الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الإسلامية لرحيل غرايبة


فئة :  قراءات في كتب

الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الإسلامية لرحيل غرايبة

يسعى رحيل غرايبة إلى تأصيل شرعي لقضايا التعددية السياسية والحزبية والحقوق السياسية للمرأة، والحقوق السياسية لغير المسلمين، وهو يعرض الآراء المختلفة وأدلتها ويناقشها، ويخلص إلى أن الشريعة الإسلامية ضمنت حق الترشح لكل أعضاء الجماعة السياسية التي تشكل مجتمع دولة الإسلام، وتتمتع المرأة المواطنة بالحقوق والحريات السياسية على قدم المساواة مع الرجل، فلها حق الترشح والانتخاب والشورى وحرية الرأي والتعبير والاشتراك في مراقبة السلطة الحاكمة وتقويمها، وأن تكون عضوًا في مجلس الشورى، والمواطن غير ا لمسلم يتمتع بالحقوق والحريات السياسية على قدم المساواة مع المواطن المسلم، وله حق الترشيح والانتخاب والشورى ومراقبة السلطة وحرية التعبير، وأن يكون عضوًا في مجلس الشورى، ويستثنى من ذلك منصب الخلافة أو الإمامة العظمى، والانتخاب حق سياسي أصيل في الشريعة الإسلامية لكل مواطني دولة الإسلام، وتشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية مشروع للمواطن، وتسمح الشريعة الإسلامية بالمعارضة السياسية، ويتأصل وجودها على حرية الرأي وشرعية الاختلاف. والشورى حق للأمة وواجب على الحاكم المسلم، وعلى الإمام الالتزام برأي الأغلبية، وحرية الرأي في الشريعة الإسلامية أم الحريات وتقوم على أصول شرعية هامة منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، وشرعبة الاختلاف، وحرية الرأي مسموح بها لغير المسلم، والفصل بين السلطات ضمانة مشروعة، والقضاء من أهم ضمانات الحريات والحقوق، وقد عرف الفقه الإسلامي خططاً قضائية متخصصة؛ كالقضاء العادي، وولاية المظالم، وولاية الحسبة، وولاية الرد، وولاية الشرطة، والمدينة...الخ، وقد أسهمت في رد الحقوق إلى أصحابها، وحالت دون تسلط أصحاب النفوذ، واهتمت الشريعة الإسلامية بالرأي العام ومنحته التقدير والعناية ليكون قادرًا على القيام بدوره ضمانًا لحفظ الحقوق وصيانة الحريات.

في السطور التالية محاولة استيعابية للكتاب

الأحزاب السياسية

أصبحت الأحزاب السياسية في الوقت الحاضر تشكل عماد العمل السياسي المنظم والحياة السياسية المستقرة، ولا يتصور قيام حراك سياسي فاعل في أي مجتمع دون وجود دور مؤثر للأحزاب السياسية التي تتنافس في البرامج وطرح الأفكار النظرية والعملية لحل مشكلات الحياة على مختلف الأصعدة وفي جميع المجالات.

وإذا كان الفقه الإسلامي يهدف إلى تطوير الواقع السياسي للأمة بما يكفل تحقيق مقاصد الشريعة في الخلق على أفضل وجه يستطيعه جهد البشر، بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد كما ورد على لسان الفقيه الحنبلي (ابن عقيل) في توضيحه لمعنى السياسة، فإن الفقهاء المسلمين المعاصرين معنيون جداً بدراسة مسألة الأحزاب والتعددية السياسية وموقعها في إيجاد نظام سياسي إسلامي معاصر.

موقف العلماء والكتاب المسلمين من مسألة الأحزاب السياسية:

الاتجاه الأول: وهم الذين ذهبوا إلى عدم جواز قيام الأحزاب في الشريعة الإسلامية، واستدلوا بما يلي:

1_ عموم الآيات التي جاءت تنهى عن النزاع والفرقة والاختلاف بين الأمة، وذلك لأن الأحزاب عامل من عوامل فرقة الأمة وسبب للاختلاف والنزاع: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران: 103) "إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء" (الأنعام، 159) "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" (الأنفال، 46)

2 _ الأمة الإسلامية كلها تشكل حزباً واحداً، تسعى لتحقيق هدف مشترك واحد، ويجمعها فكر واحد ومنهج واحد، فلا يجوز تعدد الأحزاب فيها (د. عاصم عجيلة: النظم السياسية، ص 85، مصطفى وصفي: النظم الإسلامية السياسية، ص 36) وقال تعالى: "ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون" (المائدة، 56). وروى أحمد في مسنده "لا حلف في الإسلام" وذلك لأن جميع المسلمين يشكلون حلفاً واحداً. وتعدد الأحزاب يؤدي إلى جعل المسلمين أحلافاً متعددة بدل حلف واحد.

4 _ انخراط الأمة بأحزاب مختلفة يؤدي إلى تربية الأمة على الاختلاف، وحتمية الفرقة والانقسام بدل تربيتها على الوحدة والتماسك والاتفاق، كما يؤدي إلى تعبئتها بمناهج مختلفة ومتعارضة، والأصل تنشئة الأمة عبر منهاج واحد ورؤية موحدة (عاصم عجيلة).

5 _للأحزاب مساوئ كثيرة رصدها الكتاب والعلماء على أرض الواقع من مثل:

- تفضيل الأحزاب مصالحها الحزبية على حساب المصالح العامة.

- حرب الدعاية والإشاعات التي تنشب بين الأحزاب ورجالاتها من أجل تشويه الخصم، مما يؤدي إلى التضليل.

- تؤدي إلى قولبة الحياة السياسية من خلال التعليمات الصارمة التي تصدر منها لأعضائها، مما يجعل مواقف الأعضاء محسومة سلفاً ومعدة مسبقاً.

الاتجاه الثاني: المؤيدون

ذهب جمهور الكتاب والعلماء المسلمين في الوقت الحاضر إلى جواز تشكيل الأحزاب السياسية، وإلى جواز ظاهرة التعددية السياسية في دولة الإسلام، وأنها لا تتعارض مع مبادئ الشريعة ومقاصدها العامة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

أولاً: عموم الآيات التي جاءت تحض على التعاون على الخير والبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (آل عمران،106) "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة، 2) والأحزاب صورة من صور التعاون بين أفراد الأمة، ولكن هذا التعاون يكون مشروعاً إذا كان على الخير والبر والتقوى، ولا يكون مشروعاً إذا كان على الإثم وعلى العدوان.

ثانياً: إن الاختلاف من طبيعة البشر، وسنة الخلق، ولا يمكن إزالة الاختلاف من بين أفراد الأمة، ولكن يمكن توجيه هذا الاختلاف واستيعابه بشكل إيجابي نافع (طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام) قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين" (هود، 118) والأحزاب تعتبر إحدى أدوات الأمة في تأطير الاختلاف وتوجيهه توجيهًا إيجابياً نافعاً يؤدي إلى التنافس في الخير والبر وتحقيق مصلحة الأمة، "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" (المطففين).

ثالثاً: لقد أجمعت الأمة على جواز الاختلاف في الفروع والجزئيات وجواز الاختلاف في كل المواطن والمجالات التي تركت للاجتهاد، والاجتهاد هو ثمرة العقل والعلم والخبرة، وهو متفاوت بين الناس، ونتائج الاجتهاد لا بد فيها من الاختلاف والتنوع والتعدد، ومن هنا فقد وجدت المذاهب الفقهية المتعددة، وأصبح المجتهدون العظام أئمة للناس وللجماهير، وتشكل من اختلافهم ثروة فقهية هائلة لهذه الأمة في كل مجالات الحياة.

والأحزاب السياسية ما هي إلا مذاهب ومناهج مختلفة في مجال الحكم والإدارة ومعالجة شؤون الدنيا المهمة، وهي مما يتوجب فيها الاجتهاد.

ومن هنا فإن توزيع الناس على برامج ومناهج متنوعة تقوم على اجتهاد مشروع في مجالات السياسة إنما يكون ذلك على أرضية تشكيل الأحزاب السياسية المشروعة، ولا يتعارض ذلك مع وحدة الأمة على المبادئ العامة والأمور القطعية والخطوط العريضة، واعتصامها بكتاب ربها وسنة نبيها، ولا يتعارض مع ضرورة الاتفاق على قوة الأمة وتحقيق مصلحتها، ورفع شأنها بين أمم الدنيا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية في دار ابن جدعان، أحب إليّ من حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت".

ولقد كان هذا حلف " الفضول" الذي دعا إليه مجموعة من سادات قريش من أجل عقد عام بين القبائل لنصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، وردع الظالم وحماية المظلوم، وقد مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا العمل مما يشير إلى شرعيته، وذلك مما يدلل على مشروعية أي حلف أو تجمع على الخير وعلى البر، ونصرة الحق.

خامساً: شهد واقع المسلمين وتاريخهم الطويل تشكيل جماعات سياسية لها أفكارها ومبادئها، وقد حاولت الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، وهناك عدة إشارات.

- فقد تنافس المهاجرون والأنصار في الوصول إلى السلطة بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد رشح الأنصار الصحابي سعد بن عبادة، ورشح المهاجرون أبا بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، في حين أن هناك مجموعة كانت تريد إسناد السلطة إلى عقب الرسول صلى الله عليه وآل بيته وسلم وآل.

إن الآيات التي جاءت تنهى عن الفرقة والنزاع تقابلها آيات تؤكد وجود الاختلاف وحق إبداء الرأي المعارض، وللجمع بين هذه النصوص على أمر جامع هو: أن النهي إنما يكون عن الاختلاف المذموم وهو ما كان في أصول الدين وما كان في القطعيات، أما الاختلاف في النوعيات والكيفيات فهو اختلاف مشروع، بل هو مطلوب شرعاً وعقلاً لأنه لا يؤدي إلى فرقة الأمة، وإنما يؤدي إلى القوة والتطور والإبداع في وسائل الحياة وأساليب تحقيق مصالحها الكبرى.

- أما عن النهي عن التحالفات (لا حلف في الإسلام) فلا يفيد المعنى الذي ذهب إليه المعارضون، يقول النووي في تفسير الحديث: "المنفي حلف التوارث، وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم، والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه"

والأصل أن الأحزاب لا تفرق الأمة ولا تربيها على الاختلاف، وإنما هي تربية على أدب الاختلاف وكيفية التعامل معه وتوجيهه، كما أن هذا الاختلاف هو تعدد ضمن إطار الوحدة للأمة، فهم جميعاً يتنافسون للوصول إلى هدف واحد هو قوة الأمة وانتصارها وتحقيق مصالحها الكبرى بطرق متعددة ووسائل مختلفة.

والأحزاب لها بعض السلبيات، وهناك من رجال الأحزاب من يمارس بعض الأخطاء، ولكن هذه الأخطاء التي تقع في التطبيق والممارسة لا تلغي أصل الفكرة ولا يؤدي إلى تحريمها، وإنما يجدر معالجة الأخطاء ومحاولة التقليل منها.

ويمكن تقديم خلاصة موضوع الأحزاب فيما يلي:

إن وجود الأحزاب السياسية وتشكيلها أمر لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ولا مبادئها، بل هي استجابة لحرية الإنسان في القول والفكر، وحريته في التعبير عن رأيه، واختيار الوسيلة المناسبة والمباحة التي تمكنه من أداء واجباته واستبقاء حقوقه.

والأحزاب السياسية وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تكون مشروعة ومطلوبة إذا كان تجمعاً على الخير وتعاوناً على البر والتقوى.

والأدلة التي استدل بها المعارضون لا تقوى على خطر إنشاء الأحزاب السياسية من الناحية الشرعية، والاستدلال بها كان يحمل بعض معاني التكلف والتعسف، والأدلة الشرعية على إباحة تشكيل الأحزاب أقوى دلالة وأكثر انسجاماً مع مقاصد الشريعة الإسلامية وروحها.

وعند المقارنة بين حسنات الأحزاب السياسية ومساوئها نجد أن الحسنات تطغى على المساوئ، مما يرجح كفة مشروعيتها مع ضرورة المحاولة لتلافي السلبيات وتشريع الضمانات التي تكفل سير الأحزاب بطريق إيجابي نافع.

هل تسمح الشريعة الإسلامية بقيام أحزاب غير إسلامية في دولة الإسلام؟ الجواب: نعم، إذا كانت لا تعارض دستور الدولة ولا قوانينها، فالإسلام يأمر بالتعاون مع كل من يريد الخير مهما كانت ديانته ومهما كان اتجاهه، إذا أراد العمل لتحقيق البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".كما أننا نعلم أن الإسلام أباح تعدد الأديان، بدليل قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" فمن باب أولى إتاحة التعددية السياسية وتعدد الاختلاف في مجال الإدارة والسياسة لأنهما ميدان اجتهاد العقل.

الحقوق السياسية للمرأة:

يمكن تأصيل هذه المسألة على جملة من القواعد الشرعية المتفق عليها، وبعد ذلك نذهب لمناقشة الفرعيات الخلافية.

1- الرجل والمرأة متساويان في أصل الخلقة والتكريم الآدمي،قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات،13) "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً" (النساء، 1) "ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء، 70)، وهي آيات واضحة في إرساء قاعدة مؤكدة أن الرجل والمرأة من أصل واحد وأنه لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى، كما أن الله عز وجل منح الآدمي كرامته منذ خلقه، وهذا التكريم عام يوازي وجوده، ولا فرق بين الرجل والمرأة في الكرامة.

2- الرجل والمرأة سواء في التكليف لأن خطاب الشارع جاء عاماً لجميع المكلفين، فهو يخاطب الرجل والمرأة بمستوى واحد على العموم إلا ما جاء باستثناء، فآيات التكليف سمتها العموم، تعني جميع الذين وصلوا إلى مرحلة التكليف "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" (الاحزاب، 36) "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نفيراً" (النساء، 24) فالرجال والنساء معنيون بتنفيذ أمر الله كل واحد بما يستطيع وحده أولاً وبالتعاون بينهم بدرجة أخرى.

3- الرجال والنساء في الجزاء والحساب، والإثم والعقاب سواء.

4- قررت الشريعة التعاون بين الرجال والنساء فيما يقتضي التعاون، وضرورة الولاء على أمر الله، "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله" (التوبة، 71). فالآية واضحة تمام الوضوح في تقرير مبدأ المشاركة والتعاون بين المؤمنين والمؤمنات في تنفيذ شرعه وتحقيق مصالح العامة، ولا قيام للشريعة بغير هذا التعاون والتناصر على أمر الله وفي ظل شرعه الكريم.

5- الرجال والنساء سواء في الحقوق والواجبات، "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة، 228) "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن" (النساء، 34

وقد شاركت المرأة في أهم الأحداث السياسية منذ بداية الدعوة الإسلامية، فقد شاركت في الهجرة إلى الحبشة، كما شاركت في الهجرة إلى المدينة، وشاركت في بيعة العقبة الثانية، التي تعتبر أهم حدث سياسي سبق الهجرة إلى المدينة، وشاركت النساء في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في إبداء الرأي والمشاركة في المشاورة في الأحداث السياسية المهمة، وقد روى البخاري في صحيحه أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أخذ برأي "أم سلمة" في غزوة الحديبية، وكانت المرأة تشارك في الاجتماعات العامة في المسجد، عندما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يدعو الناس إلى الاجتماع، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس.

إن هذه القواعد العامة تعبر عن النظرة الشرعية العامة للمرأة بموازاة الرجل، فهي تقرر المساواة بعمومها في الخلقة والتكريم والتكليف والجزاء والحساب والإثم والعقوبة والجزاء في الآخرة، وغير ذلك يكون على سبيل الاستثناء، والاستثناء يكون على خلاف الأصل ولا يثبت إلا بنص صحيح دلالته واضحة وقاطعة كما أن الاستثناء يكون بقدره، ولا يتعسف في دائرة الاستثناء لتصبح هي الأصل.

اعتماداً على القواعد السابقة وما يؤيدها من الشواهد التاريخية والروايات الصحيحة تؤكد أن المرأة تملك حق الترشيح للولايات العامة إذا توفرت فيها الشروط، كما أنها تملك حق الانتخاب، وسائر الحقوق السياسية من حق إبداء الرأي وتشكيل الأحزاب السياسية.

الحقوق السياسية لغير المسلمين:

شهدت دولة الإسلام منذ تأسيسها على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وجود مجموعات من غير المسلمين على أرضها، وكانوا يعيشون في جو من التسامح والتعاون والمشاركة، بحيث تجاوز مسألة العطف والمعاملة الحسنة إلى مرحلة من المشاركة الحقيقية في بناء الدولة والمجتمع وحمايتها والدفاع عنها ضمن مبادئ دستورية وقانونية واضحة لا تقبل الإلغاء والنسخ.

ويمكن توضيح الوضع القانوني لغير المسلم المقيم على أرض الدولة الإسلامية من خلال دراسة مصطلحين ظهرا في الفقه الإسلامي منذ القدم تتعلق بشأنه، وهما عقد الأمان وعقد الذمة.

وعقد الأمان والاستئمان هو ذلك العقد المؤقت الذي ينظم دخول غير المسلم إلى أرض الإسلام ليقيم إقامة مؤقتة محدودة لأغراض التجارة أو زيارة الأقارب أو لأغراض المعالجة والاستشفاء أو من أجل العلم والتعلم أو السياحة أو لأي سبب مشروع. ويصدر هذا العقد عن الجهات المختصة بإذن رئيس الدولة، ويعطي صاحبه حقوقاً محدودة تتضمن حق الحماية والأمن، على نفسه وعرضه وماله، وحق الإقامة المؤقتة والتنقل، وهذا العقد ليس هو محل دراستنا، لأنه لا ينتج عنه إعطاء حق المواطنة لغير المسلم، وعلى ذلك فهو لا يتمتع بالحقوق السياسية في الدولة، وهذا الأمر ليس محل خلاف.

عقد الذمة:

لقد عنى الفقهاء بهذا العقد عناية بالغة لأهمية هذا العقد وما يترتب عليه من آثار مهمة تتعلق بوجود قطاع من مواطني الدولة وتنظيم عيشه وعمله بشكل قانوني مستقر، وقد جاءت التسمية من استعمال العرب، فالذمة في اللغة هي العهد، لأن نقضه يوجب الذم، والذمة في اصطلاح الفقهاء هي الأمان المؤبد، وقيل: العهد الذي يعطى لأهل الكتاب ومن جرى مجراهم، ويعدون به من رعايا الدولة الإسلامية (53).

إن المتتبع لأقوال الفقهاء في هذا الموضوع، يجد أن آثار عقد الذمة تتلخص بما يلي:

1 - حق الإقامة الدائمة في إقليم دولة الإسلام.

2 - التمتع بالحرية الدينية.

3 - حق التملك والعمل.

4 - عصمة الدم والعرض والمال.

5 - على أهل الذمة الخضوع لأنظمة الدولة وقوانينها، وتسري عليهم أحكام الإسلام باستثناء الأمور المتعلقة بدينهم وطقوسهم وشؤون الأسرة من زواج وطلاق وغيره

6 - يتحمل أهل الذمة نصيبهم من الواجبات المفروضة على سكان الدولة جميعاً، مثل الواجبات المالية والسياسية والعسكرية.ولذلك تعارفوا على القاعدة القائلة: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وهو قول منسوم للخليفة (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه.

من خلال الدراسة المختصرة لعقد الذمة نستطيع أن نقرر أن هذا العقد هو عبارة عن منح جنسية الدولة الإسلامية، والتابعية الكاملة لها من غير المسلمين الذميين. لأن عقد الذمة يجعلهم مواطنين كاملي المواطنة يتمتعون بحقوق المسلمين وواجباتهم، وعلى ذلك فأصحاب هذا العقد من غير المسلمين يصبحون من سكان دولة الإسلام الأصليين، تربطهم بالدولة روابط قانونية وسياسية، تجعلهم يتمتعون بمراكز قانونية معتبرة. ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من العلماء المعاصرين أمثال: عبد القادر عودة (التشريع الجنائي في الإسلام)، عبد الكريم زيدان (أحكام الذميين والمستأمنين)، وهبة الزحيلي (آثار الحرب في الفقه الإسلامي)، أحمد مسلم(القانون الدولي الخاص) وعبد العزيز عامر (المدخل لدراسة القانون المقارن بالفقه الإسلامي).

ويمكن الاعتماد على رأي الجمهور في الوصول إلى الرأي القائل أن أهل الذمة يتمتعون بالحقوق السياسية في دولة الإسلام بما في ذلك حق الترشح والانتخاب ومن إبداء الرأي والمعارضة السياسية وحق تولي الوظائف العامة، ويستثنى من ذلك ما له علاقة بالمسائل الدينية والعقيدية، وبما ورد فيه النص الصحيح، ويكون ذلك على سبيل الاستثناء.

وإذا نظرنا إلى أدلة المعارضين والمؤيدين لمساواة غير المسلمين بالمسلمين في جميع الحقوق والواجبات، بما في ذلك تولى المناصب وحاولنا التوفيق بينها في ضوء الوقائع العملية والتطبيقية في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الصحابة والخلفاء، فإننا نستطيع أن نقرر الحقائق التالية:

1 - أن الأحكام الخاصة بأهل الكتاب، تميز بين المحاربين الذين يقاتلون المسلمين ويلحقون بهم الضرر ويضمرون لهم الحقد، وبين الفريق المسالم منهم، الذي رضوا بالالتحاق بشعب دولة الإسلام ليكونوا جزءاً منه وتحالفوا مع المسلمين في كيان سياسي واحد، يعملون معاً من أجل وطن واحد، ومن هنا يمكن توجيه الآيات التي جاءت تنهى عن الموالاة أو الاستعانة فيما يخص غير المسلمين في ضوء التفريق السابق، فهو موجه إلى الأعداء والمحاربين.

2 - إن المصلحة تقتضي البحث عن الحكمة أينما وجدت، والبحث عن الرأي السديد والبحث عن الخبرة من أجل توظيفها في خدمة دولة المسلمين وعامة سكانها، ولا بد من توظيف جميع الإمكانات المتاحة والكفاءات المتوفرة.

3 - هناك مبدأ عام وقاعدة كبرى تقررها الآيات والنصوص الصحيحة في مجال التعاون على الخير والبر.

قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".

هذه الآية نص عام، يشمل التعاون بوجه عام ومع جميع من يبغي الخير، من مسلمين وغير مسلمين، بشرط أن لا يكون هذا التعاون ملحقاً للضرر، أو من أجل إلحاق الظلم بأحد، ولا يكون التعاون في أي مجال من مجالات الاعتداء. مع الأفراد والدول والأمم والشعوب مهما كانت أديانهم ومعتقداتهم.

4 - جاء الإسلام بنظام يعالج أمور الدنيا الكثيرة والمتعددة في مجال السياسة والإدارة والاقتصاد، وفي مجال الزراعة والطب والعلوم فلا بأس من الاستعانة بها مع كل المتخصصين وأهل العلم والخبرة بغض النظر عن أديانهم وأفكارهم، وليس هناك من الأدلة ما يمنع الاستفادة منهم فيما يحقق المصلحة ويدفع الضرر.

5 - إن الوضع القانوني لغير المسلمين الذين يقطنون في ديار الإسلام كما قررنا سابقاً هم مواطنون يتمتعون بجنسيتها التي تمثل التبعية القانونية والسياسية المطلقة للدولة. وينبني على هذه القاعدة أن جميع مواطني الدولة متساوون في الحقوق والواجبات، فلا يعرف الإسلام الطبقية في المواطنة بحيث يكون مواطنون درجة أولى وآخرون درجة ثانية ومن هنا فإن غير المسلمين الذين رضيت الدولة بتبعيتهم لها أن تمنحهم جميع حقوق هذه التبعية من سياسية وغير سياسية.

وبناءً على كل ما سبق فإن الأقليات من غير المسلمين في دولة الإسلام يتمتعون بحقوق المسلمين المواطنين من ترشيح وانتخاب وشورى وتشكيل للأحزاب السياسية، وحق المعارضة وإبداء الرأي والنصيحة، ولهم حق تولي الوظائف العامة بما لا يعارض النصوص الصحيحة، وفي المجالات لا تتصل بشؤون العقيدة ونظام الأسرة، وينظم ذلك الدستور والقانون المأخوذ من مصادر التشريع المعروفة.

ولذلك نستطيع القول أن وضع غير المسلمين الذين رضوا بالعيش في دولة الإسلام على سبيل الإقامة الدائمة، يتجاوز وضعهم وضع الأقليات، كما هو معروف في القوانين الوصفية ليصبحوا جزءاً من المجتمع الإسلامي يشاركون فيه بالبناء والحماية، والتطوير، ولم تعد المسألة مسألة تسامح ديني فحسب.