ندوة بعنوان: "الرواية الأردنية: سؤالا الدين والسياسة"

فئة: أنشطة سابقة

ندوة بعنوان: "الرواية الأردنية: سؤالا الدين والسياسة"

مبدعون يعاينون سؤاليْ الدين والسياسة في الرواية الأردنية


شُغلت الرواية الأردنية بالهمّ السياسي والديني، على اختلاف تجربة كل روائي في عمله الإبداعي، وللوقوف على هذين المحورين أو الهمّين، إن جاز التعبير، اللذين لا ينفصلان عن الواقع المعيش للمواطن، نظمت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث بالتعاون مع مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب، ندوة الأربعاء 4 كانون الثاني (يناير) 2017 في قاعة المحاضرات التابعة للمؤسسة في العاصمة الأردنية، بعنوان "الرواية الأردنية: سؤالا الدين والسياسة".

الندوة التي أدارها الباحث الأردني هشام مقدادي شارك فيها كل من أستاذة النقد والأدب في جامعة جدارا الدكتورة الأردنية خولة شخاترة، والروائية الأردنية سميحة خريس والروائي الأردني جمال ناجي.

ثنائيات روائية

الأكاديمية الأردنية د. خولة شخاترة أطلّت على نماذج أردنية مختلفة محاولة الوقوف على سؤاليْ الديني والسياسي فيهما متّخذة من مقارنتها شكل "ثنائيات"، لصعوبة الإحاطة بجميع الروايات الأردنية، وفق رأيها، لاستجلاء الأمر.

الثنائية الأولى التي وقفت عندها شخاترة هي روايتا "أنت منذ اليوم" للروائي الراحل تيسير سبول و"القط الذي علمني الطيران" لهاشم غرايبة، مبينة أنه رغم التباعد بينهما في تواريخ النشر إلا أنهما تشيران إلى أن وجهة النظر، بوصفها مكوناً، من مكونات الرواية تكفلت ببيان موقعهما الفكري من السياسة والدين وأخذتا على عاتقهما معالجة هذين المحورين.

فرواية أنت منذ اليوم فيها "إدانة واضحة لكل أشكال الانتماء العقائدي سواء أكان دينيا أم لا؟"، وفق الأكاديمية التي تشير إلى أن الرواية، فضلاً عن بنائها الخاص وثورة الراوي فيها على البنى التقليدية للرواية، توقفت عند إشارات سياسية عديدة، كما طرحت أسئلة كثيرة حول ما ورثناه من تعاليم دينية أو مواقف تاريخية اكتسبت مع مرور الزمن طابع القداسة.

أما رواية "القط الذي علمني الطيران" فقد تضمنت، بحسب الباحثة، وجهات نظر متعددة ومتباينة تبعاً لاختلاف الأشخاص وتباين المواقف والانتماءات الفكرية.

الثنائية الثانية التي استعرضتها شخاترة هي "يوم خذلتني الفراشات" و"نزلاء العتمة" لزياد محافظة، ففي الرواية الأولى إشارة واضحة إلى حاجة السلطة ومصلحتها إلى التيارات الدينية، كي تعزز نفوذها وهي تشير إلى الغزل بين السلطة السياسية والتيارات الدينية، وكثيراً ما تفتعل السلطة السياسية المواقف والأحداث، كي تنفتح على هذه التيارات لا لإشراكها بالسلطة أو لديمقراطية السلطة مثلاً، وإنما كي تتغاضى هذه التيارات عن ممارسات السلطة الفاسدة أو إدارتها للبلاد، والإشارة إلى هذا الجانب لم يأتِ، وفق شخاترة، اعتباطياً، وإنما لتكتمل صورة "الدكتاتور الانتهازي" في الرواية الذي لا يتورع عن استغلال أي شيء للتفرد بالحكم! في حين بنيت الرواية الثانية "نزلاء العتمة" على ثنائية الموت والحياة. السياسة والدين على التوالي.

وتوقفت الأكاديمية عند الثنائية الثالثة، وهي "مقصلة الحالم" و"أفاعي النار" لجلال برجس، فالسياسة في "مقصلة الحالم" حاضرة بامتياز؛ إذ يحلم السارد، وهو يساري، بالتغيير وبمجتمع فيه حرية ومساواة وعدالة، كما حاولت الرواية أن تتبين التغيرات والتحولات التي طالت العاصمة عمّان ومحافظة مادبا وتتعمق فيها، وأظهرت أن التطور الظاهر على السطح ما هو إلا قشرة خارجية لا تقترب من العمق، وإنما تطور مشوه أشعره بالاغتراب تجاه هذا المجتمع.

أما "أفاعي النار"، فحاولت الرواية أن تتعمق في الظاهرة الدينية والتطرف والتعصب في المجتمع وكيف تحول المجتمع من متسامح، إلى حد ما، إلى مجتمع يرفض الآخر وينظر إلى المرأة نظرة سلبية، ويشيع ثقافة الموت وعذاب القبر وإشاعة التعصب ورفض الآخر، فالرواية صراع بين التنوير والجهل بين التحليل العلمي والخرافة والشعوذة.

وأكدت شخاترة أن كل رواية هي تجربة بحد ذاتها فيها من التفصيلات الروائية التي تختلف عن الرواية الأخرى، ويكفي هذه الروايات أنها أثارت أسئلة، وبقي في أذهاننا الكثير من حوارات الشخصيات والكثير من المشاهد المؤسفة.

الكتابة وسط الألغام

وفي سياق متصل، يشكل سؤالا السياسة والدين للروائية الأردنية سميحة خريس قلقاً دائماً لها أثناء الكتابة، ويرافقان كل نص روائي تكتبه "منذ تجاسرت على الولوج إلى مساحات الريبة والمطبات الفكرية"، وفق قولها.

وفي معرض حديثها عن تجربتها، أوضحت خريس أنها ما زالت، حتى اللحظة، "عاجزة" عن هدهدة خوفها من الانزلاق في دربين لا ترتضيهما لنفسها؛ الأول: الخروج عن هدف المشروع الروائي الجمالي، والذهاب مباشرة إلى الأيديولوجي المحمل بالمعرفة مهدرة حكاية الإنسان الذي يحمل في سعيه نحو الفن والحضارة إنجازاً بشرياً قادراً على البقاء والتأثير، كما يتمتع بالمصداقية أضعاف ما تتمتع به المعلومة التاريخية أو الفكرة المجردة؛ إذ في أعطاف الرواية تتعدد إمكانية قراءة العالم، وتمتزج الألوان، ويختلط الخير بالشر كما يجدر بالبشر.

أما المزلق الثاني الذي تتحايل خريس للنجاة منه، فيتمثل "في خسارة روحي الإنسانية لصالح الأفكار المؤطرة"، تلك التي وجدت طريقها إلى الجماعات والتجمعات البشرية على هيئة قيم وحقوق وواجبات ومقدسات، وإن احتوت في نسيجها عكس كل ما تعلنه من نبالة وتنوير لصالح انحطاط وعتمة حالكة.

وتشير الروائية إلى أن الرواية تكتب لغايات متعددة، للمتعة والبوح، كما تحفل بزخم المعرفة، لكن كل هذا الجهد والفن والفكر لن يكون مهماً إذا لم يؤسس بجرأة للحلم.

وتبين خريس أن معظم رواياتها الأخيرة شقت طريقها وسط هذا الحقل من الألغام؛ إذ تعترف أنها كتبتها في حالة من الوعي النسبي؛ لتتساءل: "هل أضافت روايتي إلى الجمال والإبداع لوناً لائقاً؟ وهل ساعدت في ترسيخ معرفة ووعي جديدين ولو بقدر نزير؟".

وتحدثت خريس عن تجربتها متخذة من رواية "يحيى" نموذجاً، حيث أكدت أن القلق سكنها تماماً حين كتبت هذه الرواية، فقد كانت المرة الأولى التي تذهب فيها مباشرة إلى عين الشمس، ولم تعد تتخفى وراء الجماليات واللغة الرفيعة والأنماط السائدة وألعاب التجريب، وباتت ترى بوضوح ارتباط الجانبين؛ الديني والسياسي، وتأثيرهما المخيف في بعضهما بعضاً.

وتتابع الروائية أنها تلقفت حادثة بدت منفصلة وعارضة في التاريخ لرجل يدعى يحيى، لكنه يحيل إلى النبي يحيى وهو يصيح في البرية علّ صوته يصل، ولم يكن هذا الارتداد الزماني يشبه ارتدادها في رواية "القرمية" مثلاً، حيث هناك مقولة تسعى، خريس، إلى استنباطها من ثورات الناس المنتكسة، ولا يشبه ارتدادها في "شجرة الفهود" و"دفاتر الطوفان"، حيث تلعب العاطفة دوراً كبيراً في إنقاذ تجربة الماضي من الضياع والتبدد دون جدوى.

لم تكن رواية "يحيى" بتلك البساطة، وفق الكاتبة التي تصفها بأنها تجربة فيها اشتباك مباشر مع فكر يعود اليوم ليطرح نفسه بقسوة في عالمنا، ويطالنا بالإرهاب الدموي، وبالخوف على المستقبل، والضياع الأيديولوجي والتشتت، ووقاحة الحياة حين تخيرك بين القاتل والقاتل، طالبة منك التخندق في معسكر أحدهما، مستدركة أنها ككاتبة، لا تقوى على الاصطفاف في أي من هذه الخنادق، لتقف أمام مأزق كيفية إدارة نصها الروائي في حمى المعركة القبيحة؟

وتوضح خريس أنها أرادت أثناء كتابتها، تبيان الارتباط الوطيد المتين بين الديني والسياسي؛ فالدين الذي هو علاقة المخلوق بالخالق، بات علاقة يمكن زحزحتها والعبث بها، لتمثل علاقة الفرد بالسلطة، أية سلطة، بدءًا من السلطة الاجتماعية والطبقية ووصولاً إلى السلطة السياسة وسلطة الهيمنة العسكرية والاقتدار المؤسسي في العائلة أو العمل أو الدولة، لقد تعرض "يحيى" لكل هذه السلطات متتابعة، ككل فرد في مجتمعاتنا العربية كما في المجتمعات الغربية والشرقية كذلك، ويبدو أن الفرق المحزن، أن العالم تجاوز هذه المحن إلى طرائق مدنية وقانونية تخفف من وطأة السلطة الدينية وارتباطها بالسياسي، إلا أن عالمنا العربي الإسلامي يرواح مكانه، وإلا ما معنى حضور "يحيى" من زمن مضى عليه أكثر من ستمائة عام، ليشبه كل "يحيى" يفكر اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين؟

وقالت خريس، إن الرواية قدمت تفكيكاً لعلاقة الديني بالسياسي؛ لم تكن كل الأفكار التي تنسب إلى الدين ذات أهمية وخطر إذا تعلقت بالفرد، ولكنها بمجرد أن تدخل حلبة السياسة، وتصطدم بحق السلطة أو مكتسباتها تصبح ذات خطر كبير، سواء كانت هذه المكتسبات هيمنة أو جاها أو نفوذا أو مالا.

 سلطة الرقيب.. وجوقة التائبين

وتوقف الروائي الأردني جمال ناجي عند الـ "تابو" أو الأمور الممنوعة في العمل الإبداعي، مبيناً أن السلطات السياسية والدينية والاجتماعية وظفتها من أجل التدخل في مسار الحريات الإنسانية، ثم أعادت إنتاجها بما يتوافق ومصالحها أو مرجعياتها.

وتابع أن السيرورة التاريخية لسلطة التابو أدت إلى حصرها في ثلاثة أقانيم رئيسة هي: السياسة، الدين، الجنس، وثمة أعداد غفيرة من الروائيين، وفق الكاتب، يترددون على ثكنات فكرية مشتركة، ويشربون من ينابيع تقع في أكنافها، ويتخرجون فيها، ويتناوبون الأدوار إلى الحد الذي تكاد تنعدم فيه إمكانات تمييزهم عن بعضهم، لذا فإن إشكاليات التابو، لابد أن تجد امتداداتها وانعكاساتها في ما هو إبداعي، بصرف النظر عن القواميس التي يستخدمها الكتاب لتوصيل رسائلهم الفكرية أو السياسية أو الروحية.

وعلى الرغم من أن ربط السياسي بالإبداعي لا زال موضوعاً خلافياً ومثار جدل لم ينته إلى الآن، وفق ناجي، إلا أنهما احتفظا بعلاقات رفاقية تم تسديد فواتيرها من حساباتهما المشتركة على مدار العقود الماضية، دون اقتسام مكاسبها بسبب من بنية السياسي، الإقصائي الذي يريد شركاء في النضال فقط .

ويتابع الكاتب حديثه بأن الشراكة بين الديني والإبداعي "لم تجد لها مكاناً ولا مأوى، بل إنها لم تحدث ولم تر النور بسبب ما تفرضه الأديان من متطلبات تبلغ حدود الاحتكام والامتثال الحرفي للنصوص"  .

وينوه الروائي إلى أنه، وعلى الرغم من انتفاء الشراكة بين الإبداعي والديني، لا زلنا نعاني من ازدياد زحف المحظورات في عمق المشهد الروائي العربي، الأمر الذي أدى إلى لجوء الكتاب إلى توظيف جملة من الحيل للتغلب على الرقيب السياسي والديني.

ويضيف أن بعض الكتاب احتالوا على الرقيب أثناء اقترابهم من تلك المحظورات عن طريق زراعة تعبيرات وتبريرات احتياطية حمائية في قلب نتاجاتهم الروائية، كي يبرزوها إذا ما تعرضوا للسؤال.

نوع آخر من الكتاب، وفق ناجي، صار يكتب بعقلية رجال الأعمال وكتبة الحسابات، الأمر الذي يسهم في ترويج الرواية وربما منحها بعض الجوائز والحوافز.

وكتاب عديدون كتبوا أعمالهم بعد أن تمكن من التحرر من سلطة الرقيب، وجازف بسلامته الشخصية وبأسرته ومستقبلها، ودفع ثمن مجازفته غالياً.

وينوه ناجي إلى أن السلطات السياسية في العقدين الأخيرين، قامت بتفعيل الكثير من عناصر ذكائها وحراكها العقلي الدائب في سياق معالجاتها التحويلية، فهي مثلاً كثفت من استخدام  المنطق الذي يربط الحرية بعبارات تقيدها مثل؛ الحرية المسؤولة، والقدرة على اتخاذ القرارات السليمة، ونضج التجربة مع الحرية، والمصلحة العامة، إلى آخر هذه العبارات التي، على ما تحمل من دلالات إيجابية في ظاهرها، إلا أنها تعد وصفات نموذجية لتقييد الحريات والالتفاف عليها.

وهذا يعني، بحسب ناجي، أن المحظور السياسي ما زال قائماً على الرغم من تخفف الكثيرين من هيمنته السابقة التي كادت تتحول إلى ما يطلق عليه "الرقيب الذاتي".

ويبين الكاتب أن المشكلة الأكبر التي تكاد تتسيد لوائح المحظورات الروائية الآن، هي تلك التي تنشب بين الحين والآخر مع متعهدي الدفاع عما يسمى "الحياء العام" و "الأخلاقيات" و "الإساءة لهذا المقدس أو ذاك"، وهم المتعهدون الذين باتوا يمثلون سلطات من نوع جديد، إنها السلطات الدينية والاجتماعية التي تستمد قوتها من القوانين النافدة، ومن الأعراف والتقاليد السائدة. ما يستدعي إعادة نظر جذرية في تلك القوانين والأعراف والمسلمات.

والأنكى من كل هذا وذاك، بحسب ناجي، أن الأحكام التي صدرت بحق كثير من الروائيين حول أعمالهم قد اتخذت بناء على تقديرات وتفسيرات من أناس تخصصوا في النصوص الدينية والقوانين الجنائية والشرعية والنظامية وسواها، لكنهم لم يتخصصوا في تفسير الآداب والفنون وتأويلاتها، كما لا يحتفظون بعلاقات طيبة مع الإبداع وليس لهم تجربة معه أو فيه، ما يعني أن مرجعيات تلك الأحكام كانت القوانين والتأويلات والقرائن الترجيحية، وأنها قد خلت من أي أثر للمرجعيات الأدبية والفنية التي تميز الإبداع عن سواه من القضايا التي تخضع للمساءلة في المحاكم.

وأرجع ناجي ما سبق إلى أن الرواية وسائر فنون القول والأداء لم تكن في وارد المشرعين عند وضع القوانين، ربما لأنها تمثل نشاطا ذهنيا وفكريا خارجا عن نطاق المسلمات المتوارثة والنصوص، وهنا تبرز المشكلة التي لم تتم مناقشتها حتى اللحظة، وهي أن حق أية جهة في محاكمة الإبداع، إنما يعتمد أساساً على قدرة تلك الجهة على فهم الأعمال الإبداعية والوصول إلى مؤدياتها وما ورائياتها، وهو ما تفتقر إليه الجهات التي تتصدى لمحاكمة الإبداع والمبدعين؛ لأنها في الغالب لا تؤمن بالإبداع ولا تتعامل معه حتى أن بعضها تزدري العاطفة والخيال، وتحط من قدرة الإنسان على الابتكار.

وختم ناجي حديثه مبيناً أن الأشكال الرقابية الجديدة التي باتت تتحكم في مقاصد الروائيين ومصائرهم، إنما تستند إلى معادلات غريبة تطالب الكاتب بإخضاع روايته لعمليات تخسيس قاسية، أو إنقاص وزن سياسي أو ديني أو اجتماعي قبل نشرها، وتلك المعادلات، إجمالاً، تحاول جر الكاتب إلى خيار الانضمام إلى جوقة "الروائيين التائبين" .. وما أكثرهم في عالمنا العربي!