عقبات العقل المنبثق الصاعد أو من مزالق التفكير داخل الأنساق الدينيّة


فئة :  مقالات

عقبات العقل المنبثق الصاعد أو من مزالق التفكير داخل الأنساق الدينيّة

1- العقل المنبثق الصاعد:

يعدّ مشروع "محمّد أركون" في الإسلاميّات التطبيقية تجاوزا للدراسات الاستشراقيّة وتحوّلا من المنطق الفيلولوجيّ إلى المنطق التحليليّ النقدّي في التعامل مع التراث. ويحدّد "أركون" ملامح هذه المنهجيّة من خلال التأكيد على التدخل في المناقشات العلميّة والإيديولوجيّة بين الأديان التوحيدية الثلاثة، وخوض النقاشات حول مسألة الإيمان والعقل أو التراث والحداثة أو الدين والعلمانيّة الدنيويّة أو الديمقراطيّة وحقوق الإنسان والدّين والتنمية وسوء التنمية والإرهاب والأصوليّة وقيم الغرب؛ وهي تقوم على نقد راديكالي لجميع أشكال العقلانيّة أو العقلنة الموروثة عن ذلك التاريخ الطويل للفكر الإسلاميّ.[1]

وقد أحلّ أركون مفهوم "العقل المنبثق الصاعد" بديلا من مفهوم "ما بعد الحداثة"؛ وذلك لأنّ هذا المفهوم الأخير مرتبط بالمركزيّة الأوروبيّة. أمّا مفهوم العقل المنبثق الصاعد، فهو الأكثر تعبيرا على حاجياتنا الفكريّة والثقافيّة، لأنّه يترصّد في جميع الثقافات ومن دون توقّف التحدّيات الجديدة لتاريخ البشر ويوسّع من أفقه باستمرار، ويكثر من ساحات تجاربه ومصادره ومعلوماته.[2]

ويقوم هذا العقل على المقابلة بين إنشاء المعنى والمنشأ التدميري للمعنى، وذلك بالإقرار بهشاشة المفاهيم الجوهرانيّة المقدسة التي تقوم عليها السرديات الدينية. ففي الرؤية التقليديّة تعتبر تلك الحقائق ثابتة ويقينيّة، إلاّ أنّ المقاربات التفكيكية الفلسفيّة الحديثة كشفت هشاشة تلك الحقائق، فاعتبرتها بمثابة حقائق مغامرة أو افتراضيّة احتماليّة.

وتطرح المسارات التفكيكية للأديان مأزقا على الباحث من خلال الإقرار باستخدام الدين في إيديولوجيا الكفاح، فيواجه العقل المنبثق الصاعد خطر الأصوليّة التي تجد شرعيّتها في جدلها مع خصمها اللّدود، وهي الرأسماليّة الموسومة بأنها بلا أخلاق وتستغل آلة التدمير ردّا على العمليات الإرهابيّة الأصوليّة، وهو ما ينعكس سلبا على مسؤولية العلم والعقل العلمييّن الذين أصبحا مقطوعين عن الأخلاق.

ويدعو أركون إلى الفصل بين سوسيولوجيا الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه؛ "ففي كلّ بيئة وكل عصر هناك أشياء يمكن التفكير فيها وأشياء أخرى لا تخطر على بال الناس إطلاقا، بل ويمنع التفكير فيها منعا باتا، ثمّ تتغيّر الظروف ويجيء عصر آخر وتصبح قابلة لأن يفكّر فيها."[3] متصوّرا أنّ مسارات الحريّة وحقوق الإنسان هي من الأشياء التي تعتبر مفكّرا فيها ولم تكن كذلك في الماضي. ومن هنا كانت الحاجة ملحّة إلى مواكبة التحوّلات الكبرى التي شهدها مجال البحث في تراث الغرب المسيحي والعلماني وفتوحات علوم الإنسان والمجتمع من خلال تطبيقها على التاريخ الإسلاميّ.

وليس هذا العقل ملكيّة خاصّة بالمسلمين، ليفكروا وحدهم في قضايا تراثهم ويصير الإسلام رهينة بيدهم، وإنما يدعو أركون إلى أن يقوم الباحثون الغربيون المسيطرون على المنهج العلمي بواجبهم تجاه هذه الشعوب لكسر الأنساق الدوغمائيّة والتقليص من عوامل الاضطراب والعنف المنظم باسم الدين.

ومن أهمّ الآليّات التي وظّفها أركون في إطار هذه المقاربة اعتماد نظريّة المثلث الأنثروبولوجي المتمثّل بالمفاهيم الثلاثة التالية: عنف، مقدس، حقيقة، وهي ثلاثيّة بقدر ما تجلي العناصر المؤسسة للأورثوذوكسيّة، فإنها تبيّن صعوبة مسالك التفكيك، فوراء هذه الثلاثيّة الأنثروبولوجيّة ثلاثيّة أخرى من الفواعل الذين يحمُون المنظومة اللاهوتيّة القديمة: وهم من رجال السياسية ورجال الدين وعامّة الناس وما العقائد الراسخة في المتخيّل الجمعي سوى شبكة معقّدة من العلاقات بين هؤلاء الفواعل الذين يمثّلون محور العقبات التي تقف في طريق التجديد وإعاقة العقل المنبثق الصاعد.

2- عقبات العقل المنبثق الصاعد:

تبدو هذه الأسس التي أقام عليها "محمد أركون" مفهوم العقل المنبثق الصاعد بمثابة أفق معرفي لإنقاذ النزعة الإنسانيّة في الدين والخروج من الأسيجة الدوغمائيّة نحو المشاركة العقليّة الفاعلة في ساحات العلم التي من شأنها أن تخرج المجتمعات العربيّة الإسلاميّة من جمودها وتحجّرها، وتفتح لها أبواب المعرفة العلميّة وإمكانيات الخلق والإبداع؛ إلاّ أنّ هذا المشروع الواعد يظلّ مشروعا نظريّا يتوجّه بالأساس إلى النخبة العالمة، [4] ولكنّه يتجاهل إلى حدّ كبير الآليّات التي يمكن أن تعضد هذه التحولات الفكريّة وتصيّر اللامفكر فيه مفكّرا.

لقد استطاع العقل الأورثوذكسيّ أن يحصّن مواقعه عبر طبقات مختلفة جعلت من وجوده مصدر قوّة، رغم هشاشته الأبستمولوجيّة في مواجهة آليّات النقد الحديث. وإنّ الحديث عن عقل إسلاميّ بطابعه الشموليّ يجعل المسألة أعسر، إذ يمكن لهذا العقل أن يصير في وعي الأطراف المستهدفة بالإصلاح مجرّد خصم ينتمي إلى ديار الكفر. ويساق بذلك في خانة التآمر على الإسلام. ومن السهل أن يفهم التفكيك على أنّه تدمير ونسف لحضارة يتباهى بها المسلمون، وإن كانت متخيّلة. ومن هنا كانت الحاجّة ماسّة إلى فهم هذه الصروح التي حصّن بها أصحاب الآراء الصراطيّة منظومتهم، وضمنوا بها البقاء، رغم التغيّرات العلميّة وتبدّل المناهج البحثيّة.

فالمنظومة الأرثوذكسية ليست سوى نسيج مترابط من المعرفة والعادات والتقاليد والنظم الأخلاقيّة والسياسة لا ترتبط بما أنشأته النخبة، وإنما بما رسخ في متخيّل الشعوب الإسلاميّة من إسلام مذهبيّ له رموزه ومقدّساته. ولذلك، فإنّ المسألة تتطلّب تفكيك الأرثوذكسية وتجزئة قطاعاتها، حتّى تسهل عمليّة التجديد المنشودة التي تتيح للعقل المنبثق الصاعد أداء أدواره النقديّة واكتساب القدرة على التأثير في النخبة وفي الشعوب الإسلاميّة، حتّى لا يظلّ العقل المنبثق الصاعد رهين الأبراج العاجيّة وفي عزلة عن التصورات الشعبيّة. وتكمن أهميّة الرأي العام في كونه يمثّل الخزّان الديمقراطيّ في دول ما بعد الربيع العربي، ذلك أن المجتمع المدني ما يزال في هذه الدول مرتبطا بالتصوّر الشعبيّ العام للدين وبالعقائد السائدة. ولذلك، فبإمكانه توجيه المواقف السياسيّة ومعارضة آراء النخبة متى وجد فيها تهديدا لمقدساته.

إنّ ذلك يعني مرحلة بناء شاقّة لا يمكن أن يكون موطنها الأول سوى العقل مادام العقل هو مدار التغيير؛ فالمرحلة الأولى تتطلّب تغييرا في النظم التربويّة من أجل تحويل الوعي الديني السائد من عقليّة الاستعداء والمواجهة إلى عقليّة البناء والمنافسة، وهو ما قدّمه أركون من خلال عرض عيّنة من كتاب تاريخ مشترك كتبه الألمان والفرنسيون، ليقضوا على حقب من العداء والحروب، ويؤسسوا لحقب جديدة من التعاون والمشاركة البناءة، ومن خلال دعوته أيضا إلى كتابه تاريخ مشترك بين المستعْمِرين والمستعمَرين حتّى يتمّ تبادل الآراء وتجاوز الخلافات القديمة من أجل فتح صفحة جديدة مقاصدها البناء بديلا من العداء. وإنّه لمن الصعب تغيير هذا الوعي السائد من دون تحويل الخطاب الديني تدريجيا من خطاب لا همّ له سوى ترديد أسطورة التراث الخارق واسترجاع الأمجاد القديمة إلى تاريخ يؤسس للمستقبل ويعيد بناء الإنسان قيما وفعلا، فلا يحصل الاغتراب الذي مزّق ذات المسلم بين عصور مثاليّة كان الفواعل فيها أشخاصا خارقين واستثنائيين وواقع مادّي "مدنّس" بحسب نظره يعجز أصحابه عن استعادة اللحظة التاريخيّة الخارقة التي مرت مع عصر النبوة والصحابة.

لقد أسّس المسلمون على امتداد تاريخهم السيادة العليا أو المشروعيّة العليا المقدّسة، وهي تقوم بحسب تصور أركون على فرعين: "أوّلا السيادة الإلهيّة العليا المتجسّدة والموضّحة في الوحي أي في القرآن وكذلك في السنّة أي تعاليم النبيّ الموجودة في كتاب الصحاح، ثانيا: السيادة البشريّة الممارسة من قبل الفقهاء المأذونين المؤهلين لممارسة الاجتهاد بشكل صحيح: أي الذين يعرفون كيفيّة تفسير النصوص المقدّسة."[5] وقد تمّ تحصين تلك الشرعيّة عبر منح النّصوص والقائمين عليها قداسة تمثّل جوهر الإسلام وروح الأسلمة. ففي الوعي السنّي مثلا لا فرق بين الطعن في الصحاح أو الطعن في القرآن، وفي المذهب الشيعي يمكن أن تتساوى مراتب الإساءة للذات الإلهيّة مع الإساءة للنبيّ أو الإمام عليّ بن أبي طالب؛ ذلك أنّ القداسة هي أشبه بتيّار كهربائيّ يمرّ عبر سلسلة من الرموز المتصلة بالأمكنة والأزمنة والشخصيّات المقدّسة. وترتبط تلك القداسة ارتباطا وثيقا بمعتنقيها، إذ يعتبر المساس بها تدنيسا ومحاولة للخروج عن النسق الديني الذي تؤمن به الجماعة. وبذلك، فإن التعامل مع النصوص والأماكن والشخصيات المقدسة ليس في الحقيقة سوى تعامل مع مجموعات تؤمن بها وتتفاوت درجات الردّ على منتقديها بين الردود الخطابيّة المندرجة ضمن تقاليد علم الكلام والردود العنيفة التي تشرعن العنف المادي ضدّ المتهمين بالإساءة للمقدسات. ولا يزال الارتباط وثيقا في كثير من الدول الإسلاميّة بين المقدّسات الدينيّة والنظم القانونيّة المستمدّة من التشريعات الفقهيّة. ولهذا لا يتوقّف سيل المحاكمات القائمة على التكفير وتهم التهجّم على الأديان والإساءة إلى رموزها. وحتّى الدساتير التي صيغت بعد التحولات الديمقراطيّة، ظلّت عاجزة عن تركيز مدنيّتها وأثبتت تبعيّتها لمنظومة الحفاظ على المقدّسات. وحتّى وإن تراخت الدولة في الردّ على "الإساءات"، فإنّ كثيرا من الناس سوف ينطقون بلسان السماء ويحتجّون باسم الحفاظ على المقدسات وعلى رأسهم الشيوخ وأئمّة المساجد الذين يقومون بالشحن الإيديولوجي والتعبئة ضدّ منتقدي الأشكال التقليديّة للتديّن والجريئين على تجاوز العقل الأرثوذكسي.

إنّ "العقل الدينيّ يبدو وكأنّه يستغلّ لحظات تأزم القيم والإيديولوجيات من أجل إعادة التأكيد على صحّة مبادئه وعدم المساس بتعاليمه التي تشمل كلّ ثوابت الوضعيّة الإنسانيّة مثل الحياة والعدالة والحب والأمل وأنساق اللامساواة والنفوذ والعنف واللاأمان والموت. هذا ما يحدث مع ما يسمّى بـ "عودة الدينيّ" بأشكال مختلفة حسب الظروف التاريخيّة والأوساط الاجتماعيّة الثقافيّة."[6]

تلك لا محالة عقبات لا يسهل تغييرها، لأنّ المؤسسة التقليديّة لا تزال تؤمن أن تكوين الذات المسلمة، لابدّ أن يمرّ حتما عبر المدارج التقليديّة كالكتاتيب والمدارس القرآنيّة وتلقين المعارف الفقهيّة، باعتبارها العلم الذي ينفع، واتباع المذهب الذي يحتكر أصحابه التأويل ويعتبرونه المسلك الوحيد نحو الحقيقة الدينيّة في إطار ما تبشّر به الجماعات الأصوليّة من شعارات "الصحوة الإسلاميّة" و"عودة الدينيّ". فضلا عن أنّ المساحات التي يهبها المجتمع للمؤسسات التقليديّة تفوق في قوّتها ومصادر دعمها المؤسسات الراعية للتجديد الديني. ولابدّ أن نستحضر هنا العلاقة بين الاعتقاد والبنية الاجتماعيّة، إذ إنّ المذهبيّة وهي الحاضنة الأساسيّة للدوغمائيّة الدّينيّة تفرض على الفرد منذ نشأته مجموعة من الحقائق التي تمثّل سلطة نفسيّة، وتحدّد لاحقا مسارات اختياراته الدينيّة والمعرفيّة؛ بمعنى أنها تمارس عنفا رمزيّا قد يصعب التأثير فيه أو تغييره خاصّة في إطار الإسلام الشعبيّ. وحتّى بالنسبة إلى النخب المؤمنة بالإصلاح، فإنّ أصواتها تظلّ ضعيفة وسط غوغاء الاعتقادات الراسخة، إن لم تُكفّر ويحكم على آرائها بالبدعة والضلال.

يواجه العقل المنبثق الصاعد مأزقا على المستوى السياسيّ أيضا، ففي ظلّ الحكم الفرديّ يتحصّن الحكّام المسلمون بالشرعيّة الدينيّة. ولذلك، فهم يسعون إلى استرضاء رجال الدين وقليلا ما يخوضون غمار تجارب التجديد خوفا من ردود الأفعال ومن مواقف الحركات الأصوليّة التي تقف على الربوة منتظرة الإساءة للدين وفق منظورها لتستغلّها ورقة للتشهير بالنظام الحاكم وإعلان كفره. وليست السياسة معزولة عن الدين منذ نشأته. "فالواقع أنّ السياسة موجودة منذ لحظات الخطاب القرآنيّ نفسه، هذا وقد حصلت لاحقا مصادرة أو تأميم الدين الوليد من قبل الدولة الأمويّة."[7] وتواصل هذا التأميم حتّى عصرنا الحاليّ، ولذلك فالشرعيّة الدينيّة المتنازع عليها تظلّ عامل جذب نحو المحافظة على الخطاب الديني والثبات في تأويله الذي يمثّل جوهرانيّة الإسلام وأساس الشرعيّة السياسيّة. أمّا الدّول التي خاضت تجربة الربيع العربي، فجلّ من تولّوا السلطة فيها هم سليلو الإسلام السياسيّ وإن أعلن البعض منهم الانسلاخ عنه. وشرعيّتهم الانتخابيّة قامت على ترويجهم فكرة أنّهم جاؤوا لنصرة الإسلام وتطبيق الشريعة، وإن كانت مجرّد شعارات وخطابات حماسيّة لكسب الأنصار. أمّا تعاملهم مع المنظومة الأرثوذكسية القديمة فأبعد ما تكون عن الإيمان بمبادئ العقل المنبثق الصاعد. فخوفهم المزمن من الديمقراطيّة وخشيتهم من سجلّات تكفيرها في سرديات المؤسسين لهذا التيّار، جعلهم لا يعتنقونها إلا حين اعتنقت بحسب تأويلهم الإسلام وصارت إسلاما ديمقراطيّا. ومجالسهم لا تزال مفتونة بمسميات إسلاميّة كالشورى، ومشاريعهم أيضا بعيدة عن الإبداع، إذ هي كثيرا ما تسترجع المسميات الاقتصاديّة القديمة لاكتساب الشرعيّة الدينيّة وإقناع المواطنين (وهم الخزان الانتخابيّ) بأسلمتها. ولهذا، فلم تشهد تجاربهم تجديدا في الخطاب الدينيّ ولا تغييرا للنظم التعليميّة، بل إنّهم تحصّنوا بالخطاب السلفيّ، ليكون عونا لهم يساعدهم في مشروع "أسلمة المجتمع" وتحقيق غاياتهم البراغماتيّة للبقاء في الحكم.

يظلّ العقل المنبثق الصاعد إذن رهين إخفاقات كثيرة: أوّلها عزلة النخبة وعجزها عن التأثير بشكل كبير في تديّن شعبيّ راسخ أصوله مذهبيّة ومحميّ من مؤسسات سياسيّة ودينيّة ويروّج له بشكل واسع في الخطب الجمعيّة وفي الوسائل الإعلاميّة وترسّخه منظومة العادات والتقاليد. وثانيا عدم وجود محرّك مدنيّ قويّ منبثق من المجتمع يمكن أن يهب العقل المنبثق الصاعد قوّته، فحريّة المرأة، رغم تحوّلها إلى ركن من أركان حقوق الإنسان المفكّر فيها بشكل واسع في العالم، فإنها تظلّ مدنّسة في كثير من المجتمعات الإسلاميّة، ولا يزال المتخيّل الذكوريّ (عند عامّة الناس خاصّة) مفتونا بممارسة السّلطة القهريّة وتشريع تعدّد الزوجات وتغليب نصيب الرجل على المرأة في الميراث، ومنع المرأة من الاختلاط وأداء أدوارها الطبيعيّة بمسوّغات دينيّة.

لعلّه من المخيّب للآمال أن تتحوّل كثير من قوى المجتمع المدنيّ بحكم ثقافة المنتمين إليها إلى واجهة للدّفاع عن الأرثوذكسية بدل نقدها ومحاولة تجديد المجتمع، بل إنّها وُظّفت في كثير من الأحيان للمحافظة على تلك النظم وترسيخها، مثل الجمعيات الخيريّة والقرآنيّة ومنظمات المحافظة على الأخلاق الحميدة أو الجمعيات الثقافيّة التي يشتغل المنتمون إليها داخل أنساق مذهبيّة منغلقة.

وليست السّياسة بدورها بوابة للتجديد الديني، وتمكين العقل المنبثق الصاعد من أداء أدواره. فالبحث عن الشرعيّة يمّر دوما في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة عبر مهادنة المؤسسات التقليديّة وعدم المساس بها، سواء أكان الحكم دكتاتوريّا أم ديمقراطيّا والوضع العولميّ الذي شهد هيمنة قطب واحد رسّخ اليقين بالفهم الهووي وضرورة المحافظة على مكتسبات الثقافات المحليّة في ظلّ الخوف من التذرّر والانحلال في سياقات العولمة المتوحّشة، بل إنّ التعامل العنيف الذي طبع سياسات الدول الغربيّة قدّ ولّد عنفا أصوليّا مضادّا يتحصّن بالجهاديّة ويعيد إنتاج الأنساق الأصوليّة المنغلقة.

وفي ظلّ هذه الآفاق المعتّمة، تظلّ مسارات التنوير أضيق من مسارات التكفير ويجد العقل الأصوليّ المؤمن بالعنف أسباب قوته في ظلّ ضعف صلة المسلم بالعقل النقديّ وبحثه الدؤوب عن المسالك السهلة في التأويل. إنّه يجد الراحة حين يتلقّى من إمام المسجد خطابا يلعن فيه أعداء الإسلام والمتآمرين عليه (بحسب تأويله) وينعت المعسكر الغربي بالفساد الأخلاقيّ والتكالب على المادة والكفر. ويصوّر النساء المتحررات بالمارقات عن الدين والمنتهكات لشرع الله بتبرّجهنّ واختلاطهنّ مع الذكور، وينتشي لأنه وجماعته وحدهم في ركاب الإيمان ينتظرون الموت والرحيل نحو جنان الخلد في مسارات إهدار العقل وإهدار الواقع.

غريب هذا العقل المنبثق الصّاعد وسط واقع من الجهل والزيف والخرافة. تنتفض فيه الشعوب على الدكتاتوريّة فتبتلى بالأصوليّة، وتحلم بالحريّة فيعاد تدوير المنظومة الأرثوذكسية بحلّة ديمقراطيّة.

  


[1] انظر: محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلاميّ (ترجمة هاشم صالح)، ط1، بيروت، دار الطليعة، 2009، ص 40

[2] انظر: المرجع نفسه، ص 33

[3] المرجع نفسه، ص 37

[4] لعلّنا نحتاج إلى الأسئلة التي طرحها علي حرب على المثّقف من أجل فهم الإخفاقات المتتالية التي مني بها في مشاريعه الإصلاحيّة: "لماذا لم يفلح المثقّفون في ترجمة شعاراتهم؟ ولماذا يتحوّلون إلى مجرّد "باعة للأوهام"؟ ...لماذا لم يتمكّنوا من تجديد عالم الفكر؟ ولماذا لم يستطيعوا ابتكار تركيبات مفهوميّة يسهمون من خلالها في تشكيل العالم المعاصر انطلاقا من مجال عملهم ونطاق تأثيرهم؟" علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، ط2، الدار البيضاء/ بيروت، المركز الثقافي العربي، 1998، ص97

[5] محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلاميّ، ص 90

[6] محمّد أركون، الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقديّ، (ترجمة محمود عزب)، ط1، بيروت، دار الطليعة، 2010، ص 163

[7] محمّد أركون، نحو نقد العقل الإسلاميّ، ص 328