لاهوت السوق: كيف استعارت النيوليبرالية بنى الخطاب الديني لتبرير "النظام الطبيعي" للرأسمالية؟

فئة :  مقالات

لاهوت السوق: كيف استعارت النيوليبرالية بنى الخطاب الديني لتبرير "النظام الطبيعي" للرأسمالية؟

لاهوت السوق: كيف استعارت النيوليبرالية

بنى الخطاب الديني لتبرير "النظام الطبيعي" للرأسمالية؟

مقدمة:

في البدء، لم تكن الكلمة. كانت الحاجة. ومن رحم الحاجة، وُلدت المقايضة. ثم أتت العملة، فالسوق، فالرأسمالية. تبدو القصة خطّية، منطقية، وبريئة كأي حكاية تطور طبيعي. لكن ماذا لو كانت هذه القصة تخفي تحت سطحها السردي الهادئ، دراما لاهوتية عاصفة؟ ماذا لو كانت الرأسمالية، في طورها النيوليبرالي المتأخر، ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي دينٌ مكتمل الأركان، لكنه دينٌ قاسٍ، لا يعرف الغفران؟

هذا البحث ليس مجرد مقارنة عابرة أو تشبيه بلاغي. إنه يطرح أطروحة جذرية: النيوليبرالية(*) لا "تشبه" الدين، بل هي تعمل كبنية دينية علمانية، نجحت في احتلال الفضاء الذي تركته الأديان التقليدية شاغراً في قلب الحداثة. لها إلهها الخاص، أنبياؤها، كتبها المقدسة، طقوسها، خطاياها، ووعدها بالخلاص. لكنه خلاصٌ دنيويٌّ مؤجلٌ على الدوام، وخطيئةٌ لا سبيل للتكفير عنها.

إلهها هو "السوق": كائنٌ مجرّد، كليُّ العلم والقدرة والحضور. هو "العارف" الذي لا تخفى عليه خافية، يحدد قيمة كل شيء وكل شخص من خلال آلية الأسعار المعصومة. وهو "القادر" الذي لا رادّ لقضائه، فأحكامه تُنفّذ كقوانين طبيعية، ومقاومتها ضربٌ من الجنون أو الهرطقة. وهو "الحاضر" في كل مكان، يقتحم أخصّ خصوصياتنا، من صحتنا وتعليمنا إلى علاقاتنا العاطفية، محوّلاً إياها إلى "رأس مال بشري" قابل للاستثمار والقياس. هذا الإله، مثل آلهة الأساطير القديمة، لا يَعِدُ بالعدل، بل يَعِدُ بالنظام.

أنبياؤه هم آباء الفكر الليبرالي، من آدم سميث الذي بشر بـ"اليد الخفية" كشكل من أشكال العناية الإلهية المعلمنة، إلى فريدريش هايك الذي حذّر من خطيئة "التخطيط" الكبرى، وصولاً إلى كهنة العصر الحديث من خبراء الاقتصاد في البنك الدولي وصندوق النقد، الذين يفسرون "إرادة" السوق الغامضة للجماهير، ويقدمون صكوك الغفران على شكل "برامج إصلاح هيكلي".

كتبه المقدسة هي نظريات "كفاءة السوق" و"الاختيار العقلاني"، نصوصٌ تُتلى بقداسة في كليات إدارة الأعمال، وتُعتبر كلمتها هي الفصل. أما طقوسه، فهي لا تُمارس في المعابد، بل في البورصات ومراكز التسوق. المضاربة المحمومة هي صلاةٌ من أجل الربح، والاستهلاك المفرط هو قربانٌ يُقدّم لإله السوق لضمان استمرار "النمو" المقدس.

لكن ما يجعل هذا "الدين" فريداً في قسوته، هو مفهومه للخطيئة والخلاص. كما لاحظ المفكر الألماني فالتر بنيامين في رؤيته الثاقبة، فإن الرأسمالية هي "دينٌ يُوَلِّدُ الذنب، لا يُكَفِّرُ عنه". الخطيئة الأصلية في هذا اللاهوت هي الفشل: الفقر، البطالة، عدم القدرة على المنافسة. وبدلاً من أن يكون هذا الفشل دليلاً على ظلم النظام، يُقدَّم كدليل على ذنب الفرد نفسه. أنت لم تعمل بجد كافٍ، لم تكن مرناً بما يكفي، لم تستثمر في ذاتك جيداً. أنت المذنب.

وهنا يكمن الفرق الجوهري: الأديان التقليدية، على الأقل، كانت تقدم مساراً للتوبة والغفران. أما في دين السوق، فالذنب (Guilt) هو نفسه الدَّين (Debt). أنت مدينٌ للنظام، وعليك أن تقضي حياتك في محاولة سداد هذا الدَّين عبر المزيد من العمل والمنافسة، في حلقة مفرغة من القلق والسعي الذي لا ينتهي. الخلاص هنا ليس نجاةً روحية، بل هو "نجاحٌ" مادي مؤقت، شبحٌ يلوح في الأفق، كلما اقتربت منه ابتعد.

هذا البحث، إذن، هو رحلة حفر أركيولوجية في طبقات الخطاب النيوليبرالي. سنستخدم معاول ماركس لنكشف كيف يعمل هذا الدين كـ"أفيون" يخدرنا عن وعي الاستغلال البنيوي. وسنستعير مطرقة نيتشه لنهشم أصنام "أخلاق السوق" التي تقدس الضعف تحت مسميات "المرونة" و"التكيف". وسنتبع خيط فوكو لنرى كيف تحولت هذه العقيدة إلى "عقلانية حكم" تدير أرواحنا بقدر ما تدير ثرواتنا.

إنها محاولة لفهم كيف وصلنا إلى لحظة تاريخية، أصبح فيها التشكيك في حتمية السوق أكثر صعوبة من التشكيك في وجود الله. وكيف أصبحنا "مؤمنين" في دينٍ لا يَعِدُنا بالجنة، بل يتركنا في جحيم المسؤولية الفردية اللانهائية.

1- "المؤمن" النموذجي: صناعة الإنسان الاقتصادي (Homo Oeconomicus)

إذا كان لكل دين نموذجه المثالي للإنسان (القديس، النبي، العارف بالله)، فإن دين السوق قد صاغ أيقونته الخاصة: "الإنسان الاقتصادي". هذا الكائن ليس مجرد فاعل عقلاني يسعى لتعظيم منفعته كما صورته الاقتصاديات الكلاسيكية، بل هو مشروع وجودي متكامل، هو "رائد أعمال لذاته" (an entrepreneur of the self)، على حد تعبير ميشيل فوكو في تحليلاته الثاقبة لميلاد الليبرالية الجديدة. في هذا العنصر، سنفكك كيف تم بناء هذا النموذج، وكيف حُوِّل كل فرد إلى "مؤمن" مسؤول عن خلاصه الشخصي في سوق الحياة.

أ‌-  من المواطن إلى "رأس المال البشري"

في الدولة الاجتماعية التي سبقت الصعود النيوليبرالي، كان الفرد يُعرَّف في المقام الأول بصفته مواطناً ضمن جماعة سياسية. كان له حقوق (كالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي) وعليه واجبات. كانت الدولة هي الضامن لهذه الحقوق، والفرد هو عضو في "جسد" الأمة.

النيوليبرالية قامت بانقلاب هادئ ولكن جذري على هذا المفهوم. لقد أعادت تعريف الفرد ليس كمواطن، بل كمجموعة من الأصول القابلة للاستثمار: "رأس مال بشري". هذا المفهوم، الذي طوره اقتصاديون من مدرسة شيكاغو مثل غاري بيكر (Gary Becker)، هو حجر الزاوية في اللاهوت النيوليبرالي.

وفقاً لهذا المنظور:

  • تعليمك ليس لتنوير عقلك، بل هو استثمار في "رأس مالك المعرفي" لزيادة قيمتك في سوق العمل.
  • صحتك ليست حقًّا إنسانيًّا، بل هي صيانة لـ"رأس مالك الجسدي" لضمان استمرارية إنتاجيتك.
  • علاقاتك الاجتماعية وشبكة معارفك (Networking) ليست تواصلاً إنسانياً، بل هي استثمار في "رأس مالك الاجتماعي".
  • حتى مظهرك الخارجي و"جاذبيتك" الشخصية، هي أصول ضمن "رأس مالك الرمزي".

بهذا، يتحول الإنسان من كائن له قيمة ذاتية (intrinsic value) إلى كائن له قيمة سوقية (market value) فقط. أنت لا "تكون"، بل أنت "تساوي". وقيمتك ليست ثابتة، بل هي في تقلب مستمر، مثل أسعار الأسهم في البورصة، وعليك أن تعمل طوال حياتك على "تحسين" هذه القيمة.

ب- المنافسة كفريضة، والمسؤولية كعقيدة

بمجرد تحويل كل فرد إلى "شركة مساهمة فردية" (Me Inc.)، يصبح المبدأ المنظم للحياة هو المنافسة. لم تعد المنافسة مجرد آلية اقتصادية، بل أصبحت فريضة أخلاقية وضرورة وجودية. أنت في سباق دائم مع الجميع، في كل المجالات. عليك أن تكون "الأفضل"، "الأكثر كفاءة"، "الأكثر جاذبية" للسوق.

هذه الفريضة تستبطن عقيدة مركزية أخرى: المسؤولية الفردية المطلقة. كما تشرح المفكرة السياسية ويندي براون (Wendy Brown) في كتابها "تقويض الديموس" (Undoing the Demos)، فإن النيوليبرالية تخصص "النجاح" و"الفشل" بشكل فردي بحت، متجاهلةً أي عوامل بنيوية أو اجتماعية.

  • إذا نجحت، فهذا لأنك كنت "رائد أعمال" ناجحاً لذاتك. الفضل كله يعود لك.
  • إذا فشلت (فقدت وظيفتك، أفلست، مرضت)، فهذا خطؤك وحدك. أنت لم تكن قادراً على المنافسة، لم تتكيف مع متطلبات السوق، لم تستثمر في نفسك جيداً.

هذه العقيدة لها وظيفة لاهوتية مزدوجة وقوية:

1. تبرئة النظام: هي تبرئ ساحة النظام الرأسمالي من أي مسؤولية عن خلق الفقر أو البطالة أو عدم المساواة. فالمشكلة ليست في قواعد اللعبة الظالمة، بل في اللاعبين "السيئين".

2. توليد الخزي والذنب: هي تغرس في الفرد شعوراً عميقاً بالذنب والخزي عند الفشل. هذا الشعور يمنعه من التمرد على النظام، ويدفعه بدلاً من ذلك إلى لوم نفسه ومحاولة "تحسين ذاته" بشكل محموم، عبر المزيد من الدورات التدريبية، وكتب المساعدة الذاتية، والعمل الإضافي. إنه شكل من أشكال "جلد الذات" الديني، لكن في سياق علماني.

وهكذا، يكتمل بناء "المؤمن" النيوليبرالي النموذجي: كائنٌ قلق، معزول، في سباق دائم، يشعر بأنه مسؤول مسؤولية كاملة عن مصيره في عالم لا يرحم. هو لا يخدم الله، بل يخدم "السوق". وخلاصه ليس في الآخرة، بل في تحقيق "النجاح" المادي الذي يظل دائماً بعيد المنال. لقد تم تحريره من قيود المجتمع التقليدي، فقط ليتم تقييده بسلاسل "حريته" التنافسية.

2- السوق كـ"إله غائب حاضر": بنيات لاهوتية في الخطاب النيوليبرالي

لم يعد "السوق" في الخطاب النيوليبرالي مجرد مكان للقاء الباعة والمشترين، بل تحول إلى مبدأ ميتافيزيقي، قوة شبه إلهية تحكم العالم بقوانين صارمة وغامضة. هو "إله غائب" لأنه لا يملك جسداً أو صورة، و"حاضر"؛ لأن أثره وقراراته تتخلل كل تفاصيل حياتنا. هذا الفصل سيحلل كيف تم بناء هذا "اللاهوت العلماني"، مستلهماً فكرة كارل شميت (Carl Schmitt) في كتابه "اللاهوت السياسي" بأن "كل المفاهيم الهامة في نظرية الدولة الحديثة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة". سنطبق هذه العدسة النقدية على مفاهيم الاقتصاد.

أ- ثالوث الصفات الإلهية في "كفاءة السوق"

إن عقيدة "كفاءة السوق" (Market Efficiency) هي حجر الزاوية في هذا اللاهوت، وهي تقوم على إيمان بثالوث من الصفات الإلهية المنسوبة للسوق:

  • العلم المطلق (Omniscience): يرى منظّرون مثل فريدريش هايك (Friedrich Hayek) في مقاله الشهير "استخدام المعرفة في المجتمع"، أن المعرفة البشرية متفرقة ومجزأة بطبيعتها، ولا يمكن لأي عقل مركزي (حكومة، لجنة تخطيط) أن يجمعها ويفهمها. السوق، وفقط السوق، هو من يمتلك القدرة الخارقة على معالجة هذه التريليونات من المعلومات المتناثرة بشكل فوري، وتلخيصها في معلومة واحدة بسيطة ومقدسة: السعر. السعر هنا ليس مجرد رقم، بل هو "كلمة" السوق التي تكشف الحقيقة. بهذا المعنى، السوق "يعرف" كل شيء، وأي محاولة للتدخل في آلية الأسعار هي بمثابة تحدٍ لعلمه المطلق، وخطيئة كبرى تؤدي إلى الفوضى.
  • القدرة المطلقة (Omnipotence): بما أن السوق هو الأعلم، فإن قراراته تمتلك قوة حتمية لا تقاوم. مفاهيم مثل "قوى السوق" أو "ضغط السوق" تُقدَّم في الخطاب الإعلامي والسياسي وكأنها ظواهر طبيعية كالأعاصير والزلازل. إذا "قرر" السوق أن صناعة ما يجب أن تموت، أو أن دولة ما يجب أن تُفلس، فإن هذا يُعدّ قضاءً وقدراً. مقاومة هذه القوة ليست فقط غير مجدية، بل هي خطيرة. الدول التي تتحدى "إرادة" السوق تُعاقَب فوراً بهروب رؤوس الأموال وانهيار عملتها. إنها القدرة المطلقة التي تجعل من "الخضوع" للسوق فضيلة ومن "التحدي" حماقة.
  • الحضور المطلق (Omnipresence): في اللاهوت النيوليبرالي، لا توجد منطقة "مقدسة" أو "محمية" من منطق السوق. فكرة غاري بيكر عن توسيع التحليل الاقتصادي ليشمل كل السلوك البشري (من الزواج والجريمة إلى الإنجاب) فتحت الباب أمام السوق ليكون حاضراً في كل مكان. التعليم يجب أن يخضع للمنافسة (المدارس الخاصة)، الصحة يجب أن تُدار كعمل تجاري (التأمين الصحي الخاص)، وحتى الفن والثقافة يجب أن يبررا وجودهما عبر "الاستدامة المالية". لم يعد هناك شيء "لا يُقدَّر بثمن" (priceless)؛ كل شيء له سعره، وكل شيء خاضع لحكم السوق.

ب- علمنة المفاهيم اللاهوتية: من العناية الإلهية إلى يوم الحساب

إن بناء هذا الإله الجديد تطلب استعارة مفاهيم لاهوتية راسخة وإعادة صياغتها في قالب اقتصادي علماني:

  • اليد الخفية (The Invisible Hand): هذا المفهوم الذي صاغه آدم سميث (Adam Smith) كان في الأصل تعبيراً عن إيمانه بوجود "عناية إلهية" تنظم الانسجام الاجتماعي من وراء فوضى المصالح الفردية. النيوليبرالية أخذت هذا المفهوم، وبترت جذوره اللاهوتية الصريحة، وحولته إلى عقيدة شبه علمية. أصبحت "اليد الخفية" هي التفسير السحري لكل شيء: كيف أن السعي الأناني للربح يؤدي بأعجوبة إلى خير الجميع. إنها معجزة دائمة في قلب النظام.
  • الأزمة الاقتصادية (Economic Crisis): في لاهوت السوق، لا تحدث الأزمات بشكل عشوائي. إنها دائماً نتيجة "خطيئة" ما، وهذه الخطيئة هي التدخل البشري في عمل السوق المقدس. سواء كان هذا التدخل على شكل قوانين تنظيمية مفرطة، أو نقابات عمالية قوية، أو إنفاق حكومي زائد. الأزمة هنا هي شكل من أشكال "يوم الحساب" أو "العقاب الإلهي" الذي يعيد النظام إلى "صوابه" عبر التدمير والتطهير. الحل دائماً هو المزيد من "الإيمان" بالسوق، والمزيد من "التوبة" عبر سياسات التقشف.
  • الخبراء الاقتصاديون والوكالات الدولية: لكل دين كهنته، ودين السوق ليس استثناءً. الخبراء الاقتصاديون، والمحللون الماليون، وممثلو وكالات التصنيف الائتماني (مثل Moody's و S&P)، ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، يلعبون دور طبقة الكهنوت. هم من يمتلكون "المعرفة السرية" (Gnosis) لتحليل البيانات المعقدة، وتفسير "إرادة" السوق للجماهير غير المطلعة، وإصدار الأحكام على الدول والشركات (رفع أو خفض التصنيف الائتماني)، وتقديم "الوصفات" للخلاص (برامج الإصلاح). إنهم الوسطاء بين الإله الغامض وعامة المؤمنين.

بهذا يكتمل بناء الصرح اللاهوتي. لدينا إله بصفات مطلقة، وعقيدة مركزية، ومفاهيم معلمنة، وطبقة كهنوتية. أصبح السوق قوة متعالية، منفصلة عن البشر الذين صنعوها، وأصبحنا نحن البشر مجرد موضوعات خاضعة لمشيئته.

3- نقد الأخلاق النيوليبرالية: مطرقة نيتشه وسيف ماركس

كل دين ينتج منظومته الأخلاقية الخاصة؛ مجموعة من الفضائل والرذائل التي توجه سلوك المؤمنين وتمنحهم شعوراً بالصواب والخطأ. ودين السوق ليس استثناءً. إنه يروج لمجموعة من "الفضائل" العصرية مثل "المرونة"، "التكيف"، "روح المبادرة"، و"المسؤولية الفردية". لكن ماذا لو كانت هذه الفضائل اللامعة ليست سوى الوجه الآخر لأخلاق الضعف والخضوع؟ وماذا لو كانت هذه المنظومة الأخلاقية بأكملها مجرد "بنية فوقية" تبرر وتخفي علاقات استغلال مادية؟ في هذا الفصل، سنشن هجوماً مزدوجاً على هذه الأخلاق.

المبحث الأول: النيوليبرالية كـ"أخلاق عبيد" جديدة (منظور نيتشوي)

قدم فريدريش نيتشه (Friedrich Nietzsche) في كتابه "جينالوجيا الأخلاق" تفكيكاً عبقريًّا للأخلاق اليهودية-المسيحية، معتبراً إياها "ثورة العبيد في الأخلاق". لقد رأى أن الضعفاء، العاجزين عن مواجهة الأقوياء بشكل مباشر، قاموا بقلب منظومة القيم: فجعلوا من ضعفهم (التواضع، الشفقة، الطاعة) فضيلة، ومن قوة الأقوياء (الكبرياء، القسوة، حب السيطرة) رذيلة. لقد كانت حيلة نفسية بارعة لترويض الأقوياء وجعلهم يشعرون بالذنب تجاه قوتهم.

هذا البحث يجادل بأن النيوليبرالية، بشكل ماكر ومتناقض، قد أنتجت نسختها الخاصة من "أخلاق العبيد"، ولكن بمفردات عصرية تخدم مصالح رأس المال العالمي:

  • فضيلة "المرونة" (Flexibility): في خطاب الموارد البشرية، تُقدَّم المرونة كأعلى الفضائل. ولكن ما هي "المرونة" في الواقع؟ إنها القدرة على قبول العمل بعقود مؤقتة، والتنقل بين وظائف غير مستقرة، والتخلي عن الأمان الوظيفي، والعمل لساعات غير منتظمة. إنها، من منظور نيتشوي، تقديس للضعف وجعله فضيلة. العامل "المرن" هو العامل المطيع الذي لا يطالب بحقوق ثابتة، والذي يتكيف مع تقلبات السوق دون شكوى.
  • فضيلة "التكيف" (Adaptability): تُطرى هذه الفضيلة على أنها دليل على الذكاء والانفتاح. لكن "التكيف" في لاهوت السوق يعني الخضوع الكامل لإرادته. إذا قضى السوق على صناعة بأكملها، فعلى العمال أن "يتكيفوا" ويتعلموا مهارات جديدة (على نفقاتهم الخاصة غالباً). إذا فرضت الأتمتة تسريح الآلاف، فعليهم أن "يتكيفوا" ويجدوا طرقاً أخرى للبقاء. إنها دعوة مستمرة للضعيف بأن يغير نفسه ليتناسب مع متطلبات القوي (السوق)، بدلاً من أن يطالب بتغيير النظام ليناسب احتياجاته الإنسانية.
  • فضيلة "المسؤولية الفردية": كما رأينا، هذه هي العقيدة المركزية. من منظور نيتشوي، هذه هي الضربة القاضية. إنها تجعل الفرد يستبطن فشله ويلوم ذاته، مما يولد "الضمير السيء" (Bad Conscience). هذا الضمير المريض، الذي يعذب الذات ويلومها، يمنع "إرادة القوة" من التعبير عن نفسها في شكل تمرد أو نقد جذري للنظام. إنه يحول الطاقة النقدية إلى الداخل، فتصبح جلداً للذات، بدلاً من أن تتجه إلى الخارج لتغيير العالم.

باختصار، أخلاق السوق النيوليبرالية هي "أخلاق عبيد" من نوع جديد: هي لا تروض الأقوياء، بل تقنع الضعفاء بأن ضعفهم هو فضيلتهم، وأن خضوعهم هو حريتهم.

المبحث الثاني: النيوليبرالية كـ"وعي زائف" (منظور ماركسي)

إذا كان نيتشه يكشف لنا عن "سيكولوجيا" هذه الأخلاق، فإن كارل ماركس (Karl Marx) يكشف لنا عن "اقتصادها السياسي". بالنسبة إلى ماركس، فإن الأفكار والأخلاق السائدة في أي مجتمع (البنية الفوقية) هي في النهاية انعكاس لعلاقات الإنتاج المادية (البنية التحتية)، ووظيفتها هي تبرير هذه العلاقات وجعلها تبدو طبيعية وأبدية.

من هذا المنظور، فإن أخلاق السوق النيوليبرالية هي المثال الأوضح على "الوعي الزائف" (False Consciousness) في عصرنا:

*- إخفاء الاستغلال: العلاقة الأساسية في الرأسمالية هي علاقة استغلال، حيث تستحوذ طبقة المالكين (البورجوازية) على "فائض القيمة" الذي ينتجه العمال. النيوليبرالية تخفي هذه الحقيقة البنيوية عبر تحويل العلاقة من "طبقة ضد طبقة" إلى "فرد ضد فرد". لم يعد هناك "عمال" و"رأسماليون"، بل مجرد "منافسين" في سوق محايد. أنت لا تُستغَل من قبل رب عملك، بل أنت "شريك" معه في "خلق القيمة"، أو أنك ببساطة "خسرت" في منافسة "عادلة" معه.

*- صنمية السلعة والحرية: يحلل ماركس كيف أن السلع في الرأسمالية تكتسب حياة خاصة بها، وتظهر كأنها كائنات مستقلة تحكم علاقاتنا ("صنمية السلعة"). النيوليبرالية تأخذ هذا إلى مستوى جديد وتخلق "صنمية الحرية". هي تختزل مفهوم "الحرية" الإنساني الواسع في حرية واحدة فقط: حرية الاختيار في السوق (Freedom of Choice). أنت حر لأنك تستطيع الاختيار بين مئة نوع من الهواتف أو حبوب الإفطار. هذا التعريف الضيق للحرية يصرف الانتباه عن غياب الحريات الجوهرية الأخرى: الحرية من الخوف من الفقر، الحرية من الاستغلال، حرية المشاركة الديمقراطية الحقيقية في تشكيل حياتنا الاقتصادية.

*- الدين كـ"أفيون للشعوب": عبارة ماركس الشهيرة تكتسب هنا معنى جديداً. إذا كان الدين التقليدي يخدّر الناس بوعد الخلاص في الآخرة، فإن دين السوق يخدّرهم بوعد الخلاص الدنيوي عبر الاستهلاك والنجاح الفردي. الحلم بأن تصبح مليونيراً، أو مشهوراً، أو "رائد أعمال" ناجحاً، هو "الأفيون" الجديد الذي يجعل الملايين يتحملون ظروف عمل قاسية واستغلالاً يوميًّا على أمل تحقيق هذا الحلم. إنه يبيع وهماً فرديًّا ليمنع التضامن الجماعي.

وهكذا، يكتمل الهجوم المزدوج: نيتشه يكشف لنا الخداع النفسي في هذه الأخلاق، وماركس يكشف لنا الخداع المادي. كلاهما يوصلنا إلى نفس النتيجة: أخلاق السوق ليست دليلاً للحياة الطيبة، بل هي آلية متقنة لإدامة نظام غير عادل، عبر إقناعنا بأننا أحرار ومسؤولون في قلب عبوديتنا الطوعية.

خاتمة:

ما بعد لاهوت السوق: البحث عن معنى في عالم بلا ثمن

لقد بدأت هذه الدراسة بسؤال استفزازي: هل يمكن أن تكون النيوليبرالية ديناً؟ وفي نهاية رحلتنا، نصل إلى إجابة أكثر إثارة للقلق: إنها ليست مجرد دين، بل هي اللاهوت الأكثر نجاحاً وشمولية في عصرنا، دينٌ علماني نجح في ما فشلت فيه العديد من الأيديولوجيات؛ لأنه لم يستهدف العقول بالأفكار فحسب، بل استعمر الأرواح بالرغبات والمخاوف.

أثبتنا أن هذا الدين له إلهه الخاص، "السوق"، الكائن المتعالي الذي يمتلك صفات العلم والقدرة والحضور المطلق. ورأينا كيف صاغ نموذجه الإنساني المثالي، "الإنسان الاقتصادي"، المؤمن القلق الذي حوّل كل تفاصيل حياته إلى استثمار ورأس مال، وحمل على عاتقه مسؤولية خلاصه وفشله في آن واحد، ثم كشفنا عن بنيته اللاهوتية الماكرة، التي علمنت مفاهيم العناية الإلهية ويوم الحساب، وأقامت طبقة كهنوتية من الخبراء لتفسير مشيئته الغامضة.

وأخيراً، وجهنا ضرباتنا النقدية، بمطرقة نيتشه وسيف ماركس، إلى قلبه الأخلاقي. فعرّينا "فضائل" المرونة والتكيف والمسؤولية كأخلاق عبيد جديدة تبرر الخضوع، وكشفنا عن منظومته بأكملها كـ"وعي زائف" متقن، يخفي الاستغلال البنيوي خلف وهم الحرية والمنافسة الفردية.

النتيجة التي نخلص إليها ليست مجرد إدانة اقتصادية أو سياسية للنيوليبرالية. إنها أعمق من ذلك. إنها إدراك بأن قوتها الحقيقية ليست في جداول بياناتها أو نماذجها الرياضية، بل في قدرتها على تقديم إجابات (وإن كانت سامة) على أعمق الأسئلة الإنسانية: ما قيمتي؟ كيف أنجو؟ ما معنى النجاح؟ لقد خلقت "اقتصاداً للخلاص" (Economy of Salvation) خاصاً بها، حيث الخلاص هو النجاح المادي، والخطيئة هي الفقر، والتوبة هي المزيد من العمل والمنافسة.

وهنا يكمن التحدي الحقيقي. إذا كانت النيوليبرالية ديناً، فإن مواجهتها لا يمكن أن تكون اقتصادية أو سياسية فقط. إن النقد التقني لسياساتها، على أهميته، يشبه محاولة دحض وجود الله بإثبات خطأ في حسابات الكنيسة. إنه لا يمس جوهر الإيمان. إن مواجهة دين لا تكون إلا بـ"روحانية" بديلة، أو على الأقل، عبر خلق مساحة للمعنى خارج منطقه.

هذا لا يعني الدعوة إلى دين جديد، بل الدعوة إلى استعادة ما صادرته النيوليبرالية وحولته إلى سلعة. إنه يعني:

  • استعادة مفهوم "القيمة": انتزاعها من قبضة "السعر" السوقي، والتأكيد مجدداً أن هناك أشياء في الحياة "لا تقدر بثمن" (priceless) – كرامة الإنسان، العلاقات الإنسانية، صحة الكوكب، جمال الفن، متعة المعرفة.
  • استعادة مفهوم "النجاح": تحريره من معادلة الثروة والشهرة، وإعادة تعريفه من خلال مفاهيم مثل الأثر الإيجابي في المجتمع، وعمق العلاقات الإنسانية، وتحقيق الذات الإبداعي لا الاستهلاكي.
  • استعادة مفهوم "المسؤولية": نقلها من كونها عبئاً فرديًّا ساحقاً إلى كونها تضامناً جماعيًّا. مسؤوليتنا ليست فقط تجاه "رأس مالنا البشري"، بل تجاه بعضنا البعض، وتجاه المجتمع الذي نعيش فيه.

إن تفكيك لاهوت السوق ليس مجرد تمرين فكري، بل هو عملية تحرير للروح. إنه الإعلان بأن الإنسان أكبر من اقتصاده، وأن قيمته لا تُقاس بحسابه البنكي، وأن حريته الحقيقية لا تكمن في الاختيار بين السلع، بل في القدرة على المشاركة في صنع عالم أكثر عدلاً وإنسانية.

ربما تكون الخطوة الأولى للتحرر من هذا الدين هي ارتكاب أكبر "هرطقة" في نظره: أن نعلن بهدوء وثقة، في وجه صخبه الذي يصم الآذان، أن أفضل الأشياء في الحياة هي بالفعل تلك التي ليس لها ثمن.

 

 

المصادر والمراجع:

  1. فوكو، ميشيل. ولادة البيوبوليتيكا: محاضرات الكوليج دو فرانس 1978-1979. ترجمة الزواوي بغورة، دار مؤمنون بلا حدود، 2019.
  2. هارفي، ديفيد. تاريخ موجز للنيوليبرالية. ترجمة بشير السباعي، المركز القومي للترجمة، 2013.
  3. براون، ويندي. في الدولة المتهالكة: من الديمقراطية إلى السوق. ترجمة حيدر حاج إسماعيل، جداول للنشر والترجمة، 2017.
  4. نيتشه، فريدريش. جينالوجيا الأخلاق. ترجمة فتحي المسكيني، دار مؤمنون بلا حدود، 2019.
  5. شميت، كارل. اللاهوت السياسي. ترجمة رانية الساحلي، منشورات الجمل، 2012.
  6. الجابري، محمد عابد. الدين والدولة وتطبيق الشريعة. مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
  7. أبو خليل، أسعد. تاريخ اليسار العربي: من 1921 إلى اليوم. ترجمة عمر الشافعي، دار صفصافة للنشر، 2021.
  8. العروي، عبد الله. مفهوم الأيديولوجيا. المركز الثقافي العربي، 1980.
  9. طرابيشي، جورج. هرطقات: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. دار الساقي، 2006.
  10. أمين، سمير. الفيروس الليبرالي: الشفاء من الكارثة. دار الفارابي، 2006.
  11. رزوق، أسعد. موسوعة علم السياسة. (مداخل مثل: الليبرالية الجديدة، العولمة).

(*) ما هي النيوليبرالية؟

تخيل أن المجتمع عبارة عن ملعب كبير. في هذا الملعب، هناك فريقان رئيسيان: الحكومة (التي تضع القواعد وتهتم بالجميع) والسوق (الذي يمثل الشركات والأعمال التجارية والمنافسة).

على مر التاريخ، كان هناك جدل حول من يجب أن يدير هذا الملعب بشكل أساسي.

في الماضي (قبل النيوليبرالية): كان الكثيرون يعتقدون أن الحكومة يجب أن يكون لها دور كبير. وظيفتها هي حماية اللاعبين الضعفاء، وتوفير الخدمات الأساسية للجميع (مثل التعليم والصحة)، والتأكد من أن المنافسة لا تصبح وحشية. كانت الحكومة هي "حكم المباراة" و"مدرب الفريق" في نفس الوقت.

مع صعود النيوليبرالية (تقريباً منذ الثمانينيات): ظهرت فكرة قوية تقول: "دعوا السوق يقرر كل شيء!".

النيوليبرالية، ببساطة، هي الإيمان بأن أفضل طريقة لتنظيم المجتمع هي تقليص دور الحكومة إلى أقصى حد ممكن، وإطلاق العنان للسوق والمنافسة في كل جانب من جوانب الحياة.

هذا الإيمان يقوم على ثلاث أفكار رئيسية:

المنافسة هي الحل لكل شيء: يعتقد النيوليبراليون أن المنافسة بين الأفراد والشركات تجعل كل شيء أفضل وأكثر كفاءة، من صناعة الهواتف إلى إدارة المستشفيات والجامعات.

الحكومة هي المشكلة، لا الحل: يرون أن تدخل الحكومة (عبر القوانين والضرائب والدعم) يعرقل "السحر" الطبيعي للسوق، ويسبب الكسل والفساد. لذلك، يجب على الحكومة أن تتراجع. وهذا يعني:

بيع الشركات العامة للقطاع الخاص (الخصخصة).

تقليل الإنفاق على الخدمات الاجتماعية (مثل الصحة والتعليم).

إزالة القواعد التي تحمي العمال أو البيئة (تحرير الأسواق).

أنت مسؤول عن نفسك تماماً: في عالم النيوليبرالية، يُنظر إليك كـ "شركة فردية". نجاحك أو فشلك هو مسؤوليتك وحدك. إذا كنت غنياً، فذلك لأنك عملت بجد وذكاء. وإذا كنت فقيراً، فهذا خطؤك أنت، وعليك أن "تنافس" بشكل أفضل.

باختصار، النيوليبرالية هي الفلسفة التي تقول إن "السوق" هو أذكى وأعدل منظم للحياة البشرية، وأن مهمتنا كأفراد هي أن نكون منافسين أقوياء في هذا السوق الكبير الذي يسمى الحياة.

بحثنا هذا لا يناقش فقط هل هذه الفكرة صحيحة أم خاطئة اقتصادياً، بل يذهب أعمق من ذلك ليسأل: هل تحولت هذه الفكرة الاقتصادية إلى ما يشبه "الدين" الذي نؤمن به دون أن نشعر؟


مقالات ذات صلة

المزيد