محاورة كريتون: درس في احترام الدولة وفي طاعة القانون، خليق بالاعتبار


فئة :  مقالات

محاورة كريتون: درس في احترام الدولة وفي طاعة القانون، خليق بالاعتبار

محاورة كريتون: درس في احترام الدولة وفي طاعة القانون، خليق بالاعتبار

كنتُ أقلّب النظر في عدد من محاورات أفلاطون، أبحث فيها عمّا يشير من قريب أو بعيد إلى موقفه من الخطابة، حتّى وصلت إلى محاورة كريتون، وبدأتُ في قراءتها. كانت محاورة قصيرة بالمقارنة مع محاورات أخرى، وكانت شيّقة آسرة، حتّى أنّني ألفيتُ نفسي أعيد قراءتها مرّة ومرّة ومرّات. نعم، لقد شدّتني هذه المحاورة، لا لأنّني وجدتُ فيها ضالّتي؛ فقد خَلت المحاورة من أيّة إشارة إلى موضوع الخطابة، بل وجدتُني أنسى موضوع الخطابة الذي قادني إلى تصفّح هذه المحاورة، وأنشغل بموضوع آخر بدا لي على صلة متينة بالواقع الذي تعيشه عدد من دول الربيع العربي، والصعوبات التي تمرّ بها والمشاكل التي تتخبّط فيها.

نعم، لقد وجدتُ هذه المحاورة تقذف بي في قلب الواقع الذي نعيشه في هذه المرحلة الانتقاليّة الحرجة التي عقبت ثورات الربيع العربيّ، وتفتح عينيّ على ما آلت إليه الدولة من هشاشة وضعف في هذه المرحلة الانتقاليّة، جرّاء عجزها عن فرض القوانين وتطبيقها وإعادة الهيبة إليها، حتّى تكون محترمة من لدن الجميع، وحتّى لا يفكّر المواطنون في دوسها وانتهاكها؛ فجزء كبير من تعثّر المسار الانتقاليّ في بلدان الربيع العربيّ، وما تخلّل هذه الفترة الانتقاليّة من أزمات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة، يرجع - في تقديري- إلى عجز الدولة عن فرض القوانين وتطبيقها؛ فعدد كبير من الأفراد في الحياة العامّة وداخل المؤسّسات أيضا يستغلّون هشاشة الدولة، ويتحيّنون الفرصة تلو الفرصة للخروج عن طاعة القوانين، وعدم احترام القواعد التي كانت الدولة تفرضها عليهم وتعاقب من يخترقها. والنتيجة، دولة تزداد ضعفا يوما بعد يوم، ومن ثمّ تعجز أكثر فأكثر عن فرض القوانين وتنفيذ القرارات.

نعم، لستُ أبالغ إن قلتُ إنّ ما يهيمن على المشهد اليوم تمرّد على القوانين من لدن الجميع، ودوس لها بالأقدام بدرجات متفاوتة؛ فمَن مِن الموظّفين من بقي يؤدّي عمله بنفس الإنتاجيّة والمردودية قبل الثورة؟ ومَن مِن الأفراد، إذا بنى اليوم بناء يترك المسافة التي ينصّ عليها القانون، والتي يجب أن تفصل بينه وبين جاره؟ ومن لا يتلكّأ اليوم في دفع الضرائب؟ ومن يحترم أضواء الطريق على النحو الذي كان يحترمها قبل الثورة؟ ومَن مِن الباعة من يحترم هذه الأيّام طريفة الأسعار ويبيع بالأثمان التي تضبطها الدولة؟ ومن منّا اليوم مَن يوقّر في داخله وضميره الدولة ورجالها، ويحتفظ لهم بصورة فيها الكثير من الاحترام والتبجيل؟

نعم، لقد وجدتُ هذه المحاورة تختزل جزءًا كبيرًا من المشاكل التي نتخبّط فيها، والتي تعود -في تقديري- إلى مشكلة أساسيّة ذات طابع فلسفيّ، يمكن اختزالها في هذه الأسئلة:

ما الذي يحمّلنا على طاعة القوانين؟ وهل يجوز لنا عدم الانصياع لها؟ وبأيّة طريقة نعمل على تغييرها، إن لم نكن راغبين في الامتثال لها، وغير مقتنعين بعدل القيم والأفكار التي تستبطنها وتريد إشاعتها بين الناس وفرضها عليهم؟

هذه هي مشكلتنا اليوم بعد الثورة. وعلى تلك الأسئلة، دارت محاورة كريتون التي جرى فيها الحوار داخل السجن الذي كان ينتظر فيه سقراط تنفيذ حكم الموت عليه. وكان كريتون صديق سقراط هو الذي تسلّل إلى السجن قصد إخراجه منه قبل يوم من تنفيذ الحكم الصادر فيه، مستعيناً في ذلك بعلاقاته بالسجّان وبوفرة ماله وأصدقائه، مقدّماً لسقراط جملة من الضمانات التي تؤمّن له فعل الهرب ولا تعرّضه للفضيحة، مستنداً إلى جملة من الحجج لإقناعه بصواب فعل الهرب. ولكن هيهات أن تُقنع تلك الحجج سقراط؛ فقد كان متشبّثًا بالمبدإ الذي يؤمن به، والمتمثّل في ضرورة طاعة الدولة واحترام قوانينها، حتّى وإن لحقه ضرر جرّاء احترامه تلك القوانين. وكانت الحجج التي برّر بها سقراط رفضه الهروب من السجن مقنعة، لم يجد كريتون سبيلاً إلى رفضها ودحضها؛ فمحاورة كريتون تقدّم لنا وجهتيْ نظر مختلفتين: وجهة يتبنّاها ويدافع عنها كريتون، لا ترى ضيرًا في أن ينتهك الفرد القوانين التي كان يحترمها ويؤمن بأنّها عادلة، إذا قدّر في لحظة من اللّحظات أنّ تلك القوانين جائرة، وأنّ في احترامها ضررًا سيلحقه، ووجهة أخرى يعبّر عنها سقراط ترفض الدوس على القوانين، وتعتبر اختراقها ضرباً من خيانة الحقّ، وانقلاباً على المبادئ، وتدميرًا للدولة.

وقد جاءت محاورة كريتون في ثلاثة أقسام:

قسم أوّل، عرض فيه كريتون الحجج التي تبرّر فعل الهرب. وكانت أولى تلك الحجج، اتّهام العامّة من الناس كريتون بالتقصير في حقّ صديقه سقراط، وتركه وحيداً يواجه مصيره؛ فهؤلاء- في حال عدم قبول سقراط فكرة الفرار من السجن- لن يصدّقوا أنّ كريتون لم يقصّر في حقّ صديقه سقراط، وأنّه بذل ما في وسعه لإخراجه من السجن، حتّى لا ينفّذ فيه حكم الموت. وكان الغرض من الحجّة الثانية، إقناع سقراط بعدم الاكتراث بقيمة الأموال التي سيدفعها أصدقاء سقراط من أجل تأمين فعل الهرب، وبما يمكن أن يترتّب على تدبير فعل الهروب وتنفيذه من أخطار، ربّما تجعل أصدقاء سقراط عرضة للتتبّع أو النفي. أمّا الحجّة الثالثة، المستخدمة من لدن كريتون كي يقتنع سقراط بفكرة الهروب، فتتمثّل في الإشارة إلى كثرة محبّي سقراط، ووفرة الأمكنة الآمنة والمريحة التي يمكن أن يلجأ إليها، ويجد بين أهلها الحماية والأمن. وكانت الحجّة الموالية، تبيّن لسقراط أنّ في بقائه في السجن، وعدم اعتراضه على حكم المحكمة، تفريطاً في حياته التي كان يمكنه إنقاذها، وتواطؤًا منه غير مباشر مع أعدائه، يساعدهم على تنفيذ ما أرادوا وقاموا بالعمل له. وكانت الحجّة الخامسة تقوم على استثارة عواطف الأبوّة في نفس سقراط، وتذكّره بما سيترتّب على رفضه الهروب من السجن، وعلى قبوله تنفيذ حكم الموت عليه، من إلحاق الضرر بأطفاله الذين سيُتركون بعد موت والدهم لمصير مجهول.

أمّا القسم الثاني من المحاورة؛ فقد فنّد فيه سقراط حجج كريتون، وأظهر وهنها، وبيّن أنّ الأساس الذي تقوم عليه، والذي يتمثّل في الاستناد إلى "ما يقوله السواد الأعظم من الناس"، خاطئ. وههنا، قام جدل بين سقراط وكريتون حول رأي الأغلبيّة: هل يكون دائماً إلى جانب الحقّ والخير، ومن ثمّ يجب اعتباره والعمل به؟ أو هو عرضة للخطأ وفعل الشرّ، ومن ثمّ يكون من باب أولى وأحرى الاهتداء برأي الفرد الواحد الذي يملك المعرفة، والذي يمثّل سلطة لا تخطئ ولا تؤدّي إلى ارتكاب الشرّ، وعلينا أن نحتكم إليها في تقدير ما هو عادل وظالم، وما هو جميل وقبيح، وما هو خيّر وشرّير؟ وقد لخّص سقراط هذا الخلاف في قوله: "فهل يجب أن نتّبع رأي الكثرة ونخشاهم، أو رأي الإنسان الواحد الذي يمتلك معرفة؟ ألا يلزم أن نخشاه ونهابه أكثر من باقي العالم كلّه. وإذا هجرناه ألن نَفسُد ونمارس اعتداء صارخاً على ذلك المبدإ فينا، والذي نفترض أنّه يُحسّن بالعدل، ويتدهور بالظلم؟" (333/3-334). وقد جاء جواب سقراط واضحاً؛ فالرأي عنده أنّه "يجب ألاّ نعتبر بشكل خاصّ ما يقوله لنا السواد الأعظم من الناس، بل الذي سيقوله الإنسان الفرد الذي يمتلك فهماً للعدل والظلم وما ستقوله الحقيقة". (334/3)

وبناءً على ذلك، تصبح الاعتبارات التي ساقها كريتون وبرّر بها فكرة الهرب، لا قيمة لها عند سقراط، ويبقى الاعتبار الأوّل والأخير متمثّلاً في الحقيقة والعدل، في ضوئهما يُقوّم فعل الهروب، ويقرّر سقراط إنجازه أو اختيار نقيضه؛ أي البقاء في السجن والرضا بحكم المحكمة الصادر في شأنه. يقول سقراط:"إنّ الاعتبارات الأخرى التي تذكرها عن الدراهم، وفقدان الشخصيّة المميّزة، وواجبات التعليم نحو أطفال الإنسان، أخشى أنّها ما هي إلاّ تعاليم السواد الأعظم من الناس(...) إنّ السؤال الوحيد الذي يبقى كي نتأمّله مليّاً؛ وهو إذا ما كنّا سنفعل ما هو حقّ: أنا بهروبي، وأنت بمساعدتك لي، وبدفعك لوكلاء فراري مالاً وعبارات شكر." (335/3)؛ فإذا تبيّن بالعقل أنّ فعل الهروب غير عادل، تصبح العوامل والاعتبارات التي تبرّره، والتي هي "تعاليم السواد الأعظم"، على حدّ تعبير سقراط، غير مهمّة، بل إنّ سقراط يذهب إلى أبعد ذلك قائلاً: "إنّ الموت عندئذ أو أيّة كارثة أخرى، يمكن أن تنتج عن بقائي هنا بهدوء، يلزم ألاّ يسمح لها بأن تدخل في الحسبان". (335/3)

فعلى فكرة العمل الخيّر والانتصار له، دار القسم الثاني من المحاورة. وقد ساق سقراط عدداً من المبادئ اعتبرها "مقدّمات منطقيّة" تقوم عليها المحاورة. من ذلك المبدإ الذي لم يملك كريتون إلاّ أن سلّم به، ألا وهو القائل بأنّه "يجب ألاّ نفعل الأذى عمداً أبداً". وقد انطلق سقراط من هذا المبدإ، وأضاف إليه مبدأ ثانياً مفاده أنّ "الإساءة إلى الآخرين فعل خاطئ وشرّ"، ليخلص منهما إلى مبدإ ثالث ينصّ على "ألاّ نردّ على الأذى بمثله، وألاّ نقابل الشرّ بشرّ لأحد، مهما كان الشرّ الذي قاسيناه منهم". وواضح أنّ سقراط يؤمن بعدالة هذه المبادئ، ولا يقدر على أن يهجرها بعد أن اعترف طيلة حياته بأنّها تقف في صفّ الحقّ، وتتجرّد من الحسابات الضيّقة. لذلك، فهو لا يستطيع أن يهرب من السجن، وإن كلّفه ذلك حياته، لأنّه يرى في الهروب عملاً يتعارض وتلك المبادئ التي آمن بها، ولأنّ في ذلك الصنيع أذى سيلحق بمواطني أثينا ودولتهم. وهذا ما سيقع تفصيله في القسم الثالث من المحاورة، الذي اعتمد فيه سقراط أسلوبًا بلاغيًّا طريفا شبيها بأسلوب الالتفات في البلاغة العربيّة، أو قل هو طريقة أخرى في الاحتجاج لرأيه الرافض فكرة الهروب، تعتمد في كفّه عن التكلّم باسمه، ليُسمعنا صوتاً آخر، ألا وهو صوت الدولة وقوانينها، من خلاله يقدّم سقراط حجّة أخرى تُدين هروبه من السجن، وتبيّن لكريتون أنّه فعل غير عادل.

وتقوم هذه الحجّة على تذكير القوانينِ سقراطَ بأنّ بينه وبينها عقداً يُلزمه بطاعتها، والامتثال لها، والالتزام بأحكامها، وإن كلّفه ذلك حياته. وإذا كان كريتون لا ينكر فكرة دخول سقراط وسائر مواطني أثينا في عقد ضمنيّ مع دولتهم، يوجب عليهم حقّ طاعتها؛ فإنّه لا يرى موجباً في أن يظلّ المواطن ملتزماً بذلك العقد، إذا لاحظ فجأة أنّه غير عادل، وأنّ حياته صارت في خطر، إن هو بقي وفيّاً للعهود المبرمة ضمنيّا بينه وبين الدولة، وهي فكرة تصدّى لها سقراط على لسان القوانين، ليبرز عدالة الاتّفاق الذي يربطه بالدولة، ومن ثمّ طابعه الإلزامي الذي يجعل سقراط غير قادر على نقضه، إذا أراد أن "يفكّر في العدل قبل كلّ شيء". وما وفاء سقراط للعهد الذي يربط بينه وبين أثينا وتمسّكه به، إلاّ لأنّه يرى أنّ شروط الصحّة متوفّرة فيه، وأنّ من أهمّ تلك الشروط خلوّه من كلّ مظاهر الظلم، وعدم غبنه حقوق طرفي الاتّفاق، ومن ذلك أيضا قيامه على الإرادة والاختيار والوعي، إذ لم يُجبر أحد سقراط وغيره على إبرامه.

نعم، هناك عقد اجتماعيّ بين سقراط وأثينا، بموجبه تقدّم هذه المدينة لسقراط ولسائر المواطنين الذين اختاروا العيش والبقاء فيها الحماية وفق جملة من القوانين من جهة، ويصبح كلّ مواطن ملزماً بطاعة تلك القوانين من جهة أخرى. هذا ما ذكّرت القوانين سقراط ومن ورائه كريتون به؛ فقوانين أثينا هي التي "أحضرت سقراط إلى الوجود"، وهي التي أعطت الأمر لأبيه كي يدرّبه عندما كان صغيراً على الموسيقى والرياضة، وهي التي لم يُظهر سقراط طيلة حياته ما يشي بأنّه غير مقتنع بها أو غير راض عنها، بل إنّه كان أكثر من غيره تعلّقاً بمدينته، لم يفارقها إلاّ مرّة واحدة، وإنّه سيجعل "من نفسه أضحوكة" إن تراءت له تلك القوانين - الآن وبعد سبعين سنة من الإيمان والطاعة- غير عادلة، وسوّلت له نفسه الفرار من أثينا والاحتماء بمدينة أخرى، هرباً من تنفيذ الحكم فيه.

نعم، لقد وفّرت قوانين أثينا لسقراط ولكلّ مواطن "يبلغ سنّ النضج العقليّ" مجالاً للاختيار وتقرير المصير، وذكّرته بذلك قائلة: "لا أحد منّا - نحن القوانين- سيمنعه أو يتدخّل معه أو مع أيّ شخص لا يحبّنا ولا يحبّ المدينة، والذي يريد أن يهاجر إلى أيّة مستعمرة أو أيّة مدينة ثانية يمكنه أن يذهب حيث يشاء، ويصطحب معه كلّ ما يملك". (340/3) وهذه القوانين وفّرت لسقراط الخيار بين أن يطيع الدولة الساهرة على تطبيق القوانين أو أن يُقنعها- في حال عدم اقتناعه بها-بوجهة نظره، ويحملها بطرق مسالمة ربّما تصل إلى العصيان المدنيّ على تغيير القوانين الموجودة. وفرصة الاختيار متاحة لسقراط أيضا عند محاكمته "محاكمة عادلة"، خُيّر فيها بين عقوبة الموت وعقوبة الإبعاد. فقد كان في مقدوره أن يغادر أثينا مغادرة عادلة، تتمّ برعاية القانون وبرضا الدولة. وما عليه الآن، إلاّ أن يقبل بالحكم ويُظهر الطاعة. أمّا إذا اختار الهروب، فإنّه سيدمّر القوانين، ويثبت التهمة عليه والمتمثّلة في إفساد شباب أثينا. تقول القوانين مذكّرة سقراط: "إنّنا كنّا المفضّلين عندك. ونحن من آثرتَ بشكل خاصّ. وقبلتَ أنتَ بحكومتنا لتحكمك. وهنا في هذه المدينة أنجبتَ أطفالك. وهذا برهان على قناعتك بالعيش فيها. علاوة على ذلك، كان بإمكانك في مجرى المحاكمة إذا أحببتَ أن تعيّن العقاب بالإبعاد والنفي، كان بإمكانك أن تفعل برضا الدولة ما أنت عازم على فعله بدون رضاها وقبولها (...). أنت- يا سقراط- تخرق المواثيق والاتّفاقات التي عقدتها معنا في وقت فراغك، بدون أيّ إكراه أو خداع أو في تنفيذ عجول، بل بعد أن كان لديك سبعون سنة كي تفكّر بها. وكانت لك الحرّية التامّة -أثناء هذا الوقت- لتغادر المدينة". (340/3)

على هذا النحو تكلّمت القوانين، وبهذا الحديث أنهت كلامها محذّرة سقراط، قائلة له: "إذا تركتَ المدينة مقابلا الشرّ بالشرّ، والأذى بالأذى، بشكل دنيء، ناقضاً العهود التي أبرمتها معنا، ومؤذياً نفسك وأصدقاءك وبلادك ونحن، إنّنا سنكون غاضبين عليك طالما حييتَ، ولن تمنحك إخوتنا القوانين في العالم السفليّ ترحيباً صدوقا، لأنّها ستعرف أنّك فعلتَ أفضل ما تقدر عليه كي تدمّرنا. استمع إذن لنا ولا تبال بما قاله كريتون" (344/3). وعلى هذه الكلمات التي نطقت بها القوانين، علّق سقراط في ردّ نهائيّ على مقترح صديقه كريتون، المتمثّل في الهروب من السجن، تعليقاً يفصح عن رفضه القاطع فكرة الهروب، وشدّة تمسّكه بالمبادئ التي يؤمن بها إيماناً لا يقدر كريتون أو غيره على زعزعته: "إنّ هذا هو الصوت - يا عزيزي كريتون- الذي يبدو أنّني أسمعه هامساً في أذني، مثل صوت الناي يهمس في الآذان ذات الطقوس السرّية، أقول إنّ هذا الصوت يطنّ في أذني ويمنعني من سماع أيّ صوت آخر. كن متأكّداً -إذن- أنّ أيّ شيء أكثر يمكن أن تقوله كي تهزّ هذه الثقة أو تزعزع هذا الإيمان، فإنّما عبثا سيُقال". (344/3)

درس بليغ يقدّمه سقراط لنا في المواطنة، ما أحوجنا في هذه الفترة الانتقاليّة إلى فهمه واستيعابه، والتوقّف على أهمّ عِبره، بعيدًا عن المثاليّة التي قد يلوم بعض الناس سقراط عليها. ولعلّ أهمّ عبرة خليقة بالاعتبار، شعور ينبغي أن يترسّخ في ضمائر الناس، حتّى يصبح كالعقيدة الراسخة عندهم، لا يزحزحهم عنها حسابات ضيّقة أو منفعة خاصّة، نعني بذلك ضرورة اقتناعهم بأنّ احترام الفرد -أيّ فرد- قوانين الدولة التي يعيش فيها، هو من قبيل الوفاء بعهد ضمنيّ مبرم بينه وبين تلك الدولة، تترتّب عليه حزمة من الحقوق والواجبات، وتنشأ بموجبه فكرة المواطنة، وبفضله تكون الدولة ذات سيادة، ونعني بذلك أيضاً اقتناعهم في الآن ذاته بأنّ في الدوس على القوانين بالأقدام، وفي التعامل معها بدافع المنفعة وبروح أنانيّة، تدميراً لتلك القوانين، ونقضاً لذلك العهد، لا يمكن إلاّ أن يجلب الخراب وتقويض أركان الدولة، والدخول في مرحلة الفوضى التي لا يعرف أحد نهايتها وعواقبها. وحصول ذلك الاقتناع، لا يعني البتّة دعوة المواطنين إلى أن يطيعوا قوانين دولتهم طاعة عمياء، تمنعهم من التعبير عن عدم رضاهم عن بعضها، وتقتل فيهم الطموح والرغبة في تحسين تلك القوانين وتطويرها وإضافة أخرى إليها، بل في المحاورة عموماً، وفي تدخّلات سقراط، وفي ما جاء على لسان القوانين، من كلام موجّه إلى كريتون وإلى سقراط، إشارات كثيرة إلى أنّ في ذلك العقد فسحة تترك للمواطنين كي يبدوا رأيهم في القوانين ويعترضوا عليها- إن بدت لهم غير عادلة- ويسعوا إلى إقناع الدولة على الاعتراف بعدم عدالتها، ومن ثمّ على تغييرها.

نعم، تلك هي روح المواطنة التي سكنت سقراط، واستمات في الدفاع عنها: جملة من القوانين، أو قل مجموعة من القيم ترعاها الدولة وتسهر على إشاعتها، وتدعو المواطنين إلى الاتّفاق عليها والالتفاف حولها واحترامها، وفرصة تُترك لأولئك المواطنين لمراجعة تلك القوانين وتغييرها، كلّما طمحوا إلى توسيع دائرة حقوقهم، أو شعروا بأنّ في تلك القوانين ظلماً لا بدّ من إزالته. خلاصة المحاورة إذن، وروحها توجز في عبارة: أن نعمل بالقوانين الموجودة، وأن نسعى آملين وجاهدين إلى تطويرها وتغييرها، إن اقتضى الأمر، بطرق لا تدمّر الدولة، ولا تقوّض العلاقة التي تشدّ الفرد إلى الجماعة السياسيّة، ولا تتعارض وقيمة المواطنة؛ فيا ليت قومي يفهمون!