ندوة: "الحداثة.. دلالة ومشروع"

فئة: أنشطة سابقة

ندوة: "الحداثة.. دلالة ومشروع"

نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في مدينة الرباط، ندوة علمية تحت عنوان : الحداثة دلالة ومشروع، تخللتها ثلاث جلسات، توزعت يومي السبت والأحد الموافقين لـ 26 و27 أكتوبر2013 إلى مداخلات مسبوقة بكلمة افتتاحية للسيد محمد العاني، المدير العام للمؤسسة.

استهل المدير العام كلمته الافتتاحية بترحيبه بالحاضرين الذين حجوا من مختلف الدول قصد المشاركة في الندوة المذكورة أعلاه. وأوضح أن موضوع الحداثة هو حديث ذو شجون، بوصفه موضوعا أثر على كل الحضارات وخاصة التقليدية منها، كما أضاف، أننا وبشكل لا إرادي منغمسين في الحداثة على عدة مستويات : الاقتصادية، الاجتماعية وحتى السياسية.

وفي حديثه عن موضوع الحداثة وعلاقته بالعالم العربي الذي يعرف تأخرا في النمو والتطور واصطدام خاص لرجال الدين مع هذا المفهوم وتجلياته وعدم الرضى على ما أنتجته عل المستوى الأخلاقي، طرح سؤالا جوهريا: هل يمكن الإسهام في التأسيس الأخلاقي للحداثة؟ ما هي المبررات الموجودة لدينا، نحن العرب، لكي نسهم في التأسيس الأخلاقي للحداثة؟

وختم كلمته بكون سياق الندوة جاء لفهم الحداثة والتعاطي معها والاستفادة منها، بغية تغيير أنماط الفكر المنغلقة أو الوثوقية. فإذا كان الفكر الديني مقيدا الإنسان بقيود لاهوتية، فالحداثة جعلت منه سجينا لسوق حرة.

بعد ذلك، باشرت الجلسة الأولى عملها بموضوع في دلالة الحداثة، وترأسها الأستاذ مولاي أحمد صابر، حيث شارك الدكتور فريد لمريني، أستاذ بجامعة محمد الأول وجدة، بورقته في موضوع الحداثة والتباساتها المفهومية، فتمحورت مداخلته حول ثلاثة محاور،هي: الحداثة والأزمنة الحديثة، الحداثة والزمن كمحور ينهض على شقين اثنين هما : الحداثة والتاريخ، ثم الحداثة كإيديولوجيا كونية للتغيير.

وفي بداية حديثه، أكد الدكتور لمريني على أن مفهوم الحداثة مفهوم عسير التحديد، وذو حمولة إشكالية لا حد لها، حيث يستحيل استخراج كافة المضامين التي يتكون منها أو الصفات التي يشير إليها. وأضاف أن المفاهيم بشكل عام، ليست لها زمانية خاضعة لنظام كرونولوجي معين، لأنها دائما في حركة لا تتوقف.

وعرف الحداثة -بصفة أولية- كمفهوم أفق مستبد بكل الآفاق المغايرة لـه. إنها كمفهوم وعلى مسرح الفكر والعمل، تتقدم باعتبارها السياق الوحيد والممكن لتطور وتقدم كل المفاهيم القديمة والحديثة والمعاصرة، سواء في حقل الإيديولوجيا أو حقل العلم. كما أشار إلى كون الحداثة تجعل من نفسها حاضرا مطلقا، وزمنا غير قابل للاسترجاع "إنها تجعل من نفسها التغيير الوحيد والممكن" كما قال هنري لوفيفر.

وفي محورالحداثة والزمن، حاول المحاضر الإجابة عن السؤال، كيف أصبحت الحداثة تجليا كونيا؟ لقد تمكنت الحداثة كمجموعة من الوقائع التاريخية المحددة، أن تجعل من نفسها وعيا متعاليا على التاريخ، وقامت بطمس أو إخفاء جدليته الحقيقية، عبر الإعلاء السحري من قيمة الحاضر، وتحويله إلى الزمن الوحيد والممكن. واختتم المتداخل محاضرته بالحديث عن الحداثة كإيديولوجيا كونية للتغيير بموقف عبد الله العروي الذي يطالبنا بالانطلاق من فرضية التحديث عوض الحداثة.

الحداثة : " لا تعني شيئا آخر سوى أن مجموعات إنسانية تريد، من خلال الزمان والمكـان، أن تعمــم Une séquence événementielle متتاليـة حدثية، سبق أن وقعت في لحظة ما وفي مكـان مـا".

وجاءت المحاضرة الثانية بعنوان: الحداثة : نحو مقاربة دلالية سوسيوـ تاريخية

ألقاها الدكتورالطيب بوعزة، محاولا الإجابة على الأسئلة المتعلقة بماهية الحداثة؟ من يزعم إنجاز الحد الماهوي بعد كل تلك الإشكالات التي عانى منها المنطق الأرسطي في نزوعه نحو الحدود الكلية؟

ما هما الدلالتان التاريخية والثقافية للحداثة؟ كيف يمكن التحديد اللغوي للفظ يعرف القفز من هنا وهناك؟ما سبب هذا الالتباس؟

في بداية مداخلته، أشار المحاضر إلى أن الحداثة ليست مجرد لفظ مفهومي تقني يتم تداوله معرفيا،بل هو منذ نزوله إلى واقعنا العربي، انتقل من الاستعمال المعرفي إلى الاستعمال الإيديولوجي.

في تعريفه لدلالات للمصطلح والتباساته، واتخذ الدكتور الطيب بوعزة د.كمال أبو ديب مثالا، ليؤكد هذا اللبس، فأضاف أن أبا ديب الذي ظن أنه يعرف الحداثة، لم يكن يعرف سوى ما بعد الحداثة مستشهدا بقوله: " الحداثة ، في كل تجلياتها، وعي ضدي حاد للغة، وبالتخصيص، لأزمة اللغة.

في هذا الوعي، تبدو اللغة أرضًا خرابًا، ساقية جفت ولم يبق في قاعها سوى الرمال المتشققة، شجرة يابسة في صحراء رمادية ... لغة مكدسة محشوة بالسلطة، لغة يثقلها تاريخ الأيديولوجيات السلطوية التي صنعت تاريخ الثقافة .هكذا تبدو اللغة عبئًا هائلا، قوة ضخمة من قوى الفكر المتخلف التراكمي السلطوي. اختتم قوله بالتساؤل، هل من سبيل لتكوين موقف حول الحداثة من دون انفعال مسبق بمعطاياتها؟ كيف يمكننا أن نتجاوز الإشكالات التقليدية في علاقة بذواتنا وذوات الآخرين؛ أي نحن والآخر، مؤكدا على أن الشروط التداولية هي الموقع الذي سيمكن الذات العربية الإسلامية من المشاركة في المعرفة الإسلامية والمعرفة الإنسانية شريطة أن نحسن واجب الإنصات والنقد، لكي يصبح الفكر الإنساني محاورا لنا.

وتمحورت محاضرة الدكتور عبد الواحد العلمي، أستاذ بجامعة بروكسيل، حول موضوع الحداثة وما بعد الحداثة وبناء المعرفة في الفكرالعربي، حيث استهل محاضرته بالحديث على أن المثقف العربي المسلم وكل مثقف ذي انتماء إلى حضارة وثقافة أخرى، يجد نفسه مضطرا لا مختارا إلى التعاطي المعرفي والفكري مع الحداثة، سواء باعتبارها مسارا تاريخيا أو مضمونا فلسفيا. في رأي الدكتور العلمي، لا سبيل للخروج من هذا الإشكال المنهجي والمعرفي المتعلق بالحداثة ومعطياتها إلا بتجاوز إشكال الثنائيات التقليدية: الأصالة والمعاصرة، الثرات والمعاصرة الحداثة، ما عندنا وما عندهم، واعتبار الفكر البشري ساحة واحدة، تعتمل فيها المعرفة، وتتطور بآليات من مثل التعالق والتفاعل والتناص والاقتباس والحوار. وفي طرحه لما بعد الحداثة ومعركة التعريف، أكد على أن ضرورة الوقوف عند المصطلح ليست فقط لمعاودة النظر في الميراث الثقافي الفلسفي الغربي، بل النظر في اللحظة التاريخية الراهنة والمؤسسة للحداثة وارتباطها الوثيق بمرحلة ما بعد الحداثة، مركزا على أنه كل من يريد غير ذلك، لابد له من السقوط في شرك الاختزال والتمجيد والنظرة السعيدة كما سماها المحاضر، وإغفال مستبطنات وما أجلته مطارق ما بعد الحداثيين من معايب ومطبات معرفية وأخلاقية وإيديولوجية.

وختاما، أكد المحاضر على أن تعريف الحداثة ومشتقاتها ضرورة معرفية لكل باحث في الفكر الغربي والإسلامي، يروم بناء معرفة حول الذات وحول الآخر.

وتناولت الجلسة الثانية موضوع، نحن والحداثة، وترأسها الأستاذ منتصر حمادة، حيث حاضر الدكتور عبد الله بربزي، أستاذ باحث في علوم التربية حول موضوع تعلم التفكير النقدي أساس الحداثة التربوية.

في بداية حديثه، تطرق المحاضرإلى أن هناك نوعين من التربية؛ تربية تقليدية وتربية حداثية؛

فالتربية الحداثية تقوم على فكرة أساسية ألا وهي احترام شخصية الطفل، في حين أن التربية التقليدية غالبا ما تسعى إلى قمعه. وفي حديثه عن التفكير النقدي، رصد المحاضر أهم خصائصه المبنية على معرفة الافتراضات والقدرة على التفسير. التعريف يعرف مميزات عديدة تعلقت بعدة خصائص؛ فهناك الطابع التحليلي الذي يعتمد التفكيك، والطابع النفسي الذي يتميز بقدرة التفكير كملكة وعلاقتها بالميولات النفسية، والطابع المعرفي الذي يسعى إلى تسليط الفكر على الفكر.

بعد السفر عبر المناهج العلمية النظرية والتطبيقية لتجليات الفكر النقدي وعلاقته المباشرة مع التربية، اختتم المحاضر كلمته بالتأكيد على أن الانعتاق المعرفي لن يتم إلا بتعلم ممارسة التفكير الجاد، وتحمل المسؤولية تجاه الذات الآخر، والخروج من إصدار الأحكام القبلية والجاهزة.

وأبرز الدكتور يوسف بن عدي، أستاذ فلسفة بمراكش، أن تلقي الحداثة في الفكر الفلسفي المغربي من قبل المغاربة هو اختيار رهين بسياق تاريخي وإيديولوجي وفكري؛ أي تطور أدوات المنهج ووسائله التلحيلية والتفكيكية. فضلا عن أن هذا التقبل والتلقي لم يكن يشي بأن هناك تطابقا بين فكرة الحداثة وبين البات والمتلقي، اذ أن الفكر المغربي قد تقبل الحداثة في مراحل مختلفة وفترات، حتى إن الأمر كان متأخرا بالفعل، حينما نعلم أن جل الفلسفات (الشخصانية والتاريخانية و "الابسيتمولوجية"..) كانت في القرن 19، حيث اكتملت هذه الفلسفات في الغرب، بل انغلقت بشكل رهيب على ذاتها. من أجل تأكيد هذه الفرضية الفلسفية أعلاه، عرج المحاضر على خمس لحظات، هي : لحظة الشخصانية الواقعية الغدوية مع الحبابي، هذا الفيلسوف المغربي الذي أهمل وتم السكوت عنه بشكل يدفع الباحث في الفكر والفلسفة أن يقول: إنها "مؤامرة مبيّتة". أما اللحظة الثانية، فهي لحظة العروي الذي حسم موقفه المعرفي والإيديولوجي من التراث الذي يمكن طي صفحته بقراءته وإبراز محدوديته وانسداد أفقه، ثم لحظة الجابري الذي تعقل التراث وتحديثه من الداخل؛ أي من خلال تحديث آلياته وأدوات التفكير، ثم لحظة طه عبد الرحمن، فإنها لحظة تكاد تنفرد برؤيتها المنطقية والتقويمية للفكر الغربي ككل، بل لمساراته الكونية واختياراته العلمية. أما اللحظة الخامسة والأخيرة، فهي لحظة رشدية كيف يمكن أن نكون رشديين في الألفية الثالثة؟

وحاضر الدكتور إبراهيم مشروح، أستاذ المنطق بدار الحديث الحسنية، في موضوع من روح الحداثة إلى روح الدين : طه منازعا كانط، إذ افتتح ندوته بمقولة كانط في ما الأنوار 1784 "ها أنذا أسمع هتافات تأتيني من كلِّ حدْبٍ وصوب: لا تتعقَّل ! يقول الضابط : لا تتعقَّل، أطع الأوامر! يقول الجابي: لا تتعقَّل، ادفع ! يقول الراهب: لا تتعقَّل، آم[...] في جميع هذه الحالات، ثَمَّة حدٌّ من حرِّيتي".

أشار الدكتور مشروح إلى أنه لا مندوحة من سبر الأطروحات الفكرية الأساسية لطه عبد الرحمن بـمسبار يستقصي فيه الغاية البعيدة لمشروعه، يجد أن الرجل قد ظلَّ يُطاعن الحداثة في ‘تطبيقها الغربي، ويسعى إلى تأسيس حداثة إسلامية؛ فهو لا يفتأ، في سعيه الذؤوب هذا، يرفع التحدِّي تلو التَّحدي، طالبا ترشيد المسلم كي يجترح سبيلا، غير سبيل التقليد والإتباع، فيبدع حداثته، جاهدا في تحقيق هذا الإبداع بالاستجابة إلى ما أطلق عليه طه روح الحداثة، لذلك طلب أن تستجيب الحداثة الإسلامية إلى هذه الروح القائمة على ثلاثة مبادئ، هي: مبدأ الرشد ومبدأ النقد ومبدأ الإبداع، ولهذا أقدم طه، على وجه جديد وغير مسبوق بشَّر به في كتابه الموسوم بـ: روح الحداثة، على تقديم ما اعتبره‘‘مدخلا إلى تأسيس الحداثة الإسلامية’’، لكنه سرعان ما غير المعترك، وصار يرادف بين الحداثة الغربية والعلمانية (الدُّنيانية) ليقابلها بالائتمانية، واسماً الأولى بالضيق، والثانية بالسّعة : فهل يمكن أن نقرأ كتاب روح الدين الذي أصدره طه عبد الرحمن بعد روح الحداثة، على اعتبار أنه يواصل فيه التأسيس لحداثة إسلامية تستجيب لمقتضيات المبادئ التي تجسد ما أطلق عليه روح الحداثة؟

في طرحه من الدين في حدود العقل إلى العقل في حدود الدين، لم يحملنا تقديرنا على وضع طه ضد كانط، كما أكد الدكتور مشروح، إلا لكون كانط، وإن كان مسيحيا مؤمنا، قد أعلى في كتابه الدين في حدود العقل البسيط من العقل ولم يجعله، مع ذلك، يتنطع عن الدين، ولذلك، فإننا نتناول هنا كانط الفيلسوف البروتستانتي الذي كان سؤال مشروعه الفكري الفلسفي يتوجه نحو الإنسان: ما (ماهية) الإنسان؟؛ فقد كان بحثه عبارة عن رسالة في اللاهوت الفلسفي، ولم تكن هذه الرسالة، مع ذلك، رسالة إنجيلية خالصة، ومن غريب الصدف أن يكون كانط قد جعل في هذه الرسالة الدين في حدود العقل فيحين نجد أن طه لا يفتأ بطلب عكس ذلك؛ أي أنه يطلب جعل العقل في حدود الدين، ولا يحمل المفاهيم القرآنية إلى دائرة فلسفة الدين؛ فقد اعتبر أن العمل الديني يجدد العقل، ويوسِّعه، وقد كان هذا عنوان كتابه: العمل الديني وتجديد العقل، حيث وضع العقل في حدود الدين وليس العكس.

ختاما، أشار المحاضر استنادا إلى موقف فيورباخ في تحديد عالم ديني هو موضوع التمثُّل، وعالم زمني؛ وجب علينا أن نعني أن عودة طه، روح الدين وعودة الدين، كالعودة الحالية إلى الدين في الفكر الغربي التي يعزوها البعض إلى عدم حسم الصراع الأصلي الديني- العلماني خصوصا أمام انهيار الأنظمة الأشد خصومة للدين: الشيوعية.

تطرقت الجلسة الثالثة والأخيرة التي ترأسها الدكتور إبراهيم مشروح إلى موضوع الحداثة وما بعدها، وفي هذا الإطار حاضر الأستاذ محسن محمد حول موضوع الجذور الفلكية للحداثة: انبثاق الذات وانهيار الباراديغم الأرسطي التراتبي. في هذه المداخلة، تحدث المحاضر عن الكوبيرنيكية، باعتبارها الشرارة الأولى التي أسهمت في بدء عملية القلب النظري والدخول إلى تصور جديد قوامه الذات عوض الموضوع. لقد كان الفلك قبل كوبيرنيكوس يسير في درب النموذج الأرسطي ـ البطلمي، القائم على مركزية الأرض، وكانت به عيوب كثيرة من بينها : تعقيده، أخطاء تقويمه، وعدم حله لمشكلة الكواكب المتحيرة.

وأوضح المحاضر كيف مكنتنا الكوبيرنيكية من الانتقال من الحقيقة الجاهزة نحو الحقيقة كبناء، مؤكدا على زيف الحواس؛ فالعالم قدم لنا نفسه بطريقة مضللة، فالنظرة الخام للعالم لا تبوح بالحقيقة إلا بعد التمحيص والتدقيق الصارم من قبل العقل؛ فالعقل الذي يقبل الجاهز ساذج ومغفل، وجب أن يتحصن بالمنهج لإعادة بناء الحقيقة، فلو كانت الحقيقة هي ما يظهر مباشرة، لتمكنا بسهولة من إدراك أن الأرض تدور، وهذا ما يفسر لنا أيضا وبوضوح شك ديكارت الشهير، ومحاولته تصويب العقل بكتابه مقال في المنهج لحسن قيادة العقل، بل وجب الإشارة إلى أنه لا يوجد فيلسوف لم يكتب في مسألة العقل وتشريحه، بل محاكمته، فذاك أصبح الشغل الشاغل لهم، فنجد بيكون بكتاب "الأرغانون الجديد". كما تطرق في ختام محاضرته إلى نسف الذهنية الهرمية. لقد كان التقسيم الفلكي الأرسطي ـ البطلمي يفرق العالم إلى عالمين :علوي سماوي، حيث الكمال والثبات، وسفلي أرضي، حيث الكون والفساد، فهناك تمايز وتباين بين العالمين؛ فالعالم يتحرك بقوانين مختلفة، لكن بمجرد قدوم الكوبيرنيكية، اندمجت الأرض بالسماء، فصعد المتدني إلى الكامل، وهو ما هدم التقسيم الثنائي الذي سيتوج بتوحيد كامل مع نيوتن، حيث صار ت قوانين السقوط "التفاحة" هي نفسها قوانين الدوران "القمر". كل هذا سيمهد لانهيار التراتبية الاجتماعية؛ فالكوبيرنيكية كانت بمثابة الخلفية النظرية المحركة لانبثاق صعود الشعب من التدني إلى الرفعة، فما ينطبق على العموم هو نفسه ما ينطبق على الخاصة، الأمر الذي تجلى بوضوح مع روسو بمفهومه السيادة العامة.

أما مداخلة الدكتور مصطفى بن تمسك، أستاذ بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالقيروان بتونس، فتمحورت حول الحداثة بمفارقاتها ومساراتها، حيث أشار المتداخل إلى أن الحداثة مثلت منعطفا حاسما في التاريخ الغربي والإنساني عامة، لأنها كانت بالفعل إشارة الى نقلة تاريخية كونية بمقتضاها نزعت عن العالم الإنساني كما الطبيعي سحريته وغرائبيته (فيبرر أفق عملية التحرر هذه شعور مزدوج بالغبطة والألم. فالغبطة تترجمها حركتان: أولا، الدفع النفسي والتحريضي الذي انتهى إلى استنهاض الوعي الأوروبي من دوغمائيته وسذاجته، والتواجه مع سلطة لا تستمد قوتها إلا من سيكولوجيا الخوف والجبن والكسل المستبدة بأفئدة الشعوب. كما أضاف أن عملية التحرر رافقها شعور مزدوج بالغبطة والألم. فالغبطة تترجمها حركتان : أولا، الدفع النفسي والتحريضي الذي انتهى إلى استنهاض الوعي الأوروبي من دوغمائيته وسذاجته، والتواجه مع سلطة لا تستمد قوتها إلا من سيكولوجيا الخوف والجبن والكسل المستبدة بأفئدة الشعوب.

ختاما تساءل المحاضر هل للحداثة وجوه وحلقات ومسارات مقترنة بنيويا بالتطور أو بالركود الذي يشهده النظام الليبرالي أم هي لحظة التماعة تاريخية نادرة، تنأى عن السياسات، وتتجرد من كل السياقات؟ كيف سيتعامل العالم العربي والإسلامي مع حداثة اقترنت بالذاكرة الاستعمارية : هل بمواصلة الرضوخ أم بابتداع حداثة خصوصية قادرة على تحريره من كل أشكال التبعية؟

أما مداخلة الدكتور محمد مزوز (جامعة حمد الخامس/الرباط)، فتطرقت لموضوع الحداثة: جدل الرغبة فيها والرغبة عنها، حيث تناول في ورقته ثلاثة محاور أساسية، هي: الرغبة في الحداثة، الرغبة عن الحداثة، من الرغبة إلى الإرادة، مشيرا إلى أنه، منذ أن سرق بروميثيوس النار من الآلهة - ومنح الإنسان قبسا من جذوتها - إلى إعلان هابرماس عن "مشروع الحداثة الذي لم يكتمل بعد"، ما انفك الإنسان يكافح ليل نهار بغية استكمال هذا المشروع الذي يتأبى الاستكمال. هل لأن الحداثة غواية لا تقهر؟ أم فتنة لا تهدأ؟ أم طموح لا يتحقق؟

لقد تجلت الرغبة في الحداثة بكونها تحمل معها انقلابا في العوائد (عوائد التفكير والممارسة على السواء)؛ فهي تنقلنا بالضرورة نحو الجديد؛ أي إلى عالم المجهول غير المألوف لدينا. وهذه النقلة ليست من اليسر، حيث إنها تجري بسلاسة.

والرغبة عن الحداثة كون قد يحق القول أن نصف الخلاص قد تحقق، فمن الشطط إنكار كل شيء؛ أي القول بفشل مشروع الحداثة جملة وتفصيلا. فنتائج التقنية؛ أي المنتوجات التكنولوجية الهائلة والمتسارعة، غنية عن البيان وليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بل أكثر من ذلك أضحت هذه النتائج والمنتوجات حاجة ضرورية لدى خصوم الحداثة أنفسهم؛ فمستويات التعليم والصحة والمواصلات... وغيرها، تشهد على الجوانب المنجزة من المشروع الحداثي، وهي شهادة لا يمكن ردها بأي حال من الأحوال. كما تجلت مرحلة من الرغبة إلى الإرادة في أن مشروع الحداثة يعود إلى نقطة انطلاق بعيدة، تجد في الرغبة الإنسانية مبتدأها. أما منتهاها، فمحكوم عليه بعدم الاكتمال. إنها الرغبة الطفولية في الاكتشاف، والولع بالجديد، ثم الإعراض عنه للعودة إلى متعة اكتشاف جديدة... وهلم جرا. بالإضافة إلى أن هناك رغبة فطرية لا تقاوم لدى الكائن البشري، أعني رغبة الاكتشاف والتجاوز المستمر للمألوف والمتداول، يضاف إلى ذلك رغبة الاستمتاع بالمنتجات واستهلاك السلع والبضائع.

واختتم الأستاذ محاضرته بالحكمة الأبيقورية : "تذكر أن غاية رغباتك هي الحصول على ما ترغب فيه، وأن الغاية من تخوفاتك هي العمل على تجنبها. فمن لا يحقق رغباته هو شقي، ومن يسقط ضحية تخوفاته هو بئيس"(Pensées vii؛ معنى هذا أنه من اللازم أن تتكون لدينا إرادة الرغبة - لكن ليس الرغبة المتهورة.

وكان الختام المسك، مع مداخلة الدكتور محمد سبيلا الذي تطرق لمفهوم الحداثة والتحديث في الفكر المغربي المعاصر، حيث تنقل مع مشروع المفكر الراحل محمد عابد الجابري والمفكر عبد الله العروي، مركزا في حديثه على تلقي الحداثة عند هؤلاء المفكرين، على اعتبار أن الجابري زاوج بين التراث والحداثة عبر رصده لإشكالية التراث في كتاب "نحن والتراث" ونحن والحداثة؛ فهذا المفكر الراحل بحث في كيفية تشكل التراث انطلاقا من بنية العقل، المنهجية الكانطية، في انفصال واتصال مع هذا الموروث.

وفي طرحه لإشكال الحداثة والتقليد، رصد الدكتور سبيلا مجموعة من الأسئلة: هل يجب تغيب التراث وتبني الحداثة؟ أم التوجه المباشر لها والقطع إيبيستمولوجيا مع كل ما له علاقة بالتراث؟ فإذا اعتبر العروي التراث تراكما تاريخيا وجب التخلي عنه؛ فالدكتور سبيلا أكد على أن التراث ليس بقميص يمكن استبداله متى نشاء، بل هو تصور ومعان للحياة. فالحداثة، على حد قوله ليست نزوعات فردية luxe de choix، وإنما اختيارات مجتمعية وتفكير في مجتمع. لينهي حديثه، بل الإشكال الآتي: هل يتم التفكير في الحداثة بالقطيعة أم بالاستمرارية؟ يبقى هذا السؤال من أهم إشكالات الحداثة في مجتمعنا الراهن.

ألبوم الصور