من البيوإتيقا في مجال الطب إلى الإيتيقا البيئية


فئة :  مقالات

من البيوإتيقا في مجال الطب إلى الإيتيقا البيئية

من البيوإتيقا في مجال الطب إلى الإيتيقا البيئية

أدى إعلان الحداثة الغربية نهاية المجتمعات التقليدية، وما نتج عن ذلك من عقلنة للعالم للحديث، إلى انكسار القبضة التي يحكمها النسق الأخلاقي، والمجتمعي التقليدي، وبالتالي إعادة صياغة مناهج التفكير وطرائق إدراك العالم (بهلول، 2017). لقد ساهمت جل هاته التحولات في تطور مجالات عديدة ومختلفة؛ من بينها المجال الطبي، حيث شهد هذا الأخير عدة مستجدات تمظهرت في بروز تقنيات حديثة؛ كالتكنولوجيا الحيوية والاستنساخ ...، والتي أثارت نقاشات واسعة، ومواقف متضاربة؛ حول موقع الإنسان وكرامته من هذا التطور؛ وذلك في إطار ما سمي بالبيوإتيقا التي كانت ولازالت تحاول تقديم إطار أخلاقي يمكن الاستناد عليه، واعتباره مرجعا يتم الاحتكام إليه أمام كل هذا التطور. لكن وكما أشار إلى ذلكVan Rensselaer Potter فإنه ومع التركيز على الأخلاقيات الطبية، نسي الكثيرون حقيقة أن أخلاقيات علم الأحياء، قد تم اقتراحها للجمع بين القيم الإنسانية والحقائق الإيكولوجية Richie, 2014))، بل قد يكون هذا التركيز على البيوإتيقا في مجال الطب، يؤكد بشكل واضح ما أقرته الحداثة الغربية، فيما يخص مركزية الإنسان في الكون. في حين أن حقيقة الأمور غير ذلك، فبدل طرح أسئلة من قبيل علاقة الإنسان بنفسه وبالإنسان. وكذا علاقته بالتطور التكنولوجي في المجال الطبي، يجب طرح سؤال علاقة الإنسان بالطبيعة، وبكل الكائنات الأخرى في إطار إتيقا بيئية نابعة من وعي باللا مركزية "Decentrelization" للذات الإنسانية.

1- الأخلاق الحيوية وسؤال الكرامة الإنسانية

الأخلاق الحيوية أوالبيوإتيقا هي تخصص يحاول بالأساس الإجابة عن سؤال: كيفية استثمار المعرفة من أجل الخير الاجتماعي؛ وذلك بالاستناد إلى معرفة واقعية بالطبيعة البيولوجية للإنسان، وبالتالي فهي تشكل ملتقى عدة علوم مثل الطب، والبيولوجيا، والأخلاق، والفلسفة، واللاهوت، والقانون، والاجتماع، والتحليل النفسي (بوحجلة، 2017). أما الكرامة الإنسانية، فتعد الذات الداخلية أساسا ومصدرا لها، بيد أن طبيعة تلك الكرامة متحولة ومتغيرة مرارا مع الزمن، حيث كانت الكرامة في العديد من الثقافات المبكرة حكرا على قلة من الناس كطبقة المحاربين مثلا... وفي مجتمعات أخرى، كانت بمثابة الخاصية التي تميز البشر ككل (عبد الحسين، 2021).

إذن وانطلاقا مما سبق، أين يتموقع مفهوم الكرامة الإنسانية في مجال التكنولوجيا الطبية؟

في هذا الصدد نذكر مسألة تجميد الأجنة، حيث يؤكد هابرماس أن مثل هاته الأمور تتعلق بقضية الكرامة الإنسانية وقدسية الحياة، وتعنى بحياة ما قبل الولادة؛ إذ إن كل ما يمكن تحديده بيولوجيا بوصفه نموذجا إنسانيا، يجب النظر إليه بوصفه شخصا، وهو صاحب حقوق أساسية. وكذلك تقنية الاستنساخ وما أفرزته من إشكالات أخلاقية. وبهذا تكون التخوفات والتحفظات التي عبر عنها بعض الفلاسفة، والمشرعين المشتغلين بالبيوإتيقا، نابعة عن خوف من تشويه الإنسان جسميا، ونفسيا، وعقليا، واجتماعيا (بوحجلة، 2020). لكن أليس التساؤل عن الكرامة الإنسانية في إطار البيوإتيقا في علاقتها بالطب يبعث على نوع من التعالي والتمركز للذات الإنسانية؟ أليس من الأحكم أن نأخذ في الاعتبار كرامة باقي المجتمع الحيوي الذي ينتمي إليه الإنسان نفسه؟

2- منظورات في الإيتيقا البيئية

إن أخلاقيات البيئة "Environmental ethics" هي أحد أقسام الأخلاق العملية، وموضوعها هو المعايير والقيم التي تدور حول العلاقات بين الإنسان، والكائنات الحية الأخرى؛ يعني أن إتيقا البيئة هي فلسفة أخلاقية جديدة، هدفها توجيه الوعي نحو النشاطات الإنسانية، واتجاه البيئة الطبيعية، كما إنها تدافع عن إتيقا للمسؤولية. إنها فلسفة تُحمل الإنسان مسؤولية ما آلت إليه الطبيعة من ثلوث واستنزاف (بوحجلة، 2020). ويمكن التطرق لبعض المنظوات التي تناولت هذا التصور الإتيقي الحيوي في ثلاثة تصورات، وهي كالتالي:

أ- التمركز الحيوي في مقابل التمركز البشري:

كما ورد في إحدى مقاليتهما المنشورة سنة 1981 يؤكد كل من بول وتايلور، أن منظومة الأخلاق المتمركزة حيويا؛ تعارض تلك المتمركزة بشريا، حيث إنه إذا وافقنا على نظرية للأخلاق متمركزة حيويا، فإن عالمنا الخلقي سيشهد إعادة تنظيم عميقة، وسنبدأ في النظر من منظور جديد إلى كامل النطاق الحيوي على الأرض. كما سنرى واجباتنا تجاه عالم الطبيعة كمطالب بديهة، يجب أن نوازنها مع واجباتنا نحو عالم الحضارة البشرية، حيث لا يمكننا تبني وجهة النظر البشرية وتقدير تأثيرات أفعالنا انطلاقا من منظور خيرنا الخاص. إن التمركز الحيوي ينطوي على أحد الدروس العميقة التي تعلمناها من علم الإيكولوجيا، وهو أن الاعتماد المتبادل بين جميع الكائنات الحية، هو نظام موحد عضويا يشكل توازنه واستقراره الشروط الضرورية لتحقيق خير مجتمعاته الحيوية المكونة له (زيمرمان، 2006).

ب- أخلاق الأرض عند «Aldo Leopold»:

يرى ليو بولد أن أخلاق الأرض ببساطة توسع حدود المجتمع، كي يضم: التربة، والمياه والنباتات، والحيوانات... أو بشكل عام الأرض، حيث وفي هذا السياق يتغير دور الإنسان العاقل من مستعمر لمجتمع الأرض، إلى عضو عادي ومواطن فيه. إنها تقتضي منه احترام الأعضاء الزملاء له؛ أي الكائنات الأخرى. وأيضا المجتمع الإنساني الذي ينتمي إليه (زيمرمان، 2006). إن الإنسان مدعو هنا إلى إدراك التوازنات المعقدة للأنظمة البيئية، والترابطات بين الكائنات الحية، وإلى تغيير نظرته إلى ما يحيط به، وتعديل علاقته بالمحيط الذي يعيش فيه (Charmetant, 2015).

ج- «Hans Jonas» ومبدأ المسؤولية:

يعد هانس جوناس من بين أهم فلاسفة الإتيقا المعاصرين، قام بالنظر في الترابطات الجديدة المفروضة على النشاط الإنساني بسبب التحولات البيئية. واقترح إتيقا للمسؤولية تجاه الأجيال المقبلة. وهذه الإتيقا حسب هانس جوناس تتجاوز المجال التقليدي للإيتيقا الذي كان يركز على علاقات الإنسان مع نفسه ومع الغير. وباعتبار أن الإتيقا تتمحور حول الإنسان، فهي قادرة على منحه معايير لتصرفات صحيحة تجاه الطبيعة، وهو ما أطلق عليه "إتيقا المسؤولية". قام هانس جوناس هو الآخر بانتقاد نظرية المركزية الإنسانية (الإنسان مركز الكون) التي تعود جذورها في الثقافة الغربية إلى فكر عصر النهضة، وخاصة إلى الفكر الديكارتي الذي كان يعتبر الإنسان سيد الطبيعة ومالكها؛ ويترتب عن ذلك أن ما هو مهم هو أن نحيا حياة جيدة وكريمة وسعيدة ليس للنوع الإنساني فقط، بل لكل أنواع الكائنات الحية (بوحجلة، 2020).

يبدو إذن أن التطور العلمي، والتكنولوجي وما فرضته الحداثة الغربية من تفكك للأطر المرجعية التقليدية، أدى إلى أزمة قيمية وأخلاقية في مجالات عدة؛ من بينها المجال الطبي، مما جعل من الضرورة تأسيس حقل علمي يعنى بالأخلاق، وهو ما سمي بالبيوإتيقا. إلى أن التركيز على هذا الحق في علاقته بالمجال الطبي وربطه بمسألة الكرامة الإنسانية، وبالإنسان لوحده يبعث على نوع من النسيان للهدف الذي جاءت من أجله الأخلاق الحيوية، ونظرتها الشمولية للطبيعة. ويبعث كذلك على نوع من المركزية الذاتية للإنسان، دون الأخذ في الاعتبار باقي الكائنات الأخرى. هذا ما دفع مجموعة من المنظرين إلى طرح أسئلة من قبيل علاقة الإنسان بالأرض، والطبيعة، وباقي مكونات المجتمع الحيوي. في إطارإتيقا بيئية هدفها الأساس دحض فكرة المركزية الإنسانية، وفكرة أن الإنسان مالك الطبيعة وسيدها.

 

قائمة المراجع:

*- مراجع باللغة العربية:

- بهلول، رجا (2017). خطاب الكرامة وحقوق الانسان، المركز الثقافي للأبحاث ودراسة السياسات. ص 35

- بو حجلة، محمد (2020). البيو إتيقا كفلسفة جديدة ومسألة الكرامة الانسانية. مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والانسانية، المجلد 12، العدد 01. الجزائر الصفحات: 52-58.

- بو حجلة، محمد (2020). إتيقا البيئة في الفكر الفلسفي المعاصر. مجلة الحوار الثقافي، المجلد 09، العدد 01، ص 09-22

- عبد الحسين، ياسر (26، نونبر 2021). أكسيولوجيا الكرامة بين الرفاعي وفوكوياما. مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

- زيمرمان، مايكل. (2006). الفلسفة البيئية من حقوق الإنسان إلى الإيكولوجيا الجذرية الجزء الأول (معين شفيق رومية، مترجم). اصدرات سلسلة عالم المعرفة العدد 332، ص ص، 112-113.

- نفسه المرجع ص، 114

- نفسه ص، 147

*- مراجع بلغات أجنبية:

- Charmetant, E. (2015). Écologie profonde: une nouvelle spiritualité ?. Revue Projet, 347, 25-33. https://doi.org/10.3917/pro.347.0025

- Richie,C. (2014). A Brief History of Environmental Biothics. Ama Jornal of Ethics. https://doi:10.1001/vritualmentor.2014.16.9.mhst2-1409