لقاء فكري حواري حول ''الفنّ والاحتجاج'' ضمن فعاليات معرض تونس الدّولي للكتاب

فئة: أنشطة سابقة

لقاء فكري حواري حول ''الفنّ والاحتجاج''  ضمن فعاليات معرض تونس الدّولي للكتاب

ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب، نظّمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بجناح وزارة الشؤون الثقافية، يوم السبت 01 أبريل الجاري، لقاء حواريا، حمل عنوان الفنّ والاحتجاج، في إطار محور ''الانتقال الديمقراطي: الحصيلة والآفاق''، وطرح اللّقاء جملة من المشاغل الفكرية دارت حول علاقة الفنّ بالمجتمع والسّياسة، وتأثير التحوّلات السياسية في السنوات الأخيرة في طبع الكثير من الأعمال الفنية والإبداعية بطابع الرفض والمقاومة والاحتجاج، وارتباط ذلك بالأشكال والمضامين وبتصوّرات الجماليات ووظائفها ودور الفنّان. أدار اللقاء د. نادر الحمّامي، وشارك فيه كل من دة. أمّ الزين بن شيخة المسكيني والفنّان سيف الدين الجلاصي، ود. عبد الحليم المسعودي.  

استُهل اللقاء بسؤال حول إمكان عزل الفن عن المجتمع أو عن السّياسة، وبادرت أم الزين بن شيخة المسكيني بالنفي قائلة: ''لا يمكن ذلك أبدا، لأن الفن هو قطعة من لحم المجتمع''، وهو الذي يجعل للشعب حسا إبداعيا هو بمثابة الضرورة مثل الخبز تماما، وقالت: ''إن شعبا بلا مبدعين هو شعب بلا مستقبل وبلا روح''، وتساءلت من ثم ما الذي يستطيع الفن اليوم أن يفعل إزاء ما يحدث في العالم من تحوّلات؟

وعن هذا السؤال، أجاب سيف الدين الجلاصي انطلاقا من استحضار تجربته في فنون الشارع (Street art)، قائلا إن الفن من شأنه أن يفتح نوافذ تعبيرية وإبداعية مهمة أمام المجتمع، وأن يكون جزءا من اليومي، وأن يحظى بالمكانة التي يستحقها بناء على استثارة الحس النقدي وتوعية العقول والارتقاء بالذوق العام، وقد نظر إلى الموضوع من زاوية أخرى معتبرا أن التفكير فيه يتطلب التساؤل أيضا حول ما أعطى المجتمع أو السياسة للفن؟ مبيّنا أن أساليب التعبير الفنّي في المجتمع في السنوات التي سبقت الحراك الاجتماعي والسياسي في تونس، مثلا، كانت تواجه عدم الاعتراف والتّضييق في مقابل احتكار المساحات العامة للدعاية السياسية لفائدة الحزب الواحد، وقال إن فنون الشارع لا تنبني على توجّهات سياسية محدّدة ولا على أفكار مقيّدة، وإنّما تنبني على روح الاندفاع والعفوية في التحام مع النّاس البسطاء في الفضاء العام، وقد رأى أن ذلك أدّى إلى نوع من المساهمة في تغيير الوضع السّياسي أو التأثير فيه عن قصد أو عن غير قصد، وبالتّالي المشاركة في صياغة المشهد السّياسي الجديد في البلاد.

ومن جانب آخر، اعتبر عبد الحليم المسعودي وجود مغالطة في الحديث عن علاقة الفن بالسياسة أو السياسة بالفن، وقال إن أساس المغالطة ينبني على اعتبار الفن معطى جاهزا ومكتملا يمكن تحديد أبعاده بوضوح وتحديد علاقاته وأفق تحرّكه، في حين أن ذلك لا ينسجم مع طبيعة الفن عموما بماهي طبيعة تقوم على إعادة التشكّل بوتيرة متواصلة ودائمة، ممّا ينتج صعوبة في تحديد أفق العلاقات التي يبنيها مع المجتمع والسياسة، أو البحث في مدى تأثير الفن في عملية الانتقال الديمقراطي، وعرّف الفن انطلاقا من قولة للفنان الروسي كاندينسكي (Kandinsky) قائلا: ''الفن هو حاجة بشرية'' واعتبر من ثم الفن مرتبطا بالفردانية أكثر من ارتباطه بالجموع، واستنتج أن لا علاقة للفن لا بالسياسة ولا بالديمقراطية ولا بالعدالة الانتقالية... وأكّد على اختلاف الفن عن النشاط الفني الذي يمكن أن يقيم علاقات تعبيرية تواصلية أو تفاعلية مع الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري، واختلف بذلك في رؤيته للمسألة مع الطرح الذي قدّمته الأستاذة أم الزين في البداية، قائلا: ''نعم يمكن فصل الفن عن المجتمع'' وقدّم لذلك أمثلة عن انفصال الفن الرسمي الذي ترعاه الأنظمة السياسية العربية عن الشعوب العربية التي لها فنّها الخاص بها.

واعتبرت أم الزين بن شيخة المسكيني، رغم ذلك أن ثمّة علاقة حيوية بين الفن والمجتمع، وقالت إن للفن سياساته الخاصة التي يستطيع الفنان من خلالها إعادة توزيع مساحات المرئي واللامرئي، وأن يعطي الكلمة لمن لم تعط له الكلمة أبدا، وبالتالي يستطيع التأثير في رسم ملامح الفضاء العام وإعادة تشكيله وفق رؤية فنّية بغض النظر إن كانت تتعارض مع السياسي أو تتوافق مه.  وأشارت من ثم إلى ضرورة رسم سياسات ثقافية تتيح للمبدع أن يبدع وأن يمارس الاحتجاج على السّياسي، ويؤدّي بالتالي دوره في المجتمع، انطلاقا من رفض السائد والنمطي والمكرَّس.

وردا على سؤال الفن والاحتجاج، قال سيف الدين الجلاصي إن الفن احتجاجي أو لا يكون، معتبرا إياه سلطة مراقبة وضغط في المجتمع، ودعا إلى البحث في الأبعاد الجمالية للأشكال التعبيرية وكسر حاجز الممنوع والسّائد، وقال: ''يحق لنا اليوم أن ننفجر فنيا في فضاء حرّ لطالما حرمنا منه في سنوات مضت''، واكتساح الشارع بالفنون وأشكال التعبير المختلفة، والالتحام بالناس، وتنشيط المجتمع وإحياء قدرته على التّعبير عن هواجسه وطموحاته وحقوقه التي وجب أن يفتكّها افتكاكا.

وعبّر المسعودي عن المزالق التي يمكن أن توقع الفن في الإيديولوجيا، وبالتالي تفقده جزءا من قيمته الإبداعية المتحررة والفردية، إذا ما حصرناه في بوتقة الاحتجاج، وأشار بالتالي إلى المخاوف من توظيف الفن في التعبير عمّا ليس فنيا بالأساس. معتبرا أن المجتمع المدني بقواه الفكرية والمثقفة يجب أن يقوم بدوره لضمان حرّية التعبير الفني، واستحضر أحداثا عايشها المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة كان فيها الفنّان في موضع المحتج عليه وليس المحتج (أحداث العبدليّة وأفريكآر ومسرحية ألهاكم التكاثر...)، بل إن الفنان استجاب في بعض تلك الأحداث لأطراف إيديولوجية مارست عليه الحضر والمنع. 

وقالت أم الزين في هذا السّياق، إن المجتمعات العربية تعاني من هذا التوظيف الإيديولوجي في إطار الردّة اللاهوتية التي استغلّت مساحة الحرية في الفضاء العام لتملأها بتعبيراتها المنافية للحرية والمعادية للإبداع والفن. وأكّدت في مقابل ذلك، على وجود طفرة فنّية احتجاجية لا يجب التغافل عنها ولا الاستهانة بمنجزها وما تحوزه من إشعاع ثقافي، وقالت إنها تمثّل ''رأس مال ثقافي ثريّ جدا'' في مستوى الناشطين فنيّا في المجتمع التونسي الذي أضحى موسوما بالإرهاب في بعض الأوساط الإعلامية.  

وطرح اللقاء الحواري نقاطا أخرى وتفريعات عديدة، طالت الأبعاد التنظيرية للعملية الإبداعية والأبعاد التجريبية والواقع والآفاق لما يمكن أن تبدو عليه التعبيرات الفنية في المجتمع، وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج في مستوى تحريك سواكن المجتمع وإنتاج ديناميات التفكير والممارسة والتعبير في واقع متغيّر ومأزوم. وتمّت الإشارة إلى علاقة العمل الإبداعي بالمبدع ذاته، وفيما إذا كانت آليات التفكير والتعبير الفني نابعة بالضرورة من سياق الاحتجاج، باعتباره سياق ممارسة اجتماعية بالأساس يتم تطويع الفن من أجله، أو أنها نابعة من سياق فني فرداني لا يعترف بالمآلات المضبوطة وليست له احتمالات قبلية بالضرورة.