محاضرة محمد هشام بوعتّور: ''الجذور السّياسية للقراءة السّلفية للدّين''

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة محمد هشام بوعتّور: ''الجذور السّياسية للقراءة السّلفية للدّين''

في إطار الأنشطة الفكريّة والثّقافية لشهر رمضان، والتي ينظّمها كل من المنتدى الفكري لمؤسّسة مؤمنون بلاحدود ورابطة تونس للثّقافة والتّعدّد، دار يوم الثّلاثاء الخامس عشر من يوليو الجاري، لقاء فكري مع الدّكتور محمد هشام بوعتور الذي ألقى محاضرة بعنوان: ''الجذور السّياسية للقراءة السّلفية للدّين''.

كلمة الأستاذ احميدة النيفر:

أشارت الكلمة، بعد التّرحيب بالضّيف وبالحضور باسم الرّابطة وباسم المؤسّسة، إلى ارتباط موضوع المحاضرة بالمسائل الفكريّة المطروحة منذ زمن في المجال العربي والإسلامي، وخاصة بعد الرّبيع العربي بناء على البحث في علاقة الدّولة بالدّين ومحاولات فهم السّياق التّاريخي الإسلامي بكل تحوّلاته المؤثّرة.

كلمة الأستاذ قيصر جديدي:

أشارت الكلمة إلى طبيعة التكوين العلمي والمعرفي للدكتور بوعتّور؛ فهو صيدلاني، بالإضافة إلى كونه ناشطاً سياسياً وحقوقياً. بدأ نشاطه في صلب حركة الاتّجاه الإسلامي ثم انتمى بعد ذلك إلى حركة الإسلاميين التّقدميين، وكان عضواً للمكتب السّياسي للحزب الدّيمقراطي التّقدمي...

كلمة الدّكتور بوعتّور:

أشار في بداية كلمته إلى أن المحاضرة التي سيقدّمها هي جزء مستقل من كتابه الذي سيصدر قريباً، وأشار إلى أنّه لا يتناول مواضيع التّراث الإسلامي بهاجس المعرفة ولا بهاجس البحث العلمي الأكاديمي، بل هو يقارب التّراث بهاجس سياسي ينطلق من خلفية إسلاميّة تحتاج إلى مراجعات ومساءلات متواصلة.

وأكد أن المحاضرة لن تهتم بالحركات السّلفية النّاشطة الآن، بل إنّها تهتم بالمنحى السّلفي السّائد في كل الإسلام الموروث تقريباً، في مقابل ضمور المنحى العقلي، فقد كانت المدارس العقليّة الإسلامية مغمورة، مما جعل آليات التّراث الإسلامي سلفيّة في معظمها، وقدم أمثلة عن ذلك من الفقه وأصوله والقياس والإجماع... وخلص إلى أن كل الإسلام الموروث هو إسلام سلفي، وسيبقى سلفيّا في غياب المراجعات والمساءلات العقليّة والعمليّة التي يمكن أن يقوم بها الباحثون كما يمكن أن يقوم بها النّشطاء السّياسيّون.

وانطلق من حادثة مفصليّة في التّاريخ الإسلامي، وهي الفتنة الكبرى التي نتج عنها قيام الدّولة الإسلامية الأولى، كما نتج عنها أساس الحكم الذي سيتواصل إلى اليوم في العالم العربي الإسلامي، وهو يتمثّل في ''القدرة على الاستيلاء على السّلطة، والولاء مقابل العطاء''، وفي المقابل ركّزت كل الفرق الإسلاميّة، بما في ذلك المعتزلة، على مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهو مبدأ يدل على وجوب مشاركة المسلمين في الشّأن العام من أجل تغيير الواقع.

وقد أشار إلى الخلافات المذهبية والدّينية التي تكوّنت بين الفرق الإسلامية بداية من حدث الفتنة، وتواصلت وتعمّقت في فترة الحكم الأموي، لأنّها وجدت ما يشجّع على ذلك في أسلوب الحكم الذي كرّس عقيدة الجبر، ولم يترك مجالاً ليساهم المسلمون في السياسة. ووصف هذه الخلافات المذهبيّة والعقائديّة بأنّها ذات أصل سياسي، وأنّها كانت تحاول أن تؤسّس لموقف سياسي يقوم على محاربة الحاكم أو مهادنته. وهكذا خلص إلى أن سيطرة الدّولة وانفرادها بالدّين، قد أنتجت حركيّة مقابلة مثّلها تنوّع الفرق الإسلاميّة، وتنوع القراءات التي تقدّمها عن الدّين.

وبيّن أن محاولة السّلطة السّيطرة على الدّين قد تواصلت مع الدّولة العبّاسيّة، وأنّ العلماء هم الذين سيتولّون القيام بالدّور الذي كانت تقوم به الفرق الإسلاميّة، في معارضة الحكم؛ فقد كانت العلاقة متوتّرة بين الفقهاء والسّاسة... وقد نتج عن ذلك التّوتّر علم أصول الفقه للحد من تضارب الفتاوى واختلاف الفقهاء، ولا يخفى في ذلك الخضمّ الحاجة السّياسيّة القائمة وراء نشأة علم أصول الفقه.

وبيّن انطلاقاً من ذلك، الرغبة في التّقنين والتّشريع الكامنة وراء نشأة علم أصول الفقه، فعلى خلاف ما تذكره السّيرة النّبويّة من أن الرّسول كان ينزع إلى عدم إنتاج تشريع، إذ لم يكن هاجس الإسلام الأوّل تشريعيّا، فإنّ الدّولة العبّاسيّة قد عملت على اكتساب القدرة على التّفنين والتّشريع اعتماداً على الفقهاء الذين بالغوا في العودة إلى النّصوص وتوظيفها وقاموا باستنباط الأحكام استناداً إلى القياس والإجماع، واعتمدوا في ذلك على نصوص مجتثّة من سياقاتها، وقد قدّموا بذلك مفهوماً سلفيّاً عن أصول الفقه وأغلقوا باب الاجتهاد. وأكّد في خلاصة ذلك أن هذا الانحراف في علم أصول الفقه لم يكن ليقع لولا وجود الدّولة السّلطانية المتعسّفة؛ ففي النّهاية كان علم الأصول سلفيّا بتدخّل مباشر وغير مباشر من الدّولة، فالدّولة قد تدخّلت لتحد من النّهج العقلاني في الإسلام في مجال الفقه كما في مجال العقائد وعلم الحديث.

النقاش:

تناول الكلمة مجموعة من المتدخّلين، وقد تمحورت اهتماماتهم، خاصّة، حول مفهوم السّلفية في علاقته بالتّراث، وركّزوا على بعض الجوانب التي وردت في متن المحاضرة، معلّقين ومتسائلين، ومن بين تلك النّقاط نذكر ما يلي:

-لماذا انطلقت من الفتنة الكبرى، ولم تنطلق من حادثة السّقيفة عندما قيل: منّا أمير ومنكم أمير؟ أليست مسألة الجذور السّياسية للقراءة السّلفية للإسلام بدأت من تلك اللّحظة التي عقبت وفاة الرّسول، ولم تبدأ نتيجة لحدث الفتنة؟

-لم تشر المحاضرة إلى التّأثيرات السّلفية على المسائل الاجتماعية؛ من ذلك أن بني العبّاس عندما انقلبوا على الشّيعة كرّسوا مفاهيم مضرّة بالدّين، عندما قالوا نحن أبناء العبّاس عمّ الرّسول وأنتم أتباع فاطمة، وفاطمة ليس لها الحق في الميراث، ومن هنا كرّسوا أفضلية الذكر على الأنثى، وامتدّت من ثم السّلفية لتطال بقيّة القيم الاجتماعيّة.

-هل تعتبر أن السّلفية من جوهر العمل الدّيني أم من السّلطة؟ أليس كل متديّن هو بالضّرورة سلفي انطلاقا من الآية: ''اليَوْمَ أكْمَلْتُ لكُم دِينكُم...'' وبالتّالي فالحقيقة الدّينية قد وردت وكمنت في التّاريخ والمتديّن ليس له إلا أن يكون سلفيّا، أم أن السلفيّة درجات؟ إن كان العيب في التّوظيف السّياسي الذي كرّس سلفية الدّين، فأين الخلاصة، وأين تريد أن تصل بالمحاضرة؟

-الإسلام السّلفي هو إسلام خائن لفهم السّلف للإسلام؛ فالمسألة تتطلب التدقيق، فما يعبّر عنه بأنّه إسلام سلفي، إنّما هو يتمثّل السّلف تمثّلا منحرفا... والإسلام الأول كان قائماً على الغلبة، ولكن هذه الغلبة لم تؤثّر في أصول الفقه، ولم تتمكّن الدّولة من قهر عقول النّاس وعقائدهم، وهذه المسألة تتطلّب بعض التّريث والتّدقيق أيضاً.

-تتحدث عن صراع بين العلماء والسّاسة، وهذا أمر طبيعي جدّا في إيجاد حدود الفضاء العام وإنتاج المعنى، وعادة السّياسي يمسك السّلطة بغلبة، ولا سلطة خارج الغلبة، لأنّها في النّهاية تفصل بين النّاس، ولذلك تحتاج إلى الدّين حتى تضفي معنى رمزيّا على الفضاء الذي يتحكّم فيه، ولذلك نحن نختلف معك تماماً في الرّؤية السّلبيّة التي أضفيتها على المسألة السّياسية في علاقتها بالتّوظيف الدّيني، لأن هذه هي الميكانيزمات الطّبيعيّة في مثل هذه الظّاهرة.

ردّ الدكتور بوعتور:

مرّ الدكتور بوعتّور في كلمته على مجموعة النّقاط الواردة في النّقاش بإيجاز، فبيّن أن السؤال عن الغاية من البحث في الجذور السّياسية للقراءة السّلفية للدين يمكن أن يتوضّح أكثر من خلال الكتاب عموماً لا فقط من خلال القسم المجتزأ الذي تناولته المحاضرة، والكتاب ينطلق من التباس العلاقة بين الفرد والدّولة، من جهة، وبين الفرد والقانون، من جهة أخرى، وهو ما ظهر جليّا في المجتمعات العربيّة الإسلامية الحديثة، وأشار إلى أنّ ما أراده من هذا الكتاب هو البحث في الجذور التّاريخية والثّقافية لهذا الالتباس. أمّا الغاية الأخرى، فهي ألاّ تتعامل الدّولة مع أصول الفقه تعاملاً قديماً؛ أي عوض أن تلتزم بخلاصات فقهية قديمة وتضفي عليها طابع القداسة لا لشيء، إلاّ لأنّها تستطيع استثمارها سياسياً، يجب عليها فسح المجال لإنتاج خلاصات جديدة وعليها الالتزام بها لا التحكّم في نتائجها، وتكون بذلك الدّولة غير محتاجة للعنف كي تفرض على المواطن الحديث إجماعاً قديماً.

وبين أنه لا يرى بأنّ علم أصول الفقه ظهر ليخدم السّلطة، بل على العكس تماما، فإن علم أصول الفقه قد ظهر، باعتباره ردّ فعل تجاه السّلطة؛ أي أنّه ظهر في مواجهة السّلطان، وبيّن أن ما اعتبره انحرافات سلفيّة تحيل إلى الماضي أكثر من إحالتها على الحاضر في علم أصول الفقه، يدعو إلى التّساؤل الذي يطرحه الكتاب؛ وهو هل كان لعلم أصول الفقه أن يكون على الصّورة التي كان عليها في المجتمع الإسلامي لو ولد في ظروف سياسيّة أخرى غير التي ولد فيها. وخلص في النهاية إلى أنّ الدّولة قد أثّرت سلباً في علم أصول الفقه، فجعلته سلفيّا.

وقد ختم كلمته ببيان أهمّية المنظومة الفقهيّة في التّراث العربي الإسلامي، والسّبق الذي تمثّله، باعتبارها منظومة قانونيّة سعت إلى التّكامل والصّرامة، وأنتجت نصوصاً متفرّدة ومتميّزة، ولكن، مع ذلك كلّه، يجب أن ننظر إليها باعتبارها جزءا من التّاريخ، كما يجب أن نزيل عنها هالة القداسة المبالغ فيها، حتى لا تتحوّل إلى ظاهرة سلفيّة تجسّد سيطرة الماضي على الحاضر.