محاضرة عمر أوزسوي بعنوان: "أزمة التّفسير التّأويليّة بين المعنى التّاريخي وتحدّيّات الرّاهن"

فئة: أنشطة سابقة

 محاضرة عمر أوزسوي بعنوان:  "أزمة التّفسير التّأويليّة بين المعنى التّاريخي وتحدّيّات الرّاهن"

احتضن مقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، يوم الخميس 23 مايو، لقاءً علميّاً قدّم خلاله أستاذ تفسير القرآن والدّراسات الدّينيّة بجامعة غوته بفرنكفورت عمر أوزسوي Ömer Özsoy محاضرة بعنوان: "أزمة التّفسير التّأويليّة بين المعنى التّاريخي وتحدّيّات الرّاهن"، تمحور موضوعها العام حول إشكاليّات تقبّل النّص القرآني تاريخيّاً من زمن النبوّة إلى العصر الحديث، وأثر ذلك في سياق النّص الأصلي وفي سياق المتلقّي الحالي. وأدار اللّقاء الأستاذ نادر الحمّامي.

واستهلّ عمر أوزسوي المحاضرة بالإشارة إلى أنّ الغرض من النّشاط التّفسيري عند المسلمين هو جعلُ القرآن يخاطب سياقات جديدة، بالبعد شيئاً فشيئاً عن السّياق الأصلي للنّص، وهو ما يطرح إشكاليّة في مستوى التّصوّر، على اعتبار أنّ البعد عن سياق نص قديم قد يؤدّي إلى غموضه وعدم ملاءمة محتواه لظروف التّلقي المختلفة، ذلك أنّ "كلام الله المبين" في زمانه قد يصبح غامضاً وغير ذي صلة بقضايا الأزمنة اللاحقة عليه. واعتبر أنّ التّوقّع الشّائع لدى كثير من المسلمين بأنّ القرآن يجب أن يخاطبهم في ظروفهم الحاليّة مباشرة، يمكن أن يكون بريئاً من وجهة نظر وجوديّة، ولكنّه خطير من وجهة نظر معرفيّة، لأنّ ذلك التّوقّع يمضي إلى إنتاج معانٍ جديدة على النّص القديم لم يكن ممكناً تصوّرها في زمن النّزول، ما يجعل النّشاط التّفسيري للنّصّ القرآني يؤدّي غالباً إلى "إنتاج قرآنٍ جديد"، ومتعدّد ومناسب لتّوقّعات القارئ أو المؤوّل الرّاهنة.

وأطلق أوزسوي على هذه الظّاهرة "فنّ تدمير تاريخيّة النّص"، معتبراً أنّ تحرير القرآن من سياقه الأصلي وإلحاقه بسياق المتلقّي الحالي يؤدّي إلى إقامة صلة مصطنعة بين القرآن وقارئه، وأنّ الخطر يكمن في استغلال القرّاء الجدد لصفة الخلود التي أطلقها الإسلام على الرّسالة القرآنيّة لتبرير أيّ تدخّل لهم في القرآن على مستوى تفسيره وتأويل أحكامه؛ وهو ما يفتح النصّ على إمكانيّات لا متناهية من تفسير كل ما لم يرتبط بزمانه، وعبّر المحاضر عن ذلك بالقول: "عندما يبدأ القرآن في الحديث عمّا كان يصمت عنه، فإنّه يبدأ في الصّمت عمّا كان يتحدّث عنه، وبذلك فعندما يُتصوّر النصّ على أنّه يقول كلّ شيء فإنّه في الحقيقة لا يقول أيّ شيء". وانطلاقاً من هذه "المعادلة المنطقيّة"، بيّن أوزسوي التّلازم الشّرطي للسّياق الأصلي للنّص، الذي لا يمكن التّغافل عنه، مع جميع سياقات التّفسير اللاّحقة تاريخيّا من زمن التّابعين إلى العصر الحالي، قائلاً بعدم إمكان جعل أيّ نصّ يتحدّث إلى النّاس في كلّ زمان ومكان طالما لم يفهموا ما قال تحديداً في زمانه ومكانه.

وإذا كان في تدمير تاريخيّة النّص خطر على النّص في حدّ ذاته، توجّس منه أوزسوي، فإنّه ألمح في المقابل إلى صعوبة الحفاظ على استقلاليّة القرآن تجاه تدخّلات قارئه التّعسّفيّة، وأرجع ذلك إلى الطّبيعة التّكوينيّة المزدوجة للنّص بين الشّفاهيّة والكتابيّة، وهما معطيان ينتميان إلى مفهوم القرآن منذ البداية "فقد نشأ شفويّا وكُتب في ذات الوقت"، معتبراً أنّ اقتناع المسلمين بأنّ النّص القرآني محفوظ في شكله الأصلي بفضل كتابته في فترة مبكّرة (محايثة للوحي) أثّر تأثيراً حاسماً على تعاملهم مع القرآن على مرّ التّاريخ؛ وبيّن أوزسوي أنّ ذلك الاقتناع أدّى إلى التّعامل مع النّص، باعتباره كتاباً ديناميكيّاً (حيّاً) من جهة، ونصّاً ساكناً جامداً من جهة أخرى، وقد أنتج ذلك صراعاً على النّص بين التّعامل البراغماتي والتّعامل الدّلالي المباشر (Sémantique) في النّشاط التّفسيري.

وقد أكّد أوسزوي في بيان ذلك على "المسافة التّأويليّة" التي قطعها النّص من زمن "الوحي" (النّشأة) إلى الزّمن الحاضر مروراً بالأجيال الأولى من المفسّرين، الذّين لاحظوا بدايات تعمّق الفجوة بين النّص وفهم النّص، وعملوا على رأبها باللّجوء إلى الرّوايات التّفسيريّة (البَعديّة) التي استندت إلى الحديث والسنّة عموماً، وركّزت على أسباب النّزول ومعاني المفردات والألفاظ، ولجأت إلى الإسرائيليّات والشّعر الجاهلي، وهي "مستندات" اتّكأ عليها الفهم اللاّحق للنصّ (لدى التّابعين وتابعي التّابعين) باستدعاء ظروفه الخاصّة ومحيطه الدّلالي، ليتمّ بعد ذلك الانتقال إلى اعتبار القرآن نصّاً مرجعيّا خُلْواً من التّاريخ، وبالتّالي عزله عن السنّة، والتّعامل معه بمفرده؛ وقد أدّى ذلك إلى ظهور نوع ثانٍ من التّفسير، فرضته المسافة التّأويليّة، هدفه اكتشاف معانٍ جديدة أو إنتاج معانٍ أخرى من النّص الأصلي.

واعتبر أوزسوي أنّ اتّساع دائرة مرجعيّة النّص، ومنه تنوّع المسارات التّأويليّة، ناتج أساساً عن إلغاء سياقيّة المقاطع القرآنيّة (الآيات)، وهو ما أدّى إلى جعل النّص القرآني قابلاً للتّوظيف في سياقات أخرى مختلفة، وليست مقيّدة بالضّرورة بسياقات النّص الأصلي، وقدّم أمثلة على ذلك، كان من بينها التّفسير العلمي للقرآن الذي يعمد إلى إسقاط المعرفة العلميّة الحديثة على النّص... ولئن تعدّدت الأمثلة فإنّ تقييم أوزسوي لها كان سلبيّاً، بالنّظر إلى "خطورة عزلة النّص عن سياقاته المرجعيّة"، وأكّد في المقابل على ضرورة النّظر في الرّوايات حول القرآن من أجل فهم التّطوّرات الكلاميّة والفقهيّة التي التقت على فهم النّص باعتماد التّرتيب الزّمني. وأشار إلى أنّ المراجعات الدّقيقة لتلك الرّوايات توضّح أنّ الفهم الشّائع للعديد من المقاطع القرآنيّة لا يعكس في الواقع فهم المرسل إليهم أو المعنى الأصلي المقصود من الله؛ أي المعنى التّاريخي.

وعلّق أوزسوي إمكان بناء فهم تفسيريّ للنّص القرآني معاصرٍ، بضرورة إقامة فهم نقدي للإسلام المبكّر ولتطوّره التّاريخي، ووازن بين أهمّية النّص وأهمّية الرّوايات الإسلاميّة المبكّرة حوله، وعرّج على الإشكاليّة التي تطرحها الدّراسات القرآنيّة المعاصرة، إذ تحاول أن تطبّق على النّص القرآني المناهج التّاريخية ذاتها التي تمّ تطبيقها على النّصوص المقدّسة المسيحيّة، مشيراً إلى أنّ النّتائج لا تكون في كلتا الحالتين متطابقة، إلاّ أنّه اعتبر أنّ ذلك لا يمنع من تطبيق مناهج النّقد التّاريخي على النّص القرآني، قائلاً: "لا يجب أن تسبّب الدّراسات القرآنيّة عبر النّقد التّاريخي صدمة كبيرة لدى المسلمين اليوم"، لأنّ المهمّة الوحيدة لعلم التّفسير اليوم هي أنّه "حارس القرآن التّاريخي" وليس مطلوباً منه أن يكون منتجاً لأيّ معانٍ جديدة مناسبة.