نحو ثورة في الفكر الديني


فئة :  قراءات في كتب

نحو ثورة في الفكر الديني

صدرت طبعة جديدة لكتاب "نحو ثورة في الفكر الديني" للدكتور محمد النويهي عن دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة عام 2010، يتضمن الكتاب مجموعة من المقالات المنشورة في أوائل سبعينيات القرن المنصرم بعد هزيمة الجيوش العربية في نكسة 1967، وبعد أفول عصر السرديات العربية الكبرى، والشعارات الفضفاضة التي أدت في النهاية لوقوع تلك الهزيمة الساحقة.

ينقل النويهي خريطة المعركة والثورة من الجغرافيا والمجتمع إلى الفكر والدين؛ فيرى النويهي في الفصل الأول، والذي جاء بعنوان: "إلى الثورة الفكرية" أن تأخر الثورة الفكرية عن الثورة العملية كان سببا رئيسا لنكسة 1967 التي لم يكن سببها مجرد ضعفنا العسكري، أو أية أخطاء إستراتيجية وتكتيكية ارتكبها قواد جيوشنا، لأن هذا الضعف وهذه الأخطاء نفسها لم تكن سوى الحاصل النهائي لضعف عام عميق شمل كل نواحي كياننا العربي، المادي والروحي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والفكري والديني والأخلاقي[1]. ولذلك فسبيل الانتصار في المعركة هو المواجهة المباشرة للحقيقة الجذرية التي لا مناص من مواجهتها مهما تكن قاسية، وهي أن الإنسان العربي نفسه ليست حالته الراهنة بالحالة التي تمكنه من الفوز في معترك البقاء الحديث[2] فنحن العرب لم نفهم فهما كاملا حقيقة الصراع القائم بيننا وبين إسرائيل[3] كصراع حضاري شامل، بين طرازين مختلفين بل متناقضين من المجتمع البشري يستحيل أن يوجد بينها تعايش دائم في قلب رقعة واحدة من الأرض[4] فحجة إسرائيل أنها القبس الوحيد من نور القرن العشرين في خضم يحيط بها من ظلمات قرون التخلف والانحطاط. وأنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمثل قوى التطور والتقدم والعصرية[5]. على نحو ما يشير أغلب القادة الصهاينة الذين راهنوا على أن إسرائيل هي جبهة غربية متقدمة في عمق الشرق، وبرغم انجازات ثورة يوليو التي يؤكد عليها الباحث، فإنه يرى أن موضع النقص أن حكوماتنا المتعاقبة لم تنتبه انتباها كافيا إلى ضرورة الثورة الفكرية التي يجب أن تصاحب كل تلك التغييرات، بالرغم مما قيل في الميثاق عن لزوم الثورة الفكرية[6] وإنما يحدث التغيير الحقيقي إذا استطاعت الثورة أن تدخل تغييرًا كليا على وعي المجتمع نفسه، بتغيير نظرته إلى العلاقات الأساسية التي بين الإنسان وعالم الطبيعة، والتي بين الإنسان وأخيه الإنسان وتغيير المفاهيم والقيم هذا هو العمل الذي لابد أن تفعله كل ثورة[7]. فالدولة في قول آخر اهتمت بالتحديث البراني دون إدخال هذا التحديث في عمق المجتمع المصري وعقله ووجدانه.

ويرى النويهى أن الاشتراكية ليست مجرد اتباع مذهب اقتصادي معين، بل تحتاج إلى دعوة متعددة الجوانب تشمل مسائل الدين والروح والأخلاق والفن[8] وأنها تستلزم تغيير المفاهيم والقيم، وأن بيروقراطية الدولة الناصرية هي الخطر الكبير الذي كان رابضا أمام حرية الفكر، تلك الماكينة الضخمة الهائلة الحجم والقوة، وهي بطبيعتها عامل جمود وعقبة كأداء أمام التطوير والتغيير[9]. فالنويهي يرى ببصيرة حادة ثاقبة أن البيروقراطية عدو الاشتراكية، وأنها ستصيبها في مقتل وهو ما تأكد صحته مع مرور الأيام.

وفي الفصل الثاني بعنوان: "الدين وحرية الفكر" يعلن النويهي أن المثقفين لابد أن يدخلوا في جدل حاد مع الخرافات والأوهام التي تختلط بالعقائد الدينية الصحيحة، وتتغلب عليها في أذهان الكثرة الغالبة من أفراد المجتمع، ومع التأويلات والتفسيرات القديمة لبعض مسائل الدين التي ربما كانت صالحة لبيئات وأحوال ماضية لكنها لم تعد صالحة للمجتمع الحديث[10]، والقوى الرجعية لا تزال في شتى أركان العالم العربي تبث تفسيرا معينا لنصوص مقدسة معينة تغالي في مدلولها وتفسرها بما يلائم مصلحتها، وهو كما نعلم تفسير يبرر الفوارق بين الطبقات، ويبرر الظلم والأثرة واستبقاء التفاوت السحيق والرضا بالشقاء والحرمان على وجه الأرض، وحبس الأمل على العدل الذي سيتحقق في ملكوت السماء في الدار الآخرة[11]. وعلى المثقفين أن يناقشوا مسألة أساسية، وهي طبيعة الدين نفسه ودوره في المجتمع وحاجتنا لتغيير فهمنا الموروث لهذه الطبيعة وهذا الدور، حيث تزداد تهمة التكفير حين يأتي مفكرونا إلى إعادة النظرة في تاريخنا وتراثنا العربي الإسلامي، ليستكشفوا حقائقه وينفوا أباطيله. فأغلب أفراد مجتمعنا يتخذون نظرة معينة من هذا التاريخ والتراث، نظرة تبالغ في التقديس الأبله ولا ترى إلا فضائل ومحاسن وصفحات مشرقة بيضاء[12].

الدين إذن، مكون أساسي من مكونات الصراع الاجتماعي تسعى كل قوة اجتماعية إلى ترسيخ مصلحتها من خلاله ودور المثقف الفعلي تثوير الدين ورفض استيلاء الطبقات الرجعية عليه.

في الفصل الثالث بعنوان: "الأخلاق وحرية الفكر"، يرى النويهي أن الحجة الأخلاقية هي الحجة الثانية التي تستخدم في مقاومة الأفكار الجديدة بعد حجة الدين؛ فالقيم الراهنة هي بقايا النظام الرعوي القبلي، والنظام الاقطاعي، والنظام الرأسمالي، فعن النظام القبلي ورثنا الانقسام الداخلي واحتقار المرأة. وعن النظام الإقطاعي ورثنا إساءة الظن بالحكومة وبذل كل جهد في عصيان أوامرها. فهذا النظام لا توجد به حكومة مركزية موحدة، بل توجد فيه مقاطعات وأقاليم متعادية تسعى كل منها إلى مصلحتها الخاصة تحت إمرة أميرها[13].

وفي الفصل الرابع بعنوان: "الوطنية وحرية الفكر" يؤكد النويهي أن الوطنية ليست مجرد اعتزاز بالوطن والتفاخر بمحامده وإعلان مزاياه ومناقبه، بل الوطنية الصحيحة، الوطنية الصادقة المخلصة، الوطنية الحكيمة النافعة، هي الرؤية الواضحة الواعية لحقيقة الأحوال والأوضاع، خيرها وشرها، حسنها وقبيحها- ليس هذا فحسب، بل إن الجزء الأثمن من الوطنية هو الذي يدرك النقائص والعيوب ويعترف بها اعترافا صادقا أمينا. هذا هو الجزء الأكبر نفعا، وهو الذي يحتاج إلى نصيب أعظم من الشجاعة والتضحية، فهو أكبر دليل على صدق الرغبة في خدمة الوطن ونفعه[14].

في الفصل الخامس بعنوان: "حرية الفكر.. وحرية العمل" يشير النويهي لدور حرية الفكر والعمل، فعلى الدولة أن تسمح لصاحب الرأي الثوري المخالف لمعتقداتنا الدينية، منافيا لقيمنا الأخلاقية، خارجا عن مشاعرنا الوطنية، ومفاهيمنا القومية بالحرية التامة في التعبير عنه، قولا وفعلا دون أن تتبعه الدولة بالعقاب أو الإيذاء أو الاضطهاد، حرية لا ترادف الفوضى نرسم بها مجتمعا مثاليا يكون فيه اتفاق بين الكثرة والقلة. أما الكثرة، فتحترم آراء القلة وتدع لها الحق في التعبير عن أفكارها مهما كانت تخالف المعتقدات الشائعة، وتسمح لها بحرية الانتقاد للأوضاع والعادات والقوانين السائدة مهما تكن عزيزة عليها، وأما القلة فتخضع لقوانين الكثرة ولا تخرج خروجا عمليا عليها مهما تظنها خاطئة أو ضارة، مكتفية بالنقد والدعوة للتغيير ومنتظرة في صبر ذلك اليوم الذي تنجح في إقناع عدد كاف من أفراد المجتمع يمكنها من إحداث التغيير المطلوب بطريقة مشروعة منظمة يسنها القانون[15].

في الفصل الأخير بعنوان: "نحو ثورة في الفكر الديني" يتعجب النويهي من تحول دعوة كانت مبادئها ثورية تقدمية عصرية، إلى أداة حجر على الفكر وتجميد للمجتمع، يفسر الباحث ذلك بعدة نقاط هي أولا: بظهور طبقة تحتكر تفسير الدين، وتدعي أن لها وحدها حق التحدث باسمه، وإصدار الحكم فيما يوافقها من آراء، وثانيا: اعتقاد تلك الطبقة أن ما ورد في المصادر الدينية السابقة من تشريعات وأجوبة وحلول هي تعاليم ملزمة على أتباعها مستندين على آيات قرآنية كاستشهادهم بقوله تعالى: "وما فرطنا في الكتاب من شيء"، وقوله "تبيانا لكل شيء"، وغيرها من آيات تدل على شمول القرآن لجميع تفاصيل الحياة التي يعيشها المسلم، ومنهم من يمضي فيدعي أن القرآن سجلا لكل العلوم والمعارف التي استكشفها الإنسان، وهو قول أو ادعاء يتنافى مع التطور في الحياة الإنسانية، الذي حدث فعلا في التاريخ الإسلامي المبكر. فقد تغيرت حياة المسلمين في المدينة بعد وفاة رسول الله عما كانت عليه أثناء حياته، وجدت مسائل كثيرة في زمن الخلفاء الراشدين وأولي العلم في عصرهم. ثم تغيرت حياة المسلمين في الشام عما كانت في الحجاز. ثم تغيرت في العراق عن هاتين الحياتين[16]. لهذا، نجد في عصر مبكر اختلافات جوهرية بين علماء الحجاز وعلماء العراق أنتجها اختلاف أحوال القطرين، كالاختلاف في تحليل النبيذ والغناء أو تحريمهما.

ويختتم الدكتور محمد النويهي الكتاب قائلا: "إن المفتاح إلى إدخال التغيير المنشود هو تغيير فهم الناس لماهية الدين وتغيير تقديرهم لدوره الذي يحق له أن يؤديه في المجتمع الإنساني".


[1] محمد النويهي، نحو ثورة في الفكر الديني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 10

[2] المرجع السابق، ص 11

[3] المرجع السابق، ص 13

[4] المرجع السابق، ص 14

[5] المرجع السابق، ص 15

[6] المرجع السابق، ص 26

[7] المرجع السابق، ص 27

[8] المرجع السابق، ص 30

[9] المرجع السابق، ص 37

[10]المرجع السابق، ص 48

[11] المرجع السابق، ص 49

[12] المرجع السابق، ص 51

[13] المرجع السابق.

[14] المرجع السابق، ص 80

[15] المرجع السابق، ص 94

[16] المرجع السابق، ص 130