قراءة في كتاب مجتمع الشفافية لبيونغ تشول هان

فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب مجتمع الشفافية  لبيونغ تشول هان

قراءة في كتاب مجتمع الشفافية[1]

لبيونغ تشول هان

تقديم عام للموضوع

منذ اللحظة التي أدرك فيها الإنسان وجوده ضمن الجماعة بدأت تساؤلاته تتجاوز حدود الذات الفردية لتلامس الأسس العميقة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية: ما العدالة؟ ما الحرية؟ وعلى أيّ قواعد تبنى المجتمعات؟ من رحم هذه التساؤلات ولدت ما يسمى بالفلسفة الاجتماعية، لا بوصفها تأملا تجريديًّا في الواقع المجتمعي، بل كفعل عقلي نقدي يسعى إلى فهم طبيعة الروابط التي تنسج الوجود الإنساني المشترك، وإلى مساءلة البنى والمؤسسات التي تنظم هذا الوجود وتوجه، وبذلك فالفلسفة الاجتماعية تفكير في الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيًّا، لا تتحقق حريته وهويته إلا عبر علاقته بالآخرين كما أنها تعنى بالكشف عن العلاقات السلطوية والمعرفية التي تتحكم في البنى الاجتماعية وتعيد صياغة شروط الوجود داخل الجماعة، ويكفي في هذا الصدد أن نستحضر ما قاله الفيلسوف الألماني هيغل"الإنسان لا يحقق ذاته إلا داخل الجماعة، ومن دون الآخر لا معنى للحرية". وبهذا المعنى، تصبح الفلسفة الاجتماعية تأملا في شروط تحقق الذات لا في عزلتها، بل في صلب النسيج الاجتماعي، كما أنها تضع المجتمع في قلب السؤال الفلسفي: ما الإنسان حين يصبح جزءًا من الكل؟

لكي نفهم محتوى الكتاب الذي نحن بصدد قراءته، لابد أولا من تقديم قراءة لبعض المفاهيم المركزية التي يؤسس عليها بيونغ تشول هان موضوعاته في الكتاب، وفي هذا السياق تحديدا نلاحظ بروز ظاهرة مجتمعية معاصرة تعرف بـ "مجتمع الشفافية، فالشفافية مفهوم بات اليوم يتردد في مختلف ميادين الحياة اليومية، في السياسة، بل وحتى في الاقتصاد كعنصر أساسي يشكل ملامح العلاقة بين الأفراد والمؤسسات، ويعكس تطلعات المجتمع نحو الوضوح والانكشاف كشرط ضروري للمساءلة والثقة، وهو مجتمع باتت فيه الحياة اليومية عرضة للانكشاف المستمر تمحى فيه الحميمية، وتستبدل الثقة بالمراقبة الذاتية، وبذلك يصبح مجتمع الشفافية ليس مجتمع ثقة إنما مجتمع سيطرة، نحن اليوم أمام نظام جديد يتغلغل في أعماق مجتمعاتنا، نظام الشفافية النيوليبرالية الذي لم يعد مجرد مفهوم، بل صار أسلوب حياة، وعقدا اجتماعيًّا يفرض نفسه على الجميع، في هذا النظام يصبح الإنسان زجاجًا مكشوفًا تفضح أسراره وأفكاره، فتتحول الحرية غير المقيدة والانفتاح التواصلي إلى أدوات مراقبة وسيطرة لا تنفك تلاحقه في كلّ تفاصيل حياته.

لكن علينا أن نتذكر أن الشفافية كإيديولوجيا ليست بريئة، فهي كغيرها من الإيديولوجيات تحمل في طياتها سمات الشمولية والخداع. إنها تحاول فرض رؤية واحدة تخفي وراءها بريق الوضوح وتضع قناعا يحجب الحقيقة ويقيد الحرية، وعندما تعمم هذه الإيديولوجيا، فإنها لا تنتج سوى العنف والإرهاب؛ لأن سيطرة المراقبة المطلقة تقضي على كل مساحة الخصوصية، وتقتل روح الاختلاف والحرية. في هذا الإطار يمكن أن نستحضر الفيلسوف بيونغ تشول هان؛ إذ يفيد: "في مجتمع الشفافية لا تكون هناك خصوصية حقيقية، إذ تصبح كل حياة معرضة للانكشاف، مما يفضي إلى نوع جديد من العنف الناعم الذي يقتل الفرد من الداخل".

هنا يكمن التحدّي: كيف نحمي إنسانيتنا في عالم يفرض علينا أن نكون زجاجًا شفافًا؟ وكيف نعيد للحرية معناها الحقيقي في ظلّ هيمنة الشفافية؟ وهل يصبح الإنسان أكثر إنسانية حين يكشف كل شيء عن نفسه، أم إنه يفقد شيئًا من عمقه ومن استقلاله الداخلي؟ في ظل هذا يصبح دور الفلسفة الاجتماعية جوهريا في مساءلة هذه القيم الجديدة، وفي الدفاع بعمق عن حدود الذات الإنسانية وحقها في الغموض، والاختلاف، والخصوصية، فقد شكل مفهوم الشفافية أحد المواضيع الإشكالية التي استأثرت باهتمام نخبة من الفلاسفة المعاصرين، بوصفه ظاهرة مركبة تقع في صميم التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية للعصر الرقمي، ومن بين هؤلاء المفكرين يبرز كل من ميشيل فوكو بتحليله لآليات المراقبة والسلطة، ويورغن هابرماس بمقاربته للعقلانية التواصلية، غير أن أبرز من منح للموضوع صياغته الأكثر تعقيدًا وحداثة هو الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان الذي يجعل من التعرف على شخصه مدخلا تأسيسيًّا لا غنى عنه لفهم عمق أطروحته النقدية في كتابه الفذ "مجتمع الشفافية"

يقيم ويُدرّس بيونغ تشول هان في ألمانيا، ويُعدّ من أبرز المفكرين المعاصرين الذين تصدوا لتحليل تأثير التكنولوجيا الرقمية والعولمة على البنية النفسية والاجتماعية للفرد، في كتابه "مجتمع الشفافية"، فهو لا يقدم تأملا تجريديًّا في مفهوم يبدو ظاهريًّا إيجابيًّا، بل يكشف النقاب عن بنيته الإيديولوجية، حيث تتحول الشفافية من قيمة أخلاقية إلى نظام شمولي ناعم، تتسلل من خلاله المراقبة والسيطرة إلى تفاصيل الحياة اليومية، كما يستخدم هان مفاهيم فلسفية معاصرة ليبيّن كيف أن الشفافية التي تبدو في ظاهرها قيمة إيجابية يمكن أن تتحول إلى إيديولوجيا شمولية تمارس عنفًا على الإنسان.

جاء المحور الأول لكتاب بيونغ تشول هان بعنوان "مجتمع الإيجابية" ليضع مفهوم الشفافية تحت المجهر، هذه الكلمة التي أصبحت لها هيمنة كبرى على الخطاب العام المعاصر لفهم بنية مجتمع الشفافية كما يحللها بيونغ تشول هان؛ إذ يفيد أنه لا توجد كلمة مهيمنة ومعبرة أكثر من كلمة "الشفافية"، حتى وصل الأمر في وقتنا الراهن إلى حد الافتتان بها والنظر إليها على أنها قيمة مطلقة، وهذا يعود تحديدًا إلى تغيير طرأ على المستوى المعرفي، وليس فقط نتيجة للتحولات التي طرأت على المستوى السياسي والاقتصادي، فمجتمع الشفافية حسب بيونغ تشول هان هو قبل كل شيء مجتمع إيجابي، في منطق الشفافية المعاصرة لا تعد الأشياء شفافة إلا حين تفرغ من كل مقاومة، من كل تعقيد أو بعد سلبي، فكل ما لا يندمج بسلاسة في تيارات رأس المال ولا ينساب بسهولة في قنوات الاتصال والمعلومات يعد عائقا ينبغي تبسيطه أو إقصاؤه، وهكذا تتحقق الشفافية لا بانكشاف الحقيقة، بل بتسطيح الوجود ذاته وتحويله إلى مادة سلسة قابلة للقياس والتداول. وبذلك، فالعالم يصبح شفافا فقط حين يُفرَغ من عمقه، وحين يُحوَّل إلى سطح أملس لا يحتمل الغموض. ومن ثم، فمن الخطأ أن نحصر مفهوم الشفافية في الأمور المرتبطة بالفساد وحرية تداول المعلومات؛ لأن هذا الاختزال يجعلنا نفشل نوعًا ما في فهم المجال الذي يتحول ضمنه المفهوم، وبذلك فقد غدت الشفافية نظامًا قهريًّا يحتاج جمع العمليات الاجتماعية وخضعها لتغيير عميق.

يصف الكاتب اللغة الشفافة بأنها "رسمية" و"ميكانيكية" وتفتقر إلى الازدواجية، ويقارن ذلك بوجهة نظر فيلهلم فون هومبولت للغة البشرية، والتي تحتوي بطبيعتها على "عدم شفافية"، مما يعني أن كل فهم هو أيضا "عدم فهم" وبالتالي سيكون عالم المعلومات البحتة والاتصالات الخالية من التداخل مجرد آلة، ويهيمن على مجتمع الإيجابية "شفافية وفحش المعلومات في عالم مفرغ من الأحداث"؛ إذ يؤدي إكراه الشفافية إلى تسطيح البشر، وجعلهم عناصر وظيفية داخل نظام، وهذا هو مكامن عنفها.

يدعو النص إلى "تنوير جديد" للتعرف على مجالات الوجود والتعايش البشري المنتجة التي يتم تدميرها بسبب إكراه الشفافية، حيث يؤكد أن المزيد من المعلومات لا تؤدي بالضرورة إلى قرارات أفضل؛ لأن المجتمع الخالي من الفجوات سيكون مجتمعا بلا سعادة، بينما يتدهور التفكير بلا فجوات إلى مجرد حساب، كما يشير في فقرة تالية إلى أن مجتمع الإيجابية تخلّى عن الديالكتيك والتأويل، اللذين يعتمدان على السلبية؛ فروح هيغل تتقبل السلبية وتغذي "حياة العقل" وتكتسب "قوة" من خلال مواجهة السلبية والصمود أمامها، في المقابل كلما كانت المظاهر متعلقة بما هو إيجابي تفتقد العقل، وبذلك فنظام الشفافية يلغي السلبية من أجل تسريع نفسه، ليحل محل الصمود والجنون في الإيجابية، علاوة على ذلك، لا يتسامح مجتمع الإيجابية مع المشاعر السلبية، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التعامل مع المعاناة والألم.

ينتقل الكاتب للحديث عن النظرية، ويفيد بأن النظرية بمعناها القوي هي أيضا ظاهرة سلبية تتضمن القرار والتمييز، وكتلة البيانات والمعلومات الإيجابية لا تجعل النظرية زائدة عن الحاجة، فالنظرية كسلبية تسبق البيانات الإيجابية، وتعدّ العلوم الإيجابية، القائمة على البيانات نتيجة لنهاية النظرية، حيث تفتقر إلى "سلبية القرار" التي تحدد الواقع.

كما تحدث عن السياسة أيضا، فالسياسة حسب يونغ تشول هان تتطلب كعمل استراتيجي السرية والشفافية الكاملة، وانطلاقا من هنا يجادل كارل شميت بأن "الأسرار" ضرورية للسياسة، تماما كما هي الأسرار التجارية للاقتصاد القائم على الملكية الخاصة والمنافسة، ستكون نهاية السرية هي نهاية السياسة، حيث ستنحدر السياسة إلى مجرد تمثيل، ويعتبر حزب القراصنة كـ"حزب للشفافية مساهما في "ما بعد السياسة" وإلغاء التسييس، كونه "بلا لون" ويفتقر إلى القناعات القوية، ويدير الاحتياجات الاجتماعية دون تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وتعمل الشفافية القسرية على استقرار النظام القائم بأكثر الطرائق فعالية؛ لأنها إيجابية بطبيعتها ولا تشكك في النظام السياسي والاقتصادي. إنها "عمياء عما يقع خارج النظام" كما تؤكد وتحسن فقط ما هو موجود، مما يؤدي إلى مساحة ما بعد سياسية، مجردة من السياسة، التوافق العام في مجتمع الإيجابية هو "الإعجاب"، ورفض فيسبوك لزر "عدم الإعجاب" يشير إلى هذا التجنب للسلبية، حيث أن السلبية تعيق التواصل ولا يمكن استغلالها اقتصاديًّا.

نحن لا نعيش كما قد نتوهم في مجتمع قمعي يفرض الصمت والمنع، بل على العكس نعيش في زمن يتخفى فيه العنف تحت قناع الإيجابية والتحفيز المستمر؛ إذ إن السلطة تحولت من نظام يقول لنا "لا"، إلى نظام لا يكف عن قول "نعم": نعم للعمل، نعم للإنجاز، نعم للانكشاف، نعم للانخراط في كل ما هو مرئي وقابل للتقييم، هذا النمط الجديد من السيطرة لا يمارس عبر الحظر، بل عبر فرط السماح، وهو ما يسميه هان بـ "العنف الإيجابي، عنف ناعم لا يقمع فيه الجسد، بل تُرهق فيه النفس، وهذا ما يدفع الفرد اليوم إلى إنتاج نفسه بلا توقف، إلى عرض ذاته، وتسويق إنجازه، ومشاركة مشاعره وأفكاره وجسده، إلى أن تُستنزف روحه في دوّامة الإنجاز والانكشاف الدائم.

في هذا السياق، تصبح الشفافية مطلبا اجتماعيًّا لا يُقاوم؛ لأنها تظهر في صورة الحرية، بينما هي في جوهرها آلية رقابية حديثة لا تمارس فيه السلطة بالقوة، بل بالتحفيز الذاتي والمراقبة الطوعية، وهكذا، فإن مجتمع الإيجابية هو المقدمة الضرورية لمجتمع الشفافية، حيث لا يجبرك أحد على الانكشاف، بل تُجبرك الحاجة إلى القبول والظهور والنجاح، أن تتخلى عن غموضك وعن خصوصيتك.

في قلب مجتمعاتنا المعاصرة لم تعد الذات تعرف من خلال جوهرها أو علاقاتها العميقة، بل من خلال قدرتها على الظهور، على العرض، على إنتاج صورة قابلة للمشاهدة. في فصل "مجتمع العرض" من كتابه مجتمع الشفافية يقدم الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان نقدًا لاذعًا للثقافة الرقمية، حيث تتحول الحياة إلى مسرح دائم، والوجود الإنساني إلى سلعة مرئية تقاس بقيم النقر والمشاهدة، وبهذا يرى بيونغ تشول هان أننا انتقلنا من مجتمع يحتفي بالكينونة والحميمية والغموض، إلى مجتمع مُفرط في الانكشاف، حيث تُطارد الذات اعترافًا خارجيًّا عبر صور ملمعة ومقاطع محسوبة مما يؤدي ذلك إلى اختفاء الجوهر خلف الواجهة، والحميمية خلف العري، والمعنى خلف الأداء. إن مجتمع العرض كما يصوره هان، ليس مجرد ظاهرة ثقافية عابرة، بل هو تحول أنطولوجي في معنى الذات والحضور والحرية، تحوّل يجعل من كل فرد منتجًا ومستهلكًا لذاته في آن واحد، خاضعا لمنطق السوق لا لنداء الوجود.

في هذه المداخلة، نقف عند أبرز ملامح هذا الفصل، لنفكك معه البنى الخفية لهذا العرض المستمر الذي نخوضه بإرادتنا أو بغيرها، في فضاء يبدو مفتوحا لكنه مشحون بالرقابة الذاتية.

يستدعي بيونغ تشول هان في تحليله لمجتمع العرض تصور فالتر بنيامين بشأن تحول الصورة الفوتوغرافية، حيث يؤكد أن قيمة العرض قد بدأت تحل تدريجيًّا محل الهالة القدسية التي كانت تحيط بالتمثيل البصري في الأزمنة السابقة، حيث انمحى الملمح الإنساني من الصورة الفوتوغرافية وانزاحت معها تلك الهالة الجمالية الروحية التي كانت تمنح للوجه البشري يتجاوز اللحظة الآنية، في زمن الهيمنة الرقمية، من فيسبوك إلى الفوتوشوب، يغدو الوجه محض سطح مرئي قابل للتعديل والعرض، منزوعًا من عمقه الإنساني، ومفرغًا من دلالته الوجودية، وكما أشار أيضا جان بودريار، فإن الوجه لم يعد يعكس كينونة حقيقية، بل أصبح مجرد واجهة بصرية ضمن اقتصاد الصور، سلعة على وجه إنسان، حيث يعاد إنتاج الذات كعرض متكرر لا يحمل أثرًا للتمايز أو الغموض، وهكذا يرد الجسد البشري إلى مادة خام للعرض والتسويق الرمزي فاقدا لفرادته.

يشير بيونغ تشول هان في تحليله للتصوير الرقمي إلى أنه يمحي تمامًا عنصر السلبية الذي كان حاضرًا في التصوير الفوتوغرافي التقليدي، حيث لم يعد التصوير الرقمي بحاجة إلى غرفة مظلمة أو عملية التعريض الضوئي التي تستلزم انتظارًا وصبرًا، بل صار عملية إيجابية خالصة تحكمها اللحظة الحاضرة، فالتصوير الرقمي في جوهره هو "فوتوغرافيا شفافة" ترتكز على منطق العرض، فتلغى بذلك البعد السلبي الذي كان يميز الزمن في التصوير القديم، لتنشئ زمنًا جديدًا يسوده الحاضر الخالي من التوتر أو الفاصل السلبي، وبالتالي يتحول الزمن إلى لحظة شفافة مستمرة، حيث لا مجال للغياب أو الغموض، بل هو زمن الانكشاف الدائم الذي يهيمن على مجتمع الشفافية الحديث، كل شيء يتم قياس قيمته من خلال عرضه، وبالتالي فمجتمع العرض هو مجتمع كل شيء يتم إخراجه وإظهاره.

في نفس السياق، يرى رولان بارت أن التاريخ سيغدو جزءًا من الصورة الفوتوغرافية؛ لأن التصوير الفوتوغرافي اليوم الذي تم تحقيقه بالكامل من خلال قيمة العرض، يقدم زمنا مختلفا يتم تحديده من قبل الحاضر الذي يفتقر للسلبية.

إن النظام الرأسمالي حول كل شيء إلى سلعة وأخضعها لقانون العرض القهري؛ لأن العرض باختصار وحده الذي يولد القيمة، في هذا السياق يستدعي بيونغ تشول هان فكر جان بودريار الذي يؤكد أن النظام الرأسمالي لا يكتفي بتسليع الأشياء، بل يفرغها من طبيعتها الجوهرية، فكلما أصبحت الأشياء أكثر عرضًا، وأكثر قابلية للرؤية، كلما تلاشت ماهيتها، وانمحت حقيقتها خلف وهج الحضور المستمر. أما البورنوغرافيا، فلا تدمر الإيروس (اللذة) فحسب، ولكنها تقضي على الجنس أيضا؛ لأن عروض البورنو تقضي على الرغبة الجنسية، بل أكثر من ذلك يجعل هناك استحالة للرغبة أن تعاش، فالمتعة على الشاشة في العرض ليست متعة على الإطلاق، العرض استغلال بشع للجسد وليس احتفاء به. إن العرض يقضي على كل فكرة ليكون الجسد مأوى للرغبة، كما يعرفه هايدغر يتلاشى كليا.

على الرغم من كل ما يقال عن الحرية والانكشاف، فإن منطق العرض في المجتمع المعاصر لا يحرر الجسد، بل يخضعه لسلطة جديدة: سلطة الجمال والمظهر، فالعرض لا يستند إلى عمق داخلي أو قيمة ذاتية، بل يقوم من خلال الشكل الخارجي، ما يعزز إلزامًا خفيًّا بالجاذبية، اللياقة، والامتثال لمعايير الجمال التي يفرضها السوق البصري. في هذا السياق، تتحول القيمة إلى قيمة مرئية، حيث يطلق العنان لما هو خارجي ومحسوس، بينما يقصي كل ما هو باطني أو خفي، إن ما لا يرى لم يعد موجودًا، أو لا يعترف به إطلاقا. يصف بيونغ تشول هان هذه الحالة بـ "طغيان الرؤية"، حيث يصبح الوجود رهينًا للعرض، فلا تمنح الأشياء والذوات الاعتراف إلا إذا تم تقديمها في صورة مرئية قابلة للتداول والاستهلاك البصري.

وفي فقرة أخيرة من فصله هذا، يحلل بيونغ تشول هان أحد أخطر التحولات التي تحدثها ثقافة الانكشاف المعاصر، وهو تفكيك مفهوم المسافة، ففي عالم تحكمه الرؤية الفورية والانكشاف الدائم، تُنظر إلى المسافة بوصفها عقبة وعنصرًا سلبيًّا يجب تجاوزه، فكل ما يمنع التدفق السلس للبيانات، أو يعوق تسارع الاتصالات، أو يُبطئ حركة رأس المال، يُستبعد؛ لأن مجتمع الشفافية لا يحتمل التأخر، ولا يعترف بالمسافة التي تسمح للتفكير أن ينضج أو للمعنى أن يتكوَن، فكل شيء يجب أن يرى، وأن يكون حاضرًا في اللحظة بلا عوائق ولا غموض؛ إذ يصف هان هذا التلاشي للمسافة بـالامتزاج المتواصل بين النظرة وكل ما يرى، حيث لا يعود هناك فرق بين المراقب والموضوع، وبالتالي ينحل العالم في شفافية مفرطة تسحق الخصوصية.

في الفصل الثالث من مجتمع الشفافية، يقدم بيونغ تشول هان نقدا حادًّا لمجتمع تصبح فيه الرؤية شرطا للحقيقة، حيث لا يصدق إلا ما يرى، وتصبح الشهادة البصرية بديلا عن التأمل أو الإيمان أو الفهم المتأني، هذا التحول ينهي عهد الغموض ويقضي على المسافة التي كانت تفصل بين الذات والعالم، وبين الرغبة وموضوعها، وبين الظاهر والمستور، ففي مجتمع الشفافية الإغواء يطرد، لأنه لا يعيش إلا في الهامش، في الغياب. لكن منطق الشفافية لا يترك مجالا للهامش. إنه يعري كل شيء، ويحول الجسد إلى عرض، والصورة إلى برهان، واللذة إلى استهلاك بصري محض. إن الشفافية إذا تفرض منطق "شاهد كي تصدق"، تجهز على الزمن التأويلي، على الانتظار، فيغيب العمق، وتدفن المتعة في مقبرة الرؤية الفائضة، وهكذا يصبح هذا الفصل دعوة تأملية لفهم الكلفة الوجودية لمجتمع يرفض أن يغمض عينيه ولو للحظة.

يحلل بيونغ تشول هان في هذا النص أحد أبرز ملامح التحول الثقافي في "مجتمع الشفافية"، حيث تصبح المتعة عرضة للتآكل تحت وطأة مطلب الرؤية والإثبات؛ فالشفافية بوصفها قيمة أخلاقية ظاهرية تبدو على السطح مرتبطة بالحرية والوضوح، لكنها في العمق تجرد الرغبة من قوتها وتُقصي المتعة من فضائها الأصلي؛ لأنها تلغي الغموض، والحجاب، واللايقين، هي مكونات أساسية في بنية الإغواء، فالإغواء لا يتحقق من خلال المباشرة أو الإثبات، بل عبر الالتباس، والانحراف، والقول غير المباشر. وفي هذا السياق يرى بيونغ تشول هان أن المغوي لا ينتمي إلى عالم الحقيقة الصريحة، بل إلى لعبة الأقنعة والاحتمالات المتعددة؛ فهو يستخدم لغة مزدوجة ومعاني متعددة، ما يمنحه سلطة رمزية ومجالا للحرية لا تتيحه الممارسات السياسية الصحيحة، التي تفرض خطابًا شفافًا ومفرطًا في الوضوح، هكذا يفرغ المجتمع الحديث من خلال مطلب "شاهد كي تصدق" المتعة من محتواها؛ لأن كل ما هو ممتع غالبًا ما يحتاج إلى أن يخفي نفسه لا أن يعرض بلا حجاب.

اللعب بالالتباس والغموض، بالأسرار والألغاز، يكثف التوتر الإيروتيكي؛ أي تلك الرغبة المشدودة التي لا تفرغ مباشرة، فالشفافية أو المباشرة تمثل نهاية الإيروس؛ أي نهايته كطاقة رغبة، وتحوله إلى مجرد بورنوغرافيا، ومن هنا لا يكون من قبيل المصادفة أن يكون مجتمع الشفافية المعاصر هو في الآن ذاته مجتمعا بورنوغرافيا، كذلك فإن ممارسات "ما بعد الخصوصية" التي تطالب بالكشف المتبادل وغير المحدود باسم الشفافية تلحق ضررا بالغا بالمتعة والرغبة.

في كتاب "الجماعة القادمة" يروي جورجيو أغامبن مثالا عن مملكة المسيح، نقله إرنست بلوخ إلى والتر بنيامين في إحدى الأمسيات:

قال أحد الحاخامات، إن تأسيس مملكة السلام لا يتطلب تدمير كل شيء، ولا حتى خلق عالم جديد بالكامل، بل يكفي فقط إزاحة هذا الكوب أو هذه الشجيرة، أو هذه الحجرة قليلا فقط، وهكذا يتغير كل شيء، لكن هذه الإزاحة الصغيرة صعبة للغاية وقياسها عسير إلى درجة أن البشر بالنسبة إلى العالم عاجزون عن تحقيقها؛ ومن هنا تنبع الحاجة إلى مجيء المسيح، فمجتمع الشفافية لا يعرف الغموض ولا يعترف بما لا يرى. إنه مسكون بالعرض، بالوضوح القهري، وبالصور الفائقة التي تطرد كل أثر للزمن، والانتظار، واللايقين. في هذا المجتمع لا توجد مسافة تحدث فارقا، ولا غموض يوقظ الرغبة، ولا انزياح ينتج معنى، كل شيء معروض، وكل شيء ظاهر، وبالتالي لا شيء يتحول فعليا.

إن المسافة الطفيفة التي تحدث عنها الحاخام تلك الإزاحة الصغيرة التي تتطلب انتظار المسيا تقابلها المسافة السلبية التي يسعى مجتمع الشفافية إلى محوها بالكامل، لكن في محو هذه المسافة يفقد الشرط الأساسي للخيال، للرغبة، ولإمكانية المعنى الجديد، فلا تَجل يمكن أن يحدث، ولا تأويل يمكن أن ينبثق؛ لأن كل شيء مكشوف ومفرط في حضوره.

لا يقتصر الأمر على مساحة المقدس فحسب، بل ينفتح أيضا على الرغبة في افتقادها للشفافية، ووفقا لجاك لاكان "إن الرغبة تستشار بشكل غريب عبر الحرمان أو ما هو بعيد المنال"؛ بمعنى أن الرغبة البشرية لا تتجه نحو ما هو متاح ومباشر، بل تنجذب أكثر نحو ما هو محروم ممنوع أو صعب المنال، ويشبه لاكان الأمر بالشكل المعقد غير القابل للتفكيك، المتشابك، حيث تظهر الصورة في حالة مشوهة ومنحرفة، تخيلي شخصًا يحاول فهم من يكون عبر الصور التي يقدمها على مواقع التواصل الاجتماعي: يختار زوايا معينة، فلاتر، عبارات…لكنه في العمق لا يرى نفسه، بل انعكاسا مشوهًا لرغبة الآخر فيه كيف يريد أن يرى، هذه الصورة المشوهة هي ما يقصده لاكان بالشكل المعقد المنحرف.

كما تؤدي السلطة دورًا بارزًا في إنتاج المتعة والرغبة، على سبيل المثال لا الحصر عندما سئل فوكو عن الدافع الذي يدفع البشر إلى ممارسة السلطة، أجاب بالإشارة إلى اقتصاد المتعة، كما أن السلطة أيضا تنطوي على اللعب الاستراتيجي، كما أن الرغبة النتشوية التي تسعى إلى الأبدية تنبع من منتصف الليل؛ إذ يقول إننا لم ننح الإله جانبا ما دمنا نؤمن بالشفافية، كلما كان الشيء عميقا، كلما كان عاشقا للأقنعة.

خاتمة

في قلب مجتمع الشفافية، لا يكمن الهدف في مجرد كشف الغموض أو إلغاء الأسرار، بل في مواجهة الذات والآخر، وفي استكشاف الحيز الفاصل بين المعرفة والسلطة، بين الحقيقة والوهم. الشفافية هنا ليست حالة يمكن الوصول إليها مرة واحدة، بل هي ممارسة مستمرة لتفكيك الأفكار المهيمنة، وإعادة سؤال كل ما نأخذه كمسلّمات.

إنها دعوة إلى التأمل في حدود إدراكنا، وإلى محاسبة الذات قبل محاسبة الآخرين، وإلى الاعتراف بأن الوضوح الحقيقي يبدأ من الداخل. فالشفافية الحقيقية ليست كشف كل شيء، بل القدرة على العيش مع الحقيقة، حتى حين تكون مؤلمة، والقدرة على جعل الحياة العامة مساحة للتفاعل الأخلاقي العميق.

وهكذا، يصبح مجتمع الشفافية مشروعًا وجوديًّا أكثر منه تنظيميًّا، حيث يختبر الإنسان حريته في الاختيار، ومسؤوليته في القول والفعل، وقدرته على مواجهة الظلال التي تحجب الرؤية، متجهاً نحو عالم تتلاقى فيه المعرفة مع الحكمة، والوضوح مع الإنسانية.

[1] - قراءة في كتاب مجتمع الشفافية بيونغ تشول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى.


مقالات ذات صلة

المزيد