كونية التقليد العلمي الإسلامي في الفلسفة الطبيعية: مقاربة تاريخية وابستيمولوجية لتطور الأفكار النظرية


فئة :  مقالات

كونية التقليد العلمي الإسلامي في الفلسفة الطبيعية:  مقاربة تاريخية وابستيمولوجية لتطور الأفكار النظرية

ملخص:

بعد التطور الذي عرفه تاريخ الفلسفة والعلوم من حيث القضايا والإشكالات، ابتداء من المرحلة الحديثة والمعاصرة، وخصوصا على مستوى تطور المناهج، مناهج قراءة وتحليل الخطابات العلمية والفلسفية، أصبح من الضروري الآن اعتماد هذه المناهج لإعادة قراءة وكتابة تاريخ الأفكار العلمية والفلسفية، وسدّ مجموعة من الثغرات التي تركتها القراءات الأيديولوجية والاستشراقية لتاريخ الفلسفة والعلوم، وخصوصا في مقاربتها للإسهامات النظرية في العصر الوسيط بشكل عام، والإسهامات العلمية والفلسفية في العالم الإسلامي بشكل خاص، وتحديدا في عدة مجالات نظرية كالإسهامات الفلسفية في الميتافيزيقا والمنطق والتصوف، والإسهامات العلمية كذلك في الفيزياء والرياضيات وعلم الفلك. وفي هذا المقال، سنحاول توضيح مدى أهمية الإسهامات العلمية والفلسفية التي قدمها مجموعة من الفلاسفة في العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط، كإسهامات ابن باجة وابن سينا وابن الهيثم، وهي إسهامات أساسية وعميقة ينبغي استحضارها أثناء التأريخ لتطور الأفكار العلمية والفلسفية؛ لأن هذه الإسهامات وخصوصا إسهامات ابن سينا وابن باجة وابن الهيثم، ستشكل نقطة تحول في ظهور قضايا وإشكالات ومفاهيم جديدة ابتداء من العصر الحديث، كما أن إسهاماتهم ستسهم ابستمولوجيا ومنهجيا في التطور الذي عرفته الأنساق النظرية العلمية والفلسفية معا.

مقدمة:

لقد شكلت بعض الدراسات التي تنطلق من خلفيات إيديولوجية (عرقية، تمجيدية، استشراقية ...) في تأريخها للفلسفة والعلوم، عائقا يحول أحيانا دون فهم المنطق الداخلي لتطور الأفكار النظرية، ولهذا، يبدو أن المقاربة التاريخية والإبستمولوجية هي المدخل الأساس لإعادة النظر في مجموعة من الدراسات المنجزة حول تاريخ الفلسفة والعلوم خصوصا في المرحلة الوسيطية، كما أن هذه المقاربة هي المدخل الأساس أيضا، لقراءة تاريخ الأفكار العلمية والفلسفية قراءة كونية، حيث إن كونية العلم، تستدعي منا التأريخ لمنطق تطور الأفكار بمعزل عن الذوات السيكولوجية، وذلك بتتبع المنطق الداخلي المتحكم في تاريخ الفكر العلمي والفلسفي؛ لأن بعض الدراسات لم تخرج عن نطاق إيديولوجي أو عرقي في التأريخ للأفكار العلمية والفلسفية، وهذا ما نجده مثلا في كتابات "إرنست رينان" الذي يعتبر أن الفلسفة في العالم الإسلامي هي بمثابة فلسفة إغريقية كتبت بلغة أو خط عربيين، ومن هنا ضرورة إعادة النظر في التأريخ السائد حول تاريخ الفلسفة والعلوم بشكل عام، والفلسفة الطبيعية الوسيطية بشكل خاص، وفق مقاربة تاريخية نسقية وابستمولوجية، من أجل إعادة كتابة تاريخ الأفكار النظري، والوقوف على أهم الإسهامات التي أدت إلى تطور الأنساق والتقاليد العلمية عبر تاريخ الفكر النظري .

  تاريخ العلم تاريخ واحد لكن بجغرافية متعددة، من هنا ينبغي تتبع الأسس التي ينبني عليها العلم في مبادئه ومنطقه وقيمه

الإسهامات النظرية للفلاسفة في العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط: نحو مقاربة ابستسمولوجية لتطور الأفكار النظرية

لفهم تاريخ تطور الأفكار العلمية والفلسفية بشكل عام وفي العصر الوسيط بشكل خاص، "لابد أن ننظر إلى العلم كنسق متنام من المشكلات، بدلا من النظر إليه كنسق من المعتقدات"[1]؛ لأن تاريخ العلم تاريخ واحد لكن بجغرافية متعددة، من هنا ينبغي تتبع الأسس التي ينبني عليها العلم في مبادئه ومنطقه وقيمه، كما ينبغي أيضا أن نميز بين منطق النظر ومنطق العمل؛ فالمنطق الأول هو السبب والمحرك الداخلي لتطور الأفكار العلمية والفلسفية. أما المنطق الثاني، فغالبا ما يرتبط بالمنفعة. فهذه العناصر تتداخل كلها وتساهم في تطور المعرفة العلمية، غير أن المحرك الأساسي لتطور الأنساق والتقاليد العلمية، هو الإشكالات النظرية - مثلا إشكال الحركة؛ لأنه على أساس إشكال علمي أو فلسفي تتأسس تصورات جديدة، ولهذا، "فإن رد نشأة العلم الحديث إلى تغير العلاقات الاقتصادية وحدها أو إلى ازدهار الفنون وحده أو إلى الدين المسيحي وحده، لن يقدم تفسيرا لهذه النشأة. إذ يحاول الفهم السليم تحليل الترابطات المفهومية فيما بين العلوم نفسها، وفي علاقتها مع المستجدات الفكرية والاجتماعية في شموليتها. فالفكر العلمي لا يتطور طبقا لما تحدده عقيدة ما؛ لأن له مجالا مستقلا نسبيا لفحص الفرضيات واختبارها، بأدوات القياس والحساب والتجريب"[2]، من هنا، فالعلم لا يرتبط بعرق أو حضارة أخرى، بل العلم يتطور كلما توفرت له الشروط النظرية، إضافة إلى بعض العوامل التي قد تساهم وتسرع أحيانا في تقدم وتطور العلم أو العكس في بعض الأحيان -العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية- غير أنه يبدو أن الإشكالات النظرية -العلمية والفلسفية- هي السبب والمحرك الأساس لتطور التقاليد والأنساق العلمية، وهذا ما تعززه المقاربة التاريخية والابستمولوجية، إذ، من خلال هذه المقاربة يبدو أن العلم الحديث هو نتيجة اشتغال وتراكم لإشكالات وتصورات نظرية بدءا بالمنظومة الفكرية الإغريقية والوسيطية، ثم عصر النهضة وصولا إلى العصر الحديث، فمثلا، لا يمكن ربط علم الفلك بكوبرنيك وحده، إذ، فعلا مع كوبرنيك حدثت ثورة علمية فلكية غيرت طريقة تفكير الإنسان وتصوره للعالم، حيث إن "الثورة الكوبرنيكية هي بمثابة ثورة فكرية أدت إلى تغير تصور الإنسان للكون وعلاقته الخاصة لهذا الكون"[3]، كما أن هذه الثورة الفلكية ستكون لها تداعيات عميقة على مجالات أخرى (فلسفية، ثقافية...)، لكن، لفهم هذه الثورة العلمية -الفلكية- لابد من تتبع أسسها وشروطها عبر تاريخ الفكر النظري، بدءا من أرسطو وبطليموس، ثم مرصد مراغة وصولا إلى إسهامات عصر النهضة؛ لأن "كل جيل من العلماء يستفيدون من خبرة الجيل السابق، حيث ينطلق اللاحق من المستوى الذي وصل إليه السابق في بلورة المسائل العلمية، لذا يسير اللاحق في طريق معبدة، يجد مفاهيم ناضجة نسبيا، وأدوات مهيئة للاختبار، بل يجد مشاريع مختمرة في ذهن السابق، لإجراء تجارب معينة"[4]، وهذا الأمر ينطبق على مجموعة من الحقول المعرفية والتقاليد العلمية، سواء في مجال علم الفلك أو البصريات، "فابن الهيثم مثلا وجد تقليدا للبحث في البصريات، سار فيه ابن سهل وأغناه، وابن سهل قبله سار في نفس التقليد الذي أغناه الكندي وثابت بن قرة، وهذان ورثا التقليد عن السابقين من علماء البصريات والهندسة أمثال أقليدس وبطليموس وغيرهما. إذن، يتم البحث العلمي دائما في أحضان تقليد للبحث، ذي جذور تاريخية غنية، على إثر النقد الداخلي للمفاهيم والتصورات، ومراجعة المبادئ ما أمكن"[5]. فالنقد الداخلي للتصورات العلمية يساهم في الانتقال من تقليد علمي إلى آخر، أو من نظرية إلى أخرى، وهذا ما يؤدي إلى بروز إشكالات وتصورات جديدة تسهم في تطور الفكر العلمي والفلسفي؛ لأن "الإطاحة بنظرية ما تخلق دائما مشكلات جديدة، ولكن حتى النظرية الجديدة التي لم يتم بعد الإطاحة بها سوف تخلق مشكلات جديدة"[6].ولذلك، فإن الإشكالات العلمية كما أشرنا سابقا، هي السبب والمحرك الداخلي الرئيس لتطور الأفكار العلمية والفلسفية عبر تاريخ الفكر النظري، كما أن تتبع المقاربة التاريخية والإبستمولوجية هي بمثابة مدخل أساس للإقرار بمدى كونية العلم، وهذا ما يتضح من خلال التطور الذي عرفته مجموعة من العلوم كعلم الفلك والبصريات والفيزياء "ومن أجل رصد مسيرة النمو العلمي يأخذ التأريخ المعاصر للعلوم صورة تاريخ إبستيمولوجي أو إبستيمولوجيا تاريخية تهدف إلى تحليل البنيات المفاهيمية والمادية التي تمثل حركية العلم في فترات تاريخية طويلة؛ وذلك بقصد الإحاطة بالتغيرات البنيوية التي تحدث في المنظومات المعرفية. ولتحديد العناصر الذاتية لكل تقليد ورصد ما يميزه عن التقاليد الأخرى، يرتكز برنامج الإبستيمولوجيا التاريخية من الناحية الإجرائية على منهجية مقارنة توضح الفروق والتباينات بين التقاليد العلمية. في المقابل، يؤدي الاقتصار على فحص محدود لعلم ما في مدة زمنية قصيرة إلى إصدار أحكام مغلوطة. وهذا ما يحدث في عدد من الدراسات العربية في ميدان تاريخ العلوم الإسلامية، عندما لا يجشم الدارس نفسه عناء الاطلاع على التقاليد العلمية الأخرى، فيصدر أحكاما غريبة ومثيرة للجدل لا يبررها إلا شعوره بالكفاية الفكرية، والتي تنبئ في الحقيقة عن جهل مطبق بمقتضيات البحث التاريخي"[7]. وفي هذا السياق، سنحاول انطلاقا من تتبع المقاربة التاريخية والإبستيمولوجية، توضيح مدى كونية التقليد العلمي الإسلامي في مجال الفلسفة الطبيعية. انطلاقا من السؤال الآتي: ما مكانة الإسهامات الفيزيائية -الطبيعية- التي قدمها كل من ابن سينا وابن باجة في تاريخ الأفكار النظرية بشكل عام وتاريخ الفلسفة الطبيعية بشكل خاص؟

 تضمنت فيزياء أرسطو مجموعة من الإشكالات، والإشكال الأساسي الذي شكل نقطة الانطلاق والتأسيس لتصوراته في مجال الفلسفة الطبيعية

إسهامات ابن سينا وابن باجة في تطور الأفكار العلمية والفلسفية:

يبدو من خلال كتب ابن سينا -كتاب الشفا- وابن باجة -شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس- أن إسهاماتهم في مجال الفلسفة الطبيعية على النقد الداخلي لتصورات أرسطو، وخصوصا تصوره في الحركة، إضافة إلى تصوراته في السرعة وعلاقة حركة الأجسام بالوسط. فكتاب "الطبيعة" لأرسطو هو بمثابة مرجع ومصدر أساس لمجموعة من التصورات والقضايا العلمية التي تأسست عليها الفلسفة الطبيعية؛ لأن أفكاره وتصوراته ستكون موضوعا للدراسة والشروحات خلال المرحلة الوسيطية وخصوصا في العالم الإسلامي، وكذلك في عصر النهضة مع مدرسة باريس ومدرسة أكسفورد وصولا إلى العصر الحديث مع غاليلي.

ولقد تضمنت فيزياء أرسطو مجموعة من الإشكالات، والإشكال الأساسي الذي شكل نقطة الانطلاق والتأسيس لتصوراته في مجال الفلسفة الطبيعية، هو الإشكال الآتي: ما الذي يجعل الجسم يستمر في حركته بعد انفصاله عن اليد القاذفة؟

من أهم القضايا والتصورات التي تمخضت عن هذا الإشكال، يمكن الإشارة إلى بعضها في هذا السياق، بشكل مختصر:

- يعتبر أن الجسم يحنّ إلى أصله ووضعه الطبيعي، وكلما اقترب منه تزداد سرعته، إذ يرى أرسطو أن "القذائف تتحرك عندما يكون الجسم الذي دفعها قد فارقها ويكون ذلك ناتجا، إما من قبل الدفع على التعاقب والمبادلة، وإما من قبل اندفاع الهواء بأسرع تحرك من الحركة الطبيعية للقذيفة نحو موضعها الخاص بها، إلا أنه في الفراغ ليس ولا واحد من هذين الفعلين يمكن أن يكون إجرائيا".[8]

-  فسر حركة الأجسام تفسيرا إحيائيا، بقوله إن الجسم يحنّ (يشتاق) إلى وضعه الطبيعي (التفسير الإحيائي).

- رفض أرسطو للفراغ أو الخلاء، حيث، عبر عن رفضه لهذا المفهوم نظرا لكونه يعبر عن فضاء خال من المادة، مما يجعل الحركة فيه مسألة متعذرة؛ لأنه لا نستطيع أن نميز فيه بين الاتجاهات الستة. لهذا رفض هذا المعطى الجديد، سواء في العالم ولا داخل الأجسام. إنه ليس ضروريا لقيام الحركة كما قد يتخيل، بل الفراغ يفقد الأشياء ميلها الطبيعي الذي يمكنه من أن تتنقل إلى فوق إذا كانت خفيفة، وإلى تحت إذا كانت ثقيلة. وعلى مستوى "النقلة الطبيعية إما أن لا يكون أي اتجاه لها إلى أية جهة من الجهات، وإما أن يكون افتراض الخلاء كشرط للحركة مجرد وهم"[9].

- للوسط -الهواء- دور أساسي في استمرار حركة الأجسام، "إذ، لا شيء يمكن أن يستمرّ في حركته ما لم يكن محمولا".[10]

ولقد شكلت هذه القضايا والإشكالات السابقة، موضوعا للدراسة ولمجموعة من الشروحات والتنقيحات والانتقادات خلال العصر الوسيط، وخصوصا في العالم الإسلامي مع ابن سينا وابن باجة، إضافة إلى أبي البركات البغدادي، حيث إن إسهاماتهم ستشكل حلقة علمية أساسية في تاريخ الفكر النظري بشكل عام وتاريخ الفلسفة الطبيعية بشكل خاص، إذ ستشكل اسهاماتهم العلمية والفلسفية بمثابة أرضية للتطور الذي عرفته الأفكار النظرية ابتداء من عصر النهضة وصولا إلى العصر الوسيط؛ لأن، "الخطأ الذي يرتكبه مؤرخو الفلسفة المسلمون والغربيون على السواء، هو أن هؤلاء يعتبرون تاريخ الفلسفة تاريخا للفلسفة الغربية، لذلك يعرضون الفلسفة الإسلامية بصورة عرضية، وفي ارتباط مع الفلسفة المسيحية في القرنين الثاني والثالث عشر، وليس في التاريخ الممتد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر؛ أي الفترة التي نشطت فيها. كما أن المؤرخين المسلمين من جهتهم يقعون في نفس الهفوات، حينما يتوقفون في تأريخهم عند الحقبة الإسلامية ولا يتعقبون اجتهادات الفلاسفة المسلمين في الغرب، على اعتبار أن القديس طوماس الإكويني الذي بلور أول فلسفة منسجمة مع المسيحية -وليس فلسفة مسيحية- وأسهم في وضع اللمسات الأخيرة على المنظومة المشائية، لم ينطلق من أرسطو الصرف، وإنما من أرسطو السينوي والرشدي؛ أي من الفلسفة المشائية في الصورة التي انتهت إليها مع ابن رشد. فهؤلاء جميعا شاركوا في بناء أول "براديغم" عرفته البشرية. وفيما يخص منظومة الذات التي حلت محل المنظومة المشائية، ألا تضرب بجذورها في التاريخ، وتمتد على الأقل إلى نصوص "حي بن يقظان" بمختلف رواياتها، مرورا بنص "تدبير المتوحد" الباجي. لكل هذه الاعتبارات، ننادي بقراءة كونية وشمولية لتاريخ الفلسفة دون تمييز ديني أو حضاري بين الفلاسفة الذين صنعوا هذا التاريخ"[11] من هنا، ضرورة إعادة قراءة تاريخ قراءة تاريخية وإبستمولوجية نسقية من أجل توضيح مدى كونية تاريخ الإسهامات التي قدمها بعض الفلاسفة في العالم الإسلامي، خصوصا في مجال الفلسفة الطبيعية.

 إن المؤرخين المسلمين من جهتهم، يقعون في نفس الهفوات، حينما يتوقفون في تأريخهم عند الحقبة الإسلامية ولا يتعقبون اجتهادات الفلاسفة المسلمين في الغرب

بخصوص إسهامات ابن سينا، يعد الشيخ الرئيس من أهم الفلاسفة في العصر الوسيط الذين ساهموا بشكل كبير في مجال الطبيعيات (العلم الطبيعي)، ويتضح ذلك، من خلال بنائه لتصوراته في العلم الطبيعي، حيث تبنى منهجية نقدية تجاه الفلسفة المشائية الأرسطية، وتحديدا بعض تصورات أرسطو الفيزيائية المتعلقة سبب استمرار حركة الأجسام الطبيعية وعلاقتها بالوسط، وستنتقل هذه التصورات والأفكار إلى أوروبا، بعد ترجمة بعض كتب ابن سينا من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية.

ولذلك، فإن مجموعة من التصورات التي تضمنتها فلسفة ابن سينا، ستسهم في التطور الذي عرفته الفلسفة الطبيعية خلال المرحلة الوسيطية وصولا إلى عصر النهضة، مما يعني، أن التصور الذي ستعرفه الفيزياء والكوسمولوجيا خلال العصر الحديث، هو تطور يجد أسسه في الإسهامات النظرية الوسيطية والسكولائية. "لأن الآراء والتصورات العلمية للعصر الوسيط وعصر النهضة ستسهم في التطور الذي عرفته الكوسمولوجيا"[12]. من هنا، فإن العلم بلغة طوماس كون يخضع لمجموعة من الانقلابات التي تساهم في الانتقال من تقليد علمي إلى آخر؛ لأن الانقلابات العلمية هي بمثابة حلقات تراكمية لمجموعة من الإشكالات التي تؤدي بشكل كلي أو جزئي إلى الإطاحة بالبارادايم القائم وإحلال آخر جديد متعارض معه محلّه. وهذا الأمر ينطبق على التطور الذي عرفته الفلسفة الطبيعية بدءا بأرسطو مرورا بالإسهامات الوسيطية مع ابن سينا وابن باجة، إضافة إلى الإسهامات السكولائية الفيزيائية وصولا إلى العصر الحديث، وهذا الأمر يعزز كونية العلم بشكل عام وأهمية الإسهامات العلمية الوسيطية في مجال الفلسفة الطبيعية، خصوصا إسهامات ابن سينا وابن باجة في التقعيد للمعالم الأولى للفيزياء اللاأرسطية؛ لأن كل تقليد علمي يتأسس انطلاقا من تنقيح بعض الثغرات التي تتضمنها التقاليد العلمية السابقة والعمل على تطويرها، وهكذا تتطور النظريات العلمية من تقليد علمي إلى آخر، وهذا يعني "أن أغلب الاختلافات الظاهرة بين النظرية العلمية القديمة والنظرية العلمية التي تعقبها هي اختلافات واقعية وحقيقية؛ لأنها تعكس الفروق القائمة بين البارادايمات المتعاقبة، والتي هي في جميع الأحوال متعارضة يقوم الجديد منها على أنقاض القديم، مما يجعل التوفيق بينها متعذرا: إنها تلقننا أشياء مختلفة ومتباينة بخصوص الظواهر. فالباراديمات لا تختلف بمضمونها، فحسب، باعتبار أن وجهتها ليست صوب الطبيعة فحسب، بل إنها أيضا وعلى النقيض، صوب العلم الذي أفرزها، فهي تعين المناهج وطرائق البحث، كما تحدد مستويات الحل التي تناسب، في فترة ما من الفترات، مشكلات علمية ما في ميادين بلغت النضج. لذا، فإن قيام بارادايم جديد يتطلب، في أغلب الأحوال، إعادة بناء المعنى وإعادة ترتيب أوراقه ومشكلاته، فيتغير تبعا لذلك مستوى أجوبته على هذه الأخيرة، وكذا معيار العلمية؛ أي تحدث هزة انقلابية عنيفة في التقليد العلمي السوي تترك آثارها القوية الناجمة عن إزاحة بارادايم والإطاحة به"[13]. ولذلك، فإن الانتقال من تقليد علمي إلى آخر تحركه الإشكالات النظرية التي تسهم في تطور التقاليد والأنساق العلمية. والتقليد العلمي الوسيطي في الفلسفة الطبيعية، خصوصا في العالم الإسلامي، يمثل حلقة مفصلية في تاريخ الفكر العلمي؛ لأنه يربط بين التقليد العلمي الإغريقي وتحديدا الأرسطي والتقليد العلمي السكولائي في عصر النهضة وصولا إلى العصر الحديث مع غاليلي؛ لأن التصورات الأرسطية في الفلسفة الطبيعية تضمنت مجموعة من الثغرات والإشكالات، التي ستكون موضوعا للدراسة والنقد والتنقيح والشروحات خلال العصر الوسيط من طرف ابن سينا وابن باجة، وبعد عملية الترجمة من العربية إلى اللاتينية، ستنتقل مجموعة من التصورات العلمية -تصورات ابن سينا وابن باجة وابن رشد..- إلى أوروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث ستسهم هذه التصورات بعد استيعابها وتمحيصها في إغناء النقاش العلمي والفلسفي خلال عصر النهضة، خصوصا مع مدرسة باريس. وخصوصا الشروحات والتنقيحات التي قدمها مجموعة من الفلاسفة في العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط. فأفكار ابن باجة* مثلا، ساهمت في التطور الذي عرفته الفيزياء الحديثة من خلال الشروحات التي قدمها حول كتاب "السماع الطبيعي" لأرسطو، ففلسفة ابن باجة تضمنت في ثناياها معالم التفسير السببي للطبيعية" من خلال بحثه عن المبادئ المفسرة لمجموعة من الظواهر في العالم"[14]. كما أن الأهمية النظرية لإسهامات ابن باجة بشكل عام تتجلى أساسا في المنهجية النقدية التي أسس عليها تصوراته وشروحاته، وخصوصا من خلال نقده لقانون أرسطو في الحركة ونقده لشراح أرسطو، مما جعل اسهاماته العلمية حلقة نظرية أساسية في تاريخ الفلسفة الطبيعية.

  الانتقال من تقليد علمي إلى آخر تحركه الإشكالات النظرية التي تسهم في تطور التقاليد والأنساق العلمية

إذا كانت تصورات أرسطو الفيزيائية قد عمرت ردحا كبيرا من الزمان إلى حدود القرن السابع عشر، فإن الإسهامات التي قدمها مجموعة من الفلاسفة في العصر الوسيط، خصوصا في العالم الإسلامي، كشفت عن بعض الهفوات والثغرات التي تضمنتها فيزياء أرسطو، وخصوصا في تصوره لإشكال الحركة باعتباره موضوعا أساسيا للفيزياء، إذ كما نعلم فقد صنف المعلم الأول الحركة إلى حركة طبيعية، وأخرى قسرية، مؤدى هذه الأخيرة أن كل ما يتحرك من الأشياء الجامدة، مدفوع بقوة خارجية ملامسة له، ففي حالة الحركة القسرية يجب على الجسم المحرك أن يظل ملامسا للجسم المتحرك ومصاحبا له، ليمنعه من العودة إلى مكانه الطبيعي، فإذا رمى الإنسان بحجر (حركة قسرية) يجب على اليد أن تظل ملامسة له تمنعه من السقوط، لكن الواقع يكذب هذا القول؛ لأن الجسم يظل متحركا، رغم انفصاله عن الجسم المحرك له، إلى أن يسقط بعيدا، فما يجعله يستمر في حركته؟ يجيب أرسطو عن هذا الإشكال بأن الهواء عنصر أساسي يحمل الجسم ويساعده على حركته. وكانت هذه من بين الثغرات التي تضمنها التقليد العلمي الفيزيائي الأرسطي، والتي ستكون موضوعا للنقد والتنقيح من طرف جون فيلوبونيس، ثم ابن سينا وابن باجة، إضافة إلى فلاسفة مدرسة باريس -جون بيريدان ونيكولا أوريسم- وصولا إلى غاليلي.

خلاصة:

يبدو من خلال تتبعنا لتاريخ الفلسفة الطبيعية بشكل خاص، وتاريخ الأفكار النظرية بشكل عام، أن الثورة العلمية الحديثة، هي بمثابة نتيجة لمجموعة من الإسهامات العلمية والفلسفية التي أنجزت في التقاليد العلمية السابقة -التقليد العلمي الإغريقي، التقليد العلمي الإسلامي واللاتيني- وفي هذا السياق تتجلى أهمية المقاربة التاريخية والإبستمولوجية، كمقاربة منهجية تساعدنا بشكل كبير في فهم منطق تطور الأفكار النظرية، ومدى كونية هذه الأفكار العلمية، خصوصا في مجال الفلسفة الطبيعية. فالثورة الفيزيائية الحديثة مع غاليلي مثلا هي نتيجة لمجموعة من الإسهامات التي قدمها "جون فيلوبونوس" خلال القرن السادس الميلادي وابن سينا وابن باجة خلال العصر الوسيط في العالم الإسلامي، إضافة إلى إسهامات مدرسة باريس مع جون بيريدان ونيكولا اوريسم وصولا إلى العصر الحديث.

من هنا، يتضح أن تاريخ الفلسفة الطبيعية عبارة عن حلقات نظرية متكاملة ومتداخلة، ساهمت بشكل كبير في الانتقال إلى تصور جديد للعالم، خصوصا خلال العصر الحديث، الذي شكل نقطة مفصلية في تاريخ الفكر العلمي وتتويجا للإسهامات النظرية السابقة، التي ساهمت في الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي، ومن منظومة الموضوع إلى منظومة الذات، وهكذا، نستخلص مدى كونية تاريخ العلم بشكل عام والإسهامات العلمية* التي قدمها كل من ابن سينا وابن باجة في العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط، والتي يمكن اعتبارها بمثابة حلقة علمية أساسية في تاريخ الفكر النظري بشكل عام والفلسفة الطبيعية بشكل خاص.

 

المراجع العربية:

*- أرسطو، السماع الطبيعي، ترجمة، عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق 1998

*- بناصر البعزاتي:

- الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان- الرباط، الطبعة الأولى 1999

- فكرة التقدم في العلم وجهة نظر "كون"، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112، تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004

*- توماس جولدشتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث، من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة. تصدير، إيزاك أسيموف، ترجمة، أحمد حسان عبد الواحد. عالم المعرفة العدد 296، شتنبر 2003

*- كارل بوبر، أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير، مارك أ. نوترنو، ترجمة، *- يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292 أبريل/ ماي 2003

*- محمد أبطوي، "من علم الحيل إلى علم الأثقال: ولادة ثانية للميكانيكا"، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112 تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004

*- عبد المجيد باعكريم، "العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا" مجلة وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة مكناس، عنوان العدد، العنف مقاربات فلسفية، العدد14، أبريل 2009

المراجع الأجنبية:

- Thomas Kuhn, La Révolution copernicienne, traduit de L’anglais par Avram Hayly, Fayard 1973

- Abdelmajid Baakrime, " Du monde divisé à l’univers réunifié: contribution à une histoire différentielle des sciences " Les éléments paradigmatiques thématiques et stylistiques dans la pensée scientifique, Université Mohammed V publications de la faculté des Lettres et des Sciences humaines-Rabat, Série: colloques et séminaires N 116 

[1] كارل بوبر، أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير، مارك أ. نوترنو، ترجمة، يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292 أبريل/ ماي 2003، ص.133

[2] بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان- الرباط، الطبعة الأولى 1999.

ص.128

[3] Thomas Kuhn, La Révolution copernicienne, traduit de L’anglais par Avram Hayly, Fayard 1973, p.9

[4] بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان- الرباط، الطبعة الأولى 1999.

ص. 134

[5] المرجع نفسه، ص. 134

[6] كارل بوبر، أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير، مارك أ. نوترنو، ترجمة، يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292 أبريل/ ماي 2003، ص.132

[7] محمد أبطوي، "من علم الحيل إلى علم الأثقال: ولادة ثانية للميكانيكا"، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112، تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004، ص.91

[8] أرسطو، السماع الطبيعي، ترجمة، عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق 1998، ص.124

[9] المصدر نفسه، ص.124

[10] المصدر نفسه، ص. 124

[11] عبد المجيد باعكريم، "العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا" مجلة وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة مكناس، عنوان العدد، العنف مقاربات فلسفية، العدد14، أبريل 2009، ص.94

[12] Thomas Kuhn, La Révolution copernicienne, traduit de L’anglais par Avram Hayly, Fayard 1973, p.106

[13] بناصر البعزاتي، "فكرة التقدم في العلم وجهة نظر "كون"، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112، تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004، ص.24.

* "Même si Avempace garde, par ailleurs, et par la force du paradigme, la phraséologie aristotélicienne, mouvement naturel- mouvement violent, il n’en pas moins l’initiateur d’un processus qui finira par effacer, à terme cette dualité. En effet, le fait de considérer comme naturel, le mouvement qui se déroulerait en l’absence de toute résistance, autrement dit dans le vide, cela signifie que le mouvement réel est un mouvement non- naturel c’est- à- dire, un mouvement forcé, attendu que le monde est plenum.

Ce faisant, Avempace cherchait les principes explicatifs des phénomènes du monde actuel, dans un monde potentiel, idéal et imaginaire ; une sorte de monde-laboratoire, ou les faits sont isolés par le pouvoir de la pensée, et les lois révélées par la force du raisonnement. Or, c’est cette approche qui aboutira au XVII ème siècle à une conception de la matière dépouillée de toute efficace et livrée à sa pure inertie, fondement de la science moderne.

[14] Abdelmadjid Baakrime, " Du monde divisé à l’univers réunifié: contribution à une histoire différentielle des sciences " Les éléments paradigmatiques thématiques et stylistiques dans la pensée scientifique, Université Mohammed V publications de la faculté des Lettres et des Sciences humaines-Rabat, Série: colloques et séminaires N 116, p. 58

* إن الإسهامات العلمية التي قدمها مجموعة من الفلاسفة خلال العصر الوسيط في مجالات نظرية مختلفة، هي التي جعلتنا نقر بمدى كونية الإسهامات النظرية التي قدمها مجموعة من الفلاسفة في العالم الإسلامي، وهذا ما يتضح لنا من خلال تتبع الإشكالات المحركة لتاريخ الفلسفة الطبيعية، انطلاقا من أرسطو وفي العالم الإسلامي مع ابن سينا وابن باجة ثم في الغرب اللاتيني وصولا إلى العصر الحديث. فمن خلال تتبعنا لهذه التقاليد العلمية يتضح أن الإسهامات العلمية في مجال الفلسفة الطبيعية هي بمثابة حلقات متداخلة ومتكاملة يتأسس فيها اللاحق على السابق من خلال نقد وتعديل وتنقيح بعض التصورات وصياغة تصورات وأفكار علمية جديدة كما هو الحال في الإشكال المتعلق بحركة الأجسام الطبيعية. كما أن كونية الإسهامات العلمية تتجلى أيضا في حقول ومجالات معرفية أخرى كالبصريات والفلك. ولتعزيز هذه الفكرة، يؤكد الباحث توماس جولدشتاين أنه "قد أتاحت ثروة المعطيات التي قدمها العالم الإسلامي للغرب أن تملأ الخصوص العريضة للكون الفلسفي الجديد بتفاصيل لا نهاية للعلوم المتخصصة المتطورة فعلا، التي يجسد كل منها مخزونا ثريا من الخبرة في ملاحظة الطبيعة" (انظر: توماس جولدشتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث، من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة. تصدير، إيزاك أسيموف، ترجمة، أحمد حسان عبد الواحد. عالم المعرفة العدد 296، شتنبر 2003).