مواجهة الحاجات الأساسية كمدخل للتنمية

فئة :  مقالات

مواجهة الحاجات الأساسية كمدخل للتنمية

مواجهة الحاجات الأساسية كمدخل للتنمية

لقد اجتاز مدخل التنمية لدى كل الوكالات الرئيسة ومانحي المساعدات بحراً من التغييرات خلال العقد الثاني للتنمية التابع للأمم المتحدة؛ فقد جاء كل من مؤتمر الأمم المتحدة التجارة والتنمية، ومكتب العمل الدولي، والبنك الدولي. واليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، واليونسكو. الواحد منهم تلو الآخر، بمخططاتهم الجديدة التي تبشر بعصر السعادة على الأرض. وكانت كثرة النماذج ووفرة الشعارات الجديدة أمراً محيراً: فهناك النظام الاقتصادي الدولي الجديد، والنماء بإعادة توزيع الثروة، والحاجات والخدمات الأساسية، والمشاركة، وتنمية العلاقة بالبيئة، والتنمية من الداخل، ولكل منها تأكيداته المختلفة قليلاً عن غيرها، ولكن يشترك الكل في أساس عام هو أن النضال من أجل تجميع الثروة بصرف النظر عمن يستفيد منها، لم يؤثر كثيراً على فقر الدول والأفراد.

وكان يحفز هذه النماذج الجديدة رغبتها في التأكد من استفادة الفقراء من التنمية في حياتهم، وليس بعد قرن أو قرنين عن طريق تحسين الدخل وزيادة فرص العمل والصحة الجيدة والتغذية السليمة والتعليم، واهتمت بالقضاء التام على الفقر، وبقدر ما تبدو إعادة توزيع الثروة ضرورية – لو فرض وحدث ذلك – بقدر ما زاد الاهتمام بالعدالة الاجتماعية بزيادة المساواة، أو بينها وبين الدول الأخرى

وكانت دول العالم الثالث هي أهم أنصار قضية توزيع الثروة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، يساندها في ذلك أدبيًّا دول البترول ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وغيرها من الهيئات الكبرى.

وباختصار، نجد أن النظام الاقتصادي الدولي الجديد يمثل دعوة لإنهاء مظالم النظام القائم، ويدعو إلى مزيد من نقل المصادر الحقيقية للثروة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، وإلى تقسيم دولي جديد للعمل تزداد فيه المساواة، ويمكن أن يحل محل التقسيم الجاري للدول إلى دول صناعية، وأخرى منتجة للمواد الأولية، ويحتاج الأمر للإسراع في ذلك إلى زيادة نقل موارد الثروة من الدول الغنية إلى الفقيرة، ويتضمن زيادة هائلة في تقديم المساعدات ربما يكون بعضها في شكل ضريبي دولي يفرض على الأغنياء لصالح الفقراء. ولتطوير قدرة العالم الثالث على كسب رزقه يجب إيقاف التقلب الصارخ في الأسعار والتدهور التدريجي في قيمتها. ويستطيع الغرب أن يساعد في إقامة الصناعة في الدول النامية بفتح أبوابه أمام مصنوعات العالم الثالث؛ فالعالم الثالث يمكنه أن ينتج السلع التي تحتاج إلى عمالة كثيرة كالمنسوجات والملابس، بينما يستطيع الغرب أن يتخصص في منتجات التكنولوجيا العالية.

وبعد أن بدأت الدول النامية ترفع صوتها عالياً مطالبة بالعدالة الدولية، ارتفعت صيحة مماثلة تنادي بالعدالة لفقراء هذه الدول عن طريق الوكالات الدولية القائدة والدول والأفراد المانحة، وإن لم تكن دوافع أصحاب المنح نزيهة على الدوام.. وقد شعرت الحكومات بحاجتها إلى أن تبرهن لجماهيرها أن المعونة تأخذ طريقها لمساعدة الفقراء، وليست لتجعل الصفوة في العالم الثالث أكثر غنى، هذا فضلاً عن أن الحكومات الغربية كانت تدعو إلى إصلاحات وطنية داخلية في الدول النامية، بينما ترفض الإذعان لإجراء إصلاحات دولية، وعلى كلّ لم يكن لدى وكالات التنمية دوافع خفية أكثر من التأكيد بأن النموذج القديم للتنمية لا يستطيع أن يقضي على الفقر في المستقبل المرتقب.

إعادة توزيع الثروة: البنك الدولي

شجع البنك الدولي فكرة تنمية الثروة التي تتفق وازدياد العدالة الاجتماعية، خاصة إذا تحسنت أحوال الفقراء المعدمين. لذا نجده في الخمسينيات والستينيات يشمر عن ساعده ليقدم القروض بسخاء لإقامة المشروعات الكبيرة مثل مشروعات الطرق والصناعة، ثم زادت قوته بشكل مدهش بعد أن أصبح روبرت ماكنمارا رئيساً له عام 1968، وهو يحاول الآن توجيه قروضه بوجه خاص إلى الجماعات الأشد فقراً ولمن هم تحت حد الكفاف من المزارعين والعمال المعسرين وسكان مدن الأكواخ، ويكثف قروضه من أجل التنمية الريفية وتحسين أراضي وضع اليد. وقد نبع هذا الفكر الجديد عندما أكدت البيانات أنه بالرغم من النمو السريع للدخل القومي العام لدى كثير من الدول النامية إلا أن ما بين 30 – 60 % من السكان لم يصيبوا أي تحسن، بل ازدادوا فقراً على فقر في بعض منها؛ إذ إن عائد هذه الثروة التي تركزت في القطاع الحديث من المدن لم يصل إليهم شيء منه، أو كان ينالهم منه القليل شيئاً فشيئاً لدرجة أن أحفادهم لا يمكن أن يستفيدوا منه قبل مرور قرن أو يزيد، مع أنه من الممكن أن يزول فقرهم بسرعة، إذا خف عنهم الظلم وعدم المساواة البالغين في العالم الثالث، كذلك إذا أعيد توزيع أصول الثروة ابتداء من الأرض إلى أصغر شيء لدى الحكومة حتى ينال الفقراء فرصاً أكبر لمساعدة أنفسهم. ولكن الاقتصار على الإصلاح فقط لم يكن ليكفي؛ لأننا لو وزعنا ثروة جميع الدول الفقيرة بالتساوي وتساوت الدخول فيما بينها لظلت الأغلبية في فقرها الطاحن. لذلك فمن الضروري بمكان أن يجتمع توفر الثروة "مع" إعادة توزيعها.

لقد فكر جيل من أوائل اقتصاديي التنمية في الرأيين المتعارضين الآتيين: تتطلب التنمية السريعة، درجة عالية من الاستثمار لا تتأتى – من دون الشيوعية – إلا من أرباح ومدخرات الأغنياء، وبدت التنمية وكأنها تتطلب عدم المساواة، إلا أن تجربة دول عديدة مثل تايوان وكوريا الجنوبية وكوستاريكا، التي نمت بسرعة وفي نفس الوقت عادت بفوائدها على الفقراء، أثبتت أن العدل الاجتماعي ليس من الضروري التضحية به على مذبح التنمية.

وقد صورت النظرية الجديدة أحسن تصوير في كتاب "الثروة وإعادة توزيعها"، وهو إنتاج مشترك بين البنك الدولي ومعهد دراسات التنمية في ساكس بإنجلترا. ويرى الكتاب أن نمو إجمالي الدخل القومي يجب ألا ينظر إليه وحده كمقياس للتقدم، ففي بعض الدول النامية النموذجية، يحصل أغنى 40% من السكان على 75% من الدخل القومي. لذلك يمكن أن ينمو الدخل القومي، بينما ينخفض دخل الفقراء في الحقيقة. ويرى المؤلف أن سياسة التنمية يجب أن تهدف إلى زيادة الدخول إلى أعلى حد لدى الجماعات الشديدة الفقر على المدى المتوسط، ويعني ذلك من الناحية العملية، اتخاذ سلسلة من الإجراءات الرامية إلى نفع الفقراء من إصلاح للأراضي إلى طفرة في الصرف الحكومي على شق الطرق وتوفير مصادر الطاقة، وعلى الصحة والتعليم والائتمان، وغيرها من المساعدات بعيداً عن المدن والصناعات الكبيرة، واتجاها نحو المناطق الريفية، أو الحضرية التي تعيش على الهامش، وصغار المزارعين، وأصحاب المشروعات الصغيرة.

مواجهة الحاجات الأساسية: منظمة العمل الدولية

يعدّ مفهوم الحاجات الأساسية أكثر دقة من فكرة إعادة توزيع الثروة، وقد عرف في البداية على يد منظمة العمل الدولية، وأقرته رسميًّا الحكومات وأصحاب الأعمال والنقابات العمالية في مؤتمر الخدمة العالمي عام 1976.

ولا تعني الحاجات الأساسية مجرد الاهتمام بتحسين إجمالي للدخل العام للفقراء، ولكن بالتأكيد من حصولهم على كل العناصر الأساسية لتوفير حياة كريمة متحررة من الحاجة، بالغذاء المناسب والملبس والمسكن والرعاية الصحية والتعليم والعمل، وحق المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر عليهم. ويجب على التخطيط للتنمية أن يضع الحد الأدنى من الأهداف في كل من هذه المجالات ويتابع تنفيذها.

وتشمل المجموعة الأولى من الحاجات مستوى أساسيًّا من استهلاك الفرد، يساعده على البقاء، ويوفر له الصحة الجيدة ليتمكن من القيام بأعماله مع التعليم والكرامة. ويختلف الحد الأدنى للوجبة الغذائية إقليميًّا ما بين 2180 إلى 2380 سعراً حراريًّا للفرد. ويجب أن تكون كل أسرة قادرة على شراء حد أساسي من أدوات المنزل من قدور وحلل وموقد ومنضدة وبعض الكراسي وسرير وحد أدنى من الملابس تبعاً للمناخ ومستوى الحشمة السائد. فعلى سبيل المثال، ذكر أزيزور خان أن المرأة في بنجلاديش لا يمكن أن تظهر علانية ما لم تملك – كحد أدنى – قطعتين من الساري القصير الخشن يكلفانها 12 ياردة مربعة من القطن في السنة. وتحتاج كل أسرة إلى مسكن مناسب في المساحة ودرجة من الوقاية ضد العوامل الجوية، ونكرر القول إن ذلك يختلف تبعاً للمستويات العامة والمخاطر الجوية. وقد اقترح مؤتمر الخدمة العالمي حدًّا أدنى من الساحة قدره 5، 25 متراً مربعاً للفرد في آسيا وأفريقيا، و7، 5 متراً مربعاً في أمريكا اللاتينية (متوسط نصيب الفرد في الأسرة ساكنة الكوخ المكون من حجرة واحدة يصل إلى مترين مربعين أو أقل).

هذه المستويات الدنيا من الاستهلاك، قد لا تتم إلا بتوزيع السلع على الجماهير، وعلى الحكومات أن تحسب قيمة الدخل القادر على شراء الحاجات الأساسية من السلع؛ أي توجه جهودها إلى زيادة الدخل العائد من الخدمة المقدمة لأفقر 20% من الناس لتضمن الوصول بكل فرد إلى ما فوق حد الفقر.

وقد يصعب تحقيق ذلك في بعض الحالات في ظل التركيب الاجتماعي القائم بها. فمثلاً إذا وظفنا كل العمال العاطلين في بيهار (بالهند) فسينخفض معدل أجورهم، وهو تحت حد الفقر فعلاً؛ إذ يحتاج الأمر إلى تغييرات اجتماعية أكبر كالإصلاح الزراعي وإعادة توجيه الصناعة لتنتج الكفاية من السلع الأساسية بدلاً من تلبية احتياجات ميسوري الحال الآن.

تضم المجموعة الثانية من الحاجات الأساسية الخدمات الضرورية الحكومية مثل: المياه النظيفة والمرافق الصحية والخدمات الصحية والنقل العام والتعليم. وهنا لم يذكر مؤتمر الخدمة العالمي شيئاً عن تنظيم الأسرة. ولم تخطط الحكومات لتدبير هذه الحاجات لسكان الريف وفقراء الحضر في العالم الثالث نظراً إلى حيزها لخدمة قطاع المدن الجديدة، ونحتاج في هذا المجال إلى نص واضح يحدد كيفية وصول كل خدمة إلى مستقيها، ونسب مستهدفة لوفيات الأطفال، ومتوسط العمر المتوقع. ومدى انتشار الأمراض، والقيد في المدارس في دراسة إحصائية ميدانية على مجموعات من الأسر مع إجراء المراجعات لبيان مدى صدقها وثباتها.

الحاجة الأساسية الأخيرة هي خلق فرص العمل المنتج الذى يدر دخلاً مناسباً، فالعمل هو حجر الزاوية، ومن دون الاستخدام الكامل للقوى البشرية التي في سن العمل، لن تستطيع الدول الفقيرة أن تنتج ما يسد حاجاتها الأساسية.

في عام 1969 وضع مكتب العمل الدولي برنامج الخدمة العالمي الذي جعل خلق فرص العمل هدفاً رئيساً في جهود التنمية. وفيما قبل أواخر الستينيات رسمت مشروعات التنمية والاستثمارات للاستفادة من "ثمرات" الإنتاج والأرباح، واستهدفت تلك الدول زيادة إجمالي الدخل القومي بصرف النظر عن عدد الأفراد الذين وظفوا أو استخدموا في أداء العمل. وفي ضوء النظرة الجديدة للوظيفة، بدأت الوكالات المختلفة والحكومات تختار الأساليب والتكنولوجيا المناسبة لخلق فرص العمل وزيادة الثروة.

وتعدّ الحاجات الأساسية مفهوماً مفيدًا، حيث يسمح بوضع أهداف دقيقة ومواعيد محددة لجماعات حريصة على الإنجاز، ولا يعطى للحكومات مكاناً للخطب الرنانة الجوفاء والكلام النظري عن التقدم، حيث تركز أفكار المخططين على مواجهة الاحتياجات الحقيقية للفقراء، إلا أن المدخل إلى ذلك ليس سهلاً على الإطلاق، للعجز الواضح في الإحصاءات والإحصائيين اللازمين لقياس الإداء في كثير من الدول. والسؤال الآن هو: من الذي يحدد مستويات الحاجات الأساسية (ما دانت الحاجات الإنسانية على مر العصور أمراً نسبيًّا)؟ وما هو مدى الحاجة إلى تدخل الحكومة لتوفير المأكل والملبس وغيره من الحاجات الفردية؟

وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن المدخل إلى تحقيق الحاجات الأساسية أصبح فلسفة مقبولة لدى العديد من وكالات الأمم المتحدة كالبنك الدولي واليونيسيف ومنظمة التعاون الاقتصادي واللجنة المساعدة للجان التنمية التي تضم كل مانحي المساعدات الغربية الكبار، والمعوق الأكبر لهذا المدخل أن كثيراً من حكومات العالم الثالث تنظر إليه بارتياب؛ فهي تميل إلى الاعتقاد خطأ بأنه ضد التنمية، وعلى المستوى السياسي يراه الكثيرون تعدياً استعماريا جديداً وتدخلاً في شئونهم، وانحرافا عما يرونه الواجب الرئيس لتحقيق نظام اقتصادي دولي أكثر عدلاً. وليست هذه الحجج لدى بعض الحكومات بأكثر من مبررات جوفاء؛ لأنهم إما غير راغبين في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية أو غير قادرين على البدء فيها. ولو أن هناك جانباً من الحقيقة في هذه الناحية؛ إذ ينبغي على الحكومات الغربية ألا تعطى دروساً لقادة العالم الثالث فيما يتصل بفقرائهم بعد أن انخفضت المعونة الغربية إلى أدنى مستوى، وبينما كان الكونجرس الأمريكي يضغط عام 1977 للحد من المعونات للدول التي تتبع سياسات تتفق وحاجاتها الأساسية، سجلت المعونات من الولايات المتحدة الأمريكية أدنى درجة لها بنسبة 0، 22 % من إجمالي الدخل القومي بها، هذا وليس توفير الحاجات الأساسية هو واجب حكومات العالم الثالث فقط؛ إذ لابد من التحويل المكثف للثروة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة إذا أردنا تحقيق ذلك في أي وقت.

الحاجات الأساسية: اليونيسيف. ومنظمة الصحة العالمية

لقد فشلت الوسائل المستعملة قديماً في الوصول بالخدمة إلى الأغلبية الفقيرة خاصة في المناطق الريفية. فالنمط الغربي للرعاية الصحية وتنظيم الأسرة القائم على إنشاء المستشفيات والعيادات والتجهيزات الفنية واستخدام الخبراء المكلفين لم تستطع الوصول إلى السكان الفقراء في أماكنهم المتباعدة والمبعثرة، وهم لا يملكون المال أو الوقت للتوجه إليهم. كما منعت اعتبارات أخرى مماثلة الفقراء الالتحاق بالمدارس الرسمية أو الاستمرار بها لفترة طويلة، وإذا استمر الحال على هذه الصورة، فقد يحتاج الأمر انقضاء أربعة أو خمسة أجيال لتصل هذه الخدمات إلى المناطق الريفية.

وربما تبدو مثل هذه الخدمات لأول وهلة خارجة عن نطاق جهود التنمية، وأنها جزء من واجب دولة الرفاهة ينتظر ازديادها فيما بعد، مع تحسين أحوال الدول. وهي في الحقيقة مهمة بدرجة أهمية الربح من الوظيفة، وإنتاج الطعام والتصنيع، وهى تحسن بشكل واضح نوع الحياة؛ إذ تمكن الناس من الاستفادة من كامل طاقتهم البشرية، وأن يلمسوا الأثر السريع لذلك. وحيث تعتمد التحسينات الأساسية في الاستهلاك الشخصي على الدخول المرتفعة، يمكن للحكومات أن تقدم هذه الخدمات بثمن رخيص حتى وإن كان متوسط الدخل منخفضاً.

إن أغلى ثروة تمتلكها الدولة هي سكانها. وفي الواقع لا تملك بعض من أكثر الدول نجاحاً في شرق وجنوب شرق آسيا شيئاً أغلى من البشر. فالزراعة والصناعة كلاهما لا يعتمد فقط على الآلة والمواد والأرض بل تعتمد أيضاً وبدرجة كبيرة على درجة النشاط والمهارة وتكيف الأفراد العاملين فيها. ومعلوم أن سوء التغذية وسوء الأحوال الصحية تنزل بإنتاجية العامل فتقل الدخول. كما تستطيع الوسائل التقنية المطورة أن ترفع الإنتاجية بشرط تعلمها والتدريب على استعمالها.

وترمي الخدمات الأساسية إلى تحسين نوعية الموارد البشرية في الدول النامية، حتى تزداد إنتاجيتهم، بل ويستطيعون على المدى القصير أن يدخروا من مالهم؛ وذلك بمدهم بخدمات أكثر رخصاً من الوسائل التقليدية. فيمكن. مثلا، مد المناطق الحضرية بالمياه عبر الأنابيب بما يساوى عشر الثمن الذى يدفعه سكان الأكواخ للمياه غير النظيفة لدى بائعي المياه.

لقد نشأ مفهوم الخدمات الأساسية في الأصل من اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية. وقد طبقته هذه الوكالات والهيئات في مجالات الصحة والإسكان والتعليم خارج المدارس والتغذية وتنظيم الأسرة، وهو قائم على فكرة أن التكنولوجيا الغالية والخبراء ذوي التدريب العالي ليسوا وحدهم القادرين على تقديم مثل هذه الخدمات، ولهم أفضل وسيلة للدول الفقيرة؛ إذ توجد الوسائل التكنولوجية قليلة التكاليف والمتنوعة في مجال الإنشاءات والمياه والصحة العامة: وبالقليل من التعليم أو الخبرة مضافة إلى تدريب فعال مبسط، يمكن أن يعد الناس لتوزيع حبوب منع الحمل ووزن الأطفال الصغار وتعليم الأمهات التغذية الصحية، ويمدهم بالإسعافات الأولية وينصحهم باستعمال الأدوية الأساسية ويوجههم إلى مدارس الحضانة أو محو الأمية، لقد طرحت الحكومات سابقاً ذلك السؤال: إذا افترضنا توفر الموارد لدينا فكم من الناس يمكن أن نمدهم بالخدمات بالدرجة العالية المعتادة؟ (ذلك عند الغرب). ولكن من وجهة نظر الخدمات الأساسية، يكون السؤال: إذا افترضنا توفر الموارد لدينا فما هي المعايير، والتكنولوجيا، وما هي درجة التدريب التي يمكن أن نقبلها لتصل إلى كل فرد خلال عقد أو عقدين من الزمن؟ فالقرية وفقراء الأكواخ ليسوا بحاجة إلى انتظار ذلك اليوم البعيد الذي تتمكن فيه الحكومة من أن توفر لكل فرد المسكن والمستشفى، بل يمكنهم أن يحصلوا على المأوى المناسب والرعاية الصحية الآن، فمستوى متواضع مما يقدم الآن هو أفضل من لا شيء، ثم تتحسن هذه الخدمة فيما بعد.

ويستطيع الأفراد أنفسهم أن يتعاونوا في حل مشكلاتهم بحلول قليلة التكلفة ومشاركة جماعية على أن يساعدهم ويرشدهم أفراد من أساس المجتمع، غير محترفين، رجالاً أو نساء من الشعب أختارهم الشعب لخدمة الشعب، ويتعين أن يحصلوا على حد بسيط من التعليم بدرجة نضمن بها الحصول على المطلوب منهم في منطقتهم المحلية، وعليهم حضور برنامج تدريبي مختصر، قدر يوم أو بعض يوم لموزعي برامج تنظيم الأسرة، ويومين لكوادر التغذية، وثلاثة أو أربعة أشهر للعاملين في الصحة، ويمنحون مرتباً أو عمولة متواضعة أو يتطوعون في الأغلب بلا مقابل. وكثيراً ما يعملون جزءاً من الوقت مع احتفاظهم بمهنهم العادية في أغلب أيام الأسبوع وتكون أداتهم، أن كانوا يملكون أداة على الأطلاق، أساسية بسيطة ورخيصة. هؤلاء الفنيون الحفاة لهم مميزات عديدة بالنسبة إلى نظرائهم المحترفون ذوو الأحذية الغالية، وهم يتكلمون لغة عملائهم ويشاركونهم نفس ثقافتهم ويتمتعون بثقتهم فهم يتفهمون مشاكل الناس؛ لأنهم يشاركونهم فيها، وهم لا يظهرون بمظهر الخبراء المتأهلين في العلم والقدرة، فواجبهم الأساسي معاونة الناس على خدمة أنفسهم.

ولا يعني انتشار الخدمات الأساسية أن الخدمات التخصصية والمستشفيات أو مراكز تنظيم الأسرة أصبحت زائدة عن الحاجة، بل يجب أن يعاد النظر إليها كخدمات مدعمة في التوجيه والإشراف والتدريب بشرط توفر الدعم الفني ووسيلة النقل والمواصلات والتموين، والتعامل مع الحالات المعقدة التي يصعب على عمال الصحة بالقرية التعامل معها.

ويمكن أن تمتد الخدمات الأساسية إلى مجال الزراعة، فالعمال الزراعيون هم من الناحية العملية نوع من الخبراء الحفاة أو التكنولوجيين الحفاة، فيمكنهم معاونة الناس في تطوير آلاتهم ووسائلهم الفنية في المنزل والعمل. كما يمكن أن يفيدوا مشروعاً تجاريًّا أو صناعيًّا صغيراً بما تدربوا عليه من مبادئ المحاسبة والتوثيق. ونظراً إلى أن القانون عادة ما يكون في جيب الأغنياء في العالم الثالث، فيمكن لكل قرية أن تتعامل مع محامييها الحفاة، وربما محاكمها الخاصة أيضاً.

لقد أصبحت المشاركة الشعبية عنصراً مهمًّا في برامج الخدمات الأساسية التي تشابكت في الكثير منها مصالح الجماعات بدرجات متفاوتة، فهم عادة ما يختارون العمال بها على مستوى القرية ديمقراطيًّا، وقد يدفعون إليهم أجورا متواضعة أو من التأمينات، وقد يبنون لهم المساكن والمباني الضرورية ويقومون بأي تحسينات بيئية يرونها ضرورية. وكثيراً ما يختارون هيئة المساعدة في اللجان لمعاونة الخبراء الحفاة في نشر رسالة التعليم ويعبرون عن حاجة الجماعات المختلفة.

المشاركة في التنمية

لاقت فكرة المشاركة انتشاراً في كافة المجالات. وهناك إجماع على أن التنمية يمكن زيادتها إذا عُبِّئت جهود وموارد الشعب، وأن للفقراء حقًّا إنسانيًّا – لا زالت تنكره عليهم حتى اليوم نظم أقوى منهم – في المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر في حياتهم وأرزاقهم. وقد أُدرجت هذه الفكرة ضمن الاستراتيجية الدولية للتنمية في عقد التنمية الثاني للأمم المتحدة المعتمد في أكتوبر 1970، والذي أكد أنه: "سيُبذل كل جهد يضمن المساعدة الفعالة والمشاركة من كل قطاعات السكان في عملية التنمية".

هذا ويجب أن تتخلل المشاركة كل مرحلة من مراحل عملية التنمية: قبلها وأثناءها وبعدها، عند تحديد الأهداف وصنع القرارات التي تؤثر على المجتمع وعند تنفيذ الخطط والمشاركة في عائدها. كثير من المشروعات في هذا الكتاب تضم بعض عناصر عملية المشاركة. فنجد للسكان صوتاً في تقرير التطوير الذي يلزمهم ولا يقبلون ببساطة ما تقرره لهم الجهات العليا. وكثيراً ما يشارك الناس في العمل التطوعي، وتزويد العمل بالآلات وطرق النقل والأموال. وعادة ما تكون المؤسسة الريفية الديمقراطية – مثل اللجنة المحلية للصحة أو التغذية أو الزراعة التعاونية – قائمة لتحقيق مسألة معينة ثم تعمَّم فيما بعد لتصبح لجنة لتنمية القرية من جميع النواحي.

وللمشاركة الجماهيرية فوائد ممتازة، فالمشاركة في تنفيذ المشروعات تقلل من تكاليفها بتعبئة الموارد المحلية المعطلة والقوة البشرية غير المستغلة، والمشاركة في صنع القرار تمد المخططين بمعلومات عما يفضله الناس وما يكرهونه، كما تساعد على تجنب الأخطاء المدمرة، والفشل، والارتباط بمشروعات تحتاج عناية ونفقة كبيرة مع عائد ضئيل من ورائها، مما امتلأ به تاريخ التنمية عادة. ويمكن تشجيع المشاركة في المشروعات الإنتاجية عن طريق الجمعيات التعاونية التي ترفع معنويات الأفراد وتزيد من الإنتاجية وتقلل من الصراع السلبي المدمر بين المديرين والعمال الذين يلجؤون إلى الإنتاج البطيء أو تخريب الآلات أو تعطيل الإنتاج عامة. وفي أماكن كثيرة يعيش الفقراء في بطالة وخمول لعجزهم التام أمام اعتداء الصفوة الكبار على حقوقهم، ويؤثر هذا القصور الذاتي لديهم ليس على اندماجهم في الحياة العامة فقط بل ويفسد كذلك حياتهم العائلية والمنزلية؛ أي إن المشاركة بالنسبة إلى هؤلاء تمثل عملية تربوية؛ إذ تعطيهم الثقة في أنفسهم وفي قدراتهم على السيطرة على ظروفهم بدلاً من أن تسيطر هي عليهم. وبالتوسع في قاعدة صنع القرار، تقل فرص استراتيجيات التنمية المتبناة لفائدة قلة ضئيلة، وبالتالي تتاح الفرص الأفضل لتبني الطرائق الجديدة للمساواة وخدمة الفقراء.

وأخيراً تستطيع أن تساهم في الاستقرار السياسي الذي يتعرض غالباً للخطر في العالم الثالث، فمن المعتاد في جميع الدول الفقيرة أن تأتي مصالح القطاعات كالأسرة والقبيلة والدين والحزب في المحل الأول مع النظر إلى الحكومة على أنها وسيلة لتقدمهم أو – إذا ما وقفت في وجههم – ينظر إليها كعائق يجب خداعه وتحديه أو إزاحته. وتشجع الدكتاتورية – وهي الشكل الحكومي السائد في العالم الثالث – هذه الاتجاهات بدرجات مختلفة. ولكن عندما يُستشار الشعب قبل اتخاذ القرارات فإنه يميل كثيراً إلى تقبلها دون إكراه، وتأتي المشاركة على نطاق واسع بحكومة على درجة عالية من الشرعية، ومواطنين يقدّرون الصالح العام للمجتمع ككل مع مصالحهم الخاصة. وقد ظهرت في التاريخ مستويات عالية من المشاركة بشكل طبيعي في المجتمعات المتقدمة اقتصادياً مع نمو التعليم والثقافة ووسائل الاتصال. وعلى كل حال، نجد التجربة في الدول النامية الفقيرة مثل الصين وتنزانيا وغيانا توحي بأنه يمكن تقوية المشاركة قبل قطع شوط بعيد في التنمية، وهذا بدوره يساعد على الإسراع في التنمية.

وعلى ذلك تعني المشاركة المتزايدة بذل المعونة الذاتية بدرجة بالغة، إلا أن هناك مخاطر وراء التمادي فيها، إذ ينقص الجماهير في العادة كثير من المهارات الفنية والأدوات والموارد المالية. والمشاركة من القاعدة والمعاونة الذاتية من الفقراء وغير المثقفين لا يمكن أن تنجح نجاحاً ملحوظاً دون أن تصحبها مساعدات مادية وفنية من أعلى، أي ما يصح أن نطلق عليه "المعونة الذاتية المعانة".

ومعنى ذلك بالنسبة إلى الدول الفقيرة تعبئة كافة الموارد والمهارات المتاحة لمساعدة الفقراء. ولا يمكن للمهارات العالية وحدها أن تسد الحاجة، وكذلك لا تُستخدم المهارات المتوسطة بالدرجة الممكنة. وإن من أكثر الأفكار الجديدة إثارة هي التعبئة الشاملة لمتوسطي المتدربين ليعلّموا غير المدربين بالمرة، وقد حدث ذلك في نسق شعبي قومي في موزمبيق بعد تفريغها من القوى البشرية الفنية برحيل البرتغاليين، فتم استخدام تلاميذ الصف الأول الثانوي للتدريس بالمدارس الابتدائية، وتلاميذ الصف الثاني لتعليم الصف الأول الثانوي، كما يقضي طلاب الجامعة من كافة التخصصات إجازتهم في القرى: فطلاب الزراعة يعلّمون أفضل الطرق الزراعية وطلاب الطب يقدمون الرعاية الصحية، بينما طلاب الحقوق يدربون الفلاحين كيف يراقبون العدالة بين أفراد الشعب.

القيم المطلقة: كوكويوك واليونسكو

كثيراً ما يشير قادة العالم الثالث باستمرار في بياناتهم وتصريحاتهم الرسمية إلى القيم والآمال الوطنية وتفرد ثقافتهم المحلية، إلا أنهم يتجاهلون في الواقع هذه الغايات الجوهرية، بشكل عام. وباستثناء بعض الحالات الجديرة بالاعتبار قصدت التنمية في الغالب إلى تجميع الثروة المادية، أما القيم الأساسية مثل العدل والتعاون وعمل الخير واحترام الطبيعة فلم تكن في مرتبة أدنى فقط بل وغالباً ما داستها الأقدام في اندفاعها نحو الثروة.

ونجد هذه القيم متضمنة في نماذج التنمية الجديدة، فضلاً عن أن هناك تصريحين عامين يقدمان إطاراً واضحاً للقيم: أولهما هو إعلان كوكويوك الذي أقرته في أكتوبر 1974 ندوة عقدها برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية حول نماذج استخدام الموارد واستراتيجيات البيئة والتنمية، وهو واحد من أكثر التصريحات تعقلاً وتنوراً وإنسانية حول أهداف التنمية. والتصريح الثاني متضمن في خطة اليونسكو متوسطة الأجل للمدة من 1977 – 1982، والتي أُقرت رسميًّا عام 1977. وقد قدمت خطة اليونسكو فكرة "التنمية من الباطن" التي تخططها وتنفذها كل دولة بما يتفق مع اختياراتها وطبقاً لقيمها الأصلية وطموحاتها ودوافع شعبها.

أما القيم القائلة إن التنمية التي حدثت في السنوات المبكرة كانت خارجية المنشأ فقد فرضها الغرب أو نُقلت عنه سواء أكان غرباً رأسمالياً أو شيوعياً. بينما المطلوب هو طريقة أصلية جديدة للتنمية تنبع من صميم كل ثقافة وتثيرها قيم مستمدة من أبعد جذور لدى الشعب. ويلمح اليونسكو إلى أنها ستختلف من أمة إلى أخرى. هذا وأن أحد أغراض هذا الكتاب أن يبين وجوداً أساسيًّا مشتركاً للقيم في كل ثقافات العالم الثالث والتي يمكن أن نستمد منها نموذجاً عاماً للتنمية نطبقه في الدول النامية رأسمالية كانت أو شيوعية على السواء.

وتؤكد كلتا الوثيقتين على المعونة الذاتية، والاعتماد على النفس والتقدم الذاتي، فتقرر منظمة اليونسكو أنه: "يجب أن تُصمم خطة التنمية ولو على أبسط مستوى لتضمن تقدم الإنسان من خلال محاولاته الشخصية"، ويجب أن يُستبعد تجميع الثروة المادية كغرض من أغراض التنمية، فيقرر إعلان كوكويوك: "يجب ألا يكون هدف التنمية الأشياء بل الإنسان". وتشير اليونسكو إلى أن "التنمية يجب أن تهدف إلى التقدم الروحي والأخلاقي والمادي للبشر جميعاً سواء لكونهم أعضاء في مجتمع أو وفاء بمتطلبات الفرد الشخصية". ولذلك يقرر الكوكويوك أن "حق العمل ليس مجرد الحصول على عمل بل وأن يحقق ذاته في هذا العمل أيضاً"، كما تصرح بأن من حق الفرد ألا ينسلخ عن مجتمعه بتحويله إلى آلة للإنتاج.

ويستمد نموذج تنمية الثروة المادية وقوده من رغبة العالم الثالث في سد فجوة الغنى بينه وبين الغرب، في سباق للملكية لا طائل وراءه كما في سباق التسلح. وقد رفض إعلان كوكويوك فكرة الفجوة بقوله: "ليس الهدف أن نقتص بل أن نضمن الحياة للجميع". وبطبيعة الحال، كان أحد الأهداف الأساسية توفير الحاجات الإنسانية الأساسية للفقراء المعدمين، ولكن حالما تم اجتياز هذه "الحدود الداخلية"، وجب على الجنس البشري أن يحذر من تخطي "الحدود الخارجية" المقررة في موازين التكيف بين البيئة وكائناتها وموارد العالم فيها، كما يجب أن نضمن حداً أدنى للاستهلاك المؤكد للجميع. ولكن هناك حد أقصى أيضاً يقرره طاقة المجال الحيوي، وبقدرة الإنسان الشخصية المحدودة على الاستفادة من السلع المادية من إعلان كوكويوك موجهاً إلى الغرب أساساً، وإن كان فيه أيضاً درس للصفوة في العالم الثالث.

هذا وقد أثار نموذج التنمية الجديد بعض المقاومة من المستهلكين بين العديد من قادة العالم الثالث، فالبعض يراها نوعاً من الخداع الغربي ليتقبلوا أفضل السلع من الدرجة الثانية: ويتسببوا في تفكك قطاعاتهم الجديدة وتفقد وسائل دفاعها. أي يرونها نوعاً جديداً من الوسائل الغربية التي يحاول الاستعمار الجديد فرضها لما رأى العالم النامي على وشك "الانطلاق" نحو المحافظة على ثرواته.

ويستعمل هؤلاء الرافضون في العادة العبارات الرنانة، مثل حق كل أمة في أن تختار طريقها الشخصي، ونكتفي بالقول بأن هذه الحجج نادراً ما كانت تُثار عندما كانت جهود المعونات موجهة كلها بالفعل نحو دفع عملية "التغريب". أما هؤلاء الذين يثيرون الحجج الآن ضد التنمية الجديدة، فيهدفون إلى الترويج للطريقة القديمة بما يضمن استمرار تقليد الغرب واستمرار الاعتماد عليه.

ولا حاجة للطريقة الجديدة أن تتحمل السيطرة الغربية إلى الأبد، فهي ترمي إلى تنمية قدرة الأشخاص والجماعات والشعوب على النهوض بأعبائها بنفسها. ومن الضروري للعالم الثالث أن ينسجم مع النافع من الشخصية المتميزة. بينما تظل بعض التفاصيل قابلة لتنفيذها بنجاح وتهيئتها لتناسب كل دولة، فإن إطارها العام وأسسها واضحة تقدم صورة تقريبية مبسطة للاسترشاد بها في عقد التنمية الثالث في الثمانينات.

مفهوم العدالة المناخية

من هنا، برزت الأبعاد الأخلاقية لقضية تغير المناخ، وتم صك مفهوم "العدالة المناخية – Climate Justice" للمرة الأولى في تقرير صادر عام 1999 عن مؤسسة San Francisco – Based Corporate Watch Group، بعنوان: Greenhouse Gangsters Vs Climate Justice. ثم أعيدت الإشارة إليه في مؤتمر عقد بهولندا عام 2000، ثم مرة ثالثة في مؤتمر بالي بإندونيسيا عام 2002، والذي تم فيه اعتماد "مبادئ بالي للعدالة المناخية"، كأساس لاستجابة شعبية لأزمة المناخ العالمية التي تتكشف يوماً بعد يوم.

وفي هذا المقام، تسلط العدالة المناخية الضوء على الآثار غير المتناسبة للتغيرات المناخية على السكان الأكثر ضعفاً وتهميشاً، فضلاً عن قيود الاستجابات السياسية التقليدية لتفاقم عدم الاستقرار المناخي والحاجة الملحة إلى حلول عالمية منهجية شاملة.[1]

وبصفة عامة، يشير مفهوما العدالة والإنصاف في القانون الدولي إلى العدالة الموضوعية أي عدالة التوزيع والتحرر من التمييز وتجنب حالات عدم المساواة المجحفة بين الأفراد، والتركيز من ثم على الفئات الأكثر حرماناً والأشد ضعفاً عند صياغة السياسات وبحث البدائل والحلول للمشكلات المختلفة. ويلاحظ، التأثير المزدوج لظاهرة تغير المناخ على الفئات المستضعفة الذين يعانون التمييز ضدهم لأسباب أخرى كالسن، أو الإعاقة، أو الجنس، أو الانتماء، أو الفقر، .... كما تتسم تدابير حمايتهم بعدم الكفاءة والضعف وتشوبها بعض الثغرات.

ومن ثم، فقد ظهر مفهوم العدالة المناخية كضرورة قانونية وأخلاقية فرضتها تداعيات ظاهرة تغير المناخ على المجتمعات والشعوب، وبخاصةً الفئات والمجتمعات الضعيفة من خلال احترام قيم حقوق الإنسان عند وضع سياسات التصدي لهذه الظاهرة. وتعرف منظمة Cools the Planet العدالة المناخية، بأنها: "رؤية لإزالة وتخفيف الأعباء غير المتكافئة التي أنتجها تغير المناخ".[2]

ويمكن تعريف العدالة المناخية بشكل عام أنها معالجة العبء غير المتناسب لتأثيرات تغير المناخ على المجتمعات الفقيرة والمهمشة والسعي إلى تعزيز توزيع أكثر عدالة لأعباء هذه الآثار على المستويات المحلية والوطنية والعالمية من خلال المبادرات الاستباقية التفاعلية التي تعتمد على نظريات حقوق الإنسان الدولية والعدالة البيئية المحلية، أو هو منهج يقوم على التدقيق في كيفية توزيع الأعباء والمسؤوليات البيئية على المستويات العالمية والقومية والمحلية وفي ظل ظروف التغير المناخي.

وكشكل من أشكال العدالة البيئية، وبالنظر إلى ما استقر عليه الفقه من أن واجب حماية البيئة، عادةً ما ينطوي على التزامين رئيسين؛ أحدهما ذو طبيعة سلبية، مفادها "الحد من أنماط الاستهلاك والإنتاج الضارة بالبيئة وبمواردها". والآخر، ذو طبيعة إيجابية، ويقتضي "تحقيق الإدارة السليمة لتلك الموارد البيئية "، نجد أن منهج العدالة المناخية، كذلك، يقوم على دعامتين، تتمثل أولاهما في ضرورة الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتهدف ثانيتهما إلى تغيير الأنظمة الموروثة لاستخراج الموارد الطبيعية ونقلها وتوزيعها وتوليد الطاقة وإنتاج السلع وتقديم الخدمات وطرق الاستهلاك وطرائق التخلص منها؛ وذلك نظراً إلى أن عدم المساواة الاجتماعية والسياسية وعدم العدالة من هذا المنظور من شأنها أن تثير الاضطرابات، وأن تجعل المجموعات المهمشة أكثر تهميشاً وأكثر تأثراً بهذه الاضطرابات.

وجدير بالذكر، أن مفهوم العدالة المناخية بدأ يتبلور بصفة تدريجية داخل المنظمات الغربية غير الحكومية، حتى إن بعض هذه المنظمات حملت الاسم ذاته كمؤسسة العدالة المناخية الآن Climate Justice Now، ومؤسسة العدالة البيئية Environmental Justice Foundation.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن أول مؤتمر قمة للعدالة المناخية قد عقد في عام 2000م في مدينة لاهاي الهولندية بالتوازي مع المؤتمر السادس للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغير المناخي، حيث أقرت القمة للمرة الأولى، أن قضية تغير المناخ هي قضية حقوقية بامتياز وتعبر عن أشكال جديدة للاستعمار بما تتضمنه من تمييز عنصري ضد الفئات المهمشة والدول النامية التي على خط المواجهة مع الآثار المدمرة لهذه المشكلة البيئية الخطيرة.[3]

وقد شملت مناقشات مؤتمر الأطراف كوب 27 قد في الفترة من 6 حتى 18 نوفمبر 2022 في مدينة شرم الشيخ المصريَّة. قضية العدالة المناخية على ثلاثة مستويات أولها: عدم العدالة بين الدول الكبرى المتسببة في الاحتباس الحراري، وبين الدول الفقيرة التي تعاني من التغيرات المناخية بصورة قد تفوق ما تعانيه الدول المتسببة فيها ومن ثم، فلا يوجد عدالة توزيعية ولا عدالة تعويضية. ثانيها: العدالة بين الأجيال: فتغير المناخ يعد انتهاكا للعدالة بين الأجيال. ثالثها: العدالة الاجتماعية، حيث يشكل تغير المناخ تحديًا صعبًا؛ فالأشخاص ليسوا متساوين في التأثر بتغير المناخ، خاصة الفئات الأكثر ضعفًا في الدول النامية «النساء، والأطفال، والفقراء، وذوي الاحتياجات الخاصة والشعوب الأصلية...»؛ كما أن الدول النامية هي الأكثر تضررًا من تغير المناخ بسبب انخفاض نصيب الفرد من الدخل والأمية والأمراض المنتشرة وانخفاض متوسط العمر والبنية التحتية المحدودة والهشاشة الاقتصادية والزراعة التقليدية.

[1] 11.نادر نور الدين محمد، تغيرات المناخ والقطاع الزراعي ومستقبل الأمن الغذائي العربي، الشارقة: دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر، 2010، ص33

[2] تغير المناخ قد يساهم في زيادة مخاطر الإصابة بأمراض معدية جديدة، يورونيوز العربية، متاح على الرابط التالي

https://arabic.euronews.com/2022/04/28/climate-change-may-increase-the-risk-of-new-infectious-diseasesnews

[3] محمد رمضان الأغا، التغير المناخي، كارثة بيئية بشرية معقدة، الجدل بين العلم والسياسة والاقتصاد، مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص، المجلد 1، العدد 3، نوفمبر 2019، ص24


مقالات ذات صلة

المزيد