"نحو تفعيل قواعد نقد الحديث: دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحيْن" لإسماعيل الكردي


فئة :  قراءات في كتب

"نحو تفعيل قواعد نقد الحديث: دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحيْن" لإسماعيل الكردي

"نحو تفعيل قواعد نقد الحديث دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحين" كتاب أنجزه إسماعيل الكردي، وأصدرته دار الأوائل بدمشق خلال سنة 2002، وجاء مشتملا على352 صفحة تتوزع على ثمانية فصول.

يفصح صاحب هذا الكتاب منذ مقدّمته أنّه يتوخّى منهجا نقديّا ينأى عن التمجيد إلاّ أنّه يشرّع لنهجه النّقدي من خلال الماضي الذي يستلهم منه معظم نقوده للبخاري ومسلم، لذلك يمكن وسم نقده بأنّه نقد داخلي. يقول صاحب الكتاب متحدّثا عن كتابه: "فهو من جهة يثبت للمتشبّثين بالماضي أنّ ماضيهم لم يكن ماضيا تقليديا كلّه بمعنى أنّه لم يكن ماضي نقل فقط بل كان ماضي عقل أيضا؛ فهم لا يجرؤون مثلا على نقد البخاري... فأتيت لهم بهذا الكتاب الذي كانت معظم اقتباساته ونقوده التي تنتقد البخاري ومسلم موجّهة من الأئمّة الأربعة ومن تلاميذهم وممّن هم مرجع وثقة لهم بالذات" (ص 8-9).

ولم يكن هذا النقد موجّها إلى الفئة المحافظة والتقليدية فحسب، وإنّما يقصد به الكاتب أيضا الفئة الحداثية التي ترى أنّ الزّمن تغيّر وتبدّل؛ فقد أراد أن يبسط أمامهم "أنّ ماضينا لم يكن منغلقا على ذاته يرفض العقل ويقدّس النّقل، وإنما كان ماضيا زاهرا ماضيا تقدميا لم يكفَّر فيه من نقد التراث ومن ضمنه البخاري ومسلم" (ص 9).

وقد أشار إلى أنه سيعتمد معيارين أساسيين في نقده للمتون هما: القرآن والعقل، يقول: "وأنّهم لم يأتوا بجديد حين ينقدون كتب التراث المهمّ أن يكون النّقد نقدا بنّاء نقدا مستندا على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من أيّة جهة كانت نقدا مستندا على العقل وعلى المعقول والمحسوس والعلم (9ص).

وبيّن أنه سيعمد إلى التركيز على المتن دون السند "فالسّند - هنا في كتابنا هذا - لا يعنينا لأنّ هناك الكثير ممّن اعتنى به ودرسه ومحّصه، بل ما يعنينا هنا هو دراسة المتن الذي تجوهل كثيرا من قبل علماء الحديث ورجاله فما يهمّنا من الأحاديث هو المتن وليس السّند فالمتن هو المهمّ، وهو محور الدّراسة، لأنّ متن النّصوص وليس السّند هو الذي صنع فقهنا وتشريعنا وتراثنا الدّيني والفكري والاجتماعي والسياسي ومن ثمّ المتن هو الذي أوجد المذاهب والفرق والمشارب المتنوّعة، (ص 53).

قواعد منهجية لدراسة الحديث

ذكر الكردي عدة قواعد يمكن أن يهتدي بها الدارس في دراسته الحديث النبوي منها:

أ- الصحّة، وهي الظنّ بالصحّة "وربّما ساعد في أخذهم هذا الموقف ما سمعوه من علماء الدّين - ولم يعقلوا المعنى الدّقيق لكلامهم - من أنّ كلّ ما في الصّحيحين (أو الصّحاح الستّة) صحيح مع أنّ المقصود بالصحّة الظنّ بالصحّة حسب ظاهر السّند. وهذا للغالبيّة العظمى لما فيها، لا الاستغراق الكلّي بالمعنى الحرفيّ للكلمة. (ص 16)

ب- قواعد نقد المتون (مخالفة الحديث للعقل): شطط الحديث

"ولو رجعوا لقواعد نقد المتون لدى المحدثين لعرفوا أنّ علماء الشّرع القديم أوضحوا وأكّدوا منذ أكثر من ألف سنة على أنّ الحديث إذا خالف المحسوس أو العلم المقطوع به أو العقل السليم القاطع، فإنّ هذا يعدّ علّة في متنه تمنع قبوله، ولو كان صحيح السّند وفي كتب الصّحاح (16).

ج- لا يحتجّ برواية واحدة لحديث ما قبل دراسة رواياته الأخرى التي رُوي بها داخل الصحيحين وخارجهما وملاحظة ألفاظها التي قد تكون معارضة لبعض ألفاظه كما لا يصحّ الاستنباط من حديث واحد قبل دراسة الأحاديث المتعلّقة بالموضوع نفسه كلّها.

د- المعرفة العميقة بالقرآن

ويرى صاحب الكتاب أنّه لا يصحّ الاستنباط من حديث واحد قبل التسلّح بفقه قرآني عميق يعطي القدرة على كشف علل المتون الخفيّة إذ كثيرا ما يكون الحديث صحيح السند معلّل المتن لمخالفته القرآن الكريم أو لدليل قطعي آخر (17).

أهداف الكتاب

يعلن الكاتب أنّه يهدف إلى:

- تأكيد حجيّة السنّة النبويّة، وأنّ بعضها وحي إلهي وجزأ لا يجتزأ من الإسلام.

- بيان عدم عصمة كلّ لفظة في الصحيحين

- أن قواعد نقد المتون التي وضعها أئمّة الحديث قواعد عظيمة وكفيلة بتنزيه الأحاديث من كلّ ما يخالف صراحة العلم القاطع أو العقل الصّحيح.

مصادره

تطرّق الباحث في آخر مقدّمته إلى أنّ مصدريه الأساسيين هما "شرح النووي على صحيح مسلم" وشرح ابن حجر "فتح الباري" ومقدّمته "هدي الساري" على صحيح البخاري. لذلك، فإنّه أخذ منهما العناوين والأبواب وأرقام الأحاديث.

ولا يخفي أيضا أنّ السلطة المرجعيّة الحديثة التي تأثّر بها أكثر من غيرها هي مجلّة المنار لرشيد رضا فقد ضمّت في نظره "أبحاثا جريئة وممتازة حول الحديث ونقد بعض رواياته المشكلة مما ورد في الصحيحين وغيرهما" (18).

الفصل الأوّل: حجيّة الحديث النبوي الشريف

يمتدّ هذا الفصل من الصفحة التاسعة عشرة إلى الصفحة الواحدة والثلاثين؛ أي على ثلاث عشرة صفحة. ويعلن صاحب الكتاب منذ مطلع هذا الفصل أنّه سيضطلع بوظيفة جدالية دفاعيّة عن حجية السنّة النبويّة في مقابل دعوات ظهرت في العقود الماضية اعتبرها "غريبة وليس لها سابقة في تاريخ الإسلام تنكر حجيّة الحديث وتدعو للاكتفاء بالقرآن الكريم مرجعا في الدّين ومصدرا للشريعة"[1].

وهذا الموقف يحتاج إلى مراجعة، لأنّ الدّاعين إلى الاكتفاء بالقرآن وحده مصدرا للشريعة ظهروا منذ عصر الشافعي وربّما قبله وقد سمّوا بالقرآنيين ولم ينقطع ذكرهم عبر الأحقاب[2].

وقد سعى الكاتب في هذا الفصل إلى الردّ على أطروحات القرآنيين بأدلّة من القرآن ذاته تدلّ على حجيّة الحديث والسنّة فوحي الله في نظره وما تضمّنه من تعاليم وأوامر ونواه، لم يكن مقصورا على القرآن الكريم، وإنّما يشمل أيضا كلام الرسول وتعاليمه.

الفصل2: تمهيدات توضيحية حول أخبار الآحاد في الصحيحين

التمهيد 1: قصد المحدثين من عبارتهم "الصحيحان أصحّ الكتب بعد كتاب الله": الصحة: التسمية حسب الظاهر استنادا لصحّة الأسانيد

بدا لنا الكاتب إسماعيل الكردي في هذا الفصل معتمدا منهجا أقرب إلى الموضوعية في موقفه من أخبار الآحاد في الصحيحين، وتنهض الموضوعية في هذا السياق على أسس في صدارتها:

أ- تنسيب الأحكام: وهو يعني اجتناب الأحكام المطلقة والعامّة؛ فحكم صحّة أحاديث الصحيحين لا يفهمه فهما شاملا لكلّ الأحاديث بل هو خاص بأغلبها لا كلّها. "فالصحّة أغلبيّة ونسبيّة وليس المراد منها العلم والقطع بصدور كلّ لفظة في الصحيحين عن الرسول الكريم"[3].

إلاّ أنّ الإشكال يكمن في أنّ هذا الموقف الموضوعي لا يطبقه الكاتب على المسلمين، وكأنّه أحاط علما بكلّ المواقف لذلك نفى وجود من كان يقصد من عبارة "كون الصحيحين أصحّ كتب الحديث أنّ كلّ لفظة فيهما على نحو الاستغراق التام وحي معصوم كالقرآن وكلّ متن حديث فيهما بلا استثناء عين حروف كلام رسول الله الذي لا يجوز لمسلم يؤمن بنبوّته أن يناقش حرفا منها..."[4].

ويؤكّد الكردي في هذا الفصل على نفي عصمة الصحيحين.

ب- إزالة العصمة والقداسة عن الصحيحين

* النقد القديم / الحديث

ب1: النقد القديم: تطرق في هذا المجال إلى فقهاء من المذاهب الأربعة نقدوا الصحيحين "كان انتقاد بعض رواياتهما أو بعض ألفاظ رواياتهما وعدم الأخذ أو بتعبير أدقّ نفي صحة بعض رواياتهما أو ألفاظ فيهما أمرا عاديا وطبيعيا قام به عدد من الحفاظ المعاصرين للبخاري ومسلم ومن تلاهما... وقام به فقهاء من أئمّة المذاهب الأربعة أو من أتباعهم... فما من مذهب فقهيّ إلاّ وردّ بعض ما في الصحيحين من روايات فقهية وأخذ بخلاف ما رويا في بعض المسائل. كما قام به المتكلّمون وعلماء العقائد فضلا عن المحدثين المختصين في هذا الفنّ ولم يكن ذلك يُحدث أي ضجيج أو صخب ولو كانوا يرون كلّ لفظة في متون الصحيحين كالوحي المنزل وأنّها عين لفظ وكلام رسول الله قطعا لكان نقد أيّ شيء منها يُعدّ تكذيبا لرسول الله وبمنزلة نقد آية من آيات القرآن وبالتالي يُعدّ كفرا بواحا بلا ريب" (35).

وهذه المواقف وقع تهميشها عبر التاريخ بفعل الهالة المهيبة التي أضفيت على الصحيحين. ومما ساعد على ذلك الحكم الخاطئ الذي اعتبر صحيح البخاري أصحّ كتاب بعد كتاب الله. وهذا الحكم يوهم بأن متون روايات البخاري كلها من حيث حجّيتها الدينية تماثل حجّيّة القرآن في حين أنّ الفرق جليّ بين النصّين، فهو حسب الكاتب "فرق في الحجيّة والمكانة ودرجة الوثاقة في الصّدور عن الله (ت) لا في الترتيب فقط. فالقرآن كل آية وكل حرف منه قطعي الصدور وحجّة الله على العالمين للابد. أمّا أحاديث الآحاد التي تشكّل أغلب أحاديث الصحيحين، فهي ظنية الصدور وأغلبها مروي بالمعنى كما أنّها كثيرا ما تقطّع والتقطيع هذا اجتهادي من مصنّف كتاب الحديث" (36).

ب2: النقد الحديث

إنّ تصوّر عصمة متون الصحيحين تصوّر عام خاطئ جدا يردّه المحدّثون المتخصّصون بالحديث من علماء السنّة، فكون صحيحي البخاري ومسلم أصحّ كتب الحديث "ليس معناه كما يقول المحدّث المعاصر الشيخ ناصر الدّين الألباني أنّ كل حرف أو لفظة أو كلمة في الصحيحين هو بمنزلة ما في القرآن لا يمكن أن يكون فيه وهم أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله (ت) أصلا فقد قال الإمام الشافعي وغيره: أبى الله أن يتمّ إلاّ كتابه. ولا يمكن أن يدّعي ذلك أحد من أهل العلم ممّن درسوا الكتابين دراسة فهم وتدبّر مع نبذ التعصّب وفي حدود القواعد العلمية الحديثة لا الأهواء الشخصية والثقافة الأجنبية عن الإسلام وقواعد علمائه"[5].

التمهيد2: هل يعطينا سند الحديث الصحيح الآحادي اليقين بصدور متنه عن النبي؟ أم الظن؟

اعتبر أنّ الغالبية العظمى من الأحاديث المروية في كتب الحديث ومن جملتها أحاديث صحيحي البخاري ومسلم أحاديث آحاد وكثير منها من نوع الغريب أيضا...

وقد قرّر فقهاء الأمّة وعلماء الأصول حسب رأيه أن خبر الآحاد حتى لو كان صحيحا سندا لا يفيد وحده أكثر من غلبة الظنّ بصدوره عن النبي، واحتمال الوهم والخطإ في نقل أحد رواة سلسلة الإسناد يبقى دائما أمرا ممكنا.

ويستخلص أنّ الرأي المستقر عموما، يفيد أن خبر الواحد الثقة حجّة من حجج الشرع يلزم العمل به ويفيد الظنّ ولا يفيد العلم (39).

التمهيد الثالث: هل ما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم مستثنى من قاعدة إفادة خبر الآحاد الظن؟

اعتماد المنهج التاريخي لشرعنة نقد أحاديث الآحاديث في الصحيحين

توقّف الكردي في مبحث "التمهيد الثالث: هل ما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم مستثنى من قاعدة إفادة خبر الآحاد الظن لا اليقين؟ عند اعتبار عدد من العلماء من أشهرهم المحدّث الدمشقي ابن الصّلاح الشهرزوري (ت 643هـ) أنّ ما أخرجه البخاري ومسلم جميعا بالإسناد الصحيح المتصل مقطوع بصحّته والعلم اليقيني النظري به واقع خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنّه لا يفيد في أصله إلاّ الظنّ"[6].

وقد بنى ابن الصلاح رأيه هذا على قاعدة أصوليّة سنية تتمثّل في عصمة إجماع الأمّة من الخطإ. يقول: "وإنّما تلقّته الأمّة بالقبول لأنّه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ. وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا، ثم بان لي أنّ المذهب الذي اخترناه أوّلا هو الصحيح لأنّ ظنّ من هو معصوم من الخطإ لا يخطئ والأمّة في إجماعها معصومة عن الخطإ"[7].

وقد سعى الكاتب اعتمادا على المنهج التاريخي إلى نقد موقف ابن الصلاح الذي ادّعى عصمة إجماع الأمّة لشرعنة قطعية العلم الذي تفيده أحاديث الصحيحين.

فعلى صعيد أوّل أقرّ ابن الصلاح نفسه بما يفيد عكس رأيه ذلك أنه استثنى من المقطوع بصحّته من أحاديث الصحيحين ما تُكلّم فيه من أحاديثهما فقال: "سوى أحرف يسيرة تكلّم عليهم يعني أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره". وعلى صعيد ثان برزت مواقف علماء غير قليلين ينتقدون أحاديث الصحيحين.

1) فقد عقّب الحافظ العراقي (ت 806 هـ) على موقف ابن الصلاح معتبرا أنّ ما استثناه ابن الصّلاح من المواضع قد أجاب عنها العلماء أجوبة وبيّن أنّها مع ذلك ليست باليسيرة، بل هي مواضع كثيرة جمعها في تصنيف مع الجواب عنها[8].

2) ادّعى ابن حزم في أحاديث من الصحيحين أنّها موضوعة ورُدّ ذلك عليه[9].

3) ذكر السيوطي نقلا عن ابن حجر العسقلاني أنّ عدد الأحاديث المنتقدة على الصحيحين مائتان وعشرون حديثا اشترك البخاري ومسلم في اثنين وثلاثين واختص البخاري بثمانين إلاّ اثنين ومسلم بمئة وعشرة[10].

4) ذكر ابن حجر هذا الاستثناء وأضاف إليه استثناء الأحاديث المتناقضة في الصحيحين فقال: "إلاّ أنّ هذا (أي القول بإفادة ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ممّا يبلغ حدّ التواتر، العلم النظري بالقرائن) يختصّ بما لم ينتقده أحد الحفّاظ ممّا في الكتابين وبما لم يقع التخالف بين مدلوليه ممّا وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما"[11].

5) وأهمّ موقف معارض لرأي ابن الصلاح موقف النووي (ت 676 هـ) فقد أسقط اعتماده على الإجماع وذكر مخالفة أغلب العلماء له يقول: "وهذا الذي ذكره الشيخ (ابن الصلاح) خلاف ما قاله المحققون والأكثرون فإنّهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست متواترة إنّما تفيد الظنّ فإنّها آحاد والآحاد إنّما يفيد الظنّ على ما تقرّر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمّة لهما بالقبول، إنّما أفادنا وجوب العمل بما فيهما وهذا متفق عليه، فإنّ أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحّت أسانيدها ولا تفيد إلا الظنّ فكذا الصحيحان ولا يلزم من إجماع الأمّة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنّه مقطوع بأنّه كلام النبي"[12].

6) اشتدّ إنكار الإمام ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ وبالغ في تغليظه.

7) لم يكتف الكاتب بهذه المواقف التي استقاها من الواقع التاريخي فأضاف إليها قائمة بأعلام يعارضون موقف ابن الصلاح منهم عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين" وابن عبد البر المالكي في "التمهيد". وصدر الشريعة المحبوبي الحنفي في "التنقيح" وشرحه "التوضيح" والجويني في "البرهان" وابن قدامة في "روضة الناظر" والغزالي في "المستصفى" وابن السبكي في "جمع الجوامع". وتواصل هذا الموقف لدى جمهور العلماء المتأخّرين في الفقه والحديث والأصول كابن عبد الشكور في "مسلّم الثبوت" والشوكاني في "إرشاد الفحول".

ما الذي يترتّب على هذا في نظر الباحث؟

1) عدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في الاعتقادات وقواعد أصول الدّين، بل حتى في أصول العبادات القطعيات، لأنّ هذه الأمور لا بدّ فيها من العلم اليقيني ولا يجوز فيها اتّباع الظنّ. يقول: "وبناء على تلك القاعدة التي قرّرها هؤلاء الجمهور من العلماء والقاضية بعدم إفادة أحاديث الآحاد القطع واليقين، فإنّ كثيرا من العلماء قرّروا أنّه لا يُحتجّ بأخبار الآحاد في الاعتقادات..."، (ص 45).

2) لا يكون في نقد بعض أحاديث الآحاد في الصحيحين أو غيرهما - بناء على اجتهاد مستساغ ودليل علمي مقبول - أيّ مساس بالعقيدة أو تهمة بردّ سنة رسول الله ما دام أنّ القضيّة "ردّ شيء ظني من الأساس" (45).

من ركائز المنهج التاريخي النقدي: نقد قاعدة الإجماع على صحّة أحاديث الصحيحين

1- الفصل 3: عدم إجماع الأمّة على صحّة كلّ ما في الصحيحين

ينطلق الكاتب في ردّه على من اعتمد الإجماع لإثبات صحّة كلّ ما في الصحيحين من أنّ مفهوم الإجماع يشمل كلّ الأمّة المحمّديّة، بما في ذلك أهل السنّة وغيرهم وبعض غير السنيّين كالمعتزلة والإباضية والشيعة، لا يرون صحّة كلّ ما في الصحيحين بل يرون أنّ بعضها موضوع.

- لكنّه مع ذلك يريد اعتماد النّقد الداخلي بالاقتصار على الفكر السنّي لاختبار مدى إجماع علمائه على صحّة الصحيحين. ويلاحظ في هذا السياق وجود كثير من النقد سندا ومتنا. وللبرهنة على هذا النقد وعلى وجاهته يستعرض آراء أئمّة الفقه الأربعة ونماذج لنفيهم صحّة بعض الأحاديث التي خرّجها فيما بعد البخاري ومسلم في صحيحيهما. ومن ذلك قول أبي حنيفة: "ما جاء عن رسول الله قبلناه على الرّأس والعين وما جاء عن أصحابه اخترنا منه ولم نخرج عن قولهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"[13].

وتعليقا على هذا الموقف اعتبر الباحث أنّه، وإن قبلت مدرسة الحديث والأثر كلّ ما جاء من طريق معتمدة سندا؛ أي ما كانت سلسلة رواته من المعروفين بأنّهم عدول ثقات ولو جاء عن طريق فردي آحادي محض.. كان لمدرسة الرأي منهج نقدي شديد دقيق في قبول الأحاديث يتعلّق بتحليل المتن والنظر لدرجة توافقه مع القرآن الكريم أو مع عمل المسلمين وسيرتهم أو عمل أهل المدينة (بالنسبة للإمام مالك) أو توافقه مع القياس.. فكان أهل الرأي ينظرون لمتن الحديث فينقدونه ويردّونه إذا رأوا فيه شذوذا في المعنى من الوصول إلى صحّة المعنى فإذا كان المعنى فاسدا فيجب ردّه من دون اعتبار لأيّ شيء آخر.

- يقول ابن عبد البرّ: "إنّ أهل الحديث خرّجوا أبا حنيفة لأنّه كان يردّ كثيرا من أخبار العدول فكان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع لديه من الأحاديث ومعاني القرآن فما شذّ عن ذلك ردّه وسمّاه شاذا"[14].

- ذكر البغدادي في "تاريخ بغداد" أقوالا منقولة عن أبي حنيفة يطعن فيها في صحّة عدد من الأحاديث والآثار وكلّها ممّا خرّجه (بعد عصر أبي حنيفة) البخاري ومسلم في صحيحيهما. ونقل غمزه وسخريته من متنها والإفتاء خلافا لها ووفقا للقواعد التي أخذها عن عموم القرآن ومشهور السنة والقياس. وقد أحصيت عليه مخالفته لمائتين من الأحاديث.

مثال: ردّ أبي حنيفة الحديث المروي عن أبي هريرة - وحده - أنّ رسول الله (ص) قال: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحقّ به من غيره[15]

علّق ابن عبد البرّ على ذلك قائلا: "حديث التفليس حديث صحيح من نقل الحجازيين والبصريين ورواه العدول عن النبي ورفعه طائفة من العراقيين منهم أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين وردّوه بالقياس على الأصول المجتمع عليها، وهذا مما عيبوا عليه وعُدّ عليهم من السنن التي ردّوها بغير سنة صاروا إليها لأنّهم أدخلوا القياس والنظر، حيث لا مدخل له، وإنّما يصحّ الاعتبار والنظر عند عدم الآثار".

الإمام مالك

"أهمل اعتبار حديث "من مات وعليه صوم صام عنه وليّه" (صحيح مسلم، كتاب الصيام (27) باب قضاء الصيام عن الميّت (153) لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله: ألاّ تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (النجم 38-39).

أورد الكاتب نماذج لستة أحاديث مخرجة في الصحيحين أو في أحدهما لم يكن الإمام مالك يرى صحّة متنها لمعارضتها لأدلّة قطعية كإجماع أهل المدينة أو عموم آية أو آيات من القرآن الكريم أو معارضة مصلحة مرسلة قطعية مستنبطة من القرآن والسنّة؛ وذلك بناء على قاعدة أن خبر الواحد ظنّي فإذا عارضه قطعي كان ذلك علّة تقدح بصحّة الظنّي وتسقط الاعتماد عليه (59).

نتائج البحث

استعرض الكاتب في خاتمة الكتاب جملة من النتائج التي انتهى إليها، وهي:

1- السنّة النبوية وحي معنوي واجب اتباعه على كل مسلم، وأحاديث الآحاد تفيد الظن وتوجب العمل دون العلم.

2-أبى الله العصمة إلاّ لكتابه.

3- صحّة السند لا تكفي وحدها للحكم بصحة المتن.

4- لا يصح الاحتجاج بلفظ واحد إذا كان مختلفا فيه، بل يجب جمع الروايات كلها في الموضوع في الصحيحين وغيرهما ثم الترجيح بالأدلة.

5- لزوم التثبت في مراسيل الصحابة الذين أخذوا عن بعض مسلمة أهل الكتاب مثل أبي هريرة وابن عباس.

6- الأحاديث المشكلة المنتقدة المتن مع كونها صحيحة الإسناد قليلة وما رواه أبو هريرة منها قليل من قليل وما انفرد به منه أقل ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين.

7- السنة النبوية الصحيحة ليست منحصرة في الصحيحين وحدهما، بل توجد أيضا في دواوين الحديث الأخرى، ولا دليل على ترجيح ما ورد في سائر دواوين الحديث بسند صحيح.

هذه الآراء وإن كانت ليست على قدر من الجرأة كبير مقارنة بغيرها من المواقف، فإنها جلبت لصاحبها ردودا كثيرة منها كتاب كتبه نجاح محمد العزام بعنوان "دفاعا عن الصحيحين ردّا على كتاب اسماعيل الكردي "نحو تفعيل قواعد نقد الحديث دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحين"، ط1، عمّان، الأردن، عماد الدين للنشر والتوزيع، 1430ه/ 2009. وقد خلص في هذا الكتاب إلى نتائج لا تخلو من تحامل على الكردي منها:

أوّلا: اعتباره أنّ الكردي ليس من أهل التخصّص والعلم بالحديث؛ فلا تعتبر والحالة تلك أقواله ولا تعتمد انتقاداته الموجّهة للصحيحين، لأنّ مخالفة المعتبر هي التي تعتبر.

ثانيا: اعتمد الكردي في دراسته على مصادر يمكن تصنيفها إلى قسمين:

أ- مصادر أساسية: هي كتب الطرف الخصم المعادي لأهل الحديث وطريقتهم التي كانت سببا في مجانبته للحق والصواب في كلّ ما ذهب إليه من أحكام ونتائج، ومصادر ثانوية هي كتب السنّة وعلومها، إذ وظف نصوصها بما يحقق أهدافه وأغراضه.

ثالثا: من الأساليب التي اتّبعها الكردي في سبيل التوصل إلى أهدافه:

- الاعتماد المباشر على أقوال الخصوم في محاكمة نصوص الصحيحين، وهذا مخالف لموازين البحث العلمي وقواعده.

- التركيز في توجيه الطّعون والمثالب على أصول السنّة لهدمها من أساسها.

- أسلوب المراوغة والتحايل على النصوص

رابعا - مراسيل الصحابة - كبارهم وصغارهم حجة بإطباق أهل النقد من المحدثين ولا اعتبار بمن خالفهم في هذه المسألة. وما افترضه الكردي من قيود على مراسيل صغار الصحابة افتراض خاطئ سببه الجهل أو التجاهل بمبادئ علوم الحديث الأساسية التي لا تخفى على أدنى طالب علم.

خامسا: الصحابة الكرام لا تقاس حالهم بحال الرواة الآخرين في قبول روايتهم أو ردّها، لأنّ شرطي قبول الرواية متوافران فيهم وهما العدالة والضبط.

سادسا: عنعنة المدلس داخل الصحيحين محمولة على الاتصال لاعتبارات عدّة أهمّها أنّ البواعث التي قد تحمل بعض الرّواة من المدلسين على التدليس منتفية في حقّهم أضف إلى ذلك المنهجية الدقيقة التي سلكها الشيخان في تخريج أحاديهم.

سابعا: الشيخان لم يلتزما أن تكون أحاديث كتابيهما كلّها في أعلى درجات الصحّة، فلا يتجه والحالة تلك الطّعون الموجّهة إلى رجالهما، بل إن تخريج الشيخين لهم يعد توثيقا وتعديلا لأحوالهم.

ثامنا: القول بأنّ أحاديث الآحاد تفيد الظن باتفاق العلماء زعم باطل، بل هي محل خلاف بين العلماء والراجح عند جمهور المحققين أنّها متى توافرت فيها شروط الحديث الصحيح وتلقتها الأمّة بالقبول تفيد العلم اليقيني، سواء أكانت في الصحيحين أو غيرهما من كتب السنّة ويجب العمل بمقتضاها في الأصول والفروع على حدّ سواء ولا عبرة بمن عداهم من المتكلّمين "خاصة المعتزلة" فهم عندما قالوا بأنّها تفيد الظن كانوا يقصدون بذلك ردّها وعدم الاعتداد بها في العقائد والأحكام والفروع وتابعهم الكردي على ذلك.

تاسعا: المقصود بإجماع الأمة على صحة كل ما في الصحيحين هو إجماع علمائها من أهل الصنعة الحديثية والأمّة بالتبع هذا ما حرره الحافظ الصنعاني - رحمه الله - وهو ما تميل النفس إليه.

والمقصود بإجماعهم: هو أصحية الجملة إلى الجملة وليس معناه إجماعهم على أصحية كل حديث فيهما بالنسبة إلى ما سواهما.

عاشرا: سبب الخلاف بين الفقهاء المحدثين في تطبيق قواعد نقد المتون هو الاختلاف فيما تفيده أخبار الآحاد فأهل الحديث يميلون إلى إفادته العلم بنفسه، فإن صدوره عن الرسول (ص) بشروطه المعهودة أمر مقطوع به متيقن فيه. أما الفقهاء، فيقولون بإفادته الظن والظن قد يخطئ لهذا اشترطوا شروطا زائدة على شروط الحديث الصحيح وهذه الشروط هي محل خلاف بينهم وبين أهل الحديث قديما وحديثا، وهي من أسباب الاعتذار عن الأئمة العلماء ولا تعد طعنا في صحة الحديث كما بيّناه، لأن العبرة في صحة الخبر أو ضعفه هو ما أصله أهل الحديث من شروط؛ فأهل كلّ فن هم أدرى الناس بصنعتهم.

- وأما عن سبب التفاوت بين المتكلمين وأهل الحديث، فمردّه هو أن أهل الحديث جعلوا كلام الله وكلام رسوله (ص) هو الأصل الذي يعتمد وتضبط به الأمور، بينما جعل أهل الكلام للعقل سلطانا على الشرع، فردّوا الكثير من أحاديث المصطفى (ص) بحجية مصادقتها له.

وموقف المدرسة العقلية الحديثة - التي من أنصارها الكردي - من السنة لا تختلف عن موقف المدرسة العقلية القديمة "مدرسة الاعتزال" فالمنهجية واحدة والغرض واحد هو تقويض دعائمها وطمس معالمها.

هكذا يبدو هذا الكتاب متميزا بمنهجه النقدي التاريخي عن سيل جارف من الدراسات غلّبت منهج تقديس مدونات الحديث ورفضت مراجعة النظر فيها لذلك يستحق مزيد الاهتمام.

[1]- الكردي، المرجع المذكور، ص 19

[2]- انظر مثلا توفيق صدقي، الإسلام هو القرآن وحده، مجلة المنار، 1906

[3]- الكردي، المرجع المذكور، ص 34

[4]- المرجع نفسه، ص 34

[5]- الألباني، مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1399 هـ، ص 15

[6]- ابن الصلاح، مقدمة علوم الحديث، ص 14 (بيروت، دار الكتب العلمية، 1398 هـ/1978م).

[7]- المصدر نفسه. الصفحة نفسها.

[8]- الحافظ زين الدين العراقي، التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدّمة ابن الصلاح، ط 1، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، 1411 هـ / 1991 م، ص 44

[9]- المصدر نفسه.

[10]- السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، ط2، الرياض، مكتبة الكوثر، 1415 هـ. 1/145

[11]- ابن حجر، نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، طبع باكستان / ملتان: فاروقي كتب خانه، ص 25

[12]- النووي، مقدمة شرح صحيح مسلم، 1/39، (طبعة دار أبي حيان 1995)

[13]- الخطيب البغدادي، هامش تاريخ بغداد، 13/، 402 ومناقب أبي حنيفة لابن الموقف الكردي.

[14]- محمد أبو زهرة، الإمام أبو حنيفة، القاهرة، دار الفكر العربي، ص 321

[15]- صحيح البخاري: 43 كتاب الاستقراض: 14 باب إذا وجد ماله عند مفلس 2402