موقف اليمين المتطرّف من سياسات الضيافة للمهاجرين المسلمين


فئة :  مقالات

موقف اليمين المتطرّف  من سياسات الضيافة للمهاجرين المسلمين

موقف اليمين المتطرّف[1]

من سياسات الضيافة للمهاجرين المسلمين

غيضان السيد علي*

تقوم «سياسات الضيافة»، بصفتها عُرفاً من أعراف العلاقات الدوليَّة، على رعاية الغرباء والأجانب من رعايا الدول الأخرى التي دعت الحاجة إلى وجودهم في دول غير دولهم ومواطنهم الأصليَّة التي وُلدوا ونشأوا فيها، وحملوا عادتها وقيمها وتقاليدها، والوفاء تجاههم بالحقوق كافة المنوطة بهم، التي تقرُّها «سياسات الضيافة» بحسب التقاليد والأعراف الدوليَّة. ومن أهمّ هذه الحقوق التي تضمنتها «سياسات الضيافة»، والتي يكتسبها هؤلاء الأجانب بمجرَّد السماح لهم بدخول الحدود الإقليميَّة للدولة المستضيفة: توفير المأكل والمسكن والرعاية الصحيَّة والنفسيَّة، ومساعدتهم في العثور على فرص عمل وفرص تعليميَّة، وحمايتهم من أيَّة أخطار قد تحيق بهم.

لكن مع حرص جُلّ الدول على رعاية الغرباء والأجانب واللاجئين من رعايا الدول الأخرى، تظلُّ موجات التمييز بينهم وبين المواطنين الأصليين قائمة، مهما حرصت هذه الدول على الظهور بالمظهر المتحضّر الذي ينفي وجود أيَّة تمييزات قائمة على الدين أو العرق أو اللون أو الجنس أو الجنسيَّة الأصليَّة بين مواطنيها. وإذا كانت حدَّة هذا الأمر قد انحسرت بدحر النازيَّة في المدَّة ما بين نهاية الحرب العالميَّة الثانية ومنتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فإنَّها قد عادت لتزدهر بقوَّة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وخاصَّة مع تزايد أعداد المهاجرين إلى أوربا، وتنامي الشعور العام في معظم الدول الأوربيَّة بأنَّ الهويَّة الغربيَّة الأوربيَّة صارت عرضة لخطر التلاشي والانهيار، لتزداد حدَّة التمييزات العنصريَّة، وظهرت أحزاب وحركات تدعو إلى طرد الغرباء والأجانب وترحيلهم إلى بلدانهم الأصليَّة تحت حجج اقتصاديَّة تارة، وسياسيَّة تارة أخرى، وثقافيَّة واجتماعيَّة تارة ثالثة. ونال المهاجرون المسلمون القدر الكافي من التمييز والاضطهاد في معظم الدول الغربيَّة سواء الولايات المتحدة أم دول الغرب الأوربي، وخاصَّة في ما عُرف باسم اليمين المتطرّف.

ما هو اليمين المتطرّف؟

تنقسم الأحزاب اليمينيَّة إلى يمين تقليدي، ويمين متطرّف؛ يسعى اليمين التقليدي للحفاظ على التقاليد وحماية الأعراف داخل المجتمع، بينما يسعى اليمين المتطرّف إلى التدخل القسري، واستخدام العنف للحفاظ على التقاليد والأعراف، والتعصُّب القومي لجنسه، والتعصُّب الديني، ومعاداة المهاجرين بشكل عام، والمهاجرين المسلمين بشكل خاص؛ لأنَّه يرى أنَّ ما يحدث من جرائم، وسرقات يعود إلى زيادة الهجرة بشكل عام، وهجرة المسلمين بشكل خاص.[2]

وتتعدَّد تعريفات اليمين المتطرّف، لكنَّها تتفق في الأهداف والرؤى؛ فاليمين المتطرّف في تعريفه الابتدائي البسيط المباشر هو الإيمان بأنَّ البشر ليسوا سواسية، وإنَّما هم مقسَّمون إلى جماعات بعضها أفضل من بعض. وتبدو أبرز صور هذا التفضيل والتقسيم، من وجهة النظر تلك، في الناحية العرقيَّة. وذلك على العكس تماماً من اليسار المتطرّف الذي يؤمن بأنَّ الجميع سواسية، ولا فضل لأحد على آخر بأيّ حق كان، فهو يسعى لهدم أشكال الطبقيَّة والفوقيَّة والدونيَّة كافة في المجتمع، تلك الأشكال التي يتبنَّاها اليمين المتطرّف، وإن كان لليسار المتطرّف أيضاً مساوئه التي لا يسمح المجال لذكرها هنا. إذاً، اليمين المتطرّف مصطلح سياسي يُطلق على التيارات والأحزاب السياسيَّة لوصف موقعها ضمن محيطها السياسي، ويطلق المراقبون السياسيون هذا المصطلح على كتل الأحزاب السياسيَّة، التي لا يمكن اعتبارها ضمن جماعات اليمين السياسيَّة التقليديَّة التي تدعو إلى حماية التقاليد والأعراف داخل المجتمع. ويكمن الاختلاف الوحيد بين جماعات اليمين التقليديَّة أو المعتدلة وبين المتطرفة في أنَّ الأخيرة تدعو إلى التدخُّل القسري واستخدام العنف واستعمال السلاح لفرض التقاليد والقيم. ولذلك ترفض عادةً تلك التيارات هذا النعت؛ لأنَّها تزعم أنَّها تمثل الاتجاه العام، وتنقل صوت الأغلبيَّة.

وتكمن خطورة اليمين المتطرّف بشكل خاص في أنَّه يستقي استمراريته من كونه «نزعة طبيعيَّة» لدى البشر، وهذا أمر يجد جذوره في كون الإنسان جزوعاً من المجهول والغريب والأجنبي منذ مولده، وعليه كان التصاقه بالمعروف (الأسرة والعشيرة والقبيلة والعِرق والثقافة والوطن على التوالي)، والدفاع عنها ضدَّ ما يهدّد وجوده. وبناء عليه يمكننا القول إنَّ اليمين المتطرّف طبيعة يولد الإنسان بها ولا مناص منها، لكن قد يكبح الإنسان جماحها بالتعليم والاستنارة وسعة الصدر[3].

وقد تعدَّدت الأحزاب السياسيَّة التي تمثل اليمين المتطرّف في الغرب الأوروبي والأمريكي على السواء، ولكنَّ الجدير بالذكر أنَّه لا يوجد اتفاق واضح بين المنظّرين السياسيين على تقديم تعريف جامع مانع لليمين المتطرّف ينطبق تمام الانطباق على كلّ الأحزاب التي تمثله، ولكن يمكن الوقوف على بعض السمات العامَّة التي يشترك فيها أيُّ برنامج سياسي لأيّ حزب يميني متطرّف، ومنها: مناصبة الأجانب العداء، والدعوة إلى الحدّ من موجات الهجرة؛ بل ترحيل المهاجرين الغرباء، ورفض الأقليَّات والتعدديَّة الوطنيَّة، والاعتزاز بالقديم والدعوة إلى المحافظة عليه باسم الحفاظ على الهويَّة، والدفاع عن التقاليد القوميَّة التاريخيَّة.

ويرى بعض الباحثين أنَّ الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة على اختلافها تفتقر، بصورة كاملة، إلى أيّ برنامج سياسي إصلاحي يتَّصل بهموم الناس الحقيقيَّة، مثل الوظائف والتعليم والصحَّة؛ إلا أنَّها تعتمد بشكل أساسي على زعم حماية حقوق السكان الأصليين من هؤلاء المهاجرين الذين يسرقون الوظائف وقوت الشعب، فهم يربطون دائماً بين الهجرة والبطالة، كما أنَّهم يجتمعون على تأكيد اقتران اليمين المتطرّف بالإيديولوجيا الفاشيَّة؛ بل يتمُّ تصنيف المنتمين إلى تلك الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة بأنَّهم «الفاشيون الجدد». وعلى الرغم من ذلك يمكن القول إنَّ هذه الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة تجتمع على عدّة سمات أهمُّها: تقديس القوميَّة، والتمييز العرقي، ورفض المساواة الفرديَّة، وتركّز على التجانس الإثني، والعداء للأجنبي، ومقت المهاجرين، وحفظ القانون والنظام، والنظرة الشوفينيَّة للرفاهيَّة، حيث يجب على الدولة أن تضمن، من خلال سياستها الاجتماعيَّة، رفاهية أفراد الأمَّة دون الأجانب. وهي أحزاب تؤمن بمركزيَّة عالية، ونظام هرمي مرتكز على شخصيَّة القائد الكارزميَّة، وتستعمل الشعبويَّة أسلوبَ فعلٍ للتسويق السياسي[4].

عوامل انتشار اليمين المتطرّف

أدَّت عوامل كثيرة إلى انتشار اليمين المتطرّف في الغرب الأوروبي والأمريكي؛ منها ما يتعلق بالغرب ذاته، ومنها ما يتعلق بالمهاجرين المسلمين أنفسهم. ويمكن تقسيم أسباب صعود اليمين المتطرّف إلى أسباب اقتصاديَّة وسياسيَّة وأمنيَّة؛ وتتمثَّل الأسباب الاقتصاديَّة في الأزمة الماليَّة العالميَّة، التي برزت على السطح عام (2008)، والتي أدَّت إلى انتشار البطالة في أوروبا والركود الاقتصادي. ومع زيادة الهجرة، بدأ بعض الأوربيين ينظرون إلى المهاجرين على أنَّهم مزاحمون لهم في وظائفهم، وهنا ظهرت دعوات للتضييق على المهاجرين، ودعوات عدائيَّة ضدَّهم، كما تسبَّبت الأزمة الاقتصاديَّة في صعود اليمين في مختلف أنحاء العالم الغربي، وتزايد شعبيته لتجاوز الخسائر الماديَّة التي لحقت بدول الاتحاد الأوربي، الأمر الذي أدَّى إلى ردود فعل غاضبة أدَّت إلى تزايد الإقبال على اليمين المتطرّف.

أمَّا الأسباب السياسيَّة، فتتركَّز في أنَّ اندماج الدول الأوروبيَّة في الاتحاد الأوروبي أشعل اهتمام الأوروبيين بأصولهم القوميَّة، كلّ دولة على حدة، الأمر ذاته الذي بدا ملحوظاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور مجموعة من الدويلات التفتت إلى أصولها العرقيَّة، وبدأت النزعات القوميَّة تنمو مرَّة أخرى. كما أدَّت الأحداث السياسيَّة في الشرق الأوسط، التي عرفت باسم ثورات «الربيع العربي»، إلى تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا، ما عزَّز موقف أحزاب اليمين المتطرّف للحد من خطر هؤلاء المهاجرين. كما يبقى عدم الرضا الشعبي عن أداء الأحزاب اليمينيَّة التقليديَّة عاملاً سياسياً مهمَّاً، بالإضافة إلى الرغبة الجماهيريَّة في التغيير. أمَّا الأسباب الأمنيَّة، فإنَّها تتركَّز أوَّلاً في تلك الهجمات الإرهابيَّة التي ضربت العديد من الدول الأوربيَّة، وعلى رأسها تفجيرات مدريد في (11 آذار/مارس 2004)، التي راح ضحيتها 191) شخصاً)، أو هجمات باريس في (2015)، التي راح ضحيتها (140 شخصاً)، أو تلك الهجمات التي حدثت في لندن في (2005)، و(2015)، أو في الدانمارك وألمانيا وغيرها، حيث دفعت هذه الأعمال الإرهابيَّة بنجم الأحزاب اليمينيَّة المتطرفة إلى البزوغ والصعود. وهناك ازدياد ظاهرة الإسلاموفوبيا في الآونة الأخيرة التي تعكس مظاهر العداء من قِبل قطاع واضح من الأوربيين للجاليات الإسلاميَّة في أوربا، وقد تبلور ذلك مع تكوين حركة «أوروبيون وطنيون ضدَّ أسلمة الغرب»، المعادية للإسلام في ألمانيا، التي نظَّمت منذ تشرين الأول/ أكتوبر (2014) تظاهرات أسبوعيَّة كلّ يوم إثنين في مدينة درسدن شرق البلاد، شارك فيها ما يزيد على (10) آلاف شخص[5].

اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة

وراء هذا الصعود والانتشار الواسع لأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا وأمريكا ازدادت الممارسات المتطرّفة تجاه المهاجرين العرب المسلمين في معظم الأقطار الغربيَّة؛ حيث أخذت أحزاب اليمين تشنُّ هجماتها من خلال صحفها ومجلاتها التي أصبحت تتصدَّر صفحاتها الأولى عناوين من قبيل: (نيران الإسلام) و(الإسلام الملتهب) و(القنبلة الزمنيَّة الإسلاميَّة) و(الإسلام يكتسح الغرب) ...إلخ، ما انعكس بصورة سلبيَّة على سياسات الضيافة للمهاجرين المسلمين. وهو ما سنقف عنده بالتفصيل في أشهر الأقطار الغربيَّة:

أولاً: اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة

يُعدُّ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسيَّة الأمريكيَّة دفعة قويَّة حقيقيَّة لأحزاب اليمين المتطرّف في أمريكا وأوروبا على السواء، فقد مثَّل فوزه انتصاراً لدعوات اليمين المتطرّف في جلّ أرجاء العالم الغربي، الذي ينادي دائماً بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وهو الأمر الذي تحقَّق بشكل جزئي حينما أصدر قراره الشهير، عقب توليه منصبه الرئاسي في البيت الأبيض، بمنع دخول رعايا سبع دول إلى أمريكا هي: إيران والعراق وسورية واليمن وليبيا والسودان والصومال. ومن الملاحظ أنَّها كلها دول إسلاميَّة وصفها ترامب بأنَّها مثيرة للقلق.

إنَّ وصول ترامب المتشبّع بأفكار اليمين المتطرّف إلى رئاسة القوَّة العظمى في العالم، من خلال برنامج انتخابي يستهدف طرد المهاجرين المسلمين من أمريكا، أمر له دلالاته المقلقة على مستقبل «سياسات الضيافة» تجاه المهاجرين المسلمين في الولايات المتَّحدة؛ فسوف يطالبه مواطنوه بتنفيذ وعوده الانتخابيَّة التي اشتملت على مجموعة من الوعود التي تحمل مشاعر الكراهية للمسلمين، والتي عبَّر عنها في مناسبات شتَّى، فقد وعد بأنَّه سيطبّق نظام وضع قاعدة بيانات لتعقب المسلمين في الولايات المتَّحدة، وأنَّه سيتمُّ وضع إشارة توضح انتماءاتهم الدينيَّة في بطاقات الهويَّة، خلافاً لما هو معتاد في الولايات المتحدة. كما تعهَّد بإغلاق بعض المساجد في البلاد متهماً إيَّاها بأنَّها مصدر التطرُّف. هذا فضلاً عن تصريحاته التي تحمل حقداً تجاه المسلمين، والتي زعم فيها أنَّه رأى بأمّ عينيه المسلمين في مدينة نيوجيرسي يحتفلون بسقوط بُرجي التجارة العالميين.

والحقيقة أنَّ سياسات اليمين المتطرّف في أمريكا تجاه المهاجرين المسلمين أخذت في الصعود منذ بداية التسعينيات، حيث إنَّ موجة من العنصريَّة المعادية للعرب والمسلمين اجتاحت أمريكا وقت حربها على العراق، والمسلمون وبعض العرب في أمريكا وجدوا أنفسهم مصنفين على أنَّهم في خندق العدو، وعانوا من المضايقات والعنف في الشوارع والمدارس وأماكن العمل، واستمرَّ ذلك حتى بعد وقف إطلاق النار. ولم يقتصر ذلك على الأمريكيين العاديين، بل شارك فيه مسؤولون، وازداد الحال بعد تفجير مركز التجارة العالمي في (23 شباط/فبراير 1993)، ووصل إلى الذروة بعد أحداث (11 أيلول/سبتمبر 2001)، وقد انتهزت الصحافة وشبكات التلفزيون الفرصة لتصوير المسلمين جميعاً على أنَّهم إرهابيون، وأنَّ تنظيمات طالبان والقاعدة والجهاد وداعش والجماعات والمنظمات الإرهابيَّة كافةً هي التعبير عن حقيقة الإسلام[6].

لقد عَمِلَ اليمين المتطرّف على استغلال تفجير مركز التجارة العالمي، وما تلاه من أعمال إرهابيَّة في أمريكا، سواء ارتكبها مسلمون أم غير مسلمين، أسوأ استغلال، حيث دأب على تصوير المسلمين على أنَّهم العدو الحقيقي لأمريكا، وأنَّ الإسلام من حيث المبدأ لا يعترف بالتعايش، وكلُّ ذلك ينعكس بصورة يوميَّة على حياة العرب والمسلمين جميعاً، سواء كانوا مواطنين أمريكيين أم مهاجرين. فعقب كلّ حادث إرهابي تظهر في سلوك الأمريكيين آثار الصورة الذهنيَّة التي غرستها وسائل الإعلام والسينما، والتي «لا تفتأ في تصويرهم على أنَّهم «برابرة» و«أعداء الديمقراطيَّة»، تحرّكهم مشاعر الضغينة تجاه الغرب، ولذلك فهم خطر على الأمن القومي الغربي يجب استئصاله»[7]؛ فيتعرَّض العرب والمسلمون في أمريكا لمضايقات وإهانات، كما يتعرَّضون لسيل من النكات، ويكون العربي والمسلم هو المتَّهم الجاهز لكلّ جريمة. حتى عندما تظهر هويَّة المتهم الحقيقيَّة ويتبين أنَّه ليس عربياً ولا مسلماً لا تكترث الصحف الأمريكيَّة بالتصحيح أو الاعتذار، وخير شاهدٍ ودليلٍ على ذلك الانفجار الذي وقع في مدينة أوكلاهوما في (19 نيسان/ أبريل 1995)، حيث سارع الجميع إلى اتهام العرب والمسلمين بأنَّهم وراء الحادث، وتفننت وسائل الإعلام المختلفة في اتهام المسلمين، ونادت بطردهم من البلاد، وبعد ظهور الحقيقة ومعرفة مرتكبي الحادث الحقيقيين، وأنَّهم ليسوا عرباً ولا مسلمين، لم تعتذر وسائل الإعلام التي سارعت بإدانة المسلمين بلا دليل. وعلى الرغم من الإحصاءات الرسميَّة التي أعلنتها وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة عام (1995)، والتي تقول إنَّ (96%) ممَّن أدينوا بأعمال إرهابيَّة في الولايات المتحدة ليسوا عرباً ولا إيرانيين، تجاهلت الصحافة والإعلام الأمريكي هذا التقرير الرسمي، واستمرَّت في حملتها[8]؛ بل تبنَّت قوى اليمين المتطرّف في أمريكا حقّ الرد خارج أمريكا، وقال جيفري هارت، صاحب العمود المعروف في صحيفة (واشنطن تايمز): «إنَّ الردَّ الصحيح على هجوم إرهابي إسلامي هو شنُّ هجوم فوري مدمّر ضدَّ دولة شرق أوسطيَّة، ولا مبرر لعدم معاملة إيران وسورية والعراق وليبيا على أنَّهم كيان واحد، وإذا قيل: إنَّ ذلك سيسفر عن وقوع ضحايا من المدنيين، فإنَّ الرد: ماذا يضيرنا من تدمير رعاة الإبل وجامعي التمر»[9]؟

وانعكست كلُّ هذه الأوضاع على «سياسات الضيافة» في أرجاء الولايات المتحدة كافة، فبمجرَّد وقوع حادث إرهابيّ تتجه الأنظار تجاه أيّ مسلم يصادف وجوده بالقرب من مكان الحادث، ومن ثمَّ يتمُّ القبض عليه فوراً، ويخضع لموجات متتالية من التحقيقات والاحتجاز هنا وهناك مثلما حصل مع الأردني إبراهيم أحمد عقب تفجيرات أوكلاهوما. وتتصاعد الممارسات العدائيَّة تجاه جموع المسلمين في شتى الولايات، فتعود تلميذة باكية من المدرسة في ولاية كاليفورنيا بسبب سوء معاملة زملائها لها، فتشتكي أسرتها لمدير المدرسة الذي يردُّ على الشكوى قائلاً: إذا لم يعجبكم البقاء هنا يا رعاة الإبل فاخرجوا من المدينة! وفي مدينة دالاس نادى مدير مدرسة طالباً مسلماً: «تحرَّك وإلا فسأحرق خيمتك وأقتل جملك»[10]. وبطبيعة الحال ازدادت هذه الممارسات العنصريَّة حدَّة وبشاعة بعد صعود اليمين المتطرّف؛ ما أضرَّ بحقوق سياسات الضيافة كافة في الولايات المتحدة.

ثانياً: اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في أوروبا

ومن الولايات المتحدة الأمريكيَّة إلى أوروبا لا يختلف الأمر كثيراً، فبعد يوم واحد على تولي دونالد ترامب منصبه رسمياً رئيساً للولايات المتحدة، شهدت مدينة كوبلنس الألمانيَّة مؤتمراً لأهمّ أقطاب اليمين المتطرّف في أوربا، وقد حضر المؤتمر كلٌّ من: فرواكا بيتري، زعيمة حزب «البديل من أجل ألمانيا»، ومارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرّف الفرنسي المتمثّل في «حزب الجبهة الوطنيَّة»، وكذلك الشعوبي الهولندي المعادي للإسلام خيرت فيلدرس، وزعماء يمينيُّون متطرّفون من النمسا وبولندا والتشيك. وكان اللقاء تحت شعار «الحريَّة لأوروبا». فصعود اليمين المتطرّف في فرنسا أو سويسرا أو هولندا أو السويد أو ألمانيا أو روسيا قد ألقى بظلاله البائسة على سياسات الضيافة تجاه المهاجرين المسلمين.

وقد وضح ذلك جليَّاً بعد تزايد عدد المهاجرين، وتدفُّق اللاجئين المنتمين إلى أقليات قوميَّة ودينيَّة وعرقيَّة مختلفة إلى أوربا في الآونة الأخيرة، وهذا ما جعل الأوربيين ينظرون إلى تلك الظاهرة على أنَّها ستؤدي إلى خلل ثقافي في البنية الثقافيَّة الأوروبيَّة. وفي سياق كهذا، لم يعد يُنظر إلى المهاجرين على أنهم مصدر تهديد اقتصادي لفرص العمل ولدولة الرفاه في أوربا فحسب، بل يُنظر إليهم على أنهم مصدر تهديد ثقافي أيضاً يمسُّ الهويَّة والثقافة الوطنيَّة. وهكذا أصبحت فئات واسعة من المجتمع الأوربي تتجه نحو إظهار مزيد من عدم الثقة، وحتى العداء تجاه الأجانب وثقافتهم وقيمهم، التي أصبح يُنظر إليها على أنها ثقافات غريبة تضفي مزيداً من التحدّي على التماسك الوطني والثقافة الوطنيَّة وطريقة الحياة المحليَّة. ولذلك استطاع اليمين المتطرّف تحقيق نجاحات انتخابيَّة لافتة؛ لأنَّه نصَّب نفسه مرافعاً عن التميز الثقافي الإثني والديني الأوروبي، ينظر إلى المجتمع من خلال ثنائيَّة «هم ونحن»، ليصوّر مجموعات المهاجرين على أنها تهديد للوحدة القوميَّة والتماسك الوطني، وتحريف لنمط الحياة المحليَّة. حين التقى مثل هذا الخطاب مع مطلب مجتمعي واسع، جاءت النتيجة في شكل تصويت مكافئ من المواطن الأوروبي لليمين المتطرّف الذي استطاع خفض الخوف والقلق لدى الأفراد من خطر المهاجرين[11]. وقد وضح صدى هذا في الأقطار الأوربيَّة كافة، كما سنبيّن فيما يأتي:

1. اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في فرنسا

حزب «الجبهة الوطنيَّة»، الذي تأسس عام (1972)، يمثل اليمين المتطرّف في فرنسا، وتتزعمه اليمينيَّة المتطرّفة مارين لوبان، ابنة مؤسّس الحزب جان ماري لوبان، المرشَّح السابق الذي احتلَّ المرتبة الثانية في الانتخابات الفرنسيَّة مع الرئيس السابق جاك شيراك، وهي تقود الحزب منذ (16 كانون الثاني/ يناير 2011) تحت شعار مناهضة كلّ ما لا يدعم الثقافة الفرنسيَّة، والعداء للأجانب والمهاجرين المنحدرين من الثقافات الإسلاميَّة والشرق الأوسط. وقد استطاعت أن تجعل حزبها يتصدَّر التمثيل الفرنسي في البرلمان الأوربي بنسبة (25%)، متفوقاً على الحزب الاشتراكي الحاكم. وكانت «الجبهة الوطنيَّة الفرنسيَّة» أوَّل حزب استخدم «الإسلاموفوبيا» في دعايته السياسيَّة وحملته الانتخابيَّة للتخويف من الإسلام والمسلمين.

والمتابع لتصريحات لوبان وخطاباتها الملأى بالعداء والكراهية للمهاجرين المسلمين يعرف، منذ الوهلة الأولى، أنَّها تخلط بين فكر الجماعات الإسلامويَّة المتطرّفة وبين الفكر الإسلامي على وجه العموم أو جميع المسلمين. ولا شكَّ في أنَّ صعود نجم «الجبهة الوطنيَّة» سيؤثر بشكل كبير في وضع المهاجرين المسلمين في فرنسا، وقد وضح ذلك جيداً بعد تفجيرات باريس الأخيرة، وتزايد مخاوف الفرنسيين من الجماعات المتطرّفة. ما أوحى للجميع بأنَّ التأثير على الجاليات سيتحوَّل من التأثير الشعبي غير الفعَّال في الحياة الواقعيَّة إلى الدور الرسمي الذي ستعقبه قوانين ربَّما تضيِّق عليهم كثيراً من الحرّيات التي كانوا يتمتعون بها في ظلّ الوضع السابق. والتي ربَّما تضع قيوداً مختلفة على المهاجرين المسلمين، سواء في ذلك الموجودون في فرنسا بالفعل، أم الذين يرغبون في الهجرة أو السفر إليها.

وقد بلور «حزب الجبهة الوطنيَّة» في فرنسا مجموعة من الأهداف التي يسعى بكلّ قوة إلى تحقيقها، والملاحظ أنَّ معظم هذه الأهداف تسعى إلى تضييق الخناق على المهاجرين المسلمين. وتتمثّل هذه الأهداف في: إيقاف الهجرة من البلدان غير الأوربيَّة، وتشديد إجراءات الحصول على الجنسيَّة الفرنسيَّة، والسعي إلى زيادة استقلال فرنسا عن الاتحاد الأوربي والمنظمات الدوليَّة، ومعارضة الهجرة الجماعيَّة، ولاسيما القادمة من بلاد الشرق الأوسط، وتقصد بذلك هجرة السوريين والعراقيين، كما نادت بالتضييق على بناء مساجد جديدة في فرنسا.

2. اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في سويسرا

يُعدُّ «حزب الوسط الديمقراطي» من أهمّ الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة في سويسرا، منذ أن فرض اتحاده كلمته على الانتخابات التشريعيَّة في سويسرا في تشرين الثاني/ نوفمبر (2003) بزعامة كريستوف بلوخير (الذي شُبِّه بزعيم اليمين الفرنسي المتطرّف جان ماري لوبان)، ومنذ ذلك الحين يسعى هذا الحزب للتضييق على المهاجرين المسلمين في سويسرا.

وإذا كان عدد المسلمين في سويسرا يشكّل (2%) تقريباً من عدد السكان، وإذا كانوا يمثلون ثالث أكبر الأديان هناك، فإنَّ سياسات الضيافة تجاههم مقلقة إلى حدٍّ بعيدٍ؛ حيث تواجه السيدات المحجبات مشاكل عديدة، ويتعرّضن في الطريق للسباب والشتائم، وقد تمتدُّ أيدي المُعاكسين إلى الحجاب لتمزيقه، كما يُطلق السويسريون على المسلمين اسم «المحمَّديين»، ويرى معظم المسلمين في هذه التسمية إهانة لهم؛ لأنَّهم لا يعبدون محمَّداً ـصلى الله عليه وسلم ـ وإنَّما يعبدون الله. كما تتجلى أزمات الضيافة في سويسرا تجاه المهاجرين المسلمين عندما تبحث مجموعة من المسلمين عن مكان تمارس فيه عباداتها، فإنَّ السويسريين يرفضون منح المسلمين التصاريح لبناء مساجد. كما أنَّ تأدية الصلوات الخمس في مواقيتها تبقى مشكلة يعاني منها المسلمون في سويسرا؛ حيث يرفض مديرو الشركات والمصانع منح العمال المسلمين فترة للصلاة، والسبب هو الجهل بالإسلام، ومعاداة الأجانب، والخوف من كلّ ما هو غريب. ويعبّر عن ذلك أحد المديرين بقوله: «لا بدَّ من أن يتأقلم هؤلاء المحمَّديون على الحياة هنا، هل يعتقدون أنَّنا نريد أن يصبح الإسلام دين الدولة في سويسرا»[12]؟

ثمَّة مشكلة أخرى تؤرّق المهاجرين المسلمين في سويسرا، حين يأتي شهر رمضان في فصل الصيف، وترتفع درجة الحرارة، وتزداد ساعات النهار، فعلى المسلم هناك أن يمارس عمله كالمعتاد، ولاسيّما أنَّ معظم المسلمين في أوربا يقومون بأعمال شاقة ومضنية، فيكون الصيام بالنسبة إليهم مشقة كبيرة؛ لأنَّ المجتمع يطالبهم بالإنتاج بالطاقة ذاتها التي يعملون بها في سائر شهور السنة. كذلك الحصول على اللحم المذبوح وفقاً للشريعة الإسلاميَّة يمثل مشكلة كبيرة للمسلمين هناك، كما أنَّ كثيراً من المنتجات الغذائيَّة تحتوي على دهن الخنزير، ويُكتفى بذكر أنَّها تحتوي على «دهن حيواني». والذبح على الطريقة الإسلاميَّة ممنوع في سويسرا بالقانون، ولذلك يضطر المسلمون إلى أكل اللحوم المتوافرة، على الرغم من أنَّها ليست مذبوحة بالطريقة الإسلاميَّة، بينما تشتري فئة أخرى من المسلمين ما تحتاج إليه من لحوم من محلات الجزارة اليهوديَّة، حيث لا يأكل اليهود لحم الخنزير، ولا يقتلونه بالصدمة الكهربائيَّة، أو بالرصاص على الطريقة السويسريَّة، وليس هناك غير قلة من المسلمين يخالفون القانون، ويذبحون بالطريقة الإسلاميَّة، والشائعات المتداولة تقول إنَّ المسلمين في سويسرا يذبحون الماعز والخرفان خفية في حمَّامات البيوت، لكنَّ ذلك غير صحيح، وما هي سوى شائعات[13]. وهكذا تخلُّ سويسرا بسياسات الضيافة كافةً تحت تأثير أحزاب اليمين المتطرّف تجاه المهاجرين المسلمين.

3. اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في هولندا

لا يختلف الحال كثيراً في هولندا، حيث الصعود اليميني المتطرّف، فمع تزايد قوَّة حزب «من أجل الحرية»، الذي يرأسه الهولندي خيرت فيلدرس، أشهر زعماء اليمين المتطرّف في أوروبا، الذي ذاعت شهرته بعد عاصفة الاحتجاجات التي أثارها في العالم الإسلامي لإنتاجه فيلماً مسيئاً للإسلام بعنوان «فتنة»، حيث قارن فيه الإسلام بالفاشيَّة، والقرآن بكتاب هتلر (كفاحي)، وعَدَّ المسلمين همجيين ومتخلفين؛ لذا أوجب منع الهجرة من البلدان الإسلاميَّة إلى هولندا[14]. وهاجم فيلدرس مراراً سعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وقال مخاطباً الأتراك: «نحن لا نريد مزيداً من الإسلام؛ بل القليل منه، لذلك فلتبقوا بعيداً عنا، أنتم غير مُرحَّب بكم... لستم موضع ترحيب هنا». وصعدت شعبيَّة فيلدرس في استطلاعات الرأي العام بعد دعوته إلى إغلاق الحدود فى وجه مئات الآلاف من المهاجرين، معظمهم مسلمون فرُّوا إلى أوربا هذا العام من الشرق الأوسط بعد أحداثه الساخنة والتالية لظهور «الربيع العربي» في اليمن أو سورية أو العراق أو مناطق أخرى.

ونتيجة لصعود اليمين المتطرّف في هولندا تأثرت بشكل كبير «سياسات الضيافة» فيها، وأصبح المهاجرون المسلمون يشعرون بعدم الراحة وبوجود مشاكل كثيرة لم تكن موجودة من قبل، فبعد أن كانت هولندا وسائر بلاد الشمال الأوربي ملاذاً آمناً لكلّ القادمين إليه سواء أكانوا سياسيين أم غير سياسيين، اختلف الأمر اليوم، وتحديداً عقب أحداث (11 أيلول/ سبتمبر 2011)، حتى إنَّ الوزير الهولندي روجين فان بوكستل صرَّح لمراسل صحيفة (الفيجارو)، عقب خروجه من اجتماع كان مخصَّصاً لموضوع المهاجرين إلى هولندا، فقال: إنَّ هناك اتفاقاً في وجهات النظر بين وزراء الاتحاد الأوربي في هذا الاجتماع على ضرورة معرفة (من هم الأعداء)؟ وذلك بوساطة أجهزة المخابرات للبحث عن المشتبه فيهم، والمشكوك في أمرهم. وقالت (الفيجارو): إنَّ المخابرات الهولنديَّة وضعت أجهزة تسجيل بالصوت والصورة سرَّاً في مساجد هولندا، وبثّت إحدى قنوات التلفزيون الهولندي ذات يوم تسجيلات لما يجري داخل أربعة مساجد[15].

4. اليمين المتطرّف وسياسات الضيافة في ألمانيا

صعد اليمين المتطرّف في ألمانيا بشكل غير مسبوق خلال السنوات الثلاث الماضية؛ حيث تمكَّن «حزب البديل الألماني» أو «البديل من أجل ألمانيا» من الحصول على نسبة (25%) من الأصوات في انتخابات الولايات في آذار/ مارس (2016)، على الرغم من أنَّه قد فشل سابقاً في عام (2013) في الحصول على أيَّة مقاعد في البرلمان، فقد كان في بدايات ظهوره حزباً هامشيَّاً. كما أنَّه من المتوقع أن يكون أوَّل الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة التي تصل إلى البرلمان الألماني منذ الحرب العالميَّة الثانية، بعد استطلاعات للرأي أظهرت حصوله على (10-12%)، ولذلك أصبح هذا الحزب يحظى بحضور قوي ضمن السلطة التشريعيَّة في الولايات الألمانيَّة.

كما يُضاف إلى حزب «البديل» حزب يميني متطرّف آخر بدأ يبزغ نجمه مؤخراً جداً، وهو «حزب ألمانيا القومي الديمقراطي»، الذي يُطلق عليه الكثيرون اسم «النازيَّة الجديدة»، حيث استطاع أن يصبح، في مدَّة قصيرة للغاية، الحزب المسيطر على مدينة درسدن، ويحصل على (1.3%) في الانتخابات الأخيرة، فضلاً عن تمكُّنه من حجز مقعد داخل البرلمان الأوروبي من ضمن (96) مقعداً مُخصَّصاً لألمانيا. وهذا يعكس بشكل واضح وقوي أنَّ الآونة الأخيرة تشهد نمواً متزايداً لليمين المتطرّف في ألمانيا.

هذا فضلاً عن النشاط اليميني المتطرّف، الذي تقوم به حركة «بجيدا» المناهضة للهجرة والوجود الإسلامي في ألمانيا، والتي جاء مسمَّاها من اختصار «أوربيون وطنيون ضدَّ أسلمة الغرب»، حيث ترى «بجيدا» أنَّ الوجود الإسلامي في ألمانيا يُعدُّ اعتداء على الهويَّة الثقافيَّة الأوروبيَّة. وتحاول هذه الحركة جاهدة أن تصوّر أنَّ رفض الإسلام والمسلمين في ألمانيا هو مطلب عام لفئات الشعب الألماني كافةً، وذلك من خلال حشد المظاهرات التي تحرص على أن تكون كبيرة العدد للإيحاء بأنَّ مطلبها المتطرّف هو مطلب عام، حيث تُرفَع في هذه المظاهرات لافتات معادية للإسلام والمسلمين، وأنَّ وجودهم في ألمانيا سيدمّرها. وتكمن خطورة هذه الحركة في أنَّها تنظم مظاهراتها كلَّ يوم اثنين من كلّ أسبوع، وكثيراً ما تنعت المسلمين بـ«الغجر»، وهو الاسم الذي يؤذي مشاعر المسلمين كثيراً.

وكان لهذا الصعود لليمين المتطرف آثارٌ ملحوظة في «سياسات الضيافة» في ألمانيا، وخاصَّة تجاه المهاجرين المسلمين؛ حيث تسود من حين لآخر فكرة أنَّ «مسجد القدس» في الحي الإسلامي في هامبورغ هو المكان الذي يُلقَّن فيه الشباب الفكر المتشدّد والإرهابي. وتحت تأثير «حزب البديل» اليميني المتطرف، الذي بات يروّج في الآونة الأخيرة مقولة «إنَّ كلّ مسلم هو مشروع إرهابي»، بدت معاناة المسلمين بشكل أكثر بروزاً من ذي قبل. وبدأت بعض وسائل الإعلام تردّد أنَّ المسلمين غير موثوق بهم في أيّ مكان يُوجدون فيه، وأنَّ كلَّ ما يفعله المسلمون هو خلق المشاكل للمواطنين الألمان. ومن هنا اكتسب «حزب البديل من أجل ألمانيا» شهرته وشعبيته في الآونة الأخيرة، حيث وضع في قمَّة اهتماماته الحدّ من هجرة المسلمين إلى ألمانيا وطرد المهاجرين.

5. اليمين المتطرف وسياسات الضيافة في روسيا

لا يختلف الأمر في روسيا كثيراً عن الأمر في الولايات المتحدة الأمريكيَّة أو الدول الأوربيَّة المختلفة، سواء التي تمَّ الحديث عنها أم التي لم نتعرَّض لها مثل: السويد، وإيطاليا، والدانمارك، والمجر، وبولندا، والنمسا، والسويد، واليونان، وبريطانيا، حيث يبدو الحال مشابهاً إلى حدٍّ كبير. صعود لليمين المتطرف، وتضييق الخناق على المهاجرين المسلمين، والمناداة بمنع الهجرة إلى هذه الدول، وطرد المهاجرين الموجودين بالفعل، وعليه تتمُّ معاملة المهاجرين بعنصريَّة شديدة، ما يخلُّ بشكل واضح وصارخ بكلّ ما تقتضيه المواثيق الدوليَّة في معاملة الغرباء والمهاجرين والأجانب بحسب سياسات الضيافة المعمول بها في القانون الدولي.

ومن المعروف، بحسب تقارير «مركز الأمن الأمريكي الجديد» (CNAS) أنَّ روسيا تموّل عدداً من أحزاب اليمين المتطرّف في أوربا، «ويبدو الكرملين على علاقة وطيدة بأكبر الأحزاب اليمينيَّة المتطرّفة في أوروبا، وهو «حزب الجبهة الوطنيَّة الفرنسيَّة»». ولا شكَّ في أنَّ دور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المشكلات العربيَّة الإسلاميَّة، ولاسيما ما يتعلق بالأزمة السوريَّة، يؤكّد ذلك بدرجة كبيرة.

أمَّا فيما يتعلق بسياسات الضيافة في روسيا تجاه المهاجرين المسلمين، فقد بدأت في مرحلة مبكرة، منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، عقب عمليَّة احتجاز الرهائن في أحد مسارح موسكو في (23 تشرين الأول/ أكتوبر 2002)، التي تبعتها حملة إعلاميَّة ضارية ضدَّ الإسلام، رافقتها إجراءات بوليسيَّة لم يسبق لها مثيل ضدَّ المسلمين. وكانت هذه الحادثة بمثابة الفتيل الذي أشعل مشاعر التطرُّف القوي والعداء للإسلام والمسلمين. فقد أُطلقت عدَّة حملات في مختلف أنحاء روسيا، حتى أصبحت كلمة «مسلم» مرادفة لكلمة متطرّف أو إرهابي، فشدّدت الرقابة على أماكن تجمُّع الجالية الإسلاميَّة في موسكو، وتضمَّنت الحملات عمليَّات مداهمة واعتقالات عشوائيَّة للمئات دون توجيه تهم محدَّدة إليهم، وشكا المسلمون في موسكو من تعسُّف رجال الشرطة في التعامل معهم في الأسواق والأماكن العامَّة وعند المساجد، حيث تتمركز دوريات للتدقيق في أوراق الخارجين من الصلاة في المساجد، وتفتيش السيارات، ووصلت الحملة إلى المدارس، حيث تكرَّرت حوادث تعرُّض الأطفال المسلمين فيها للضرب من زملائهم الذين يتَّهمونهم بأنَّهم إرهابيون[16].

وبدأت تتردَّد بقوَّة كلمات مجحفة في حقّ الإسلام والمسلمين، من قبيل «إنَّ القرآن يستخدم دليلاً ومرشداً للتطرُّف». وتوالت الدعوات من المتطرفين الرُّوس تطالب بإغلاق المساجد، وإجبار المسلمين على تغيير دينهم أو طردهم. وحتى عام (2003)، لم يكن في روسيا كلها سوى ساعة واحدة في قناة تلفزيونيَّة حكوميَّة تبثُّ برنامجاً قصيراً للمسلمين كلَّ يوم جمعة، وقد أصبح هذا البرنامج هدفاً للهجوم، حتى إنَّ إحدى الصحف الروسيَّة وصفته بأنَّه دعوة للتطرُّف، وهاجمت المذيعة التي تقدّمه لأنَّها محجَّبة، كما هاجمت إذاعة روسيَّة الأذان ومعظم ما يتعلق بالشعائر الدينيَّة الإسلاميَّة.

وما كاد يقع تفجير مترو أنفاق سان بطرسبرغ في الثالث من نيسان/ أبريل (2017) حتى أشارت أصابع الاتهام إلى المسلمين من بعض الوسائل الإعلاميَّة المختلفة، وصاحبها صبُّ اللعنات على المسلمين والتلويح بالانتقام منهم من جانب بعض فئات من المواطنين الرُّوس خاصَّة، وأحزاب اليمين المتطرّف في البلدان الأوربيَّة كافةً بصورة عامَّة، قبل أن يتأكَّدوا بالفعل من هويَّة الفاعل الحقيقي.

وهكذا تتشابه روسيا مع حالات الغرب الأوربي والأمريكي في ميلها ودعمها لأحزاب اليمين المتطرّف سواء داخل روسيا أم خارجها، وكلُّ ذلك يحمل صورة مستقبل مأساوي للمهاجرين المسلمين في هذه الأقطار كافةً، ما يعكس بصورة واضحة الحالة المرضيَّة للمجتمعات الغربيَّة في «عصر ما بعد الحداثة» التي أصبحت تعاني «هلوسات» الخوف من كلّ ما هو إسلامي.

خاتمة

من كلّ ما تقدَّم نجد أنَّ كلَّ يوم يمرُّ يشهد تزايداً لقوى اليمين المتطرّف، تزداد معه معاناة المهاجرين المسلمين في العديد من بلدان الغرب الأوربي والأمريكي. وتتواصل الاتهامات المختلفة للإسلام والمسلمين، من قبيل: أنَّ الإسلام دين يرتبط بالإرهاب ويؤيده، وأنَّ المسلمين معادون للغرب، ويفكّرون في تدميره، وأنَّ المسلمين يضطهدون المرأة ويسيئون معاملتها؛ فتتوالى الأصوات وتعلو مطالبةً بضرورة طرد المهاجرين المسلمين الذين يسرقون أقوات الشعوب الغربيَّة ثمّ يدمّرونها.

ومن ثمَّ، إنَّ المديرة المساعدة للشبكة الأوربيَّة لمكافحة العنصريَّة كلير فرناندز دعت المسلمين في أوربا إلى عدم الانكفاء والاستغراق في دور المستضعفين والمضطهدين، وطالبتهم بالانخراط في المجتمعات التي يعيشون فيها سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وكانت قد أقرَّت أنَّ الشبكة الأوربيَّة لمكافحة العنصريَّة تحاول مواجهة موجات العنصريَّة المتصاعدة في أنحاء أوروبا ضدَّ الأقليَّات بشكل عام، ومن بينها الأقليَّات المسلمة. كما ترى كلير فرناندز أنَّ المسلمين في أوروبا ضحايا التعامل النمطي العنصري بأنَّهم إرهابيون، كما أنَّهم ضحايا لسياسات مكافحة الإرهاب. مشيرة، في الوقت نفسه، إلى الدور الاقتصادي المهم الذي يؤدّيه المهاجرون المسلمون في الاقتصاد الأوربي، ولذلك، الدول الأوربيَّة بحاجة إليهم، وبعض القادة أدركوا ذلك، مشيرة إلى أنَّ المواطنين الألمان من أصول تركيَّة يساهمون بنحو 35 مليار يورو في الاقتصاد هناك[17]. وهي بذلك تحاول أن تواجه تلك الصورة العنصريَّة، التي نجحت الآلة الإعلاميَّة الغربيَّة في تقديمها على أنَّها حقيقة المسلمين جميعاً، وهي صورة الإنسان الهمجي الشهواني الذي يحتقر المرأة، وينتشي بمنظر الدماء والقتل والتعذيب وتقطيع الرؤوس وركلها بقدميه...، والذي يحمل الشرَّ كلَّه للغرب، ويحلم بتدميره.

[1]- يتفكرون العدد11

* أكاديمي من مصر.

[2] ـ عنان، إيمان، تداعيات صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية، بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016، على الرابط الإلكتروني:

 http://pss.elbadil.com/2016 12 /19

[3] ـ حسن أحمد، صلاح، عودة اليمين المتطرّف في أوروبا، مجلة آفاق المستقبل، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيَّة، العدد (17)، السنة الرابعة، كانون الثاني- شباط - آذار/ يناير- فبراير- مارس، 2013، ص 22

[4] ـ انظر: زغوني، رابح زغوني، الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرّف في أوروبا: مقاربة سوسيوثقافيَّة، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، العدد 421، آذار/ مارس 2014، ص 124

[5] ـ عنان، إيمان، تداعيات صعود اليمين المتطرّف في أوربا، مرجع سابق.

[6] ـ البنا، رجب، صناعة العداء للإسلام، دار المعارف، القاهرة، (د.ت)، ص 117. بتصرف.

[7] ـ بن تمسك، مصطفى، الإسلاموفوبيا: مقاربة جيو- سياسيَّة، مقال في ملف: الإسلام في الغرب، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 15 شباط/ فبراير 2017، ص 5

[8] ـ البنا، رجب، صناعة العداء للإسلام، دار المعارف، القاهرة، ص 121

[9] ـ المرجع نفسه، ص 122

[10] ـ المرجع نفسه، ص 123

[11] ـ المكي، هشام، قراءة نقديَّة في دراسة: الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرّف في أوروبا: مقاربة سوسيوثقافيَّة، منشورة بتاريخ 7/4/2014، مركز نماء للبحوث والدراسات، على الرابط الإلكتروني: http://www.nama- center.com/Activitie Datials.aspx?ID=10428

[12]ـ البنا، رجب، صناعة العداء للإسلام، ص 258

[13]ـ المرجع نفسه.

[14] ـ زغوني، رابح، صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، ص 127

[15]ـ نقلاً عن: البنا، رجب، صناعة العداء للإسلام، ص 270

[16] ـ البنا، رجب، صناعة العداء للإسلام، ص 389

[17]ـ مستقبل مسلمي أوروبا وسط تصاعد الكراهية والعنصريَّة، برنامج بلا حدود، قناة الجزيرة القطريَّة، على الرابط الإلكتروني الآتي:

http://www.aljazeera.net/programs/withoutbounds/2015/ 1 / 26 /