محاضرة: المثقف بين السلطة والتنوير، قبل وبعد الربيع العربي.

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة: المثقف بين السلطة والتنوير، قبل وبعد الربيع العربي.

شراك: "الربيع العربي" أنتج أنماطاً من المثقفين والغلبة للمثقف المشاكس


انطلق الكاتب والباحث المغربي الدكتور أحمد شراك، من التساؤل حول العلاقة الرابطة بين المثقف العربي والسلطة من جهة، وبينه وبين التنوير من جهة أخرى، من خلال التغيرات والتفاعلات التي شهدها العالم العربي أثناء وبعد ربيعه، مما جعل أصنافا جديدة من المثقفين تتشكل في الساحة، والتي فرضتها في الأول تفاعلات الحداثة والعلم والمعرفة، والواقع، من خلال اصطدام بين أطروحة المثقف الأصلي ونهاية المثقف، وكذلك في ارتباط هذه الثلاثية بأهم التحولات الاجتماعية والسياسية والبراديغمات التي يحددها المناخ الفكري المعرفي، والمفهمات التي أنتجت في هذه العلاقة في ظل التحولات التي صنعت في الربيع العربي وبعده، سواء تلك القديمة أو الجديدة التي أفرزت بعض التجاذبات الجارية.

وأوضح شراك في محاضرته التي شهدها صالون جدل الثقافي الكائن بمقر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" مساء أمس السبت 7 فبراير (شباط) الجاري، تحت عنوان "المثقف بين السلطة والتنوير، قبل وبعد الربيع العربي"، أن هذا المستجد أفرز صنفين من المثقفين، التأسيساتي الذي تأسس أثناء بدء موجات الربيع العربي الذي صنعته الظروف المشحونة للمجتمعات العربية، والذي أسهم بدوره في صنع الثورات انطلاقا من خبرته بالمعرفة الحديثة، ومحافظاً في الوقت ذاته على مكانة المثقف الأصلي الذي لم ينفه، ثم المثقف التقريراني الذي جاء ليكون أداة حقيقية لكتابة الواقع وتحليل أحداثه وظواهره، حتى تكون أساسا للتحرك في كل الأوساط.

وأوضح المحاضر، أنه لا المثقف التأسيساتي ولا التقريراني، ورغم دورهما الجوهري فيما يلعبانه وإلى الآن، لا يمكن  أن يستمرا في مواجهة المثقف اللانهائي، النقدي أو المتا-نقدي، لكون الأخير يتمتع بميزة النقدية المستمرة التي لا تنتهي بانتهاء محطات التناوب الديمقراطي لأي مجتمع. (مشيراً في هذا الصدد، أنه سيُفصل في الموضوع من خلال مؤلفه الذي سيصدر قريباً بعنوان "سوسيولوجيا الربيع العربي").

المثقف الأصلي ونهاية المثقف

توقف المحاضر أيضاً، عند أهم الأطروحات والتعريفات اللصيقة بمفهوم المثقف، بدءاً بأطروحة "المثقف الأصلي"، والذي يعتبر حاملا لقضية ينافح عنها في كل المدارات والمناسبات، معتبراً أن قضيته صالحة للمجتمع الذي هو فيه، وهي ما تمثل امتدادا لمقولة "المثقف العضوي" لدى غرامشي (وظيفته الانخراط في الشأن العام)، وكذلك المثقف الملتزم التي استخدمها جون بول سارتر التي لا تبتعد عن نفس المفهوم، وهو ما أسهم بشكل أو بآخر في اتساع دائرة أطروحة "المثقف الأصلي"، والتي لا تخرج عن دائرة "أطروحة البداية" برأي المحاضر، ليجد الجميع أنفسهم أمام توصيفات أخرى من قبيل "المثقف الرسولي" و"المثقف الداعية"، و"المثقف المناضل"، و"المثقف الإصلاحي" و"المثقف الثوري" و"المثقف التنويري"، هذا الأخير الذي راج بشكل كبير في العالم العربي بسبب شهرته وبطريقته التي يُعمل فيها العقل في التبرير والتفسير خصوصا مع قدوم "الربيع العربي"، الذي كان فيه دوره واضحا في كل ما يلم بالمجتمعات العربية.

وأوضح شراك أن هذا المثقف الأصلي، ورغم ما له من مزايا كبيرة على المجتمعات وخصوصاً منها العربية، فإنه تعرض لعوامل أسهمت في تراجع دوره بشكل كبير جدا، هذه العوامل التي تتجلى في مخلفات ثلاث؛ أولها "الإقالة"، والتي أقيل بسببها المثقف من دوره وتجلياته في علاقته مع السلطة عبر ما أسماه شراك، "آلية العصا والجزرة"؛ أي إما عن طريق السجون والتعذيب أو الإكراميات والعطايا، وإما عن طريق الالتهام السياسي للمثقف وخطابه الثقافي بتضخيم آلة القول على آلة العمل؛ وثانيها "الاستقالة"، وهو ما يروج له حول استقالة المثقف من دوره الجوهري في المجتمع في مقابل اختياره للعزلة والانعزال والتفرغ للكتابة فقط، عوض الانخراط في الشأن العام اليومي للمواطن والإنسان ودفاعا عن قيمه الأساسية؛ ثم ثالثاً "الاستقلال" متجلياً في استقالة المثقف عن الانخراط في الفعل السياسي، وحضوره في المشهد الحزبي.

وبالمحصلة، يرى شراك أن هذه المخلّفات المرتبطة بالأساس بالمناخ الفكري وظلال المرافعات النظرية لأطروحة البداية، والتي مازالت مستمرة إلى اليوم، لا يمكنها أن تنتفي ولو على الأقل في العالم العربي الذي مازال بعيدا عن مدارج التنمية والتقدم.

المثقف التأسيساتي

وأوضح شراك أنه ضدا على أطروحة البداية السابقة، قامت أطروحة النهاية، التي ترى "نهاية المثقف" حسب ما يشرح "ريجيس دوبري"، لأن نموذج هذا المثقف لم يعد يعني شيئا أمام العلم والتكنولوجيا والخبرة، وأن العصر الآن بتجلياته لم يترك مكاناً له، وهو ما سينطلق منه شراك لتنزيله على خصوصية العالم العربي، مع تحولات "الربيع العربي" التي جعلته محاصراً ورهينا لأولويات أطروحة البداية التي لم يتحرر منها، ولم تحرره منها أحداث الربيع وقيام الثورات، ليظل رهينا "للدهشة كعائق إبستيمولوجي" على مستوى الممارسات المعرفية والأدوات النظرية.

وأضاف شراك أن التحولات التي يمر منها العالم العربي ساهمت في إنتاج نوع جديد من المثقف، وهو ما أسماه "المثقف التأسيساتي" الذي يجمع بين أطروحتي البداية ونهاية المثقف، والذي يستعرضه أكثر في مؤلفه الذي سيصدره قريبا بعنوان "سوسيولوجيا الربيع العربي أو الثورات التأسيساتية"، حيث يصف هذا المثقف بتميزه بمستويين أساسيين؛ هما "المستوى الأداتي" المتجلي في استعمال الوسائط التكنولوجية الحديثة كأداة فعالة للتواصل والتعبئة ضد الفساد، ثم على "المستوى الإبستيمولوجي" الذي لا يلغي بموجبه دور المثقف الأصلي، بل يدعو إلى مشاركته في الفعل والممارسة، بالإضافة إلى كونه يتميز بإيمانه بالديمقراطية والحداثة وابتعاده عن الأنانية والفردانية.

وأثناء حديثه، رأى المحاضر أن هذا المثقف ينقسم إلى ثلاث فئات، أولها "المثقف الخبير" المبدع في استعمال الوسائط التكنولوجية الحديثة لقيادة مناورات رقمية ضد الاستبداد، ثم "المثقف من فئة المدونين" أو كتاب الرأي الرقميين المساهمين في التحريض، وأخيراً، "المثقف من فئة المنخرطين" المساهمين في الإسناد. وبالتالي، فقد استطاع هذا المثقف التأسيساتي أن يحجز مكانه بين أطروحتي النهاية والبداية ليصنع له مكانا يستند فيه إلى المثقف الأصلي، ثم ينهل من المعرفة التكنولوجية التي جاءت مع "موت المثقف" في أطروحة النهاية، على أساس أنه لا يدعي امتلاك رأسمال ثقافي أو أكاديمي، وهو غيري بامتياز، لا يرمي للتهافت على المناصب أو الاستفادة من كعكات الثورات.

المثقف التقريراني

أشار شراك في المحاضرة ذاتها إلى أن تفاعلات "الربيع العربي" لم تنتج لنا فقط هذا المثال من المثقف التأسيساتي، بل أنتجت أيضا ما أسماه بـ "المثقف التقريراني"، الذي جاءت تسميته انطلاقا من ثلاث دلالات رئيسة، أولها ما يتعلق بالتقرير؛ أي التقييد والتسجيل عبر آليات الرصد والمتابعة للأحداث، ثم التقرير المتعلق بالرصد والتحليل لقضية من القضايا أو شأن من الشؤون في مختلف المجالات الحياتية، والتي تحمل في طياتها مجموعة من الإشكالات التي تحتاج للتأمل فيها وإعطاء مقترحات بشأنها؛ وأخيراً التقرير بمعناه السلطوي، سواء السلطة المادية من خلال تقارير دولية كالخاصة بالبنك الدولي مثلا، والتي تطبق حرفياً من طرف دول الجنوب، مُخلفة قلاقل اجتماعية في هذه الدول، أو السلطة المعنوية المتجلية في تقارير دولية أيضاً، لكنها تختص بقضايا معنوية من قبيل تقارير حقوق الإنسان وغيرها، الصادرة من مؤسسات دولية تؤثر بآثارها على الدول المطبقة لها.

وأضاف المحاضر أن ثقافة التقارير البحثية هذه، بدأت تتنامى في العالم العربي عبر مراكز البحث والدراسات، باعتبارها أداة جديدة للقوى السياسية لبناء برامجها على أساس من المعرفة والعلم عوضاً عن السجالات والمزايدات، مضيفاً أن التقريرانية في نهاية النظر هي ذلك التعدد والغزارة في التقارير، وفي القرارات التي تهم ميادين متعددة بتعدد استنشاق الهواء السياسي.

المثقف النقدي والميتا- نقدي أو المشاكس

اختتم أحمد شراك محاضرته بالتوقف عند معالم المثقف النقدي والميتا- نقدي، معتبراً أنه من الممكن ربط أطروحة المثقف التقريراني مع نهاية المثقف التي تعوض المثقف الأصلي بالخبرة والعلم، باعتباره معوضاً حقيقياً للمثقف الأصلي، لكنه لا يصل إلى حد القضاء على ما تمت تسميته بالمثقف اللانهائي والمثقف النقدي أو المتا- نقدي أو المشاكس، وذلك لأن الأخير يستمر في اشتغاله عبر الزمن من خلال النقد الذي لا ينتهي، متناغما مع أسرار الديمقراطية التي لا تنتهي أيضاً. لذلك، فالمثقف النقدي يقيم بعيداً عن أطروحات البداية والنهاية؛ فالنقدية المستمرة هي الوظيفة التي لا تنتهي للمثقف، وهي الوظيفة التي لا تنتهي بانتهاء محطات التناوب الديمقراطي؛ أي ليست معارضة بالمعنى السياسي، بل هي نوع من  الميتا- نقدية بالمعنى الفلسفي.