تقرير أعمال الدورة الثانية من ورشة عمل المستشار عبد الجواد ياسين: "أنثروبولوجيا اللاهوت التوحيدي"

فئة: أنشطة سابقة

تقرير أعمال الدورة الثانية من ورشة عمل المستشار عبد الجواد ياسين: "أنثروبولوجيا اللاهوت التوحيدي"

تأتي الدورة الثانية من ورشة عمل المستشار عبد الجواد ياسين "أنثروبولوجيا اللاهوت التوحيدي" بوصفها ذروة مشروعه البحثي في تناول الظاهرة الدينية؛ الذي يؤسس لمفاصلة حاسمة بين ما هو ديني كلي مطلق، وما هو اجتماعي نسبي متغير من خلال تسكينه داخل بنية الاجتماع التي صدر عنها وتطور فيها. فإذا كان العقل الديني مصرّا على تقديم الدين بوصفه حقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع، وبالتالي غير قابلة للتغير على كافة مستوياتها بما فيها المستوى التشريعي الذي يعالج بدوره معطيات نسبية، فإن المقاربة الوضعية التي أنجزها الدرس السوسيولوجي على الجانب الآخر، تقدّم الظاهرة الدينية بوصفها ظاهرة بشرية صُنعت داخل العالم، ومن ثمّ لا مجال للحديث عن مطلقات مفارقة تحويها الظاهرة. بين هذين التصورين، تأتي أطروحة مقدّم الورشة لتضع كلا في نصابه دون أن تفرض مقولاتها الاصطلاحية مسبقا: الدين بما هو الإيمان بالله والأخلاق الكلية المطلقة، والتدين بما هو منظومة تاريخية – من بينها الشقّ التشريعي واللاهوتي- تضخمت بفعل العوامل والدوافع السياسية/الثقافية حتى طغت على مادة الدين في ذاته، حيث صار ما هو اجتماعي أضخم وأهم مما هو مطلق في مضمون ومنطوق بنية الديانة القائمة. 

فإذا سعت الدورة الأولى من الورشة إلى تفكيك النظرية السياسية في الإسلام، سواء على المستوى السنّي أو الشيعي أو الإباضي؛ بالتعرض لسياقات نشأتها وملابسات تنصيصها وأزمتها في مواجهة الراهن، فإن الدورة الثانية لم تكن لتحيد عن الهدف ذاته على مستوى اللاهوت الإسلامي؛ إذ تشتغل على موضوع الدين من زاوية محددة هي زاوية العلاقة بينه وبين الاجتماع، كون هذه العلاقة تقتضي بطبيعتها الحديث عن طرفين متمايزين. جرى النقاش خلال جلسات العمل الخمسين حول تلك التصورات المتعددة للعقل الديني حول المطلق الواحد، لماذا اختلفت تلك التصورات عن المطلق الواحد في ذاته؟ بل كيف يمكن تعيين هذا المطلق في ذاته وفي العالم؟ وبوجهٍ عام، كان علينا تقديم معالجة واعية لمسألة "تصوّر الله" من داخل أطر الثقافة التاريخية التي تفرزها، والتي لا تتطابق بالضرورة مع أطر التفكير التي ننطلق منها. لذا كان علينا الانتباه إلى تلك الإشكالية، ومحاولة مقاربة تلك التصورات من داخل السياق التاريخي الذي أفرزها. 

وقد جرى النقاش حول هذه التصورات اللاهوتية الإسلامية على مستويين: 1) اللاهوت بما هو نسق تفريعي على النسق الإبراهيمي المخالف للأنساق ذات الأنطولوجيا غير الثنائية التي تطورت في الشرق الأقصى 2) وبما هو مادة موضوعية تشكّلت عبر مرحلتين: مرحلة المؤسس، ومرحلة التدوين، مستجيبة في كل الأحوال  للمثيرات الثقافية والسياسية والمناخية الاجتماعية الجديدة. 

في تناولنا للموضوع الكليّ، تم تقسيم مراحل العمل وفقا لمحاور ثلاثة بالتزامن مع التكليفات البحثية التي تقدّم بها أعضاء الورشة، وهي كالتالي:

المرحلة الأولي: اللاهوت العام: البنية –التاريخ: 

جرى النقاش حول البنية العامة للاهوت (التصوّر، وموضوع التصوّر) وفكرة الوحي، وفكرة النبوّة، ومفهوم الكتاب وسلطة النصّ. وخلال تلك المرحلة تم تقديم عدد من الأوراق البحثية المتصلة بالموضوع. كان من الأوراق التي تم تقديمها في هذه المرحلة الورقة المقدمة من الباحث يامن نوح بعنوان: "جورج باركلي بين الدين والفلسفة: قراءة في كتاب المحاورات". وتقوم الورقة علي عمل قراءة نقدية لكتاب المحاورات للفيلسوف البريطاني جورج باركلي في إطار قراءة فلسفته بشكل عام، وكتاب المحاورات كان أحد القراءات المقترحة من مقدم الورشة المستشار ياسين لطلاب الورشة. وقد تم نشر هذه الورقة لاحقا لدى مركز نماء للبحوث والنشر. كذلك قام الباحث حامد محمد حامد بتقديم ورقة بعنوان: "التأثير الإسلامي في اللاهوت الأيزيدي"، وقد حاول الباحث في هذه الدراسة - اتساقا مع الرؤية العامة للورشة والمنهجية التي يقوم عليها مشروعها- استكشاف آليات الاجتماع في صياغة اللاهوت والطقوس. وتكمن أهمية الأيزيدية في هذا السياق ليس فقط لأن مثل هذا الديانات التي يعتبرها الباحث "هامشية" نسبيا بالمقارنة مع الديانات الإبراهيمية الكبرى، تفتقر إلى سطوة وحضور الأخيرة وأدبياتها النصوصية الهائلة، ولكن لأنها كذلك لم تتبلور قط في شكل نهائي مغلق، حيث هي في حالة تطور ونمو دائمين، حتى مع وجود نصوص دينية مقدسة، وربما لهذا السبب تحديدا، استطاعت مثل هذه الديانات أن تجد لنفسها موضع قدم حتى اليوم وسط الإيمان الإبراهيمي المتنامي. فقد تعرضت الأيزيدية مثلها مثل أغلب الديانات الهامشية التي تعيش على تخوم الديانات الرسمية لعديد من الضربات الموجعة على مر التاريخ، مما عرض كتبهم المقدسة للتلف والتدمير والضياع، وجعل تراثها الديني موكولاً بحفظ طبقة تسمى "القوَّالين"، مهمتهم حفظ "علم الصدور"؛ أي التراث الشفهي للجماعة وترتيل هذه النصوص، وربما حَمَت سيولة التراث الديني المعتقدات الأيزيدية من الاندثار، وذلك بوعي أو بدون وعي من الأيزيديين أنفسهم.

المرحلة الثانية:  اللاهوت التوحيدي: النسق الكلي وتباينات اللاهوت

وفيها جرى النقاش حول إشكالية الوحدة والتعدد، ديانات الروح وديانات الجوهر، وتدشين النسق الكتابي التوحيدي (العبري- المسيحي- الإسلامي). وفي هذه المرحلة، قدّم عدد من الباحثين مجموعة من الأعمال، كان منهم الباحث مصطفى الفقي الذي قدم ترجمتين؛ الأولى بعنوان: "حول عرض المسيحية في القرآن، وتعدد مظاهر البيان القرآني" للأستاذ جابرييل رينولدز، أستاذ الدراسات الإسلامية واللاهوت في جامعة نوتردام، وهي قراءة نقدية لقضية التأثرات الدينية في تناول القرآن، التي تعنى بدراسة العلاقة بين اليهودية والقرآن، حيث تتم مقارنة مادة القرآن بمواد مماثلة في النصوص اليهودية أو المسيحية بغرض التوصّل إلى فهمٍ أفضل لأصول القرآن، حيث تنتقد الورقة مقارنة مادة القرآن عن المسيح والمسيحية مع الروايات عن تعاليم الجماعات المسيحية المهرطقة، والقناعة الراسخة التي تكمن وراء هذا المَلمح الشائع، وهي أنَّ الجماعات المسيحية المهرطقة كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية وقت نشأة الإسلام، وأنَّ هذه الجماعات أثرت بدورها على النبيّ. والترجمة الثانية بعنوان: "الابن الكافر لنوح في القرآن" التي تختبر واقعة ابن نوح الهالك في الطوفان، الواردة في الآيات 42-47 من سورة هود، حيث تسلط الضوء على الواقعة القرآنية والسياقات الأشمل المماثلة في القرآن - كما رصدتها الآيات الخاصة بإبراهيم وأبيه- والتي تتعلق بالتصرف الملائم للمؤمن تجاه غير المؤمنين، خاصةً إذا كانوا من أفراد أسرته. وبعد استقصاء الآراء السابقة بخصوص تلك الآيات، يقترح رينولدز أن يكون لواقعة ابن نوح الآثم (وهي رواية لا ترد في الكتاب المقدس) علاقة خاصة مع الإصحاح الرابع عشر من سفر حزقيال، حيث يتحدث نظريا عن ابن نوح الضال. وختاما، يجادل بأن تلك الآيات تعد مثالا مهما على كيفية توظيف وتحويل القرآن للتقاليد السابقة عليه من أجل النهوض بحججه الدينية الخاصة.

المرحلة الثالثة: السياق الإسلامي الخاص: التأسيس – التطور 

وجرى فيها تناول مرحلتين أساسيتين: الأولى لاهوت التأسيس الملامح الكلية للاهوت (النظام اللاهوتي والنظام الطقوسي) وخلفية تكوين اللاهوت الإسلامي، والتطرق للاهوت المكي واللاهوت المدني. والثانية: لاهوت التطور: كون التطور يعد في حد ذاته واقعة تكشف عن المعنى الاجتماعي التاريخي الصريح، ورصد ملامح هذا التطور، وكيفية استجابته لتغيرات الاجتماع السياسي والثقافي بعد وفاة المؤسس، على المستوى السني والشيعي. وفي تلك المرحلة، قدم الباحث أحمد عبد الحميد ورقة بعنوان: "حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والحلم المهدوي"، وهي ورقة تحاول أن تقدم قراءة نقدية لمفهوم الخلافة الإسلامية الذي يتم تقديمه من قبل التيارات الدينية كمرتكز شمولي ووحيد لحل كل مشكلات الواقع، وهو في الحقيقة هروب من مواجهة الأسئلة الحقيقية والموضوعية للواقع، وهو كذلك محاولة للترويج لحلم مثالي انقرضت ظروفه الموضوعية تماما. يناقش الباحث في ورقته خطاب حزب التحرير الذي يقدم مسألة الخلافة، باعتبارها فكرة أسطورية تعيد الماضي، وتجتر شكلا من أشكال الحكم يصعب استحضاره، ونمطا من أنماط السلطة "المثالية" في تصور أصحابها يستحيل إقامته بحكم ما تراكم سياسيا واجتماعيا بفعل الزمن، واستحالة تنفيذه لأمور واقعية وموضوعية معقدة، كما أنها تحمل بداخلها فكرة مهدوية تربط العامة والجمهور بحلم بعيد وأمل يمكنه أن يتحقق يوما ما، بإمكانه أن يحررهم من عدو قوي نهب أرضهم أو نظام هش أكل أرزقاهم وأقواتهم ولا يجدون لدفعه حيلة؛ الخلافة هنا حبل ممتد من مستقبل وحاضر مأزوم لماضٍ مليء بصور متخيلة عن نبي وقديسين، وخليفة ينام تحت شجرة ملتحفا بالعراء ويردتي خرقة من الصوف.

كذلك قدم في هذه المرحلة الباحث السوداني عبد الجبار مصطفى ورقة بعنوان: "التصوف التقليدي في السودان وعلاقته بالإسلام السياسي"، وتحاول هذ الورقة أن تلقي  الضوء علي العلاقة بين الثقافة المحلية التقليدية في السودان، والتي كانت سائدة قبل دخول الإسلام وكيفية تفاعلها مع الإسلام الوافد عليها، وما أنتجته من أشكال التصوف التقليدي الذي شكل الثقافة الإسلامية السودانية لعدة قرون تالية، كما ترصد الورقة تطورات الفكر الإسلامي الصوفي وأثره على الإسلام السياسي، وكذلك أثر أفكار الإسلام السياسي على الثقافة الإسلامية السائدة في السودان، كما ترصد نقاط الالتقاء والاختلاف والتعارض بين مكونات التصوف التقليدي في السوادن مع تيار الإسلام السياسي.

نماذج من أبحاث ومقالات أخرى تم تقديمها: 

- المجال العام بين الإسلام والعلمانية- الباحث سامح عيد

- الوحي في فلسفة الفارابي - الباحث محمد الوكيل

- الولاية الصوفية والاتصال الصاعد- الباحث أحمد حمدي

- الأوقاف والأزهر: الرافد الاقتصادي للمؤسسة الدينية- الباحث مصطفي الفقي

- المأسسة الدينية في الإسلام- الباحث حامد محمد حامد

- علاقة الدين بالمجتمع المعاصر- الباحثة حور سامح

- عرض لكتاب اللاهوت- الباحث شافعي عبد الحسيب

خاتمة

ولعل أهم ما تجدر الإشارة إليه هو الطبيعة التفاعلية للقاءات الورشة، ما يجعل المناقشات والعصف الذهني أهم أدواتها لتحقيق أهدافها، وهي النقاشات التي لا يمكن أبدا استنساخها علي الورق أو استبدالها بأية طريقة أخرى. ويمكن تصور كيف يمكن لعامين متصلين من اللقاء الأسبوعي الدوري والنقاشات المعمقة والالتحام الذهني أن يسفرا عن تشكل مجموعة من الباحثين الجادين، بإمكانهم أن يمثلوا مع أستاذهم نواة مدرسة فكرية وبحثية حقيقية تستلهم أفكار المستشار عبد الجواد ياسين كإطار عام للتساؤل، وليس بالضرورة كمنتهي للبحث، بل تبدأ من حيث انتهى وتبنى على ما أسس.

الدورة القادمة

وتوجه الورشة الدعوة إلى الباحثين الشباب للالتحاق بالدورة الثالثة من الورشة، والتي ستبدأ في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وستكون بعنوان: "أنثروبولوجيا الشريعة في الإسلام: النص- الفقه - القانون" وستعلن شروط التقدم قريبا.