كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي"


فئة :  قراءات في كتب

كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي"

كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي"

للمفكّر الجزائريّ محمد أركون


صدر كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه (ت421هـ) والتوحيدي (ت414هـ)"[1] للباحث الجزائريّ محمد أركون (ت2010) عن دار الساقي ببيروت في طبعة مكتوبة باللّسان العربيّ نقلها من الفرنسية هاشم صالح. والكتاب في الأصل هو أطروحة الدكتوراه التي أنجزها أركون في رحاب جامعة السوربون والمعنونة بـ (L'Humanisme arabe au IVe (Xe) siècle). وفي شأنها تقول دار الساقي التي تكفّلت بنشر الكتاب: "إنّ الاكتشاف الأساسي الذي توصل إليه محمد أركون في هذا العمل هو تبيان وجود مذهب فكري إنساني في العصر الكلاسيكي، وتحديداً في القرن الرابع الهجري- العاشر الميلادي، في ظل البويهيين. فقد ازدهرت العقلانية الفلسفية المستلهمة من الإغريق واتخذت على المستوى اللغوي والأسلوبي صيغة "أدب الفلاسفة، وفلسفة الأدباء". لكن هذه الأنسنة ضمرت فيما بعد وماتت إلى درجة أننا نسيناها تماماً، واعتقد أنها لم توجد قط! ثم دخلنا في عصور الانغلاق الطويلة التي فصلتنا تماماً عنها وجعلتها طيّ النسيان التراثي. الكتاب هذا يكشف النقاب عن لحظة منسيّة سبق أن ضربت في أرض الإسلام بمجيء السلاجقة في القرن الحادي عشر، وهو بهذا يستبطن سؤالاً: كيف السبيل إلى بعث الأنسنة من جديد في العالم العربي والإسلامي؟ كيف يمكن أن نصل ما انقطع ونستلهمه مجدداً لكي نبني عليه نهضتنا المقبلة؟"[2]

وينقسم كتاب نزعة الأنسنة في الفكر العربيّ إلى جملة من المقدّمات وكتابين، خصّص أركون الكتاب الأوّل للمُعطيات الخاصّة بالسيرة الذاتيّة لمسكويه والمراجع التي تتحدّث عنه موزّعا إياه على فصول ثلاثة هي:

- الفصل الأوّل: قيمة المصادر الخاصّة بالسيرة الذاتيّة والمراجع.

- الفصل الثاني: محاولة لكتابة السيرة الذاتية لمسكويه.

- الفصل الثالث: أعمال مسكويه.

أمّا الكتاب الثاني فقد عنونه بالحكيم، وفي فصوله الخمسة ناقش جملة من العناصر هي:

- الفصل الرابع: بحثا عن المنهج مشكلة المصادر والأصول.

- الفصل الخامس: الموقف الفلسفي لمسكويه.

- الفصل السادس: تشكيلة المعرفة أو نسق العلوم.

- الفصل السابع: بناء صرح الحكمة أو تشكيل الحكمة.

- الفصل الثامن: الحكمة والتاريخ.

وقد كُتبت هذه الأطروحة بالفرنسيّة في ستينيّات القرن الماضي في وقت: "كانت الفرحة العارمة بنيل الاستقلال تهيمن على الشعوب التي تخلّصت من نير الاستعمار(...) وقد جذبتها الاشتراكية العلميّة التي كانت تعد بتحقيق قفزات ضخمة في مجال التنمية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة."[3]

لذلك اجتهد صاحبها في قراءة مفهوم الأنسنة الغربيّة الذي كان لسان حال تلك المرحلة وركيزة أساسيّة ينبغي توفّرها لنماء الشعوب وتطوّرها. وفي سبيل ذلك، ذكّر أركون بالنزعة الإنسانيّة التي سادت أوروبا بعد الإصلاح الديني وعصر النهضة حتى وصلت أوروبا إلى مرحلة الفصل بين الكنيسة والدولة بعد صراع مرير بينهما من أجل امتلاك السلطة السياسيّة. لقد تحرّر الأوروبيّ من سلطة المؤسّسات السلطويّة المختلفة، حتىّ شمل تحرّره السلطة الدينيّة فأصبح الدين عنده تجربة بشريّة قابلة للتجاوز وبالتالي إلغاء سلطته من خلال ما يمكن تسميته بعلمنة المجتمع، إضافة إلى ذلك تمّ إلغاء سلطة الأخلاق في مجال الإبداع، وهو ما دفع إلى تمجيد العقلانية ووضعها في مقابل التفكير الديني، واعتبار هذا الضرب من التفكير عائقاً أمام مشروع أنسنة الإنسان لاعتماده اعتماداً تامّاً على المعرفة الوثوقية واليقينية، ووقع إلى جانب ذلك إحلال العقل ومُنجزاته العلمية محل الله في تصوّر مركزية المجتمع. وهكذا واجهت النزعة الإنسانيّة الأوروبيّة الدين وتمرّدت عليه. فنظّر بعضهم لمقولة الإنسان المتميّز الذي يجسّد إرادة الله في الكون عن طريق العقل، ومن أهمّ الفلاسفة الذين جعلوا الإيمان سبيلاً إلى تجسيد أنسنة الإنسان - وفق محمد أركون- الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرس (Karl Jaspers) والفرنسيّ غابريل مارسيل (Gabriel Marcel) والدنماركي سورين كيركيغارد (Søren Kierkegaard) والفرنسيّ إمانويل مونيه (Emmanuel Mounier) وكذلك بول ريكور (Paul Ricœur) فهم أهمّ فلاسفة القرن العشرين الذين يمثّلون تلك النزعة في بناء الأنسة على منطلق إيمانيّ.

وعلى خلاف هذه النزعة، برزت الأنسنة الملحدة التي تدعو إلى التمرّد على الله وإسقاطه من مجالات التفكير في سبيل العناية بالذات البشريّة وتمكينها من إثبات وجودها عبر طريق التفكير الحرّ والاختيار الذي لا يحتاج إلى مُوجّه، الأمر الذي يخوّل لها نحت كيانها وتقرير مصيرها في الكون بمفردها واكتناه معنى لحياتها خارج دائرة أيّة قوّة غيبيّة متعالية تتحكّم فيها وتفكّر بدلا منها. ويعتبر الفيلسوفان الفرنسيّ جون بول سارتر (Jean Paul Sartre) والألماني مارتن هيدغير (Martin Heidegger) من أهمّ المفكرين الممثّلين لهذا التوجّه والداعمين له.

إنّ الأنسنة الغربيّة وفق أركون تقوم على عناصر مجتمعة هي العقلانيّة والعلمانيّة والتاريخيّة، باعتبارها عناصر تمثّل جوهر الأنسنة والسبيل الذي قاد الفكر الأوروبيّ إلى عصر الأنوار. فلو لم يكن هناك اهتمام بالإنسان في ذاته لما أمكن إعطاء الأولويّة لعقله في الإدراك والتمييز وبناء الأحكام، ولما أمكن رفض كلّ العوائق التي تحدّ من إبداعه وتحول دون تحقّق كينونته في التاريخ.

وقد أدّت دراسات الموضوعاتيّة التاريخانيّة المتعالية (La Thématique-Historico-Transcendantale)[4] في الحضارة العربيّة الإسلاميّة بأركون إلى البحث عن حركة أنسنة شبيهة بما طرح في الفكر الغربيّ في عصري النهضة والأنوار، لا سيّما أنّ الباحث الجزائري على يقين من وجود هذه النزعة في الحضارة العربيّة طالما أنّ العرب قد قادوا لفترات طويلة الحضارة الإنسانيّة ومادام الفكر العربيّ كان حلقةً رئيسة في بناء الحضارة الإنسانيّة. وقد دعت هذه الثقة محمد أركون إلى التفكير في عصور ازدهار هذه الحضارة، ليبرز بالدليل العلمي القاطع حلول نزعة الأنسنة في مجالات فكريّة مختلفة من تاريخ هذه الحضارة.

فقد خصّص الباحث الكتاب الأوّل من عمله ليتحدّث فيه عن أحد أهمّ أعلام الفلسفة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو المؤرّخ والشاعر والفيلسوف أحمد بن يعقوب الملقّب بمسكويه (330هـ-421هـ)[5] مُقدّماً سيرته الذاتيّة في أدقّ التفاصيل التي يمكن الحصول عليها من مصادر متنوّعة محّصها أركون وفحصها فحصاً دقيقاً مُحاولاً بذلك استقصاء شخصيّته وطبيعة تفكيره. ولعلّ المميّز في هذا المستوى أنّ أركون عاد إلى جملةٍ من كتب الرجل، ليستخلص من خلالها سيرته الذاتيّة فنظر في "تهذيب الأخلاق" و"كتاب تجارب الأمم" و"كتاب الحكمة الخالدة" و"كتاب المستوفي" ووصاياه التي ذكرها في متون كتبه. هذا إضافة إلى وصايا معاصريه فيه، ومن أشهرهم أبو حيّان التوحيدي الذي ذكر مسكويه في "الإمتاع والمؤانسة" وفي "الصداقة والصديق" وفي "مثالب الوزيرين" وكذلك الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني. وقد قدّم أركون في الفصل الثاني من كتابه الأوّل ما سمّاه بالمحاولة لكتابة السيرة الذاتيّة لمسكويه وفيها بحث تكوينه العلميّ المباشر وغير المباشر كما بحث في مسألة تردّده على بلاطات الوزراء والأمراء، مثل المهلّبي وابن العميد و ابنه من بعده أبي الفتح ابن العميد ثمّ عضد الدولة من بعدهما، حيث كان يجتمع مع جملة من العلماء أين: "أفرد في دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة(...) فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامّة وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتّصل بهم." (تجارب الأمم، ج2، ص408)".[6]

ثمّ عرض أركون بعد ذلك لمختلف أعمال مسكويه ففصّل فيها القول تفصيلا في مبحث مستقلّ واقفاً خاصّة على الأعمال الفلسفيّة، مثل "ترتيب السعادات ومنازل العلوم" و"كتاب الفوز الأصغر" و"رسالة في ماهيّة العدل" و"رسائل فلسفيّة" و"تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" و"الحكمة الخالدة" وعلاوة على ذلك أكبّ على دراسة عمله الشهير في مجال التاريخ "تجارب الأمم وعواقب الهمم".

أمّا في الباب الثاني المعنون بـ"الحكيم"، فقد توسّل فيه أركون بالمنهج الفيلولوجي وبالتحليل الموضوعاتيّ لقراءة بعض مؤلّفات مسكويه فاحصا التطوّر الاقتصادي والسياسي والفكري في عهد الدولة البويهيّة والدور الذي لعبه انتشار الفلسفة -لا سيما فلسفة إخوان الصفاء وأبي سليمان المنطقيّ ويحيى بن عديّ- في استثمار الفكر اليوناني واسترفاد آلياته.

ولقد اغتنم أركون الفصل الثاني من كتابه الثاني ليبرز من خلاله موقف مسكويه الفلسفي الذي يتلخّص عنده في منهجيّة تربويّة دقيقة وفضول معرفيّ لا حدود له وسلوك أخلاقيّ قويم، مثلما يستجلى ذلك من مختلف كتب الفيلسوف. وتطرّق أركون كذلك إلى نسق العلوم عند مسكويه أو طريقة تشكيل المعرفة واضعاً تراتباً مُحدّدا لمعيار تصنيف العلوم عنده قبل أن يعرّج على تشكيل الحكمة أو بناء صرح الحكمة في فلسفة هذا الرجل محاولا اختزالها في أربعة عناصر على النّحو التالي:

-الإنسان كائن مركّب.

-الضرورة والحريّة (أو الحتميّة والحريّة) في الوجود البشري

-اقتناص السعادة أو التوصّل إلى السعادة.

-النبيّ، الله.

وقد أثبت محمد أركون مدى إفادة مسكوية من الفلسفة اليونانيّة عند تحديده هذه العناصر خصوصاً توسلّه بالفلسفة الأرسطوطاليسيّة عند حديثه عن وجود النفس وطبيعتها ووظائفها. فضلاً عن استعانته بالفلسفة الأفلاطونيّة عند الحديث عن مشكلة العقل ومصير النفس. ولعلّ اللافت للنظر في مستوى هذه المعالجة هو تطرّق مسكويه إلى فعل الإنسان الحرّ من خلال ملاحظات محدودة في "الهوامل والشوامل" ومناقشته كذلك قضيّة اقتناص السعادة وطرق التوصّل إليها. ولا يتردّد مسكويه أيضاً في مناقشة طبيعة الوحي وكيفيّته معتبرا إيّاه: "الصورة الأكثر علوّاً وصحّة للمعرفة" والفيض: "الذي يشعّ على العقول البشريّة بواسطة العقل الكوني."[7]

ويختم أركون بحثه بحديثه عن قدرة مسكويه على الجمع بين الحكمة والتاريخ أو ما سمّاه بمسكويه الفيلسوف ومسكويه المؤرّخ الذي يستحقّ هو أيضا العناية والتقدير لذلك ليس من باب الصدفة أن يخصّص له أطروحةً أخرى على غرار نظيرتها التي خصّصها لمسكويه الفيلسوف. والجدير بالذكر أنّ أركون تناول في الفصل الأخير بعض المسائل المرتبطة بالتاريخ في فكر مسكويه من قبيل كتابة التاريخ المحسوس في "تجارب الأمم" من خلال تاريخ الوقائع ومن نحو تعرّضه للمؤسّسات والأخلاق السياسيّة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعيّ، إضافة إلى الصور الشخصيّة (البورتريهات) التي يقدّمها مسكويه عن شخصيات عصره الكبرى، مثل شخصيّة أبي الفضل بن العميد وابنه أبي الفتح والمهلّبي ومعزّ الدولة وابنه بختيار. بيد أنّ الغائب الحقيقيّ في تاريخ مسكويه وفق أركون هو الشعب أو: "العالم الريفيّ والعالم البدويّ وعالم العمل والكدح وعالم الهامشيين والمتسكّعين والمنبوذين، إلخ... صحيح أنّ المؤلّف يتحدّث في "تجارب الأمم" كثيراً عن الحروب والفوضى المنتشرة بين المدن والأزمات الاقتصاديّة والمجاعات، ولكنّه يتحدّث عن ذلك بطريقة غير مباشرة، غامضة تلميحيّة."[8]

جملة الأمر أنّ نتائج هذا البحث في فكر مسكويه أوصلت أركون إلى جملة من الاستنتاجات المركزيّة منها أنّ دراسة الأدبيات الفلسفيّة في القرن الرابع من الهجرة تتيح تأكيد وجود نزعة فكريّة مدارها على الإنسان في المجال العربيّ الإسلاميّ، وهو ما يدعوه بالأنسنة العربيّة. على أنّ الطريف في الأمر أنّ هذا العصر الضارب في القدم برز فيه من يفكّر في الإنسان وهمومه وليس في الله فقط. ومن النتائج التي خلص إليها أركون كذلك أنّ زعماء هؤلاء التيّار الفكري لم يكونوا من الفلاسفة الكبار من أمثال الفارابي والكندي والرازي وابن سينا، بل هم من درجة أقلّ شهرة على غرار الفيلسوف المدروس أحمد بن يعقوب مسكويه والمفكّر أبي حيّان التوحيدي.


[1]- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، ط1، 1998

[2]- نفسه، غلاف الكتاب الخلفيّ.

[3]- نفسه، ص 12

[4]- المصطلح لميشال فوكو (Michel Foucault) استعمله في كتابه أركيولوجيا المعرفة كما يشرح ذلك مترجم الكتاب هاشم صالح مدقّقا تأثّر أركون بهذا المنهج الإبستيميّ الذي صار ديدنه في كامل تجربته العلميّة.

[5]- يعدّ مسكويه أوّل علماء المسلمين الذين كتبوا في علم الأخلاق بمفهومه العلمي والفلسفي، وذلك من خلال كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) الذي ركز فيه على الأخلاق والمعاملات وتنقية شخصية الإنسان. وقد لمع نجمه في الفلسفة حتى لقّبه بعضهم بـ'المعلم الثالث'، درس تاريخ الطبري على يديْ أبي بكر أحمد بن كامل القاضي الذي كان من أتباع الطبري ودرس علوم الأوائل على يد ابن الخمار الذي كان واسع الاطلاع وبرع في الطب، حتى لقّب ببقراط الثاني ويظهر من كلام الفيلسوف الإسلامي أبي حيان التوحيدي أن ابن مسكويه لم يكن ذا عقلية فلسفية بارعة وأنه شغل بعلم الكيمياء عن الفلسفة فقرأ كتب الكيمياء لكل من أبي الطيب الكيمائي الرازي وجابر بن حيان وأبي بكر محمد بن زكريا الرازي.

لمزيد من التوسّع انظر:ويكيبيديا الموسوعة الحرّة

http://ar.wikipedia.org/wiki/

[6]- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، سبق ذكره، ص 171

[7]- نفسه، ص 537

[8]- نفسه، ص 578