معرض فرانكفورت الدولي للكتاب: بين المقاطعة المحقة والمشاركة الفاعلة


فئة :  مقالات

معرض فرانكفورت الدولي للكتاب:  بين المقاطعة المحقة والمشاركة الفاعلة

معرض فرانكفورت الدولي للكتاب:

بين المقاطعة المحقة والمشاركة الفاعلة

ما إن أعلنت إدارة معرض فرانكفورت إلغاء أو تأجيل حفل منح الروائية الفلسطينية عدنية شبلي جائزة أدبية في المعرض، من جهةٍ، وأصدرت بيانًا موازيًّا يتضمن التأييد الكامل لإسرائيل والنية على العمل على جعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مسموعةً وظاهرةً أكثر، بشكلٍ خاصٍّ، من جهةٍ أخرى، حتى انطلق سيلٌ من الانتقادات العربية وغير العربية تجاه هذه الازدواجية المقيتة في المعايير. ومع تبلور المواقف الغربية الأحادية الداعمة لإسرائيل عمومًا، وتصاعد مستوى قمع الأصوات المنتقدة لإسرائيل والداعمة للقضية الفلسطينية، توالى صدور بيانات حملت تواقيع عدد كبير من المثقفات والمثقفين/ المثقفات العرب، مع صدور بياناتٍ مماثلةٍ أو مشابهةٍ من شخصياتٍ وجهاتٍ ثقافيةٍ غربيةٍ، وحتى يهوديةٍ، كبيان المثقفين والكتاب والعلماء اليهود المقيمين في ألمانيا الذي يدعو إلى السلام في فلسطين وإسرائيل، وحرية التعبير، للجميع، وليس لطرفٍ أو اتجاهٍ واحدٍ، في ألمانيا.

وتنوعت المواقف (العربية وغير العربية) تجاه المشاركة في المعرض. فمن ناحيةٍ أولى، أعلن عددٌ من المؤسسات والشخصيات العربية مقاطعته للمعرض، وانسحابه من المشاركة في بعض النشاطات والندوات التي كان مخططًا تنظيمها ضمن فعاليات المعرض. وقد تضامنت شخصياتٌ ومؤسساتٌ، بل ودولٌ أخرى، مع تلك المقاطعة، أو تبنتها ومارستها عمليًّا. وقد التقيت شخصيًّا بباحثاتٍ وباحثين أكاديميين من إيران وتركيا، على سبيل المثال، قالوا إنهم قرّروا مقاطعة هذا المعرض والمشاركة في البيانات المنددة به وبالتوجهات التي يعبر عنها في مواقفه وقراراته. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، رأت شخصيات وجهاتٌ أخرى أفضلية المشاركة وإيصال ما يمكن إيصاله من أصواتٍ عربيةٍ وفلسطينية ناقدةٍ لتوجهات إدارة المعرض المعبرة عن توجهات معظم الحكومات ووسائل الإعلام الغربية المنحازة بشدة ووضوحٍ للسياسات والخطابات الإسرائيلية الرسمية.

هل كان من الأفضل المقاطعة أم المشاركة؟ لم تكن الإجابة عن هذا السؤال، سواء بالإيجاب أو السلب المطلقين، مناسبةً ومقنعةً لكل المنتقدين لمواقف إدارة معرض فرانكفورت ولمواقف الحكومات الغربية المنحازة، عمومًا، على الرغم من الاتفاق، فيما بينهم، على المبادئ والقيم ذاتها عمومًا، في ذلك الخصوص. والكاتب والمسرحي السوري محمد العطار - الذي انسحب من المشاركة في ندوة كان من المزمع إقامتها في المعرض – محقٌّ في قوله بوجوب دراسة كل قرارٍ من هذا النوع حسب سياقه، لكن في حين أنه رأى أفضلية الانسحاب؛ لأن المشاركة، في المعرض، لن تحدث تأثيرًا كبيرًا أو لن تتيح عرض السردية المقابلة للسردية المهيمنة، عرضًا لائقًا ومنصفًا، حيث يتم ابتلاع السردية الأولى ضمن الحدث الكبير جداً، رأى آخرون أن المقاطعة تسمح بزيادة هيمنة السردية غير المنصفة وبزيادة غياب أو تغييب السردية المقابلة. ولهذا ارتأوا أفضلية المشاركة؛ لأنها تفسح مجالًا لحضور الأصوات ووجهات النظر التي يراد تغييبها. وفي اعتقادي أنه من الناحية النظرية، تتضمن وجهتا النظر المذكورتين الكثير من المسوغات المعقولة، كما أن الواقع العملي بين صحة كليهما عمومًا.

فقد أسهمت قرارات المقاطعة في إثارة الكثير من النقاشات الحادة حول مواقف إدارة معرض فرانكفورت ومواقف الحكومات ووسائل الإعلام الغربية المنحازة والمحابية لإسرائيل، على حساب حقوق ودماء الشعب الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، دفع كم هذه الأصوات وكيفها إدارة معرض فرانكفورت ذاتها إلى إصدار بيان جديدٍ أرسلته، عبر البريدي الإلكتروني، قبل يومٍ من انطلاق المعرض، إلى كل المشاركين في المعرض والراغبين في حضور فعالياته. وقد حاولت إدارة المعرض، في بيانها الجديد، أن يكون موقفها (أكثر) توازنًا، فشددت على تعاطفها مع الأبرياء من الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. وهذه لغة جديدة كانت غائبة عن البيان السابق وعن (معظم) المواقف السياسية الرسمية الحكومية.

في المقابل، تضمنت مشاركة عدد من الشخصيات في المعرض انتقاداتٍ مزعجةً ومحرجةً لإدارة المعرض ولقراراتها وتوجهاتها المعبرة عن قرارات وتوجهات حكومية وإعلامية غربية، في هذا الخصوص. وسأقتصر على ذكر أربعة أمثلة بارزةٍ من تلك المشاركة الفاعلة: الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، المترجمة الألمانية لاريسا بندر، المفكر والمترجم الألماني شتيفان فايدنر. وبالتأكيد، هناك إمكانية إضافة أسماء (عربية) أخرى، كالمفكر والأكاديمي العربي والإسلامي رضوان السيد، لكن ربما كان من المناسب او الأفضل، في السياق الحالي، التركيز على الأصوات "الغربية"، لإبراز أن الانقسام، الفعلي أو المزعوم، بين "الشرق" و"الغرب"، هو انقسامٌ سياسيٌّ (واقتصاديٌ) أكثر من كونه انقسامًا ثقافيًّا (ودينيًّا)، كما يظن ويزعم كثيرون، على نحوٍ متزايدٍ.

ففي كلمةٍ مشهودةٍ، أصبحت مشهورةً، في فعاليةٍ نظمتها، في المعرض، أهم وسائل الإعلام الألمانية (ARD, ZDF, 3SAT) كان جيجيك صريحًا وواضحًا جدًّا في إدانته لقرار معرض فرانكفورت وبياناته، في خصوص الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي الأحادية المقيتة التي تطبع بطابعها الخطابات السياسية والإعلامية في كثيرٍ من الدول الغربية، في هذا الخصوص. وقد أثارت كلمته انزعاج بعض المسؤولين الرسميين في المعرض والحكومة وبعض الأفراد الحاضرين، في حين صفق لها وأشاد بها، وأعلن عن تأثره بها، واتفاقه مع مضامينها، كثيرون في المعرض وخارجه.

أما لاريسا بندر – الحاصلة على وسام الاستحقاق من الرئيس الألماني شتاينماير عام 2018، والتي ترجمت عددًا من النصوص الأدبية والفكرية العربية إلى اللغة الألمانية - فقد استغلت أو استثمرت مشاركتها في المعرض، في ندوة موسومة ﺑ "القوة، اللغة، السياسة: البلاد العربية، الصين، إيران، أمريكا اللاتينية"، لانتقاد إدارة معرض فرانكفورت والتشديد على ضرورة قراءة الأدب الفلسطيني ومعرفة وجهة النظر التي يقدمها وفهمها، بدلًا من الاقتصار على التبني المجحف لوجهة نظر طرفٍ واحدٍ فقط. وانطلاقًا من إعلان بندر، في تلك الندوة، إنها لا تستطيع ولا ترغب في ترجمة كتابات (سورية) غير ناقدةٍ أو معارضةٍ للديكتاتورية (الأسدية)، أو يبدو أنها معبرة عن خطاب النظام الديكتاتوري أو متقاطعة معه، وإنها تفهم نفسها على أنها مترجمة سياسية؛ أي إن ترجمتها لها دوافع وأبعاد، وربما نتائج، سياسية، قد يكون ممكنًا الاستنتاج إنها كانت تعتقد أن الصوت الفلسطيني هو من كان يستحق أن يكون مسموعًا ومرئيًّا أكثر، وليس الصوت الإسرائيلي (فقط).

وعلى المنوال نفسه، وفي ندوةٍ في معرض فرانكفورت للكتاب، موسومةٍ ﺑ "الآداب العربية في أوروبا: مؤسسات الوساطة" أدارها المفكر والمترجم الألماني شتيفان فايدنر – الذي صار له خمسة كتبٍ مترجمةٍ إلى اللغة العربية، ولعل أهمها كتاب "ما وراء الغرب: من أجل تفكير كوني جديد" الصادر حديثًا – انتقد فايدنر ما أسماه "فضيحة إلغاء حفل منح الروائية الفلسطينية عدنية شبلي جائزة أدبية في المعرض"، وأشار إلى مقاطعة عدد من الشخصيات والمؤسسات المنتقدة لمعرض فرانكفورت وامتناعها عن الحضور والمشاركة في فعالياته. وأبدى فايدنر تفهمه للمقاطعة المذكورة؛ لكن، من الواضح، نظريًّا وعمليًّا، أنه كان يفضِّل المشاركة وليس المقاطعة، ليتم استثمار تلك المشاركة في إيصال الأصوات والرسائل المناسبة.

انطلاقًا مما سبق، أعتقد أن مقاطعة بعض المنتقدين لقرارات إدارة معرض فرانكفورت كانت محقةً وإيجابيةً، بقدر أحقية مشاركة بعض المنتقدين لتلك القرارات وإيجابية تلك المشاركة. فكلا الأمرين، المقاطعة والمشاركة، حققا نتائج إيجابيةً تخدم القضية والمبادئ والقيم التي اتخذ كلا الطرفين قراراتهما من أجلها أو على أساسها. وليس ثمة فائدة أو ضرورة في إثارة المعارك الجانبية القاسية بين الطرفين. فالاتفاق على المبادئ والغايات الأساسية هو الأساس. أما تحقيقها، بالمقاطعة او المشاركة، فيبقى تفصيلًا ثانويًّا، لكن ثانوية ذلك التفصيل، ليست مثل ثانوية تفصيل رواية عدنية شبلي التي تحمل ذلك العنوان (تفصيل ثانوي). ومن المفارقة أن سعي إدارة معرض فرانكفورت للكتاب إلى تغييب "تفصيل ثانوي" قد أفضى إلى جعله المحور الرئيس والأساسي في ذلك المعرض. وأسهمت المقاطعة المحقة لبعض الأطراف المنصفة، والمشاركة الإيجابية الفاعلة لبعضها الآخر، في إنجاز هذه المفارقة الطريفة والجميلة. وبهذا المعنى، كان حضور الغياب أو استحضاره قويًّا، لدرجة أسهمت في تغييب بعض ما أرادت إدارة المعرض أن يكون حاضرًا أكثر من غيره، وعلى حساب غيره.