ندوة ''المشهد التّأويلي اليوم جدل الكوني والمحلّي''

فئة: أنشطة سابقة

ندوة ''المشهد التّأويلي اليوم جدل الكوني والمحلّي''

احتضن مقر مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، يومي الخميس والجمعة 27 و28 أكتوبر الجاري، ندوة ''المشهد التّأويلي اليوم جدل الكوني والمحلّي''، وقد افتتحت أعمال الندوة بكلمة ترحيبية بالحضور والمشاركين قدّمها باسم مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث د. نادر الحمامي، وأعقبها د. محمد محجوب منسق أعمال الندوة، بكلمة بسط فيها فكرة الندوة وبرنامجها ورهاناتها، مشيرا إلى اعتبارها لبنة مهمّة في سياق أنشطة لاحقة ستنتظم في مسائل التأويليات.

وانطلقت من ثم الجلسة العلمية الأولى برئاسة د. فتحي التريكي، وبمحاضرة أولى قدّمها د. محمد محجوب بعنوان ''عناصر الوضعية التأويلية: جدل الكوني والمحلي'' وبين فيها أن الثقافات المحلية -اللا أوروبية تحديدا-هي اليوم الثقافات الوحيدة التي تجد نفسها – بفعل ضرب من التراخي عن بعض غيرها من الثقافات – في وضع من المحاكاة أو من التمثيل غير المخبريّين للعلاقة بالتقليد، وبالتراث وبالماضي، وهي لذلك هي الثقافات التي إما أن تطرح على نفسها مماسفة التقليد والماضي، وإن بألم ومشقة، فتكون حديثة، وإما أن تظل تجري وراء إعادة التفكير وتوسيع قاعدة الاستنباط، إلى غير ذلك من أدوات التعهد التأويلي التي تجد أوجها في مقاصدية نصوص لا ترى أن مقاصدها هي من صميم الاضطلاع بتقليد لا يسأل. ومن ثم انتهى إلى أن العلاقة الحديثة بالتقليد ليست علاقة تقنية.

وأحيلت الكلمة إلى د. نادر الحمامي، فألقى محاضرته، وهي بعنوان ''ما قبليات التأويل: قراءة في فرضيات محمد مجتهد شبستري''، انطلق فيها من القضايا الخمس التي حددها محمد مجتهد شبستري في كتابه «الهرمنيوطيقا: الكتاب والسنة،» للإجابة عن الإشكالية الجامعة للكتاب، وهي: «كيف أن مفسري الوحي الإسلامي يفسرونه دائما على أساس قبلياتهم وميولهم وتوقعاتهم.» وقد أجمل شبستري القضايا الخمس المشار إليها آنفا في التالي: قبليات المفسر وأولياته: معارف المؤول السابقة، وميول المفسّر وتطلّعاته: انتظارات المفسر، واستنطاق التاريخ: سياق النص التاريخي وخطابه، وتشخيص بؤرة المعنى: محور النص الأساسي، وترجمة النص إلى الإطار التاريخي الذي يعيشه المفسر: البعد التاريخي للتأويل.

ثم تناول الكلمة د. محمد الخراط، فقدّم محاضرته بعنوان ''الأنسنة: التأويل ومقاومة التدمير'' وذهب فيها إلى أن الأنسنة بما هي قيمة أخلاقية جوهرها الوصول بالإنسان إلى أقصى ممكناته ليست مشروطة إلا بما تمنحه للإنسان من حرية، وهذا يعني أننا لا نكتنه حقيقة الأنسنة، إلا إذا عرفنا الإنسان ومدى حضوره حرا من جهة، ووقفنا عند ثقل هذا الحضور في نطاق ثقافة ما وضمن رؤية محددة للعالم من جهة أخرى. كان المفكر العربي في عصر النهضة ينشد القيم الإنسانية الباهرة في الغرب من جهة، ويفكر داخل رؤية دينية للعالم ورثها عن ثقافته الإسلامية؛ فلا هو عمل على تغيير رؤيته للعالم ولا هو استطاع أن يحول نزعة الأنسنة العفوية الموروثة عن تاريخه إلى نزعة واعية؛ لأن مشروعه قام على وهم قوامه تواصل التاريخ. إنه مشروع يهدف إلى محو الانفصال والانقطاع عبر تأويلات نصانية فجة، ليكتشف أنه قضى أزمنة متطاولة في حفظ مهمة حضارية اكتملت واكتسبت كل مقومات التمام.

وفُتح المجال للنقاش بعد ذلك، فقدّم الحاضرون ملاحظاتهم عما ورد على لسان المحاضرين، وناقشوا أهم النقاط المطروحة، وعقّب المتدخلون على ذلك.

وفي المساء، انطلقت الجلسة العلمية الثانية برئاسة د. فوزي البدوي، وبمحاضرة د. فتحي انقزو بعنوان ''في اللسان الخالص: محنة الترجمة بين دريدا وبنيامين'' اعتنى فيها بفحص دلالات الحدث البابلي كحدث تأسيسي للغة وللترجمة من خلال المناظرة التي وضعت نص دريدا «في أبراج بابل» 1985 وجها لوجه مع مقالة بنيامين «رسالة الترجمان» 1923؛ وهي مناظرة غنية بالدلالات التأويلية الأولى لحدوث اللغة، وتشتت الألسنة وانتقالها بين الناس والأزمنة والنصوص. ننظر في المقام الأول في دلالة القصة التوراتية الشهيرة كما يبسطها نص دريدا، ويستخلص رموزها ومعانيها التأسيسية/ الكارثية؛ ثم نتقصى في المقام الثاني مفاصل قراءته لمقالة بنيامين المشار إليها: تردد الترجمة بين المعاني القصوى لتجربة اللغة واللسان، بين الإمكان والاستحالة، وارتدادها إلى أصل الأصول في كينونة اللغات والألسنة جميعا: اللغة الخالصة. إن العنوان الأبرز على هذه الحركة هو عنوان تخيره دريدا نفسه في مقام آخر، ولعله أنسب لهذا المقام: لاهوت الترجمة.

ثم أُحيلت الكلمة إلى دة. حياة اليعقوبي، فقدّمت محاضرتها بعنوان ''تأويل النص القرآني وإشكالية الناسخ والمنسوخ: قراءة في تأويلات آية «لا إكراه في الدين»'' وبيّنت في إطارها كيف أن مسألة الناسخ والمنسوخ مثلت مجالا للجدل والاختلاف ظهر في كتب التفسير تماما، مثل علوم القرآن، بل حتى في كتب أصول الفقه، وهي مجالات أكدت دائما على وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، بقدر ما أثبتت أنها مسألة غير محسومة. ولم تقصر اهتمامها من المسألة على ما تطرحه تجاه عدم ثبات معنى النص أو نص المعنى، بل تحولها أيضا إلى آلية تأويلية تدعم معنى على حساب معنى آخر. كثيرة هي الآيات القرآنية التي أعلنت موقفا ما من قضية مسألة حرية المعتقد وأحالت على الاعتراف أو الإنكار؛ سواء تعلقت بأهل الكتاب أم بغيرهم من اللاتوحيديين أو اللادينيين عموما. واختارت أن تتبع آية «لا إكراه في الدين» وجعلها محورا لنسيج نصوص متلاحقة حيكت حولها في فترات تاريخية لاحقة من خلفيات وبمقاربات مختلفة.

وقدّم عقب ذلك د. علي الحبيب الفريوي محاضرته التي تحمل عنوان ''الحوار الفينومينولوجي وآفاق التأويل للعمل الفني عند غادامر''، وبين فيها كيف أنغادامريخرج بالتأويلية من فضائها النظري إلى آفاق أعمق تعبيرية عن التلاقي الإنساني، وعلى الحوار حول ما يتصل بسؤال الحقيقة. وأن التراث يستدعي موضوعا للفهم والتأويل، ولمقاومة القحط الأنطولوجي الذي جسده الاغتراب الجمالي. وكيف أن اللغة فقدت عمقها التاريخي بعد عجز القراءة على فهم ما تقوله وتتكلمه. وفتح عالم العمل الفني على مجهر الفهم وآفاق التأويل؛ فكان غادامر امتدادا لما توقف عنده هيدغر، ولم تنل منه الفينومينولوجيا التأويلية الشفاء. وبين كيف أن غادامر يمتحن العمل الفني، ويتجه به خارج سلطة المنهج العلمي الدوغمائي. تستعيد فيه اللغة الامتلاء التاريخي للتجربة الإنسانية في بداوتها الأنطولوجية، وفي انفتاحها على المستقبل.

واستأنفت الجلسة الثانية بمحاضرة ذة. نزيهة خليفي بعنوان ''النص الأدبي بين الانفتاح والتأويل'' بيّنت فيها أن النص الأدبي يخضع لتعدد القراءات وتعدد التأويلات، باعتباره نسيجا من المرجعيات المتداخلة فيما بينها، دون ضابط ولا رقيب، وهي متاهة تدرج التأويل ضمن كل المسيرات الدلالية الممكنة والسياقات التي يتيحها الفكر، تسمح باعتبار النص كلا متصلا متكاملا، لا تحتويه الفواصل والحدود. وغاية التأويل من هذه الزاوية، هي الإحالات ذاتها مما يعني عدم توقف النص عن الإحالات وعدم انتهائه عند دلالة بعينها. وبهذا المعنى، فالنص الأدبي نص مفتوح يرفض التأويلات المحددة والنهائية، ويميل إلى تفضيل الأفعال التي تمارسها «الحرية الواعية» لدى المؤول، وإلى جعله مركز شبكة هائلة من العلاقات ينجز من خلالها شكله الخاص دون أن يكون مجبرا أو محددا في اختياره، ولو من قبل تنظيم العمل الأدبي نفسه.

واختتمت الجلسة بنقاش قصير طال جزءا من المداخلات، وتفاعل من خلاله الحضور مع المحاضرين.

أمّا اليوم الثاني من أعمال الندوة، فقد انطلق بالجلسة العلمية الثالثة برئاسة د. فتحي انقزو، وبمحاضرة دة. أم الزين بنشيخة المسكيني، وحملت عنوان '' في كينونة المكتوب أو الأدب بوصفه «أعجوبة لغوية»''، وكان الغرض من هذه المداخلة هو السعي إلى بسط مقاربة غادامير لتأويلية النص الأدبي؛ وذلك استنادا إلى نص أساسي هو نص بعنوان «الفلسفة والأدب»، وهو منشور ضمن كتاب «فن الفهم» لغادامير في الترجمة الفرنسية له 1991 وتناولت المحاضرة متابعة تحليلية لأسئلة فلسفية تجعل من الأثر الفني الأدبي أثرا هرمينوطيقيا بامتياز؛ وذلك من خلال استشكال «كينونة المكتوب» التي تملك دوما سبقا على المقول إلى حد عدم قدرتنا على اللحاق بهكذا نوع من النصوص القابلة للتجربة التأويلية. ورغم ذلك، فإن الأثر الأدبي وحده قادر على الولوج إلى الأذن الباطنة، وهو بذلك يلج إلى الحضور الخاص، ويدرك التكوين اللغوي المثالي والأصلي، وهو بهكذا معنى ضرب من «الأعجوبة اللغوية» بما هو لا يدل على شيء ما بقدر ما يكون هو الدلالة نفسها. وخلصت المتدخّلة إلى التساؤل ما الذي يحدث حينما نسمي نصا ما «قصيدة» أو «أثرا أدبيا»؟ وهو السؤال الذي «لم تنشغل به الألسنية المعاصرة (ريكور ودريدا») بما يكفي بحسب غادامير.

ثم تناول الكلمة د. محمد يوسف إدريس، فقدم محاضرته بعنوان ''البحث المقارن واتساع آفاق تأويل الرمز الديني: عصا موسى (الحية والثعبان) في التوراة والقرآن الكريم أنموذجا''، انطلق فيها من التساؤل: هل للرمز والصورة دلالة واحدة في النص الواحد أم هل تعددت دلالاته باختلاف السياقات النصية؟ وهل هي متعالية عن الواقع التاريخي الذي نشأت فيه أم هل هي منغمسة فيه؟ وتوزعت المحاضرة على مبحثين؛ عالج في الأول مسألتين قوام الأولى المفاهيم المتصلة بالمتخيل الرمزي. أما المسألة الثانية، فسعى من خلالها إلى الوقوف على دور الرمز الديني في بناء دلالات النصوص المقدسة. أما المبحث الثاني، ففيه تطرق إلى أسس مشروع «قراءة الرمز وتأويله في النصوص المقدسة: عصا النبي موسى أنموذجا،» وفيه عرج على أهم خصائص القراءة الجديدة للنصوص المقدسة.

وقدّم عقب ذلك د. مصطفى بن تمسك محاضرته بعنوان ''تأويل تشارلز تايلور للحداثة: مقاربة وفاقية''، وبين فيها أنّه بعد النقد الجارف الذي تعرضت له الحداثة في أسسها، يحاول تايلور بناء جسور الوصل بين دعاة القطيعة ودعاة الإصلاح، فيعرض علينا تأويلا ثالثا، أطلق عليه: «التأويل الاعتباري»، وتساءل هل باستطاعة هذا التأويل «المتفائل» (حسب وصف بعض الشارحين) أن يصلح أعطاب الحداثة وعللها؟ وبيّن أنه بقدر ما اجتهد هذا التأويل في وصل المنجز الحداثي بماضيه اليوناني والروماني واليهو- مسيحي، بقدر ما وقع في محظور «الانتقائية التاريخية» إذ قد تغافل عن محطات تاريخية برمتها، ساهمت بدورها بشكل ما في مقدم الحداثة الغربية، وقصد بذلك العصر الإسلامي الوسيط وحركة الترجمة من اليونانية إلى العربية ثم إلى اللاتينية (الآثار الرشدية نموذجا)، وانتهى إلى التساؤل: هل يضمر هذا التأويل إعادة الاعتبار للروافد اليهو- مسيحية في مسارات الحداثة؟

واستأنفت الجلسة الختامية بمحاضرة د. فتحي المسكيني بعنوان ''الصنم والأيقونة. في تحرير الله من الوجود. أو جان لوك ماريون والإله المشطوب'' تناول فيها بالدرس كتاب جان لوك ماريون الذي يحمل عنوانا نعته بالمثير''Dieu sans l’être''؛ وهو مثير لأنه يريد بوجه ما رسم الحدود الداخلية لتساؤلات هيدغر عن معنى الوجود، وبالذات تحت محك السؤال عن معنى الله، وهو ما يمكن أن نقوله بهذا الشكل: ''الله من دون الوجود''، ولكن أيضا ''الله دون أن يوجد'' ميتافيزيقيا، أو حتى ''الله من دون حاجة لأن يوجد'' بالمعنى الذي حدده هيدغر: معنى ''وجود الموجود'' بعامة. وبيّن أن ماريون لا يرسم حدود مسألة الوجود ضد هيدغر، بل بمساعدته أو بوحي منه. ولذلك، يضع ماريون فاتحة في أول صفحة من كتابه قولة من هيدغر نفسه تقول: ''الإيمان لا يحتاج إلى فكر الوجود'' وتلك مدعاة إلى إقامة السؤال التالي: أي معنى لله بلا مفهوم عن الوجود؟

واختتمت الندوة بنقاش اهتم بالمسائل التي أثيرت في المحاضرات المقدّمة، وأعقب ذلك د. نادر الحمامي بكلمة شكر فيها المحاضرين والجمهور الذي تابع أعمال الندوة منذ بدايتها باهتمام كبير، عبّر عنه الحضور الكثيف، ووجّه في الختام الدعوة للحاضرين لمواكبة الأنشطة القادمة التي يتم الاعلان عنها تباعا، والمبرمجة في مقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية.

الجلسة الافتتاحية مع مداخلة د. محمد محجوب/تونس ''عناصر الوضعية التأويلية: جدل الكوني والمحلي''

د. نادر الحمامي/تونس ''ما قبليات التأويل: قراءة في فرضيات محمد مجتهد شبستري''

د. محمد الخراط/تونس ''الأنسنة: التأويل ومقاومة التدمير''