ندوة حول "التَّصوُّف الإسلامي وفلسفة التَّسامح"

فئة: أنشطة سابقة

ندوة حول "التَّصوُّف الإسلامي وفلسفة التَّسامح"

نظّمت مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث بالتنسيق مع المركز المغاربي للدّراسات الاستيراتيجيَّة ندوة حول موضوع: "التصوُّف الإسلامي وفلسفة التَّسامح" بتاريخ: 9-10 نونبر 2017 بفندق وصال بنواكشوط/ موريتانيا، بمشاركة نخبة من المهتمّين والمتخصّصين داخل موريتانيا وخارجها، وقد ضمَّت النَّدوة أربع جلسات، وهي كالتالي:

- الجلسة الأولى: الرئيس: عبد الودود عبد الله الهاشم (موريتانيا)

II-1. المحاضرة الأولى: الأبعاد الفلسفيَّة والأخلاقيَّة للنزعة الإنسانيَّة في التصوُّف الشنقيطي،

دراسة تحليليَّة لنماذج من مصنَّفات الإسلام الطرقي/ د. البكاي عبد المالك (موريتانيا)

بعد حديثه عن الإشكاليَّة، واستعراض خطّته، عرَّف الباحث النَّزعة الإنسانيَّة أو الأنسنة (Humanisme) بأنَّها عبارة عن موقف فلسفي يجعل الإنسان والقيم الإنسانيَّة فوق سائر القيم الأخرى، ثمَّ أبرز المآخذ عليها نظريَّاً وعمليَّاً.

بعدها، عرَّج المحاضر في عرضه على موقف هيدغر منها، فذكر: حصر الموجود البشري في الوجود البيولوجي، واختزال وجود الإنسان في بُعد واحد: في علاقته بالعقل الأدواتي و"الوجود في العالم"، ثمَّ النظر إلى الوجود البشري في إطار صيرورته الماديَّة.

أمَّا عن أبعاد النزعة الإنسانيَّة الإسلاميَّة، فقد ذكر: البعد الأخلاقي العملي، ثمَّ البُعد الفلسفي التعليمي. كما أشار في العرض إلى مبدأين للنَّزعة الإنسانيَّة الإسلاميَّة هما: (أ) مبدأ التوحيد، (ب) مبدأ الاستخلاف.

وبخصوص النَّزعة الإنسانيَّة في التصوُّف الشنقيطي، فقد تناولها من خلال نموذجين من مصنَّفات الإسلام الطرقي في موريتانيا: الأوَّل هو الجرعة الصافية للشيخ سيدي المختار الكنتي، والثاني هو نعت البدايات وتوصيف النهايات للشيخ ماء العينين بن الشيخ محمَّد فاضل. وقد اعتبر الباحث أنَّ النزعة الإنسانيَّة في التصوُّف الشنقيطي نزعة إنسانيَّة جامعة -فلسفية تعليميَّة وأخلاقيَّةـ عمليَّة شموليَّة تنظر إلى الإنسان في أبعاده المختلفة: الحسيَّة وفوق الحسيَّة، العقليَّة وفوق العقليَّة، بالإضافة إلى أبعاده الأخرى الفرديَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والرُّوحيَّة والدّينيَّة...إلخ.

والخلاصة أنَّ النَّزعة الإنسانيَّة تعتمد التمييز بين مستوى الماهيَّة ومستوى الوجود في الكائن البشري، وربط إنسانيَّة الإنسان خاصَّة بالماهيَّة وليس بالوجود البيولوجي الخام ...نزعة تتضمَّن إعادة النظر في مكانة العقل أنطولوجيَّاً وأبستمولوجيَّاً، فالعقل لم يعد صاحب السيادة، لا فيما يتعلق بماهيَّة الإنسان ولا فيما يتعلق بشرط إمكانه المعرفي، نزعة قائمة على إضافة البُعد الرُّوحي إلى المعرفة.

II-2. المحاضرة الثانية: التصوُّف الشنقيطي ومنهجه في التسامح والحوار/ محمَّد الحافظ محمَّد الأمين (موريتانيا)

ركَّز المحاضر على السجال الفكري بين الفقهاء والمتصوّفة والمتكلّمين في المجال الشنقيطي/ الموريتاني في القرون الأربعة الأخيرة، مبرزاً روافد التصوُّف الشنقيطي ذات الأبعاد الأندلسيَّة المغاربيَّة، مستعرضاً أمثلة ونماذج من السجالات الفكريَّة بين أقطاب التصوُّف والفقهاء والمتكلّمين في فترات مختلفة.

كما حاول استخراج القوانين التي حكمت ممارسات الحوار الصُّوفي الكلامي الفقهي، التي تشكّل بحدّ ذاتها قيماً علميَّة وفلسفيَّة تكرّس التَّسامح والحوار بالحسنى بعيداً عن التعصُّب والعنف، رغم ما داخل لغتها في الكثير من الأحيان من حرارة وسخونة؛ إلّا أنَّها التزمت دائماً آداب الحوار وقيم التَّسامح والملاطفة مع الخصم، ممَّا يشجّع الأجيال على الاستفادة من هذه التجربة القيّمة في التراث الإسلامي.

II-3. المحاضرة الثالثة: جدليَّة الإصلاح والتسامح/ د. سيّد الأمين سيّد أحمد بن ناصر (موريتانيا)

تناول الدكتور سيّد الأمين خلال عرضه مفهوم الإصلاح في الفكر الصُّوفي، باعتباره المشروع الذي تأسَّس عليه هذا الفكر، وذلك من خلال إصلاح النَّفس والجسد، وإصلاح الفرد بناء على ذلك، وصولاً إلى إصلاح المجتمع المتسامح المسالم، الذي ينبذ العنف والتكفير والتطرُّف.

كما تعرَّض للعلاقة الجدليَّة بين هذا الإصلاح وبين مفهوم التَّسامح، الذي سمَّاه بعض الصُّوفيَّة الأدب، وسمَّاه بعضهم الحب أو ديانة الحب، التي لا تميّز بين الأديان والثقافات والمجتمعات بما تفرضه من حبٍّ وتآلف بين أفراد المجتمع.

وقد اعتمد في دراسته على نموذج من التصوُّف الشنقيطي، عبر مدرستين عريقتين، هما: الطريقة القادريَّة والطريقة التجانيَّة؛ نموذج الأولى الشيخ ماء العينين بن مامين، ونموذج الثانية الشيخ الشيخان بن الطلبة العلوي، الأوَّل من خلال كتابه نعت البدايات، والثاني من خلال ديوانه الشعري التربوي.

II-4. المحاضرة الرَّابعة: روح التَّسامح في التصوُّف الإفريقي، تيرنو ببكر نموذجاً/ محمَّد عبد الرَّحمن محمَّد الدنبجه (موريتانيا)

ذكر المحاضر أنَّ من يكتب عن تيرنو لا يجد بُدَّاً من الاعتماد بشكل شبه كلّي على كتاب "حياة وتعاليم تيرنو ببكر" للمفكّر المالي آمادو هامباتا با. كما لا مندوحة له من تناول الطريقة التجانيَّة، خاصَّة الشيخين الحاج عمر طال، والشيخ محمَّد الأخضر، بما أنَّهما يمثّلان رافدين من روافد الطريقة التجانيَّة في غرب إفريقيا والساحل، الأوَّل عن طريق محمَّد الغالي طريقاً مباشراً إلى الشيخ التجاني مؤسّس الطريقة، والثاني عن طريق الطاهر أبي طيبة من الزاوية التلمسانيَّة.

كان مريداً عُمَرِيَّاً (مريداً للشيخ عمر طال) في بداية أمره، ثمَّ مقدَّماً، لينتقل بالصفتين ذاتهما إلى الاتجاه الآخر عن طريق الشيخ أحمد حماه الله، الذي هو تلميذ مباشر للشيخ محمَّد الأخضر. لقد اشترك الاثنان (تيرنو ببكر وشيخه) في روح من التَّسامح عالية، كما طفحت تعاليم تيرنو ببكر بثقافة التَّسامح، والتربية على الصفح والعفو والصبر. وفضلاً عن ذلك، كانت أخريات أيام حياته معاناة مريرة، كما كان ذلك حال شيخه الشريف حماه الله التشيتي شريف نيور.

تناولت الورقة ثقافة التسامح والتربية عليها من خلال أمثلة محدَّدة حوتها تعاليم تيرنو ومواعظه.

II-الجلسة الثانية: الرئيس د. البكاي عبد المالك

II-1. المحاضرة الخامسة: الولي والفقيه في إفريقية القرن السادس عشر الميلادي، من خلال كتب النوازل (كتاب الأجوبة للقاضي عظوم مثالاً) د. عبد الحق الزموري (تونس)

قدَّم المحاضر في عرضه نبذة سريعة عن قيام الزوايا في إفريقية والصراعات التي واكبت تطوُّرها واستقرارها قبل الغزوة الصليبيَّة الإسبانيَّة على تونس في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر ميلادي.

ثمَّ تناول دور الزوايا (التصوُّف) وواقعها إبَّان التحوُّلات السياسيَّة التي عرفتها إفريقية منتصف القرن السادس عشر (دخول الإسبان وخروجهم، بداية الحكم التركي) ثمَّ كتاب الأجوبة لعظوم؛ قراءة في المصطلحات المستعملة في المدوّنة لتعريف المتصوّفة وفضاءات فعلهم الاجتماعي، مبيّناً أنَّ قيم التَّسامح تتجسَّد على الأرض، إلى حدٍّ يمكننا القول إنَّ الفقهاء قد قاموا بدور حاسم في تجذير قيم التصوُّف عبر الالتفاف على الأدوار الاجتماعيَّةـالثقافيَّة التي يؤدُّونها.

II-2. المحاضرة السادسة: الرؤية المعرفيَّة في العرفان الإسلامي/ الشيخ التجاني أحمدي (موريتانيا)  

تناول الباحث المعرفة الصوفيَّة التي تهدف لتربية النفس وتزكيتها وتهذيبها عمليَّاً، وتغيير ما بها، وتربية القلب حتى يخلص النيَّة لله، مبيّناً أنَّ هذه المعرفة تحوَّلت إلى حركة صوفيَّة متَّسعة وتكامليَّة، تمتلك نظريَّة خاصَّة ورؤية محدّدة لله والإنسان والوجود.

أثّرت هذه الحركة ببُعديها المعرفي والاجتماعي على المجتمع الإسلامي طيلة القرون الماضية، فقد حاربت هيمنة المادَّة على الإنسان، وانحطاط القيم الأخلاقيَّة وانتشار الأهواء والصراعات الإيديولوجيَّة على السُّلطة، وقد وجد الناس في هذه الحركة الحضن الذي يوفّر السعادة الوجدانيَّة والرَّاحة النفسيَّة.

وقد اعتنى بإشكالات ماهيَّة المعرفة الصوفيَّة، والتمثل الذي طبع هذه التجربة الإسلاميَّة، كما تتبَّع مسار نشأتها وتطوُّرها، وعلاقتها بعلم الفلسفة، وإسهامها في إرساء قواعد الحوار والتَّسامح في الثقافة الإسلاميَّة، كونها جاءت لدرء الجهل بالذات وبالآخر.

II-3. المحاضرة السابعة: التأمُّل بين فكر الشّرق والتصوُّف الإسلامي/ أحمد كازى (المغرب)

بيَّن المحاضر أنَّ الخطابات المتعلقة بما هو روحي وجداني تشكّل أهمَّ المسالك لممارسة الفكر الحكموي، وهذا يستدعي وجود عقل منفتح على ما هو متعالٍ، وما هو وجودي. بخلاف العقل المجرَّد والمنفصل عن الواقع الإنساني. ولهذا فالفكر الحكموي بتأمُّلاته الوجدانيَّة يهتمُّ  بمسألة أساسيَّة وبموضوع مركزيّ، وهو الحياة من أجل الحفاظ عليها وإظهار الإيجابي فيها، والممثل في العلاقة الإنسانيَّة بين الذوات. والتأمُّل الحكموي  بقوَّته الندريَّة هو تبجيل لما هو جميل وأحسن وأفضل خارج تجارب العنف والشّر والقتل والنبذ والإقصاء. وأوضح أنَّ هذا الوجه العملي هو المشترك بين التجارب الشرقيَّة البوذيَّة والتصوُّف الإسلامي؛ إنَّه ذلك العمق النيّر الذي لا تختلف حوله الأديان، وهو أساس وحدتها.

II-4. المحاضرة الثامنة: تأصيل ثقافة التَّسامح في السّنَّة النَّبويَّة/ التاه محمدن أحمد (موريتانيا)

بيَّن المحاضر أنَّ السّنَّة النَّبويَّة أسَّست نظاماً دينيَّاً وحياتيَّاً منفتحاً، يأخذ بالمسلم إلى أعلى وأرقى الفضائل، فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- إنَّما بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق، التي من أوَّلها السَّماحة والتَّسامح، حيث كانت ميزة الإسلام الأساسيَّة السماحة، وهي صفة واقعيَّة تجلّت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده؛ لذا فإنَّ هذا البحث سيروم تأصيل ثقافة التَّسامح في السيرة النَّبويَّة، وذلك من خلال عرض دروس نظريَّة من السَّماحة، وأخرى تطبيقيَّة عمليَّة لمصدر التَّسامح محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؛ فالتَّسامح بدأ في التاريخ الإنساني ببعث النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ مداه، ووصل إلى مستوى متميز، لا نظير له خارج الإسلام.

III- الجلسة الثالثة: الرئيس: أحمَّد كازى

III -1. المحاضرة التاسعة: التصوُّف الفلسفي والتاريخي بين التجريد النَّظري والتجسُّد الاجتماعي/ محمَّد يحيى بن باباه (موريتانيا)

تناول الباحث في عرضه المقاربات الفكريَّة لدلالات التصوُّف كتجربة روحيَّة عبَّرت عن ذاتها في صور مختلفة، بمعنى التأرجح في التاريخيَّة الدّلاليَّة بين التصوُّف الفلسفي والتاريخي،  كما يعالج التصوُّف في فهم توظيفه ضمن سياقَي الممارسة الفلسفيَّة، والتجسُّد الاجتماعي العملي، بمعنى سياق بناء الحصون النظريَّة الموغلة في التَّجريد ذات الجوهر الصُّوفي، وسياق التجلّي والتخلّي والنزوع، الحاسرين للتجريد والميسرين لدوائر روحانيَّة متدرِّجة من الممارسات الأكسيولوجيَّة للأفراد، المرشّحين إلى تجاوز الواقع الحسّي إلى الواقع الرُّوحي الإلهي المتعالي الصادم لاختلافه مع أشكال الواقع الأخرى، حتى لكأنَّنا أمام كوجيتو منهجي، مطبَّق على المستوى الرُّوحي، ليشير في الختام إلى أنَّ معالم هذا العرض ارتسمت بين هذين السياقين المتمايزين.

III -2. المحاضرة العاشرة: مفهوم التَّسامح في الإسلام ومحاربته للتطرُّف الدّيني/ الشيخ محمَّد الأمين (موريتانيا)

نبَّه الباحث إلى أنَّ أفضل حلٍّ لنا هو الرُّجوع إلى مبادئ الإسلام، ففيها الدَّواء الشّافي، بالنظر إلى المشكلات العظيمة والمعضلات الكبيرة التي تحيط بنا من كلّ جانب هذه الأيَّام، ومن أبرزها قلة فهم ثقافة التَّسامح وتجنُّب الآخر، والانكفاء على الذّات، ليذكر في عرضه أنَّ مداخلته درست منظور الإسلام لمحاربة التطرُّف، لما تضمَّنه هذا المنظور من رفض حاسم للتطرُّف بجميع أشكاله ومحاربته، وتطلعه إلى حفظ الأمن والاستقرار والتَّواصل السلمي بين الناس، فضلاً عن استنهاضه لأمَّتنا وتوجيه طاقاتها نحو ميادين الخير والصلاح.

ذكر المحاضر كذلك بأنَّه لا يمكن للأمَّة الإسلاميَّة اليوم أن تزدهر ما لم تفهم كيفيَّة التطبيق العلمي لحقوق الإنسان، وتحرص على القاعدة الأساسيَّة للتعامل بين المسلمين وغيرهم، لا سيَّما وأنَّ الأعاصير الاستبداديَّة المعادية للحريَّة تتربَّص بهم الدوائر، وتريد منهم الانقضاض على عناصر هذه الحريَّة، وفي مقدّمتها حقُّ الاختلاف واحترام ممارسته في الحياة اليوميَّة للنَّاس، حتى تأخذ ثقافة التَّسامح والحق في الاختلاف بالانحسار، وتحلّ محلها ثقافة الصوت الواحد واللّون الواحد والفكر الضَّال، التي لا تقبل الاختلاف، بل تلقي بالمختلف الآخر في حظيرة التآمر أو الخيانة. مذكّراً بالرؤية الإسلاميَّة القائمة على تشخيص أسباب العنف والإرهاب، والحوار الفعَّال، والإقناع، والقواسم المشتركة، لا الجدل والعنف.

  

III -3. المحاضرة الحادية عشرة: بعض ملامح التَّسامح، في النُّصوص الشرعيَّة وفي التربية الصوفيَّة/  دة. ينصرها بنت بزيد (موريتانيا)

انطلقت الباحثة من التعرُّض للفظة "التَّسامح" الجديدة في قاموس اللغة العربيَّة، حيث أبانت أنَّ مفهوم "التسامح"، بما يعبّر عنه من تساهل وإيثار وتجاوز وعفو واعتراف بالآخر ودعوته بالتي هي أحسن، كان موجوداً، بل هو مأمورٌ به في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، ونجده في أخلاق الرَّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأخلاق صحابته وتابعيه من بعده.

كما بيَّنت الباحثة في عرضها أنَّ المدرسة الصوفيَّة "السّنيَّة" شكَّلت نموذجاً رائعاً لهذه الأخلاق، وجسَّدتها أروع تجسيد، وذلك بتبنّيها مفهوم "الكونيَّة"، وتساميها عن الأخلاق المذمومة، لتُحِلّ محلها الأخلاق المحمودة، التي تورث الإنسان اطمئناناً واستقراراً نفسيَّاً مريحاً، بعيداً عن الأحقاد والتعصُّب والتطرُّف، وما يقود إليه ذلك من مآسٍ ومشاكل أفقدت هذا العالم الآن إنسانيته وكرامته .

III -4. المحاضرة الثانية عشرة: الكلام الإلهي والتأويل الإنساني، أو من اللّغة التواصليَّة إلى الكتابة الوجوديَّة/ محمَّد أحمد عمي (موريتانيا)

أوضح الباحث أنَّ إشكاليَّته خاصَّة باللغة والدّلالة، فعندما لا يكون التأويل مستقرَّاً، تكون اللغة غير مستقرَّة. كما أشار إلى أنَّ نظرة الفيلسوف ليست نظرة المتكلّم أو البلاغي، وكذلك يختلف عنهما الصُّوفي في نظرته؛ إذ يوسع اللغة لتشمل عالم الكائنات والأشياء، فهي المجال الحقيقي الذي تتجلّى فيه المعارف.

وأضاف: لذلك توجَّهنا صوب أحد أعلام الصوفيَّة، نظريته مؤسّسة لفكر موحّد وجودي إنساني، وحدة لا تمايز فيها ...، إلغاء كلّ الفوارق، إنَّه الشّيخ محيي الدّين بن عربي، التأويل عنده ممارسة للحريَّة، إيصال الذات إلى الكون، كيف يحصل التواصل؟ هل هي اللغة الإنسانيَّة؟ والأخيرة تنقسم إلى لغات عديدة غير مفهومة من الجميع؟ يبدو أنَّ الوجود يتكلّم كلاماً مختلفاً عن كلام الإنسان؛ هي فوق الحروف المرتبطة بالمادَّة، إنَّها لغة الرَّمز ثمَّ الإشارة، يتعلّق الأمر بمستوى لغوي أوسع يتعدَّى الموضوعات الماديَّة بفعل مشاهدة القلب للحقائق الرَّبانيَّة، لذلك يكون التخلّص من القيود المسمَّاة عندهم الحجب، فهناك إذن ثلاثة مستويات: التواصل والرمز والإشارة.

وعليه، فإنَّه بعد أن تناول في عرضه "علاقة التأويل باللّغة عند ابن عربي"، استعرض محوره الموالي: "من الحقيقة الوجوديَّة إلى الصُّورة الرَّمزيَّة"، متحدّثاً عن الانتقال من الفضاء الإيديولوجي إلى الحريَّة الرمزيَّة، قبل أن يلج محوره الأخير: "الإنسان والعالم عودة لإشكاليَّة الدّلالة (اللّغة بين المتواضع عليه والرَّمز والإشارة).

IV- الجلسة الرابعة: الرئيس: دة. ينصرها بنت بزيد (موريتانيا)

IV-1. المحاضرة الثالثة عشرة: نظريَّة "الاتساع الإلهي"، مستندُ القولِ بالتَّسامح العَقَدي في تصوُّف ابن عربي/ د. محمَّد أمعارش (المغرب)

اعتبر المحاضر أنَّ المدخل العقدي من أنسب المداخل لمقاربة ظواهر التَّسامح في التصوُّف الإسلامي، ذلك أنَّ القول الصُّوفي بالتَّسامح، ليس مجرَّد موقف شرعي أخلاقي تمليه آداب معاملة الخَلْق، بل هو قبل ذلك موقف جذري معرفي أصيل، صادر عن عقيدة مفتوحة في الحقّ "الواسع" المتَّسع لكلّ خَلْقِه رحمةً وعلماً. ومن هذا المنطلق عرض أبرز ملامح "نظريَّة الاتّساع الإلهي" في تصوُّف ابن عربي، وأثرها في نفوره من كلّ مظاهر العنف واحتكار الحقيقة، واضطهاد الخلق، وفي دفاعه عن الحقّ في الاختلاف، المستند أصالة إلى الاختلاف في الحقّ نفسه. معتبراً كلَّ تضييق بشري على الخلق أو احتكار للحق، انقلاباً على الاسم الإلهي "الواسع"، وتعطيلاً له في العالم الإنساني.   

IV-2. المحاضرة الرابعة عشرة/ عبد الودود عبد الله الهاشم (موريتانيا)

ذكر المحاضر أنَّ العرض مقسَّم على أربعة محاور مع المقدّمة والخاتمة. وأنَّه سيبدأ بتحديد بعض المفاهيم بسرعة، من بينها:

التَّصوُّف: ويتأسَّس على تجارب ذوقيَّة أساسها النفاذ إلى حقائق الأشياء، فتنمحي المسافة بين الذّات والآخر؛ هذه المسافة هي التي تتحكَّم في الصّراعات ضيقاً واتّساعاً.

التَّسامح: وله أصوله في الفكر الإسلامي، ولكن من حيث هو طارئ لدى الغرب، فإنَّ ترجمته بالتَّسامح تحيل إلى التحمُّل، وفيه معنى من "المَضَضِيَّة". وقد نشأ في أتون الصّراعات المسيحيَّة... حيث يترك الحسم إلى الآخرة. وذلك شبيه في الفكر الإسلامي بالإرجاء (المرجئة مثلاً).

هناك مجموعة من المفاهيم الصُّوفيَّة ذكرت سابقاً: المحبَّة الصوفيَّة القائمة على الأخوَّة الوجوديَّة؛ وهو تجاوز لمفهوم التحمُّل. كذلك مفهوم الرَّحمة الأصيل إسلاميَّاً، ولكنَّ للصوفيَّة قراءتها الخاصَّة له "ورحمتي وسعت كلَّ شيء"، ابن عربي يرى أنَّ كلَّ الكائنات مستفيدة من هذه الرَّحمة، هنا نقيض الوعد والوعيد، باعتبار أنَّ عدم تنفيذ الوعيد فضيلة، والله أولى بالفضيلة من الإنسان، ولذلك فإنَّ تحقق الوعيد لا يقول به إلا المعتزلة وحدهم، وطوائف أخرى سكتت عنه.

أمَّا من حيث المباني، فقد تطوَّرت المؤسَّسات من الزهد إلى التصوَّف، من التصوُّف الزُّهدي إلى التصوُّف الكلامي وصولاً إلى التصوُّف الفلسفي (ابن عربي)، فالتصوُّف الطرقي (هنا أصبحت لنا بنيات هي مؤسَّسات اجتماعيَّة لا ينبغي أن يرتبط الحكم عليها بالفكر الصُّوفي ذاته. بدأت هذه البنيات بالزوايا فالطرق الصوفيَّة (القادريَّة وأخواتها).

هذا التصوُّف حوله مجموعة من الخطابات:

الخطاب الاستشراقي: يعتبر التصوُّف استثناء من الظاهرة الإسلاميَّة (قمَّته مع ماسينوه) الذي يرى فيه تعبيراً عن المعاني المسيحيَّة في الإسلام (فالحلّاج، لديه، مسيحي يتحرَّك في إطار إسلامي)؛

الخطاب الأنتروبولوجي (جلمر): ينطلق من نظريَّة الانقسام الاجتماعي. فالمتصوّف حَكَم ومصلح (طُبِّق ذلك على الشيخ سيدي)؛

الخطاب النَّهضوي سلفيَّاً وفلسفيَّاً: يمثل الأوَّل ابن باديس وعلّال الفاسي، ويعتبر التصوُّف انهزاميَّة ولم يساعد لا في المقاومة ولا في التنمية. بينما يمثل الثاني الجابري والعقل المستقل؛

الخطاب البوليتولوجي (السياسي): مدارس أمريكيَّة ترى في التصوُّف حصناً لمواجهة التطرُّف؛ فهل نحن هنا أمام استمرار لمثل هذا الخطاب الذي يرى في الإسلام كله التعصُّب والتطرُّف باستثناء التَّصوُّف؟

على أنَّه من المفيد هنا الإشارة إلى أنَّ التجارب الصوفيَّة مرَّت بالسلميَّة والعنف؛ الشاذليَّة مثلاً، فيها شيخان متعاصران: أحدهما (الجزولي) يميل إلى العنف هو وأتباعه، بينما الشيخ زروق معارض لهذا الاتجاه...، فلا مجال إذن للتعميم.

في الممارسة الحاليَّة، نجد في أندونيسيا حركات معارضة للسلفيَّة، ولكنَّها تتبع أساليبهم، كما هو الحال في بعض الحركات في ماليزيا وآسيا عموماً.

ما أريد الوصول إليه أنَّه ينبغي تجاوز مفهوم "الجوهرانيَّة"، فلا وجود لاتّجاهات عنيفة بجوهرها، أو متسامحة بجوهرها، هناك سياقات تاريخيَّة تتعيَّن دراستها لفهم مخرجاتها، لا مجرَّد تحليل الخطاب.

V- الاختتام

V-1. كلمة ممثل "مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث" الدكتور مولاي أحمد صابر

افتتحها بالتَّرحيب بمن في القاعة كلّ باسمه: مثقفين كانوا أو مفكّرين، طلّاباً كانوا أو أصحاب رأي، هنا في موريتانيا الشقيقة العزيزة. كذلك تقدَّم بالشكر للمتدخّلين على أوراقهم الرائعة وللقادمين من تونس والمغرب، مشيراً إلى مدى شرف مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" بأن يكون لها هذا الدَّور المتواضع، دور المساهمة في رفع روح العلم والعلميَّة والعقل والعقلانيَّة من خلال النَّدوات السابقة والحاليَّة، وهي ثلاث: إحداها عن "الفقه والواقع"، والثانية عن "التجديد الدّيني" والثالثة، وهي الحاليَّة، عن "التصوُّف وفلسفة التَّسامح".

أمَّا في ما يتعلّق بموضوع عنوان النَّدوة، فقد تساءل الدّكتور مولاي أحمد صابر بقوله: كيف نرتقي إلى مستوى التحرُّر، والخروج من الأنساق المغلقة إلى أنساق منفتحة؟ كيف نؤوّل الدّين بطريقة تربطنا بواقعنا؟ كيف نؤسّس لفكر كوني مفتوح؟ يتطلّب الأمر، شئنا أم أبينا، التنازلَ عن مسلّمات وموروثات، إن نحن أردنا أن نعيش، وأن نتجاوز معضل التشدُّد، ولن يكون ذلك إلّا بأطروحات جديدة...، بالفكر الإنساني النَّقدي المفتوح.