اللّقاء الافتتاحي ضمن سلسلة محاضرات: "محاكمات الفكر شرقاً وغرباً" محاضرة د. محمد الشّريف فرجاني حول: محاكم التّفتيش

فئة: أنشطة سابقة

اللّقاء الافتتاحي ضمن سلسلة محاضرات: "محاكمات الفكر شرقاً وغرباً" محاضرة د. محمد الشّريف فرجاني حول:  محاكم التّفتيش

انطلق بمقرّ مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، الأربعاء 19 شتنبر الجاري، اللّقاء الافتتاحي ضمن سلسلة محاضرات "محاكمات الفكر شرقاً وغرباً"، وهي سلسلة شهريّة للنّقاش حول نماذج من محاكمات الرّأي والفكر، سواء في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة أو في المجال الغربي المسيحي، لبيان خلفيّات تلك المحاكمات وما أدّت إليه، وبنى السّلطات الدّينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسّياسيّة التي عارضت المختلف وقمعته بتهم التّكفير والتّجديف وازدراء الأديان وغيرها. وفي هذا السّياق، تمّ تنظيم محاضرة عامّة لإطلاق هذا البرنامج قدّمها د. محمد الشريف فرجاني، وأدار اللّقاء د. نادر الحمّامي بحضور ثلّة من المتابعين.

وقد أطّر الحمامي اللّقاء بأن عرض التّصوّر العام للمسألة ضمن برنامج أنشطة الجمعيّة للموسم الجديد، مبيّنا أنّ الخيط النّاظم بين ما تمّت برمجته من محاضرات، إنّما هو البحث في مسألة الفرد والحرّيات الفرديّة، وقد طرح في هذا الصّدد العديد من الإشارات إلى ما عرفه التّاريخ الإنساني من اضطهاد وعنف وتنكيل لمفكّرين من قبل المؤسّسات الرّسميّة التي تمثّل السّلطة الدّينية والسّياسية، أو ما أطلق عليها تسمية "المنتصرين" في مقابل "النّاجحين"، مبيّنا أنّ انتصار أصحاب السّلطة كان مؤقّتا وزائلاً، في حين أنّ نجاح أصحاب الفكر كان هو الأبقى وقد شكّل تراكماً انتفعت به الإنسانيّة. وأشار الحمّامي إلى أنّ ما ينطبق على تاريخ المحاكمات في الغرب ينطبق أيضاً على تاريخ المحاكمات في الشّرق، واعتبر انطلاقا من ذلك أنّ المقارنة بين الشّرق والغرب تدحض مقولة "الاستثناء الإسلامي".

وأحيلت الكلمة من ثمّ إلى الأستاذ محمد الشريف فرجاني، فقدّم محاضرته حول محاكم التّفتيش (Inquisition)، وبيّن أنّها ظاهرة تقوم على الدّفاع عن فكرة الحقيقة الواحدة الأزليّة التي تمثّلها الكاثوليكية، والدّفاع عن فكرة الطّريق القويم التي تمثّلها الأرثوذكسية، ما جعل الكنيسة تستهدف من تعتبرهم أتباع الضّلالات والهرطقات والمحرّفين للدّين الحق شرقاً وغرباً. معتبراً أن قضية ملاحقة الفكر والمدافعين عنه ليست استثناء كاثوليكيا ولا أرثوذكسيا ولا إسلاميّا، فقد كانت ملامحها ماثلة لدى المسلمين، وقد أورد مثالا عن ذلك ممّا ذكره الطّبري من أن جنود المسلمين كانوا يقيمون مع العائلات التي أعلنت إسلامها في آسيا، ليتثبّتوا من صدق عقيدتهم، كما اعتبر أنّ التّفتيش قضيّة تتجاوز الأديان في حدّ ذاتها، مشيراً إلى المحاكمات التي أقيمت في العصر الحديث باسم الأرثوذكسيّة الماركسيّة في الصّين وكمبوديا...

وبيّن أن ظاهرة التّفتيش في ضمير الفرد باستعمال وسائل تعسّفية لإثبات تهمة مروقه عن العقيدة أو اعتقاده لما يخالف المسيحيّة، اعتماداً على محاكم استثنائيّة تدخل في إطار محاكمات الرّأي هي سابقة على تأسيس محاكم التّفتيش الرّسميّة التي وضعها البابا غريغوري التّاسع (1145-1241م) وقد ظهرت ملامحها مع الأساقفة والمجامع الكنسيّة، كما ظهرت في الأوامر الإمبراطوريّة التي تنصّ على ملاحقة أصحاب الهرطقات منذ أن أصبحت المسيحيّة الدّيانة الرّسمية للإمبراطوريّة الرّومانيّة، وقال إنّ ما قام به البابا غريغوري التّاسع لم يكن سوى مأسسة لتلك الممارسة السّابقة التي تواصلت إلى نهاية الحروب الدّينية والثّورات الدّيمقراطية، واتّسع مجال التّفتيش ليشمل دحر المسلمين من إسبانيا، فقد كانت مهمة التّفتيش هي التثبّت من صدق اعتناق المسيحيّة من طرف اليهود والمسلمين الذين لجأوا إلى المسيحيّة هروباً من أشكال التّمييز والعسف.

وعدّد فرجاني جانباً من المفكّرين الذين طالتهم المحاكمات شرقاً وغرباً من غاليلي إلى كوبرنيك إلى برونو جوردانو وغيرهم، مستنتجاً أنّ السّلطة الدّينية كانت دائماً ضدّ كلّ فكر جديد وخارج عما ألفته المجموعة معتبرة كل ما هو جديد بدعة وشرّاً لابدّ من القضاء عليه. وأشار إلى أنّ موقف السّلطة الدّينيّة ليس ثابتاً بدواعي فقه المصلحة، وأنّ ما تعتبره شرّاً في زمن ما يمكن أن تبرّره لاحقاً حين يصبح مقبولاً اجتماعيّا؛ وضرب عن ذلك أمثلة نذكر من بينها معارضة السّلطة الدّينية لإلغاء العبوديّة في تونس سنة 1846، وكيف أصبحت المؤسّسة الدّينية تبرّره بعد أن تمّ تقبّله في المجتمع التّونسي، بل وتعتبر أنّ الدّين ذهب في اتّجاه تحرير النّاس من العبوديّة منذ البداية.

وعرّج فرجاني على مسألة المحنة التي عرفها التّاريخ الإسلامي، باحثاً في تماثلها مع محاكم التّفتيش استناداً إلى ما ورد في النّص القرآني وفي كتب التّراث، ووجد أنّ المحنة تقوم، على غرار محاكم التّفتيش، على التّثبّت من صدق العقيدة، وأنّها لا تختلف عن باقي الفظاعات التي شهدها التّاريخ الإنساني، والتي مورست على الفرد شرقاً وغرباً، إلاّ أنّ النّظر إليها باعتبارها عسفاً وظلماً اختلف بين المذاهب والعقائد، فما يعتبره مذهب ما محنة لا يُعتبر كذلك في المذهب المقابل له. وانتهى إلى أنّ الشّروط التي قامت عليها محاكم التّفتيش لا تخرج عن شرطين؛ هما وجود طرف متّهم بالخروج عن "الدّين الحق" ووجود سلطة تحتكر الدّفاع عن الدّين، وتعتبر نفسها مذهباً رسميّاً للحقيقة.

وأثيرت في النّقاش أسباب المحاكمات ومن بينها هاجس احتكار السّلطة والمحافظة على النّفوذ وهاجس الخوف من الاختلاف والرّغبة الدّائمة في السّيطرة، كما تناول بعض المتدخّلين علاقة الدّولة بالدّين، باعتباره أداة تمايز هووي، وعلاقتها بالمؤسّسات الدّينية، باعتبارها رافداً من روافد المشروعيّة التي تدّعيها الدّولة للتّحكّم في تسيير الظّاهرة الدّينية اجتماعيّاً، وأفضى النّقاش إلى تباحث مسائل توزيع السّلطة في المجتمع وانعكاساتها المباشرة على منزلة الفرد وقدرته على ممارسة حرّياته وانتزاع حقوقه.