فريقا دون فريق ويزكّي شهادة دون شاهد؟ أتراه باقيا إلى الأبد في هذه الحيرة المضنية وهذا الشكّ الأليم؟ وهل اِجتثّت من قلبه نهائيا أصل الطمأنينة وأصل اليقين؟ أتظنّ ليله العقلي ممتدّا سرمدًا مُحيطة به ظلماته؟"[1].
اِنطلاقا من هذا التّساؤل نعاين بوضوح ما تعانيه نفس الغزالي من الشكوك، وما يتخبّط فيه من الاِرتباك بفعل تضارب الفرضيات المتعلّقة بالمعرفة على مختلف أنواعها، وأنّ الهمّ الأكبر هو: كيف السبيل إلى اليقين الذي ما بعده شك؟ وفي هذا السّياق بالذّات، تتنزّل أهمّية العقل ومكانته لعلّه كان هو الجامع بين كلّ هذه الألوان المتضاربة من المعارف. وللّذين يدّعون بأن للغزالي موقفًا معاديًا للعقل بصفته أشعريًّا بالأساس يؤكّد لهم أبو حامد على "شرف العقل"؛ إذْ يعدّه ميزة الإنسان الحقيقية لتحقيق السعادة، والحال أن أقصى حدود المعارف وهدفها الأخير هو بلوغ السّعادة. فشرف العلم يَتأتّى من العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه. وفي هذا السّياق يُماثل في كتاب "إحياء علوم الدين" علاقة العقل بالعلم بعلاقة الثّمرة بالشجرة، والنّور بالشّمس، والرّؤية بالعين[2]، ثمّ إنّ العقل هو الذي يُميّز بين الإنسان والحيوان؛ وذلك لأنّه يكسب الإنسان التجربة التي تخوّل له السير في طريق الصّواب والحقيقة، فالعقل هو هيبة الكائن وعنوان تميّزه؛ إذْ "كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل حتّى إن أعظم البهائم بدنا وأشدّها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة إنسان اِحتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خصّ به من إدراك الحِيَل... وليس ذلك لكثرة ماله ولا لكبر شخصه ولا لزيادة قوّته بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله"[3]. وعندما يتناول الغزالي معاني العقل وحقيقته يتوصّل إلى أربعة تعريفات له، رغم اختلاف النّاس في معانيه، ويقول في هذا السياق:
"اعلم أنّ النّاس اختلفوا في حدّ العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كوْن هذا الاسم مطلقا على معانٍ مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، والحق الكاشف للغطاء فيه أنّ العقل يطلق بالاشْتراك على أربعة معان"[4]. فالمعنى الأول للعقل عنده هو الذي يُميّز الإنسان عن الحيوان من حيث إنّه مُنْتِج للمعرفة والعلم، فهو الوصف الذي يُفارق الإنسان بواسطته سائر الحيوانات، وعن طريقه يكون مستعدًّا لتلقّي العلوم النّظرية وقبولها، وتكون له القدرة على التدبير. ولتأكيد هذا المعنى النظري والمعرفي للعقل يستشهد الغزالي بما يقوله الحارث بن أسد المحاسبي في تعريفه الخاص له بأنّه؛ أي العقل: "غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية". ومعنى الغريزة هنا أنّ العقل موجود في الإنسان بصفة فطرية وطبيعية بدليل أن الغافل عن العلوم والنّائم يُسمّيان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم[5].
فالعقل بهذا المعنى، هو غريزة دونها لا يستطيع الكائن تقبّل العلوم النّظرية؛ إذ يقول الغزالي: "وكما أنّ الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسّية، فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النّظرية ولو جاز أن يسوى بين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسّية، فيقال بينهما إلاّ أنّ الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علومًا لم يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوى بين الحمار والجماد في الحياة... وكما وجبَ أن يقال لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلاّ بغريزة يعبّر عنها بالعقل، وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصّور والألوان بصفة اختصّت بها الصّقالة".[6]
وأمّا المعنى الثاني للعقل في تصوّر الغزالي، فهو ما يسميه "العقل الظّاهر"، وهو العقل الذي يُميّز بين الممكن والمحال بصورة منطقية، ويبدو هذا العقل في صورة تلك العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الإنسان العاقل، وهي علوم تحكم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات کالعلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد، وأنّ الشخص الواحد لا يكون في مكانيْن في وقت واحد. وهذا التّعريف وَرَد عند بعض المتكلمين حسب قول أبي حامد، حيث اعتبروا العقل من قبيل "بعض العلوم الضّرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهو أيضا صحيح في نفسه؛ لأنّ هذه العلوم موجودة وتسْميتها عقلا ظاهرا، وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة"[7].
وثالث معاني العقل هو العقل المرتبط بالتجربة، حيث يُكْسب صاحبه الخبرة اللاّزمة التي تنأى به عن الجهل، فإنّ هذا العقل بحسب الغزالي يرتبط بـ "علوم تُستفاد من التّجارب بمجاري الأحوال، فإنّ مَنْ حَنّكَتْهُ التّجارب وهذّبتْه المذاهب يقال إنّه عاقل في العادة ومن لا يتصف بهذه الصفة، فيقال إنه غبيّ غمر جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً"[8].
وأخيرًا، فإنّ الدّلالة الرّابعة للعقل تتّصل بالمجال الأخلاقي والمجال العملي، حيث يكون هذا العقل بمثابة الوسيلة الرّادعة للغرائز والشهوات؛ إذ يُمكّن أن يمكن الإنسان من معرفة عواقب الأمور ويقمع الشهوة الدّاعية إلى اللّذة العاجلة ويقهرها، بحسب تعبير الغزالي، "فإذا حصلت هذه القوّة سُمّي صاحبها عاقلاً من حيث إنّ إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النّظر في العواقب لا بحُكم الشّهوة العاجلة، وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميّز عن سائر الحيوانات[9].
فهذا التحليل لأقسام العقل، يُبيّن لنا أنّه الوسيلة الأساسية لبلوغ المعرفة أو بنائها، وأنّ هذه المعرفة تتراوح بين نظرية وعملية، اِنطلاقًا من تقسيم العقل، بين عقل نظري وعقل عملي. وهكذا، عندما يتساءل عن تعريف العقل ينفي نفيًا قاطعًا أن يكون له تعریف واحد، بل عدّة تعريفات، وهي تعريفات تُحيل على علوم متنوّعة وعلى أشخاص متنوّعي التّجارب، فحينما نتساءل: ما العقل؟ " يُطْمع في أن يحدّ بحدّ واحد! وهو هوس؛ لأنّه مشترك يُطلق على عدّة معان؛ إذْ يُطلق على بعض العلوم الضروريّة، ويُطلق على العلوم المستفادة من التّجربة، حتّى إنْ لم تُحنّكه التجارب، لا يُسمّى عاقلًا بهذا الاعتبار، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه، وهو عبارة عن الهدوء، فيقال: فلان عاقل أي فيه هدوء. وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل، حتى إنّ المفسد وإنْ كان في غاية الكياسَة يمنع من تسميته عاقلاً، فلا يقال للحجاج: إنّه عاقل بل داه... هكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتحدّد الحدود، فيقال في حدّ العقل باعتبار أحد مسمياته. إنّه بعض العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وباعتبار الثاني، إنه غريزة يتهيأ بها النّظر في المعقولات"[10]. ويرى الغزالي أن الله لمّا أراد إظهار قدرته وإرادته أبدع "جوهرًا روحانيًّا بسيطًا"، ومدركا، وكاملا، وجعله صافيًا وجليًّا كالمرآة، ثمّ "قابله بنور جلاله وجماله"، وبذلك كان تجلّيا من تجليات ماهيته وجوهريته، وعقل هذا الجوهر الرّوحاني ربوبيّة صانعه ومبدعه، فأدرك بذلك عبودية ذاته، فصار ذلك الجوهر أيضا المبدع الأوّل عقلا بصفاء ذاته، عاقلاً بإدراك ربوبيّة خالقه، معقولا بإحاطة العبودية حوله... فالعقل أوّل المبدعات.[11]
وفي سلسلة الخلق، يرى الغزالي أنّ العقل يحتلّ مكانة سامية لا جدال فيها، فأوّل الأشياء الكلمة، والثّاني العقل، والثالث النّفس، والرّابع الهيولّي، والخامس الطبيعة، والسادس الجسم، والسّابع الأفلاك، والثامن الأركان الأربعة، والتاسع المولدات والعاشر الإنسان... فإذن قد تبيّن بهذه المقدّمات أنّ نهاية العدد العشرة، والعشرة راجعة إلى الواحد الأوّل، وهو العقل الكلي، والعقل الكلي أثر كلمة من كلام الله، والنطق أثر من العقل الكلّي[12].
هذا الشّرف الذي يكتسبه العقل هو الذي جعل الغزالي يحدّد من خلاله كمال الإنسان وقوامه الفكري والأخلاقي؛ لأنه الحاكم الذي يفصل بصفة قطعيّة بين الحقّ والباطل، ولذك فإنّ أبا حامد يتساءل: "أيّ حاجة بالعاقل إلى معيار وميزان، فالعقل هو القسطاس المستقيم، والمعيار القويم، فلا يحتاج العاقل بعد كمال عقله، إلى تسديد وتقويم. فلتتئد ولتتثبت فيما تستخفّ به من عوامل الطرق العقلية، ولتتحقّق قبل كل شيء أنّ فيك: حاكما حسيا وحاكما وهميًا وحاكما عقليا. والمصيب من هؤلاء الحكام، هو الحاكم العقلي، ولولا كفاية العقل شرّ الوَهْم في تضليله هذا، لرسخ في نفوس العلماء من الاعتقادات الفاسدة في خالق الأرض والسماء، ما رسخ في قلوب العوام والأغْبياء".[13]
ومن جهة أخرى، فإن العقل بحسب الغزالي يسمح للإنسان بتحقيق الاستقلال الفكري؛ إذْ إنه "لا خلاص إلا في الاستقلال: خذْ ما تراه ودع شيئا سمعت به"[14]، وهو كذلك يشرّع الشكّ بما هو طريق إلى الحقيقة "إذْ الشكوك هي الموصلة إلى الحقّ، فمن لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضّلال"[15].
ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك، أنّ الغزالي يربط العقل بالعدل، وبذلك فإنّ العقل مفتاح السعادة، ويبدو ذلك واضحا في قول أبي حامد: "فمن لم يكن عاقلاً لم يكن عادلاً، ومن لم يكن عادلا مأواه جهنم، فلهذا السّبب كان رأس مال السّعادات كلّها العقل"[16]. ولقد أدرك قيمة العقل من وراء الشكّ الذي أوصله إلى اليقين به والتسليم بحاكميته، وكان هذا التسليم "لا بِنظْمِ دلیل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصّدر"، كما يقول في المنقذ من الضلال[17].
وكلّ المعاني عند الغزالي، باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاث صفات:
-المعاني المحسوسة.
- المعاني المتخيلة.
- المعاني المعقولة.
ويُسَمي "سبب الإدراك": قوّة، فيقول مميزا بين القوّة الحسية والقوة الخيالية: "في حدقتك معنى تميزت الحدقة عن الجبهة، حتى صرت تبصر بها، وإذا بطل ذلك المعنى [العمى[ بطل الإبصار، والحالة التي تدركها عند الإبصار، شرطها وجود المبصر، فلو انعدم المبصِر انعدم الإبصار، وتبقى صورته في دماغك، كأنك تنظر إليها، وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل، بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلاً، وتنفي الحالة المسمّاة "إبصارا"، ولما كنت تحس بالمتخيّل في دماغك لا في فخذك وبطنك، فاعلم: أنّ في الدّماغ غريزة وصفة يتهيأ للمتخيل، وبها باين البطن والفخذ، كما باين العين الجبهة والعقب في الإبصار، بمعنى اِختصّ به لا محالة"[18]. ويرى أبو حامد في هذا الصّدد، أنّ قوّة الحسّ وقوّة التخيل يشترك فيهما الإنسان مع الحيوان، بخلاف العقل. فإلى جانب القوّة الحسية والقوّة الخيالية يؤكد الغزالي على قيمة القوّة الثالثة للإنسان، وهي "القوّة العقلية" التي يسميها "قوة ثالثة شريفة" وهذه القوة هي التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، ومحلها يكون إمّا في الدّماغ أو في القلب، وإما في النفس عند من يرى النفس جوهرًا قائمًا بذاته وغير متحيّز، وقوّة العقل متميزة عن قوة التخيل أشد ما تتميز قوة التخيل عن الإبصار؛ إذْ ليس بين قوّة الإبصار وقوّة التخيل فرق، غير أن وجود المبصر شرط لبقاء الإبصار، وليس شرطا لبقاء التخيّل [19]، ثم إن الغزالي يُشير كذلك إلى تمتع الإنسان بقوة رابعة فكرية يسميها "القوة المفكرة" بواسطتها تكون القدرة على التركيب والتأليف والتجريد، يقول عنها الغزالي: "ولعمري فيك قوة رابعة تسمّى "المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصّور التي في الخيال، وتقطيعها وتركيبها، وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان، قدر على أن يجعلها نصفين، فيصوّر نصف إنسان [ وربّما ركّب شخصا نصفه في إنسان ونصفه من فرس [، وربّما تصوّر إنسانا يطير، إذا ثبت في الخيال صورة الإنسان وحده، وصورة الطير وحده كذلك، وهذه القوة تجمع بينهما، كما تفرق بين نصفي الإنسان، وليس في وسعها - البتّة - اِختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصّور الحاصلة في الخيال. والمقصود أنّ مباينة إدراك العقل لإدراك التخيّل، أشدّ من مباينة التخيل للإبصار؛ إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة، التي ليست داخلة في ذاتها، أعني: لیست ذاتية - كما سبق - فإنّك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم، ومعه شكل مخصوص، ووضع مخصوص منك، يقرب أو يبعد.
ومعلوم أن الشكل غير اللّون، والقدر غير الشكل، فإنّ المثلث له شكل واحد، صغيرا كان أو كبيرا. وإنما إدراك هذه المفردات المجرّدة بقوّة أخرى، اِصطلاحنا على تسميتها "عقلا"، فيدرك السّواد، ويقضي بقضايا، ويدرك اللّونية مجردة، ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة"[20].
وأما اليقين الذي يبحث عنه العقل، فهو ما يسميه الغزالي "العلم"، غير أنّ العلم بالنسبة إليه لا ينفصل على مفهوم "الفضيلة"، ومطلوب العقل هو معرفة فضيلة العلم ونفاستهِ، وما لم نفهم الفضيلة في ذاتها، ولم يتحقق المراد منها لا يمكن أن نعلم وجودها كصفة للعلم؛ إذ يرى أبو حامد أنه قد ضلّ الطريق من طمع أن يعرف أن زيدا حكيما أم لا، وهو بعدُ لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها [21]. إننا نفهم جيّدا مكانة العقل في فكر الغزالي حين نرى القيمة التي يعطيها للبرهان والأقيسة المنطقية والأدلة في البحث عن الحقيقة، وحين يُقسّم المعرفة إلى قسمين معرفة بدليل ومعرفة بغير دليل، وهو بالتوازي مع ذلك يحكم بلزوم النتيجة من المقدمات، وهو "الذي يعبر عنه بوجه الدّليل، ويلتبس الأمر على الضعفاء، ولا يتحققون أنّ وجه الدليل عَيْنُ المدلول أو غيره، فنقول: كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات، وعرضته على العقل، لم يخل العقل فيه من أمرين، إمّا أن يصدق به، أو يمتنع عن تصديقه، فإن صدق به فهو الأولي المعلوم بغير واسطة، ويقال: إنّه معلوم بغير دليل، وبغَيْر علة، وبغير حيلة، وبغير نظر وتأمل، وهذه العبارات تؤدّي معنى واحدًا في هذا المقام. وإن امتنع عن المبادرة إلى التصديق، فلا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة، وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم ويجعل الحكم خيرا عنها، فيصدق به، فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه [22].
نحن نعرف منذ أرسطو أنّ المنطق (الأرغانون) هو الآلة التي تُحدد مكانة العقل ومنزلته من حيث إن هذا العقل هو المؤسس للمعارف والعلوم، والمنطق هو الذي بواسطته نحدّد ما هو صحيح وما هو خطأ. وأكبر دليل يمكن أن يقنعنا بمنزلة العقل الرفيعة عند الغزالي هو تأليفه مؤلفا كاملا في المنطق سمّاه "معيار العلم في المنطق"، ويحدد هدفه من خلال تأليف هذا الكتاب بقوله: "فلما كثر في المعقولات مزلة الأقدام، ومثارات الضلال، ولم تنفكّ مرآة العقل عمّا يكدرها عن تضليلات الأوهام، وتلبيسات الخيال، رتّبنا هذا الكتاب معيارا للنظر والاعتبار، وميزانا للبحث والافتكار، وصيقلا للذهن، ومشحذا لقوّة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلّة العقول، كالعروض بالنسبة إلى الشعر، والنحو بالإضافة إلى الإعْراب؛ إذْ كما لا يُعْرف منزحف الشعر عن موزونه إلاّ بميزان العروض، ولا يميّز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النّحو. كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه، وصحيحه وسقيمه، إلا بهذا الكتاب"[23]. والمنطق هنا له وظيفة أساسية تتمثل في الإقناع بواسطة الحُجج التي تتماشى مع درجة الأذهان في عمقها أو في سطحيتها؛ وذلك بضرب الأمثلة والإرشاد. فإذا كان الخطاب مع نجّار مثلا، وهو لا يحسن إلاّ النّجارة، كما يقول أبو حامد، وكيفية استعمال آلاته، وجب على مُرْشده أن لا يضرب له المثل إلاّ من صناعة النّجارة، ليكون ذلك أسبق إلى فهمه، وأقرب إلى مناسبة عقله، وكما لا يحسن إرشاد المتعلّم إلاّ بلغته، لا يحسن إيصال المعقول إلى فهمه، إلا بأمثلة هي أثبت في معرفته.[24]
إنّ من تمكّن من المنطق وأبحر في شعابه واطلع على دقائق آلياته ومكوّناته، ليس بغريب أن يكون ذا حسّ فلسفي عميق. وهذا هو حال الغزالي الذي كان فيلسوفا مطلعًا على الفلسفة وتاريخها وعارفا بمبادئها، ومعرفته هذه بالفلسفة هي التي مكّنته من نقد الفلاسفة أو فئة من الفلاسفة رأى في مواقفها ما لا يتماشى مع قناعاته الفكرية والدّينية. ولذلك، يجوز لنا أن نتساءل هنا بالذات عن مدى قدرة هذا العقل الذي آمن به أيّما إيمان بوصفه المؤسس للمعارف والعلوم، على الجمع بين المشروع المعرفي الديني الفقهي، والمشروع الفلسفي العلمي.
الغزالي: الفيلسوف الناقد للْفلاسفة
لا بدّ من القول في هذا المجال إن الغزالي لم يتوجه بالنقد للفلاسفة إلا بعد أن اِطّلع على مجالات بحثهم و"أقسام علومهم"[25]، وهي في نظره ستّة أقسام وهي الرّياضيات والمنطق والطبيعة والألوهية والسياسة والأخلاق. وأما القسم الرياضي من الفلسفة، فيتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، ولا يتعلق شيء من هذه المباحث بالأمور الدينية نفيا وإثباتا، حسب أبي حامد، بل يعدّها أمورًا برهانية لا سبيل إلى مُجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. [26]
وأما المنطقيات، فهي كذلك لا يتعلق شيء منها بالدين، نفيا وإثباتا، بل هي بالأحرى النّظر في طرائق الأدلّة والمقاييس، وشروط مقدّمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحدّ الصحيح وكيفية ترتيبه. والعلم، حسب هذا المنظور، إمّا تصوّر وسبیل معرفته الحدّ، وإمّا تصديق وسبيل معرفته البرهان. ويرى الغزالي أنّ هذا ليس فيه ما ينبغي أن يُنكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلّمون وأهل النظر في الأدلة، وإنّما الفلاسفة يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات[27]. ويمكن أن نستدل بذلك على أنّ الغزالي لا ينتقد الفلسفة في المسائل العلمية والمنطقية القائمة على البرهان والاستدلال العقلي، فهي مسائل مقبولة بالنسبة إليه ولا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال، وإنما ينقد في الأصل طريقتهم في توظيف العلوم والمنطق في مسائل الإلهيات بما يتعارض مع المعتقدات الدينية، وفي هذا السِّيَاق يقول: "وإنما نقلنا هذه الحكاية ليعلم أنه لا تثبّت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنهم يحكمون بظنّ وتخمين، من غیر تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابيّة والمنطقية، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية، لما اِختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابيّة، ثم المترجمون لكلام "رسطا ليس" لم ينفكّ كلامهم عن تعريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضا نزاعًا بينهم. وأقومهم بالنقل والتحقيق في المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر وابن سينا، فنقتصر على إبطال ما اِختراه ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما في الضلال، فإن ما هجراه واستنكفا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله، فليعلم أنّا مقتصرون على ردّ مذاهبهم بحسب نقل هذين الرّجلين، كي لا ينتشر الكلام بحسب اِنتشار المذاهب".[28] ونفهم من ذلك، أنّ نقد الغزالي ليس موجها إلى الفلسفة في حد ذاتها، بل هو موجّه إلى فئة من الفلاسفة يذكرهم بالاسم دأبوا على استغلال المنهج العلمي لإنكار الشرائع الدينية، وهؤلاء هم فلاسفة اليونان، وقد تأثر بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن سينا. فهؤلاء المتّبعين، حسب الغزالي، "أطنبوا في وصف عقولهم وحسن أصولهم ودقة علومهم الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية، واستبدادهم - لفرط الذكاء والفطنة - باستخراج تلك الأمور الخفيّة وحكايتهم عنهم أنهم، مع حصافة عقولهم وغزارة فضلهم، منكرون للشرائع والنّحل، جاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة وحيل مزخرفة"[29].
وأمّا بحوث الفلاسفة العلميّة الخالصة، فإنّ الغزالي مثمّن لها وغير جاحد لفضلهم فيها، ومثال ذلك يذكر قولهم إن الكسوف القمري عبارة عن اِنمحاء ضوء القمر بِتَوسّط الأرض بَيْنه وبين الشمس، من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس، وكقولهم بأن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر وبين الشمس؛ وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وفي هذا السّياق بالذّات، يُعبّر الغزالي عن موافقته لهم بلا ريبة، فيقول: "وهذا الفنّ أيضا لسنا نخوض في إبطاله؛ إذْ لا يتعلّق به غرض، ومن ظنّ أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يَبقى معها ريبة، فمن يطّلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفيين، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الاِنجلاء، إذا قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يتسرّب فيه وإنّما يستريب في الشّرع، وضرر الشّرع ممّن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره يطعن فيه بطريقة، وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل"[30].
وبالتوازي مع ذلك، يرى الغزالي أنّ المنطق وإن يبدو علمًا مخصوصا بالفلسفة والفلاسفة، فإنّه في الحقيقة علم يجمع بين جميع المعارف العقلية، وقد وظّفه علماء الكلام أنفسهم في دفاعهم العقلي عن العقيدة، غير أنّ خطأ الفلاسفة يتمثّل، حسب أبي حامد، في أنهم لم يوظّفوا المنطق توظيفًا صحيحًا في المسائل الشرعية (الإلهية)، فيقول في هذا السياق في كتاب "تهافت الفلاسفة": "إذا سمع المتكايس المستضعف اسم المنطق ظنّ أنه فنّ غریب لا يعرفه المتكلّمون، ولا يطّلع عليه إلاّ الفلاسفة، ونحن لِدفْع هذا الخيال واستئصال هذه الحيلة في الإضلال، نرى أن نفرد القول في "مدارك العقول" في هذا الكتاب، ونصبها في قوالبهم، ونقتفي آثارهم لفظا لفظا، ونُنَاظِرُهُم في هذا الكتاب بلغتهم - أعني بعباراتهم في المنطق - ونُوضّح أنّ ما شرطوه في صحّة مادة القياس، في قسم البُرهان من المنطق، وما شرطوه في كتاب القياس وما وضعوه من الأوضاع في "إيساغوجي" و" قاطيغورياس" التي هي أجزاء المنطق ومقدّماته، لم يتمكّنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية"[31].
إنّ الغزالي بنقده للفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة " لم يتعمّد محاربة الفلسفة في حدّ ذاتها أو القضاء عليها، وهذا ما أكده المستشرق دي بور في قوله: "كثيرًا ما يقال إنّ الغزالي قضى على الفلسفة في الشّرق قضاءً مُبْرمًا، لم تقم بعده قائمة... ولكن هذا زعْم خاطئ لا يدل على علم بالتّاريخ ولا على فهْم حقائق الأمور فقد بلغ عدد أساتذة الفلسفة وطلاّبها في المشرق بعد عصر الغزالي مئات، بل ألوفًا"[32] وبقطع النّظر عن الحُكم الذي يطلقه الغزالي على الفلاسفة، فإنّ المواضيع التي أحصاها عند هؤلاء غير متعارضة مع الشّرع؛ إذْ لا يرى في الرّياضيات والمنطق أي مأخذ، كما يرى أنّ أغلب المعطيات المعرفية للعلوم الطبيعية مقبولة دينيًّا. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ البحث الفلسفي في المسألة الأخلاقية، هو بحث في النّفس وأخلاقها وكيفيّة معالجتها، وهو بذلك مرتبط بالتصوّف حسب رأيه.
ومن المسائل الميتافيزيقيّة المركزيّة التي عارض فيها الغزالي الفلاسفة قولهم بِقدَم العالم، وهو مُحال في نظره؛ لأنّ الفعل يستحيل أن يكون قديما؛ إذْ معنى كونه فعلا أنه لم يكن كان، حسب تعبيره، فإنْ كان موجودا مع الله أبدا، فكيف يكون فعلاً ؟ بل يلزم من ذلك دورات لا نهاية لها على ما سبق، وهو محال من وجوه، ثم إنهم مع اِقتحام هذا الإشكال لم يتخلص الفلاسفة من أصل السّؤال، وهو أنّ الإرادة لمّا تعلّقت بالحدوث في وقت مخصوص لا قبله ولا بعده، ومع تساوي نِسب الأوقات " فإنّهم إنْ تخلّصوا عن خصوص الوقت لم يتخلصوا عن خصوص الصّفات، والعالم مخصوص بمقدار مخصوص ووضع مخصوص، وكانت نقائضُها ممكنة في العقل، والذّات القديمة لا تُناسب بعض المُمكنات دون بعض"[33]. ولكن هذا النّقد الذي وجّهه الغزالي للفلاسفة، خاصة في كتابه "تهافت الفلاسفة" قد أبان على تناقض الغزالي نفسه حسب بعض الدّارسين له على غرار مؤرّخ الفلسفة الإسلامية هنري كوربان، فرغم أنّ أبا حامد يُدرك إدْراكا حقیقيًّا أنّ العقل غير قادر على بلوغ اليقين المطلق في المسائل الماورائية والغيْبِيّة، فإنّه اِضطرّ أنّ يُبيّن ذلك للفلاسفة مستخدمًا، هو نفسه، البرهان الفلسفي [34].
ومُجْمل القول في هذا الباب، إنّ إيمان الغزالي بالمنهج العقلي جعله لا يرفض الفكر الفلسفي في حدّ ذاته، وهو فكر قائم على البرهان المنطقي وحتّى نقده، فقد كان موجّهًا بالأساس إلى بعض الفلاسفة الذين لم يميّزوا بين الحقيقة الدّينية والحقيقة الفلسفية، وهذا الجمع بين الموقف الفلسفي العقلاني والموقف الدّيني والشّرعي يُمكن أن يتَوَضّح لنا كذلك في موقفه من علم الكلام.
الغزالي المتكلّم: النّاقد لعُلماء الكلام
نظرًا إلى أنّ علم الكلام موضوعه الدّفاع عن العقيدة بالأدلّة والبراهين، فإنّه يستخدم المنهج العقلي (الجدل العقلي) وبعض المناهج التي يستقيها من الفلاسفة مثل القياس والبرهان. ولذلك، فإنّ الغزالي يراه من العلوم العقليّة؛ لأنّه لا يقتصر على البعد الشرعي فقط، بل يتعدّاه إلى كلّ ما يُشير إلى صفة المعقولية لدى الإنسان، هذه الصّفة التي يعبّر عنها بطريقة جليّة علم الكلام، وهو الذي يُعرف كذلك بعلم التوحيد، فيقول: في "الرسالة اللدنية"، في فصل عن أصناف العلم وأقسامه: "اِعْلم أن العلم على قسمين: أحدهما شرعي، والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقليّة عند عالمها. وأكثر العلوم العقليّة شرعيّة عند عارفها... أمّا القسم الأوّل، وهو العلم الشّرعي، فينقسم إلى نوعين: أحدهما في الأصول وهو علم التوحيد، وهذا العلم ينظر في ذات الله تعالى وصفاته القديمة، وصفاته الفعلية، وصفاته الذّاتية المتعدّدة بالأسامي على الوجه المذكور، وينظر أيضا في أحوال الأنبياء والأئمّة من بعدهم والصّحابة. وينظر في أحوال الموت والحياة، وفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحِساب، ورؤية الله تعالى، وأهل النّظر في هذا العلم يتمسّكون أوّلا بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بالدّلائل العقلية والبراهين القياسية، وأخذوا مقدّمات القياس الجدلي والعنادي ولَوَاحِقهما من أصحاب المنطق الفلسفي، ووضعوا أكثر الألفاظ في غير مواضعها، ويعبّرون في عباراتهم بالجوهر، والعرض، والدليل، والنّظر، والاستدلال، والحجّة، ويختلف معنى كل لفظ من هذه الألفاظ عند كلّ قوم حتى إنّ الحكماء يعنون بالجوهر شيئا، والصّوفية يعنون شيئا آخر، والمتكلمون شيئا، وعلى هذا المثال... وهؤلاء القوم مخصوصون بالكلام في الأصول وعلم التوحيد ولقبهم: المتكلمون، فإنّ اِسم الكلام اِشتهر على علم التوحيد"[35] واعتبار الغزالي علم الكلام والتّوحيد أشرف العلوم وأكملها لا يمنعه من نقده في جوانب عديدة خاصّة في قول المتكلّمين بأنّ النفس والجسم لا يختلفان إلاّ في خاصيات عرضيّة؛ إذ يرى أن المتكلمين المعروفين بعلم الجدل يعدّون النفس جسما، ويقولون: إنّه جسم لطيف، بإزاء هذا الجسم الكثيف، ولا يرون الفرق بين الرّوح والجسد إلا باللّطافة والكثافةّ وبعظهم يعدّ الرّوح عرضًا، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول بحسب قوله، وبعضهم يرى الدمّ روحًا، وكلّهم "قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا"[36].
وبنفس منهج الجدل العقلي الذي يستخدمه المتكلمون، يبيّن الغزالي أن النفس هي مصدر الحقائق والعلوم، وأنّ الجسم ليس إلاّ عرضًا ولا يُمكنه أن يُكون جوهرًا للموجودات، فهو زائل وهي باقية، ولذلك يتوجّه للسائل عن صفات العلم ومصدره قائلاً: "والآن يتعيّن عليك بعد معرفة فضْل العلْم إلاّ معرفة النّفس التي هي لوح العلوم ومقرّها ومحلّها؛ وذلك أنّ الجسم ليس بمحل للعلم لأن الأجسام متناهية ولا تسع كثرة العلوم، بل لا يحتمل إلا النقوش والرّقوم، والنّفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة ولا مزاحمة وملال وزوال"[37].
ينتقد الغزالي إذن فئة من المتكلّمين تُسمّى المشبّهة والمُجسمة، التي تعتقد في أن ذات الله وصفاته تخضع للتجسيد والتشبيه على غرار اليد والقدم والجلوس والانتقال وغيرها من الصفات، فيعتبر أن هذا الاعتقاد يُسيء إلى الذات الإلهية ويتضارب مع اعتقادات السلف. ويرى، في المقابل، أن وراء هذا التجسيم تختفي تأويلات لا طاقة للعامي بمعرفتها، وهي أساس الحقيقة. وتبعا لذلك، فإن التشبيه في ذاته يتعارض مع العقل، ولا يمكن للمنطق القبول به كحقيقة جوهرية و"من نفى الجسميّة عنه وعن يده وإصبعه، فقد نفى العضوية واللّحم والعصب، وقدس الربّ سبحانه عمّا يُوجبُ الحدوث. فليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني، ليس بجسم ولا عرض، يليق ذلك المعنى بصفات الجلال والكبرياء، فإن كان لا يدري ذلك المعنى، ولا يفهم كُنْه حقيقته، فليس عليه في ذلك تكليف أصلاً، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه، بل الواجب عليه ألاّ يخوض فيه"[38].
إنّ اعتقاد الغزالي في قوّة الأدلّة العقلية هو اِعتقاد لا يمكن إنكاره، ولكنه في المقابل يجعل البرهان العقلي مقتصرًا على فئة العلماء فقط، الذين بإمكانهم الذهاب بعيدا في التأويل والخوض في جواهر الحقائق، وأما غير ذلك، فسنجد أنفسنا أمام الأخبار الموهِمة للتشبيه كما هو الحال عند من يُسمّيهم أبو حامد "الرعاع" و"الجهال" من "الحشوية الضلال"، فقال عنهم: "اعتقدوا في الله وفي صفاته ما يتعالى ويتقدّس عنه، من الصّورة، واليد والقدم، والنزول، والانتقال، والجلوس على العرش، والاستقرار، وما يجري مجراه ممّا أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها، فإنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف" [39]. ولذلك، فإنّ منهج الغزالي هنا قام على شرح اِعتقاد السلف وتوضيحه، وتبيان ما يجب على عموم الناس أن يعتقدوه؛ وذلك تمهيدا لكشف "الحق"، كما يقول، وتقرير ما يجب الإمساك والكفّ عن الخوض فيه، وما يجب البحث عنه[40].
وبالنّسبة إلى العامي، فهو ليس مطالبا بأن يبحث في الأدلّة العقلية والبراهين لكي يؤمن؛ إذ إن النّظر العقلي أمر يتجاوز قدراته ويُربِك إيمانه، وبالتّوازي مع ذلك عليه أنّ يستقي الأدلّة من القرآن على معانيه الظّاهرة، ولا يزيد عليها في البحث والاستقصاء ويتجنب التعمق في ذلك، ويقول الغزالي في هذه المسألة: "إن قلت: العامّي إذا لم تسكن نفسه إلى الاِعتقادات الدينية إلا بدليل، فهل يجوز أن يذكر له الدليل ؟ فإنْ جوّزت ذلك، فقد رخصت له في التّفكير والنّظر، وأي فرق بين هذا النظر وبين غيره؟ وإن منعت، فكيف تمنعه ولا يتم إيمانه إلا به؟ والجواب: أني أجوّز له أن يسمع الدّليل على معرفة الخالق ووحدانيته، وعلى صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم، وعلى اليوم الآخر، ولكن بشرطين: أحدهما، ألاّ يزاد معه على الأدلّة التي في القرآن. والآخر ألاّ يماري إلاّ مراء ظاهرا، ولا يتفكر فيه إلاّ تفكيرا سهلا جليًّا، ولا معنى في التفكّر، ولا يوغل غاية الإيغال في البحث"[41].
فكيف يكون تصرّف العامي أمام مسائل معرفية وعلميّة تخصّ الشّرع والعقيدة، وهو الذي لا يمتلك آليات البحث والفهم؟ الحلّ هنا، هو أن يسلم العامي لأهل المعرفة بمهمّة النّظر والاستدلال، وألاّ يخوض بنفسه في تلك المسائل فيتيه في عالم من الأوهام؛ إذ إنه، بحسب الغزالي "يجب على العامي أن يعتقد أنّ ما اِنطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها، ليس منطويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصدّيق، وعن أكابر الصحابة، وعن الأولياء والعلماء الرّاسخين، وأنه إنما انطوى عنه، لعجزه وقصور قوّته، فلا ينبغي أن يقيس بنفسه غيره، فلا تقاس الملائكة بالحَدَّادين. وليس ما يخلو عنه مَخادع العجائز يلزم أن يخلوَ عنه خزائن الملوك، فقد خُلق النّاسُ أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر، فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينها صورة ولونا، وخاصية ونَفَاسَة، فكذلك القلوب معادن لجواهر المعارف، فبعضها معدن للنبوّة والولاية والعلم ومعرفة الله تعالى، وبعضها معدن للشهوات البهيميّة والأخلاق الشيطانية".[42] ويحكم الغزالي تبعا لذلك، أن ما توصّل إليه ينبع من أحكام العقل ومقتضباته، هذا العقل الذي يفرض على النّاس التّسليم لأهل المعرفة، فهذه "أمور لا يقدر أحد على حجبها وإنكارها، وإن كان من أهل التمييز فضلا عن العقلاء والعلماء. فهذه هي البراهين العقلية"[43].
وأمّا علم الكلام كمعرفة شرعية، فقد نبّة الغزالي إلى الأخطاء التي وقع فيها الكثير من علماء الكلام، وخاصة المعتزلة والحَشْوية بحسب نظره؛ فالأولى نفت الجهة وعدم إثبات الرؤية، تماما مثل الثانية التي سقطت في التشبيه المطلق. وفي ذلك مخالفة للشرع كما يرى أبو حامد. وبهذا الإقرار، فهو من جهة أخرى، يؤكد نزعته السنّية الأشعرية؛ إذْ يقول: "وأما المعتزلة فإنهم نفوا الجهة، ولم يتمكنوا من إثبات الرؤية دونها، وخالفوا به قواطع الشّرع، وظنّوا أن إثباتها إثبات الجهة، فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه محترزين من التشبيه، فأفرطوا والحَشْوية أثبتوا الجهة احترازا من التعطيل فشبهوا، فوفق الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق، فتفطّنوا للمسلك القصد وعرفوا أن الجهة منفية؛ لأنها للجسمية تابعة وتتمّة، وأن الرّؤية ثابتة؛ لأنها رديف العلم وفريقه، وهي تكملة له، فانتفاء الجسمية أوجب اِنتِفَاء الجهة التي من لوازمها، وثبوت العلم وقت ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكميلاته ومشاركة له في خاصيته، وهي أنها لا توجب تغييرا في ذات المرئي، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم. ولا يخفى عن عاقل أنّ هذا هو الاِقتصاد في الاعتقاد[44].
وعلى الرغم من كلّ شيء، فإنّ الغزالي الذي يستخدم الجدل العقلي في الردّ على المتكلمين واِنتقاد تصوّرهم للعقيدة، يرى، في جانب من جوانب تفكيره، أنّ علم الكلام صناعة مفروضة فرضا على الباحث عن الحقّ والمتتبع لليقين، وهو الدّفاع عن العقيدة هنا. ونكاد نقول إنّ أبا حامد يعتبر هذا العلم غير ضروري ولسنا في حاجة أكيدة إليه، خاصة لِما يحمله من فرضيات الوقوع في الأوهام والبدع إذا ما اضطلعت به جماعة غير ملمّة بعلوم الشّرع، فعلم الكلام، بهذا المعنى أقرب إلى أن يكون فرض كفاية عنده، وفي ذلك يقول الغزالي: "فاعلم أنّ حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلّة التي يُنتفع بها... فالقرآن والأخبار مشتملان عليه، وما خرج عنهما... فهو إمّا مجادلة مذمومة، وهي من البدع... وإمّا مشاغبة بالتعلّق بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل المقالات التي أکثرها ترّهات وهذيانات تزدريها الطّباع، تمجّدها الأسماع. وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدّين ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول، وكان الخوض فيه بالكلّية من البدع، ولكن تغيّر الآن حكمه، إذ حدثت البدع الصّارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبغت جماعة لفقوا لها شبها، ورتّبوا فيها كلاما مؤلفا، فصار ذلك المحذُور بحكم الضّرورة مأذونا فيه، بل صار من فروض الكفايات"[45].
نخلص في هذا المستوى من التحليل إلى القول إن أحكام العقل صادقة بالنسبة إلى الغزالي، ولكنها عرضة للخطأ والزّلل في المسائل الشرعية والعقدية. إنّه لم يوجه شكّه نحو العلوم إلاّ بصفة ظرفية ومؤقتة، فهو شكّ مؤقت في التقليديات والحسّيات والعقليات على حدّ سواء، ولكن من بين طيّات هذا الشكّ ينبجس بصيص من نور، نور اليقين والحقيقة، وهو النّور الذي اِعتقد الغزالي أن الله قذفه في صدره، فهو نور لا نفْهمه إلاّ على أساس أنّه اِقتناع داخلي بصدق أحكام العقل، فالعقل ليس في حاجة إلى مساعدة خارجية إلا للشفاء من الشك أو الاطلاع على حقيقة الشرع. يمكن القول تبعًا لذلك بأن موقف الغزالي مختلف عن موقف علماء الكلام وخاصة منهم المعتزلة؛ لأنّ العقل عند الغزالي محتاج إلى الاهتداء بالشرع، وإلى تحقيق معارفه بواسطة الاتصال الوجداني بالله. أما علماء الكلام، فإنّهم يعتمدون البراهين العقلية المستندة إلى معطيات الشّرع دون الاهتمام بالاتصال الوجداني والكشف الباطني[46].
في الجمع بين العقل والنقل:
أخذ الغزالي موقفًا وسطًا بين العقل والنقل مُبينا أن العقل وحده لا يهتدي إلى الصواب، وأن الشرع لا يُفْهَم في مدلولاته الحقيقيّة إلاّ بالاستناد إلى العقل، ويقول في هذا الإطار: "وأنّى يستتبّ إلى الرشاد من يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنّظر، أوّلا يعلم أنّه لا مستند للشرع إلا قول سيّد البشر، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصّواب من اقتفى محض العقل، واقتصر، وما اِستضاء بنور الشّرع ولا استبصر".[47] وبهذا المعنى، يرى الغزالي أنّ الجهل يتمثل في استبعاد العقل من المجال الشرعي، وأما الشرع فهو بمثابة الوصفة الدّوائية لطمأنينة القلب. وتبعا لذلك لا يمكن فصلهما، فالعلوم الدّينية، كما يقول أبو حامد، تُمثل كمال صفة القلب وسلامته من الأمراض وغنائه عن الأدوية، فالعلوم العقلية غير كافية لسلامة القلب وإن كان محتاجا إليها، كما أنّ العقل غير كاف لاستدامة صحّة البدن، بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلّم من الأطبّاء؛ إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه، ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل، فلا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، "فالدّاعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلّية جاهل، والمكتفي بمجرّد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون أحد الفريقين، وكن جامعًا بين الأصلين، فإنّ العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية"[48].
وهذا القول يجعل الغزالي أقرب إلى الفرقة الأشعرية التي تسمى بــ "أهل التوسط والاعتدال"؛ إذ إنهم لا يعطون للعقل قيمته إلا بالارتكاز على الشّرع. وفي المقابل، تعرف المعتزلة بنزعتها العقلية التي برزت مع أبي علي الجّبائي وأبي هاشم الجبّائي، حيث أصبح العقل معهما بمثابة السّلطة إلى جانب الشريعة وفي هذا السياق يقول الشهرستاني في الملل والنحل: "واتفقا على أن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعة عقلية"[49]. إن العلاقة بين العقل والنقل في نظر الغزالي تشبه العلاقة بين الأسس والبناء؛ إذ إن البناء لا تقوم له قائمة ولا يثبت بلا أساس متين، وهكذا فلا غنى عن العقل بالنسبة إلى النقل، ولا غنى للنقل بالنسبة إلى العقل؛ إذ إنّ "العقل لن يهتدي إلاّ بالشّرع، والشرع لم يتبيّن إلا بالعقل، فالعقل كالأسس، والشرع كالبناء ولن يغني أسس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أسّ"[50]. ويصف أبو حامد من يرفض العقل في بحثه في مسائل الشرع بأنّه كالأعمى الذي لا يبصر، وليس الأعمى بأعمى العينين، ولكن الأعمى هو فاقد المنهج العقلي الذي يهديه إلى اليقين، ويبرز ذلك في قوله: "فالمُعرِض عن العقل مكتفيا بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا الأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور"[51]. وهكذا يقرّ الغزالي أنّ لا شيء يرد لنا بالسمع والنقل إلا ويحتاج إلى التصديق بالعقل، فالتصديق العقلي أقوى من التصديق السّماعي كما نفهم ضمنيا من كلامه، والاكتفاء بالسّمع والنّقل بضعنا أمام نوع من المعرفة الظنية القائمة على الأدلة المتهافتة؛ لأنها تفتقر إلى التّصديق العقلي وتكتفي بالقلب واللسان. وأما التّصديق اليقيني، فهو من شأن البرهان العقلي عندما يطابق الشّرع في أحكامه. وهذه المقاربة يمكن أن نفهمها ضمنيا من كلام الغزالي حين يقول: "ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع، وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما. أما المعلوم بدليل العقل دون الشرع، فهو حدث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وإرادته، فإنّ كل ذلك ما لم يثبت الشرع؛ إذْ الشرع يُينى على الكلام، فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع. فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه ونفس الكلام أيضا فيما اخترناه لا يمكن إثباته بالشرع... وأما المعلوم بمجرد السّمع، فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك موافق العقول، وإنّما يعرف من الله تعالى بوحي وإلهام ونحن نعلم من الوحي إليه بسماع كالحشر والنّشر والثواب والعقاب وأمثالهما، وأما المعلوم بهما فكلّ ما هو واقع في مجال العقل ومتأثر في الرتبة عن إثبات كلام الله تعالى كمسألة الرؤية وانفراد الله تعالى بخَلق الحركات والأغراض كلها وما يجري هذا المجرى، ثمّ كلّما ورد السّمع. به ينظر، فإن كان العقل مجوزًا له وجب التصديق به قطعا إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وجب التصديق بها ظنًّا إن كانت ظنّية، فإنّ وجود التصديق باللسان والقلب عمل يبنى على الأدلة الظنية كسائر الأعمال"[52].
وفي جانب آخر هناك مسائل في الشّرع لا يُمكن أن يقطع العقل فيها بالحكم الصحيح، وهي تبقى مسائل تأويلية نَرجع فيها إلى النص الذي لا يمكن أن يكون متناقضا مع الأحكام التي يستوحيها العقل؛ إذ إن "ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد الشمع به ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول. وظواهر وأحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل فإنّ توقّف العقل في شيء من ذلك، فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضا لأدلّة السّمع فيكفي في وجوب التّصديق اِنفِكَاك العقل عن القضاء بالإحالة"[53].
والفرق الجوهري بين العلوم العقلية والعلوم الشّرعية، أن العلوم العقلية تتحدد بغريزة العقل كما يرى الغزالي، بينما العلوم الشرعية لا تستند إلى العقل إلا بعد السّماع.
وفي هذا الاتجاه يؤكد على ضرورة اتفاق العقل والنقل، والباطن والظاهر[54]. وقد حدّد الغزالي نطاق العقل المجرّد عن الشّرع وجعله قاصرا عن الإحاطة بكلّ المسائل أو إدراك مواضيع التجربة، وأما الفلاسفة والمعتزلة، فقد جعلوا للعقل سلطة لا محدودة؛ إذْ إنه، بالنسبة إليهم قادر على حل كل المشكلات، ولكن الغزالي يؤكد لهؤلاء أن محاولة معرفة المسائل الماورائية عن طريق العقل وحده هي نوع من الفضول أو طمع في غير مطمع؛ لأن هذه المسائل تتجاوز القوى البشرية ولا تستوعبها، وهي لا تنال بطريق النظر العقلي فقط بل كذلك بطريق الكشف الباطني. ولا يشترط في الحقّ عند الغزالي أن يكون مؤيدا بالبرهان العقلي فقط، بل أن يكون كذلك مطابقا للنصّ الشرعي وموافقا له[55].
ويمكن القول تبعا لذلك بأنّ موقف الغزالي من علاقة العقل بالنقل شبيه إلى حدّ كبير بالموقف الأشعري الذي يضمن للعقل سلطته، ويجعله قادرا على فهم الشريعة وحتى على التأويل إن لزم التأويل. ولكن ما يفصل الغزالي عن الأشاعرة هو أن هذه الفرقة الكلامية لم تقِم وَزْنًا للتجربة الرّوحية الباطنية العميقة، في حين أنّ أبا حامد جعلها أساس بحثه عن الحقيقة ودعامة قوية للبرهان العقلي، وهذه التجربة الرّوحية استمدها من الطريقة الصّوفية[56]. وبهذا المعنى، نفهم أنّ العقل عنده هو الأساس لكلّ أنواع المعارف وأنّ الشرع نفسه لا طاقة لفهمه فهما قويما إلاّ بالمجادلة والمناظرة والبرهان، وهي طرائق عقلية ضرورية لإدراك اليقين. وتأكيدا لهذا التصور يقول الغزالي: "فأمّا نور البصيرة الباطنة التي بها يُعرف الله تعالى، ويعرف رسله فكيف يتصور ذمّه وقد أثنى الله تعالى عليه؟ وإن ذُمّ فما الذي بعده يحمد؟ فإنّ كان المحمود هو الشرع فيم علم صحّة الشرع؟ فإنّ علم بالعقل المذموم الذي يوثق به، فيكون الشرع أيضا مذموما؟ ولا تلتفت إلى أنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان، لا بالعقل فإنا نريد بالعقل ما يريده بعين اليقين، ونور الإيمان وهي الصّفة الباطنة التي يتميّز بها الآدمي عن البهائم حتّى أدرك بها حقائق الأمور. وأكثر هذه التخبيطات إنّما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبّط اِصطلاحات الناس في الألفاظ"[57]. وبهذا، فهو يؤكد قيمة العقل في العلوم الدينية؛ إذ إنه لا يخفى، كما يقول، أن العلوم الدينية، وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء؛ إذ العقل أشرف صفات الإنسان، فعن طريقه تقبل أمانة الله وبه يتوصّل إلى جواره[58]. ولكن قيمة العقل تبقى متمثلة دائما في ذلك الاندماج بالنقل، فيكون النصّ أو الشرع هو المنطلق لعمله ومناظراته. ولأجل ذلك، انتقد الغزالي المعتزلة لأنهم، في نظره، بالغوا في تمجيد العقل ورفعوه درجات على الشرع حتى في نصوصه القطعية، وهو بذلك يرى أنّ "الأمور الإلهية تتعالى لحُكم الجلال أن توزن بميزان أهل الاعتزال"[59].
إنّ المعرفة لن تكون تامة ولا يقينية إن لم تجمع بين العقل والوحي، والعمل على البحث عن التوافق بينهما، حيث لا يكون هناك مكان للتعارض أو التضارب بين "الشرع المنقول" و"الحق المعقول"، كما في عبارته، ويؤكد الغزالي هذا التمشي في قوله: "قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات"[60]. ويمكن أن نلاحظ في هذا السّياق أنّ الغزالي يُعطي قيمة كبيرة للعقل في فهم النصوص الدينية وتأويلها، ولكنه من جهة أخرى يعطي الأولوية للشرع في كل ما يكون فيه العقل قاصرا عن إدراك معناه، فعدم المعرفة بالاستحالة يترك المجال للوحي ويعطيه الأولوية، والأدلة النقلية، في نظره، لا يمكن إنكار يقينيتها إذا ما كانت متينة السّند، ويقول في هذا السياق بأن "كل ما ورد السمع به ينظر، فإن كان العقل مجوزا له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطِعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وجب التصديق بها ظَنًّا إن كانت ظنية... وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول (مثل آيات التشبيه)، فإن توقف العقل في شيء من ذلك، فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضا لأدلة السمع، فيكفي في وجوب التصديق اِنفكاك العقل عن القضاء بالاستحالة وليس يشترط اشتماله على القضاء لتجويزه"[61].
إن الغزالي ينتقد الغلوّ الذي يراه في بعض مواقف المعتزلة، وهو نوع من التطرّف الذي لا يحترم قاعدة الموازنة بين الشرع والعقل، من ذلك قولهم إن الله يعوّض للحيوان عذاب الدّنيا. وقد ردّ أبو حامد على هذا القول بردّ يتماشى مع نظرته التوفيقية بين العقل والشرع قائلاً: "من زعم أنه يجب على الله إحياء كلّ نملة وُطئت وكل بقّة عركت حتى يثيبها على آلامها، فقد خرج عن الشرع والعقل"[62].
هذا الردّ نفهم من خلاله أن الغزالي يولي أهمية كبرى لتوافق الأحكام الدينية مع المنطق العقلي، وأنّ كلّ ما لا يقبله العقل لا يمكن التسليم به حتى ولو اصطبغ بصبغة دينية. ولذلك، فهو يرى فيما يخصّ مباحث علم الكلام مثلا أن البحث في صفات الله وأفعاله أمر لا يستقيم إلاّ في ظل توفر أدلة عقليّة ومنطقية قوية، وكل النصوص التي نستدلّ بها في أحكامنا ينبغي لها أن تتطابق مع المنطق العقلي، وهو يذكر هذا الأمر صراحة في كتبه المنطقية على غرار کتاب "محكّ النّظر"، حيث يقول: "أكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات الله وأفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلها تزيد على ألف وألفين"[63].
إنّ الشّرع هو العقل من الخارج، والعقل هو الشّرع من الدّاخل، كما يقول الغزالي، وهما متعاضدان، بل متحدان. ولأنّ الشرع عقل من الخارج فقد سلب الله اسم العقل من "الكافر"، على حدّ تعبيره؛ وذلك في غير موضع من القرآن مثل قوله تعالى: "صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون". ولكون العقل شرعا من الداخل قال الله في صفة العقل: "فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلْق الله، ذلك الدّين القيم". فسمّى العقل دينا، ولأنهما متحدان، قال: نور على نور، أي نور العقل ونور الشّرع[64]. وهكذا لا يَعد الغزالي العقل معارضًا للشرع ولا تناقض بينهما، بل هناك تكامل وصلة وثيقة بينهما. وإن كان بذلك قد حرص على التوفيق، فإننا لا بد أن نعترف بأن كل عملية توفيقية هي في حدّ ذاتها حدّ من سلطة طرف على حساب طرف آخر. وفي هذا الاتحاد كان العمل الأساسي للغزالي أنّه وضع حدودا معيّنة للعقل، ولتكون تلك الحدود ما به يُمكن الفصل بين المسائل الطبيعية والمسائل الماورائية. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن فيلسوفنا لم يتقيد بهذا الرأي في كل كتبه، فنجده في البعض منها يميل إلى إعطاء سلطة مطلقة للعقل ولا يقيم له حدودا أبدا، بل يجعله مصدر كل الحقائق، ولذلك نراه في كتاب "مشكاة الأنوار" يقول: "الموجودات كلها مجال للعقل... فيتصرّف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينيا صادقا. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخَفيّة عنده جليّة".[65]
يمكن القول إنّ الغزالي حاول بالفعل التّوفيق بين العقل والنّقل، بين العقل والشّرع (أو الوحي)، ولكنه كان في كلّ محاولاته يميل إلى تقديم العقل، لا على طريقة المعتزلة، بل تقْديمه على أساس أنّه هو المصحح لمعاني النقل والمُثْبت لحقائق الوحي والإلهام؛ لأنّ العقل هو الذي يصادق على يقينيّة الأفكار بفضل الآلة المنطقيّة القويّة التي يستخدمها.
المعرفة الصّوفيّة وبُعدها الأخلاقي:
إنّ إيمان الغزالي بقدرات العقل البشري لا يمنعه من وضع حدود لمعارفه، وهذه الحدود عندما يتجاوزها العقل يجد نفسه أمام مجال الكشف الصّوفي؛ إذْ إنّ المتصوف هو سالك طريق المعرفة الحقيقية، والذي اِكتمل بناؤه الأخلاقي والعملي حتى صار أهلا لمعايشة اليقين بجوارحه القلبية. والقلب عند أبي حامد ليس من متضادات العقل، بل لعلّه مرادف من مرادفاته، ولكنّه العقل في ذروته القصوى، وهكذا فهو يَعتبر "أنّ الصوفية هُم السالكون لطريق الله خاصّة، وأنّ سيرتهم أحسن السّير، وطريقهم أقرب إلى الله"[66]. وبهذا المعنى، فإنّ التصّوف الذي يكون طريقًا صحيحًا نحو المعرفة الحقّ هو التصوّف الذي يتكامل فيه العلم والعمل.
إنّ النزعة الصّوفية عند الغزالي يمكن أن تكون امتدادًا لاقتناعه بفشل العقل في المجال العقائدي، ولذلك فهو يقول عن هذا العقل إن "كل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إمّا مع الأدلة التي حرّروها في تعصباتهم أوّ دون الأدلّة. فإن كان شاكا فيه، فهو فاسد الدّين، وإن كان واثقا فهو آمن من مكر الله مغتر بعقله الناقص. وكل خائض في البحث فلا ينفكّ عن هاتين الحالتّين إلاّ إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة"[67]. فالعقل بهذه الصفة مدعوّ إلى التخلي عن غروره في المعرفة المطلقة، وأنْ يقف في النّقطة التي ستبدأ فيها المكاشفة الصّوفية التي تتطلّب التطهّر الأخلاقي الكامل والانعتاق من رغبات الجسد وأدران المادة. فالمعرفة الصّوفية هي بمثابة النّموذج الأسْمى الذي ترتقي إليه الذّات بفضل مسار العقل أولّاً، ولكن بشرط التخلّص من غروره أيضا في نقطة نهاية مسيرته المعرفية. ولكن ذلك يسمح لنا بأن نقول، من جهة أخرى، إن بناء المعرفة يتطلّب ما يسميه الغزالي "اللّذة العقلية"، وهي اللّذة نفسها التي ستقود السالك إلى الكشف الصّوفي في آخر مراحل المعرفة المتدرجة. وتتأكّد هذه الرؤية من خلال قوله: "اللذة هي نوع إدراك، والإدراك يستدعي مدركاً ويستدعي قوّة مدركة. فمن لم تكتمل قوّة إدراكه لم يتصّور منه التلذّذ. فكيف يدرك الطعوم من فقد الذّوق؟ وكيف يُدرك لذّة الألحان من فقد السّمع؟ ولذّة المعقولات من فقد العقل؟"[68].
ولكن الغزالي لا يجعل المعرفة نظرية فقط، بل يربطها بالمعاملة. إنها ليست مجرّد لذّة عقلية، بل كذلك هي لذّة أخلاقية. ولذلك يربط اللذة بالإدراكات، وأن الإنسان هو كيان يجمع بداخله غرائز ورغبات، وأنّ لكل قوة وغريزة لذّة، ولذّتها الخاصة تتمثل في نيلها لمقتضى طبعها الذي خُلقت لأجله. فغريزة الغضب الانتقام، وغريزة الطّعام تحصيل الغذاء. وإذا كان لهذه الغرائز بالإضافة إلى مدركاتها من ألم ولذّة، كما يقول الغزالي، فلأنها تنهمك فيما هو عابر وجزئي وسافل. والنّور الإلهي أو العقل، هو الصفة التي يفارق بها الإنسان البهائم: إنها غريزة معرفة حقائق الأمور كلّها [69].
أمّا معرفة الله وصفاته وأفعاله، فهي المنهج الأصلح لمعرفة كلّ شيء في إطار القوانين الأخلاقية للوجود، وهي معرفة تخضع لمنطق المطلق. هذه المعرفة المطلقة، أَوْ النازعة نحو المطلق هي التي ستوجه نمط المعارف، من معارف سلبية إلى أسلوب للحياة في نمط أخلاقي. وهذا الأسلوب ينتهي بنا إلى الحُكم بأنّ حقيقة لذّة العلم والمعرفة المقصودة، هي اللّذة الذّوقية؛ أي اللّذة المعرفية الذّوقية التي لا يدركها إلا من ذاقها[70].
فالمعرفية الصّوفية أو المكاشفة أو الإلهام، هي معرفة القلب والفطرة، وهي كذلك الرجوع الإلهي من خلال التخلّص من العناصر الحيوانية في الإنسان، وحينئذ فقط تتمكن، الذّات من الاتصال بالحقيقة دون وساطة، فالمعرفة الصّوفية هي أشبه ما تكون بالمعرفة الحدسية المباشرة، وهي نفسها مُشابهة للطريقة التي يتعامل بها الله مع عباده. ولا يمكن بلوغ هذا الهدف دون الصقل الدائم للقلب وتنقيته بصفة مستمرّة من الخبائث والشرور، فالقلوب كما يقول الغزالي: "كالأواني، فمادامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء"[71]. ففي الإلهام الصّوفي الذي يكون للمتصوّفة فإنّ "علومهم تأتي من داخل القلب المنفتح على باب الملكوت"[72].
وعلى الرغم من أنّ المعرفة الصّوفية تَنْبني على التّطهّر الأخلاقي وتنقية القلب، فإنّ الغزالي لا يفصلها أبدًا عن العقل، فالشهوة خاصّة بالعوام والعقل للأولياء والمحققين العقلاء[73]، ولا علم دون العقل، حتى ولو كان العلم الصّوفي أو العلم الربّاني. ولذلك، نراه يربط المقولات الدّينية كالهدي الإلهي والعناية والرشد والتأييد الإلهي بالعقل، ولا يمكن فهم حقائق هذه المقولات خارج هذا العقل؛ إذ لا يمكن للهداية والرّشد والتأييد أن تَتَحقّق إلاّ بالعقل والبصيرة[74].
خاتمــــة:
يتبيّن لنا من خلال دراسة لنُصوص الغزالي الدّينية والمنطقية والفلسفية، أَنَّ فكرة التكامل المعرفي موجودة لديه على مستوى المباحث المتناولة خاصة، حيث هناك سعي لدمج الرّؤية الشّرعية بالرّؤية المنطقية والرّؤية الفلسفية، ولعلّ أهمّ النتائج التي نتوصّل إليها هنا هو أنّ النزعة العقلية لأبي حامد هي التي فرضت هذا الاندماج بين الأنماط المعرفية، حيث يكون العقل هو الرّابط والمكمّل للعلوم لديه. وبذلك فأن يكون فقيهًا في العلوم الشّرعية، أشعريًّا، سنيًا، لا يمنعه مع ذلك من أن ينتصر للعقل وللفلسفة، وحتّى وإن بدا لنا ناقدًا لبعض النّظريات الفلسفية فلا يعنى ذلك أنه عدو للفلسفة في حدّ ذاتها، بل لفئة معيّنة من الفلاسفة تخلط بين المناهج البرهانية والحقائق الإلهية. ولذلك، نتصوّر أن التصوّف بوصفه معرفة هو الذي كان الحلقة التي ربطت بين الاِتّجاه العقلي والاِتّجاه الشرعي عند الغزالي.
وإنّ الاشتغال على تلك النصوص في أغراض شتّى شرعية دينية ومنطقية وفلسفية وكلامية، يُبين لنا الخطر الذي يمكن أن ينجرّ، معرفيًّا، عن النزعة التجزيئية، أو أي رؤية أخرى تفصل المباحث ولا تبحث عن إدراك الخيط الجامع بين المعارف كما يتصوّرها الغزالي.
إنّ التّكامل المعرفي الذي أكّدناه عند الغزالي يبرز أكثر في جمعه بين العلوم العقلية والعلوم الشرعية، وقد تمكن من تبرير فكرة التكامل هذه من خلال تصوّره لعلاقة العقل بالنّقل خاصة، حيث أقصى كلّ قول بالتّعارض أو الاِنفصال.
قائمة المصادر والمراجع:
1. المصادر
- الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدّين، دار الفجر للتراث، القاهرة 2013
- الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، طبعة دار الشّعب، القاهرة 1988
- الغزالي، أبو حامد: إلْجام العوام عن علم الكلام، دار المنهاج، بيروت 2017
- الغزالي، أبو حامد: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت 1997
- الغزالي، أبو حامد: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الكتب العلمية، بيروت 1983
- الغزالي، أبو حامد: التبر المسبوك في نصيحة الملوك، دار الكتب العلمية، بيروت 1988
- الغزالي، أبو حامد: تهافت الفلاسفة، المكتبة العصرية، بيروت 2008
- الغزالي، أبو حامد: المعارف العقليّة، دار الفكر، دمشق 1963
- العزالي، أبو حامد: المستصفى من علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت 1993
- الغزالي، أبو حامد: المنقذ من الضلال، تحقیق جميل صليبا، دمشق 1956
- الغزالي، أبو حامد: محكّ النّظر، دار المنهاج، بيروت 2017
- الغزالي، أبو حامد: ميزان العمل، دار المعارف، القاهرة 1964
- الغزالي، أبو حامد: مشكاة الأنوار، الدّار القومية للطّباعة والنّشر، القاهرة 196
- الغزالي، أبو حامد: معيار العلم في المنطق، دار الكتب العلمية، بيروت 2013.
- الغزالي، أبو حامد: معارج القدس في مدارج معرفة النّفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1975
- الغزالي، أبو حامد: الرّسالة اللّدُنية، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة 2014
- الشهرستاني، محمّد: المِلل والنّحل، دار المعرفة، بيروت 1975.
2. المراجـــــــع:
- جنابي، هیثم: الغزالي، دار المدى للثّقافة والنّشر، دمشق 1988
- دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنّشر، القاهرة 1948
- صلیبا، جميل: تاريخ الفلسفة العربية، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1955
- کوربان، هنري: تاريخ الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت 1966
مجلّة الفكر، السنة 2، العدد 5، تونس 1957
[1] ابن ميلاد، محجوب، أبو حامد الغزالي والعقل، مجلّة الفكر، السّنة 2، العدد 5، تونس 1957
[2] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، المجلّد الأوّل، كتاب العلم، الباب 7، دار الفجر للتراث، القاهرة 2013، ص 121
[3] نفسه.
[4] نفس المرجع، ص 124
[5] الغزالي، إحياء علوم الدين، ص 124
[6] نفسه.
[7] نفس المرجع.
[8] نفسه.
[9] نفس المرجع، ص 125
[10] الغزالي، أبو حامد، محكّ النّظر، دار المنهاج، بيروت 2016، ص 206
[11] الغزالي، أبو حامد، المعارف العقلية، حقّقه وقدم له عبد الكريم العثمان، دار الفكر، (دمشق) ط1، 1963، ص.ص 27 - 29
[12] نفس المرجع، ص 30
[13] الغزالي، معيار العلم في المنطق، دار الكتب العلمية، بيروت 2013، ط 2، ص.ص. 29-32
[14] الغزالي، ميزان العمل، دار المعارف، القاهرة، ص. 174
[15] الغزالي، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، عرّبه عن الفارسية أحد تلامذته، ضبطه وصححه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت 1988، ص 175
[16] نفس المرجع، ص 23
[17] الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا، دمشق 1956، ص 62
[18] الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت 1993، ص 103
[19] نفس المرجع، ص 105
[20] المرجع نفسه، ص. ص 105 - 106
[21] الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الأوّل، كتاب العلم، ص 24
[22] الغزالي، محكّ النّظر، ص 139.
[23] الغزالي، معيار العلم في المنطق، ص 26
[24] نفس المرجع، ص 28.
[25] الغزالي، المنقذ من الضلال، ص 69
[26] نفس المرجع، ص 70
[27] الغزالي، المنقذ من الضلال، ص 71
[28] الغزالي، تهافت الفلاسفة المكتبة العصرية، بيروت 2008، المقدّمة الأولى، ص.ص 44-45
[29] نفس المرجع، ص 42
[30] الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص.ص 46-47
[31] الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص 50
[32] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبوريدة، الطبعة الثانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنّشر القاهرة 1948، ص 357
[33] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1997، ص ص 79-80
[34] کوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مرّوة وحسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت 1966، الصفحات 277-278-279.
[35] الغزالي، الرسّالة اللّدنية دار المقطم للنّشر والتّوزيع، القاهرة 2014، ص ص 38 – 39
[36] نفس المرجع، ص 32.
[37] الغزالي، الرّسالة اللّدنية، ص 29.
[38] الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، دار المنهاج بيروت 2017، ص ص 52-53
[39] نفس المرجع، ص ص 45 - 46.
[40] الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، ص ص 45 - 46
[41] نفس المرجع، ص ص 89 - 90
[42] نفس المرجح، ص 98
[43] المرجع نفسه، ص 110.
[44] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 57
[45] الغزالي، إحياء علوم الدين، كتاب العلم، الباب 3
[46] أنظر، صليبا، جميل، تاريخ الفلسفة العربية، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1955، ص ص 252 - 253
[47] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1983 ص 63
[48] الغزالي، إحياء علوم الدّين، ج3 ص ص 15 - 16
[49] الشهرستاني، محمّد، الملل والنحل، تحقيق سيّد كيلاني، المجلّد الثاني الجزء الثاني، دار المعرفة، بيروت 1975، ص 81
[50] الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1975 ص 59
[51] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 143
[52] نفس المرجع، ص 151
[53] نفس المرجع، ص 152
[54] صليبا، جميل، تاريخ الفلسفة العربية، ص 348
[55] نفس المرجع، ص ص 349-350
[56] نفس المرجع، ص 353
[57] الغزالي، إحياء علوم الدين، آخر كتاب العلم، طبعة دار الشعب، القاهرة 1988، ص 152
[58] نفس المرجع، ص 23.
[59] المرجع نفسه، ج 1، ص 100
[60] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 4
[61] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص ص 132-133.
[62] الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 1، ص ص 179 - 180
[63] الغزالي، محكّ النظر، ص 128
[64] الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ص 59-61
[65] الغزالي، مشكاة الأنوار، تحقيق أبو العلاء عفيفي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1964 ص 45
[66] الغرالي، المنقذ من الضلال، ص 131، ج 1
[67] الغزالي، إحياء علوم الدّین، ج 1، ص 176
[68] نفس المرجع، ج 1، ص 279
[69] الجنابي، هيثم، الغزالي، دار المدَى للثّقافة والنّشر، دمشق 1998، الجزء 4 ص 195
[70] الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4، ص 310
[71] الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 3، ص 2
[72] المرجع نفسه، ج 3، ص 22.
[73] الغزالي، ميزان العمل ص 77
[74] نفس المرجع، ص 87






