لقاء فكريّ حواريّ حول "الحديث النبوي: من النص إلى الخطاب"

فئة: أنشطة سابقة

لقاء فكريّ حواريّ حول "الحديث النبوي:  من النص إلى الخطاب"

انتظم بمقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدّراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، الأربعاء 25 يناير الجاري، لقاء فكريّ حواريّ، حول "الحديث النبوي: من النص إلى الخطاب"، بإدارة الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي، وتضمّن مداخلتين؛ بدءا بمداخلة الأستاذ محمّد حمزة بعنوان: ''أن يصير الحديث خطابا''، ومن ثم مداخلة الأستاذ نادر الحمّامي بعنوان: ''الحديث من انغلاق النصّ إلى رحابة الخطاب''، وقد عقّب الأستاذ الشرفي على كلا المداخلتين، قبل أن يفسح المجال للتفاعل مع الحضور.

وبيّن الأستاذ حمزة أن اختيار هذه المسألة ''أن يصير الحديث خطابا''، كان لإبداء بعض الأفكار المتصلة بواقع الحديث النّبوي في الدّراسات المهتمّة به اليوم، وفي ضوء ما يمكن أن ينفتح عليه من مسائل جديرة بالمناقشة، ومنها ما يتّصل بالحديث النّبوي بصفته نصّا واقعا في سياقات تاريخية، وهي التي حوّلت الموروث الشّفوي عن النبي والتي وجد بعض الصّحابة من الدّوافع الخاصة للاحتفاظ بها سواء في ذاكرتهم أو في بعض التقييدات، حتى تحوّلت إلى نصوص تتمتع بما يشبه الحصانة في كتب الصّحاح، وقال إن ما حدث من تثبيت سنّة النبي، على التّدريج، حوّل مدوّنة الحديث من نص مفتوح قابل للزيادة والاختلاف، إلى مدوّنة منغلقة أطلقت عليها تسمية الصّحاح، وصارت تتمتّع بقانون حصّنها من طائلة النّقد والمساءلة.

وأتبع هذا القول بمجموعة من الملاحظات؛ قائلا إن المجادلات الفكرية التي عرفها التّاريخ الإسلامي في شأن الحديث النبوي، والتي بدأت في الظهور منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومدارها مسألة حجّية السنّة وصلتها بالقرآن وكفاءة الرّواة وأمانتهم في النّقل، ليست أمرا مستحدثا، فالحديث النّبوي كان ولم يزل نصّا خلافيّا منذ عهد أبي بكر، منذ أن فكّر في تدوين الحديث، وإلى اليوم. والجدالات في هذا النص لم تَخبُ، وإنّما توسّعت رقعتها وخرجت من دوائر المجددين.

وقال إن هذه المجادلات مرّت بمراحل؛ ففي بداية القرن العشرين كان لدى المصلحين هاجس قطع الصّلة بين القرآن والحديث، واعتبر أن لهذا مشروعيته في نطاق الإصلاح الديني، لأن الدافع إليه هو محاولة تنزيه القرآن، وانبثق عن ذلك الدعوة إلى الاقتصار على القرآن وما صح من الحديث، وفي مرحلة ثانية تطوّر هذا الموقف العاطفي إلى موقف نقدي من رواة الحديث ومن كتب الصّحاح، واعتبر أن هذا الموقف النقدي كثيرا ما كان ينزلق بأصحابه إلى أن يلبسوا جبّة نقّاد الحديث القدامى.

ولاحظ بعد ذلك أن الحديث عرف وضعية إرباك بدأت مع تسرب الحداثة إلى الفكر العربي الإسلامي، وأرجع إلى ذلك ما انصب على مدونة الحديث من نقد المحدثين، بعد أن كانت تلك المدونة تمثل مرجعية الفقهاء والمفسرين قديما، مما أنتج متغيّرات منهجية ومفهومية في التّعامل مع النص، صارت تهدد مواقف التسليم السائدة في الفكر الديني.

وخلص إلى اعتبار الموضوعات مثالا بارزا يمكن الولوج منه إلى دراسة الجوانب السّردية والعوالم المشتركة الحسية، وإلى المواضعات الاجتماعية التي تبنيها النّصوص الرسمية التي قبلتها الثقافة الرسمية كما النصوص الهامشية التي طالما عُدّت كلاما منحولا مكذوبا، ودعا إلى تجاوز الفصل الحاد بين السردي والموضوعي من أجل تبني رؤية منفتحة تكسر الحدود بين ما هو صحيح وما هو موضوع، واعتبر أن الحديث توارد يصدر عن متخيّل ديني واجتماعي رسمي كانت ترعاه المؤسسة الدينية السنّية، وكان هذا المتخيل الرسمي يقف حصنا ضد كل ما يمكن أن يهدد المدوّنة.

وعقّب الأستاذ عبد المجيد الشرفي على مداخلة الأستاذ حمزة معتبرا ما قدّمه أنموذجا من التّحليل غير معهود في الدّراسات الإسلامية؛ لأنه يتوسّل بعلوم الإنسان والمجتمعات الحديثة، وهو ما جعله يتجاوز المماحكات والخصومات والجدل والخصام الذي ظهر منذ ظهور كتاب ابن قتيبة ومهاجمته لمن يعتبرهم غير ملتزمين بالسنّية التي بدأت تترسخ في عصره، وقال إن ما قدمه الأستاذ حمزة يحملنا حملا إلى أن ننظر في تراثنا نظرة جديدة، يمكن أن نتناقش فيها، ولكنّها بعيدة عما أسماه ''الجدل العقيم'' الذي يغلب على التأليف في مسألة الحديث النبوي.

وتناولت المداخلة التي ألقاها الأستاذ نادر الحمامي، المنهجية التي يقع بها التّعامل مع النّصوص، والتي تهم البعد التّاريخي النقدي، وما يطرحه من قضايا تبدأ ''من انطلاق النّص إلى رحابة الخطاب'' وتقوم على اعتبار النص خطابا تاريخيّا لا نصّا مفتوحا، وحصر القول في سؤال الغرض من النّظر أو إعادة النظر في الحديث النبوي، وقد فصّل ذلك في نقاط كثيرة، أوردها في شكل استفهامات متتالية:  

هل علينا اليوم أن نكرّر القضايا نفسها التي طُرحت حول صحّة الحديث النبوي؟

هل قال الرّسول ذلك الكلام أو لم يقله؟

هل علينا أن نكرّر المواقف الجريئة مثل مواقف النظّام من صحة الحديث؟

هل علينا إعادة النّظر في الخصومة بين أهل النقل وأهل العقل؟

هل علينا أن نعيد النّظر في المواقف الناقدة للحديث النبوي مع رواد الإصلاح في القرن التّاسع عشر؟

هل علينا أن نكرّر ما يقوله المستشرقون حول الحديث النبوي؟

هل من حاجة إلى تكرار مطاعن الحديث أو مواطن الخلل التي تعيب صدقيّة الحديث النّبوي؟

وانتهي من تلك الأسئلة كلّها إلى ضرورة تجديد المنهج لتقديم أجوبة على غير الأسس القديمة في التّعامل مع الحديث، حتى لا نبقى ندور في فلك النّص، واعتبر أن ذلك يجعلنا قدامى، فلا نخرج من البراديغم القديم.

وقال بأن النص، كما يفهمه هو، ليس النص المكتوب ولا المدونة الكبرى للحديث ولا المأثور مما خاض في تقديسه أو نقده الكثيرون، ولكن النص هو ما يجب أن نفعله، و ''هو ما يلزمنا بفهمه''، واعتبر أن منطق الصّحة والخطأ يمكن أن يحيلنا على إلزامية تطبيق النص الذي يجتاز اختبار الصحّة أو الصدقية. وتساءل من جديد هل علينا تطبيق هذا النص اليوم فعلا، إذا اتّبعنا هذا المنهج التاريخي؟ وخلص من ذلك إلى اعتبار أن ما يمكن أن يتوصّل إليه المنهج التّاريخي في تعامله مع الحديث لا يمكن أن يكون مهمّا في النّهاية.

وتساءل بعد ذلك عن مدى إمكان اعتبار التعاقب التاريخي الذي مرّ به الحديث صحيحا، مقترحا عمليَّةَ قلبٍ لهذا التعاقب، أو النظر إليه بشكل آخر، انطلاقا من اعتبار أن النص قد بدأ مكتوبا أوّلا، ثم بعد ذلك وقع تقديمه على أنه شفوي، ويكون بذلك قد انتقل من المكتوب إلى الشفوي وليس العكس، وبنى على ذلك فكرة أن سلسلة الإسناد الموجودة في رواية الحديث هي موضوعة للإيحاء بشرعية هذا الحديث حتى يصله بالنبي، واعتبر أن تلك فرضيّة يمكن النظر فيها.

وعقّب الأستاذ عبد المجيد الشرفي على مداخلة الأستاذ الحمّامي معتبرا أن ما تم عرضه يمكن أن يكون صادما للضّمير الدّيني، واستدرك قائلا إن حدّة الصدمة قد تقلّ إذا ما اعتبرنا أن الحديث النبوي قد تأثر بما حصل من تغيّرات عميقة بسبب الخروج من الحجاز إلى مناطق شاسعة من العالم وإلى أجناس ذات ثقافة مختلفة عن ثقافة الذين تلقوا الوحي.  وقال بأن ما ينطبق على الحديث ليس بدعة، فهناك إنتاج فكري إسلامي تأثر بالظّروف التي عاشها المسلمون في عصر التّدوين واختلفت اختلافا عميقا وجذريا عن الظروف التي عرفها الجيل الأول من المسلمين، واستنتجَ من ذلك أن مسألة الصحة والخطأ تصبح ثانوية بهذا القياس، وقد أشار في سياق ذلك إلى أن الفروق في الحديث كانت موجودة في عصر النبوّة بعقلية ما ومرجعية ما واختلف الأمر عندما توسّع المجتمع، وقال إن مشكلة الحديث لا تنفصل عن ذلك.

وأحيلت الكلمة في الختام إلى الجمهور فتفاعل مع ما تم تقديمه، وتراوحت المداخلات بين تثمين لما تم عرضه من أفكار، ونقد لما تأسست عليه، واستشراف، من جهة أخرى، لإمكانيات إعمال تلك الأفكار في الدراسات المهتمة بمسألة الحديث، من أجل تأسيس آخر جديد لمنهج التعامل مع الحديث، ينطلق مما هو موجود ويرمي إلى ما يمكن أن يكون، حتى تتأصل المدونة لا في واقعها التاريخي، أو العقائدي، بل في سياق التّعامل العلمي الذي يولي لمسألة المنهج البعد الأهم.