كتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث


فئة :  قراءات في كتب

كتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث

تنقيح الأبحاث للملل الثلاث

تأليف عز الدولة سعد بن منصور بن كمونة، قدّم له وعلّق عليه سعيد الغانمي

بغداد وبيروت، دار الجمل، 2013، 208 صفحة


يعرض ابن كمونة في كتابه هذا كما يقول في مقدمته لأحوال النبوّات في الملل اليهودية، والنصرانية والإسلامية، وأصول معتقدها وأدلة أربابها على صحّة النبي الآتي بها، والردود والطعون الموجهة إليها، وقد توفي ابن كمونة سنة 683 هـ (حوالي 1280م)، ووصفه ابن الفوطي في كتابه "تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب" بالقول: ... الإسرائيلي البغدادي الحكيم الأديب، كان عالماً بالقواعد الحكمية، والقوانين المنطقية، مبرزاً في فنون الآداب، وعيون النكت الرياضية والحساب، وشرح كتاب الإشارات لابن سينا" وكان يهودياً معروفاً بيهوديته، ويقصده الناس طلباً للحكمة، ومن كتبه: الجديد في الحكمة، وشرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وشرح التحصيلات للسهروردي، ورسالة في خلود النفس، وتعاليق على المعالم لفخر الدين الرازي، وتذكرة في الكيميا، والفروق بين الربانيين والقرائين، وتقريب المحجّة وتهذيب الحجّة، والمطالب المتمّمة من علم الحكمة، والكافي، ورسالة في العقليات، واللمعة.

ومؤكد أنّ الكتاب يعكس الحالة الفكرية المتطورة في القرن الثالث عشر الميلادي، ومستوى التسامح والتعددية الثقافية والدينية والفكرية في العالم العربي والإسلامي، ولكن أهمية الكتاب تكمن في الفكر الديني العقلي المتقدم والقائم على أسس عقلية وفلسفية، والنظر إلى السياق الديني والجدل العقلي والفكري حول مسائله وقضاياه من تفكير علمي نقدي، وهو ما يبدو اليوم محرّماً في المشهد الإسلامي الفكري القائم، ويبدو أنّ فترة ابن كمونة كانت بداية النهاية للتسامح الديني والتفكير النقدي، فقد هاجت الجماهير مطالبة بقتله، وأخفي ونُقل من بغداد إلى الحلة لأجل حمايته، ودخل العالم الإسلامي في مرحلة من الجمود والتعصب.

يقول ابن كمونة إنّ "النبوّة" طور وراء العقل، تنفتح للعقل فيه عين أخرى يبصر بها الغيب، وما سيكون في المستقبل، وما قد كان في الماضي، هذه هي النبوّة، ولها خواص ثلاث: في قوة النفس وجوهرها المؤثر، وفي القوة النظرية بأن تصفو نفس النبي صفاء، حيث تكون شديدة الاستعداد لقبول العلوم من مفيضها وواهبها، وأن يطلع على المغيبات في النوم واليقظة اطلاعاً لا يشك فيه بوجه، ولا يخالطه في الحكم بصحة وقوع ما أدركه ظن أو وهم.

والمعترفون بالنبوة على ثلاثة آراء: من لا يشترط في النبي أن يكون عالماً، بل يقول الله يختار للنبوة من يشاء، ومن يقول إنّ النبوة كمال في طبيعة الإنسان، ومن يرى أنّ النبوة لا تحصل إلا لشخص فاضل كامل ولكن أيضاً بمشيئة الله وإرادته.

ومراتب النبوة: الرؤية في المنام، يسمع كلاماً في المنام مشروحاً بيناً ولا يرى قائله، وأن يكلمه إنسان في المنام، أو يكلمه ملك في المنام، أو أن يرى في المنام كأنّ الله يخاطبه، أو يأتيه وحي في اليقظة ويرى أمثالاً، ويسمع كلاماً في اليقظة، أو يرى في اليقظة كأنّ إنساناً يخاطبه، أو يرى ملكاً يخاطبه في اليقظة، أو يرى الله يخاطبه في حال يقظته، ويدل على صدق المدعين بالنبوة المعجزات، مما يعجز البشر عن إتيانه.

ومن الشكوك على المعجزات أنّ خرق العادات أمر ممتنع، وربما حصل المدعي على أمر معجز من غير نبوة، وليس مسلماً أنّ الله خلق المعجز لأجل التصديق، فإنّ أفعاله منزهة عن الأغراض، وليس للبشر قدرة على الاطلاع على جميع حكم الله تعالى.

وإذا كانت الأشياء يخلقها الله فلا يدل ذلك على تصديق الله للنبي على كونه صادقاً، ويجوز حصول سبب مستقل لما يدعى بأنه معجزة بأن يفعل ذلك الفعل في ذلك الوقت، وليس الفعل المعجزة دليل على تصديق الله للنبي، فحكم الله في أفعاله وأقواله ومخلوقاته ليس لأحد سبيل إلى معرفتها والاطلاع عليها.

وذكروا في بعثة الأنبياء خمس عشرة فائدة: بيان العبادات، وإمداد الانسان في مواجهة الهوى والإغواء، ولأننا نعلم بعقولنا ثواب الفعل الحسن، وإن كنا ندرك اللذة العاجلة في فعل القبيح، ولا تعلم سائر صفات الله إلا بخبر النبوة، وإن كنا نستدل على بعضها بعقولنا، وفي البعثة يزول الخوف عن المكلف، وللتمييز بين القبيح والحسن، ومعرفة طبائع الأشياء من غير تجربة، ومعرفة ما يقع إلا في مدد متطاولة، والهداية إلى الصناعات النافعة التي لا يهتدى إليها بمجرد العقل، ولتعليم حسن الأخلاق وتحسين المعيشة بها، ولا بد من شريعة يفرضها شارع هو النبي، ولأجل وضع شريعة واحدة جامعة لكل المدن، ولمعرفة العبادات التي تتجاوز العادات، وللوصول إل الكمال في معرفة الأسرار الإلهية التي تتفاوت العقول في إدراكها.

ولمنكري النبوة شبهات ثلاث: أن تكليف العباد باطل، فبعثة الأنبياء باطلة؛ فالعبد لو كان مكلفاً فعلاً أو تركاً لكان مجبوراً غير قادر على الفعل أو الترك، والله يعلم كل شيء، فالتكليف بما هو معلوم عبث، وإن كان معلوم اللا وقوع فالتكليف به ظلم، وفائدة التكليف حصول الثواب، فذلك الثواب إن علم وقوعه فلا حاجة إلى فعل الطاعة، وإن علم عدم وقوعه فلا فائدة في فعلها، والتكليف لا فائدة فيه، فلو صحّ لكان عبثاً، وذلك لا يلتقي بالحكم، وفوائد العبد في التكليف يقدر الله أن يحصلها للعبد من غير واسطة التكليف، وتكليف من علم أن يكفر أو يفسق غير لائق بالحكمة، لأن ما وقع التكليف به أن دخل في الوجود لزم تجهيل المعبود، والأفعال التي يكلف بها العبد تشغله عن الاستغراق في معرفة الله ومحبته، وكل ما كان مانعاً من ذلك فتركه أوجب الواجبات.

والشبهة الثانية أنّ ما جاء به النبي إن علم حسنه بالعقل كان مقبولاً سواء ورد به الرسول أو لم يرد، فلا فائدة في الرسالة، والشبهة الثالثة أننا نشاهد في الشرائع أفعالاً غير لائقة بالحكمة، مثل التعبدات الغريبة ولا منفعة فيها للمعبود، وهي مضار ومتاعب في حق العباد.

والرد على الشبهات في أنه ليس لأحد الاعتراض على الله، وكما أنّ ذاته غير معللة فكذلك أفعاله، وأنّ الغرض من البعثة تعليم ما لا سبيل إلى معرفته بمجرد العقل، ولا يبعد أن يكون في البعثة كلمة لا نعلمها، فلا سبيل للبشر للإحاطة بحكم الله في خلقه.

ثم يعرض الأدلة والشبهات والردود حول نبوة موسى وعيسى ومحمد في إحاطة واسعة مدهشة بالفلسفة والعلوم والتوراة والإنجيل والقرآن، والجدل الديني بين أتباع الديانات الثلاث والجدل مع غير المؤمنين بها، وما يجمع بين هذه الملل الثلاث؛ التوحيد.

يجد ابن كمونة أنّ التوراة متواترة وكاملة وأنّ وصف القرآن بالقول : "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني أنها كانت في زمن النبي موجودة وكاملة، وقد اعتنى اليهود بها عناية فائقة على نحو عناية المسلمين بالقرآن، والتشابه الحاصل في التوراة عند النصارى المؤمنين بها والذين يتلونها، والسامرة المختلفين عن اليهود، والتوراة التي عند اليهود يؤكد أنها محفوظة على التواتر، ويقول إنّ الاختلاف بين نسخ التوراة ليس أكثر من الاختلاف بين القراءات والأحرف المتعددة للقرآن، ويناقش أيضاً مقولات النصارى في التوحيد والتثليث والردود والشبهات، ويتأول لهم ويجيب على الأسئلة والشبهات حول معتقداتهم ونبوة عيسى، إلى أن يخلص إلى القول "وأما سائر ما ذكر من المخالفين فبعضه مجرد تشنيع واستبعاد، وبعضه لا يخفى على المحصل وجه دفعه ولو بتكلف، وأكثر هذه الأجوبة لم أجدها في كلام النصارى، ولكني أجبت نيابة عنهم، وتتميماً للنظر في معتقدهم".

ثم يناقش الشبهات والأقوال في نبوّة محمد والمعجزات وما بين القرآن والتوراة والإنجيل من التعارض، وما يمكن التأوّل فيه والتوفيق، والشبهات المثارة حول القرآن ونبوة محمد والردّ عليها..

ويبدو لي، وإن لم أجد دليلاً صريحاً على ذلك، أنّ ابن كمونة يؤمن بالدين الواحد الممتد على نحو عام مستمد من الحكمة والضرورات، والتأول للتناقضات وغير المعقولات إلى السياق العام، وإن كان ثمة مجال لإنكار ما لا يقبله العقل ينكره ويرده، وإن لم يجد فيعلقه إلى مظنة أنّ حكمته أو تأويله لم تعرف بعد.

ولكن المدهش في الكتاب هو الإحاطة الواسعة بالأديان ونصوصها وتراثها وبالفلسفة والحكمة والعلوم المتصلة بها، ثم ما يكشف عنه الكتاب من مستوى متقدّم في النقد والردّ والحريات الواسعة التي كان يمتلكها العلماء والناس.


مقالات ذات صلة

المزيد