ندوة: "سيناريوهات ما بعد داعش"

فئة: أنشطة سابقة

ندوة: "سيناريوهات ما بعد داعش"

باحثون: دحر "داعش" يتطلب جهداً تراكمياً تنويرياً عميقاً


أكد باحثون أنّ سيناريوهات القضاء على تنظيم داعش في المدى المنظور يعتريها الغموض والالتباس، لافتين إلى أنّ للتنظيم الإرهابي القدرة على إعادة تموضع قواته، وحشد الموافقة على ممارساته التي وصفت بأنها متوحشة، وتتغذى بشكل افتئاتي على النصوص الدينية بعد تأويلها على نحو قسري يخدم توجهات "داعش".

وبين الباحثون حسن أبو هنية ود. موسى برهومة وعلي الرجّال، في ندوة نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث ومركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب بعمّان في الرابع من آذار (مارس) 2017 بعنوان "سيناريوهات ما بعد داعش" أن مواجهة التنظيم تحتاج إلى جهد تراكمي تنويري عميق، وخلق مناخ يشجع على الفكر والعلم والنقد والفلسفة، مع التشديد على قراءة النصوص الدينية ووضعها في مكانها وزمانها الحاليين، بما يخدم الإنسان وأخلاقياته.

الندوة التي تندرج في إطار الفعاليات الأسبوعية لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" ومركز شرفات، حضرها جمهور كثيف حاور الباحثين في مجمل القضايا التي طرحت، حيث أدارها د. سعود الشرفات الذي شدد على ضرورة تفكيك المسلمين قبل غيرهم لـ "ظاهرة داعش" كظاهرة متطرفة حتى لا يتم اعتبارها "جزءاً طبيعياً من بنيتنا العقائدية أو الفكرية".

الإرهاب المعولم وسقوط الدولة القطرية

وفي معرض تفكيكه لبنية التنظيم، بدأ الباحث الأردني المختص في شؤون الحركات الإسلامية حسن أبو هنية حديثه عن موضوع ما بعد "داعش" قائلاً: إنه يشبه بداية الحديث عما بعد الحداثة والديموقراطية والعولمة، وتلاشي سردياتها وحلول سرديات أخرى، ومن ثم الحديث عما بعد العلمانية وعودة الدين. وهكذا، فإن "داعش" يتمثل بعودة فكرة الجهادية. ويمثل صورة ما لهذه الجهادية العالمية، مشيراً إلى أن أصوله تعود إلى الجهاد التضامني الذي تأسس في نهاية السبعينيات في أفغانستان.

أبو هنية: رمزية فكرة الخلافة تعززت بعد الفشل المركب للدولة القطرية وانبعاث الطائفية

ومن هنا، فإن "داعش"، وفق أبو هنية، يعدّ وليداً لتطور المسار العالمي من القطبية إلى العولمة، ولهذا فمن الممكن اعتباره صورة لما يسمى بـ "الجهاد المعولم"، وهو نتاج ما بعد القاعدة، وسقوط الدولة القطرية المتمثل في العراق واحتلاله من قبل أمريكا وسياساتها في تفتيت المؤسسات والمجتمع على أسس مذهبية.

ورأى أن منح امتيازات لمذهب معين في العراق مثلاً (المذهب الشيعي والمكون الكردي)، على حساب المكون السنّي، يطرح السؤال معكوساً: فبدلاً عن سؤال لماذا يتطرف الناس، فإن السؤال يصير: لماذا لا يتطرف الناس! بعد أن أدى كل هذا إلى نتائج سلبية، من أبسطها انخراط أجهزة الدولة العسكرية المنهارة في العراق لتشكل جزءاً من تنظيم داعش، ولتتزاوج مع الجهادية المعولمة السالف ذكرها.

وأوضح أبو هنية أن هذا التنظيم تمكن من إجراء استقطاب عالمي مميز وخطير خلال سنوات قليلة "2011-2014"؛ لأنه استطاع إقامة صلات مع تنظيمات إرهابية مختلفة جغرافياً، مثل تنظيم بوكو حرام على سبيل المثال، واستطاع توزيع شبكات وخلايا على امتداد هذه التنظيمات ومناطقها الجغرافية، إضافة إلى وجود علاقات فردية مع ما أطلق عليه الباحث "الذئاب المنفردة"؛ وهم مجرد أفراد قد يقومون بعمليات لصالح التنظيم بفضل انتمائهم الأيديولوجي له، دون انتماء تنظيمي مباشر.

ومما سبق، يمكن اعتبار هذا التنظيم، وفق أبو هنية، خلاصة لحركة احتجاجية سنية عنيفة، بسبب ما آلت إليه الأمور من احتلال وتفكك لدول كالعراق وسوريا، ومن ثم انبعاث الطائفية في المنطقة، فهي أسباب مهمة؛ إذ لا يتعلق ظهور التنظيم فقط بظروف مطروحة دوماً مثل؛ الفساد أو الفقر بقدر ما ترتبط بالفشل المركب للدولة القطرية، وبالتالي فإن رمزية فكرة الخلافة تعززت بعد هذا الفشل.

مشكلة أخرى جديرة بالذكر في هذا السياق، بحسب الباحث، تكمن في تعريف مفهوم الإرهاب عالمياً وفق مصالح الدول التي تعرفه كما في أمريكا وفرنسا مثلاً، وهي دول حاولت أن تعتبر حركات الإسلام السياسي غير العنيف واجهة ضد ما اعتبره "حركات عنيفة"، وقد تغير هذا بعد "الربيع العربي" حين اعتبرت دول غربية وأخرى عربية كمصر، حركات الإسلام السياسية إما ناقلة للإرهاب، أو إرهابية بشكل مباشر، مما زاد الأمور تعقيداً دون الوصول إلى مقاربات سياسية عادلة وغير أمنية فقط، وهي حلول لم تفلح في الدمج وإحداث توجيه فكري غير إرهابي، كما لم تفلح في محاربة صانع الوحش، واكتفت بمحاربة الوحش فقط.

داعش لم يهزم ثقافياً وفكرياً

من جانبه، أكد أستاذ الإعلام في كلية محمد بن راشد بالجامعة الأمريكية في دبي الدكتور موسى برهومة أن هزيمة "داعش" عسكرياً، لا تعني "دحره فكرياً وثقافياً"، مشيراً إلى أن التنظيم "استنهض وبعث ما يمكن اعتباره اتجاهاً فكرياً يقوم على التزمّت الديني والاجتماعي، وليّ عنق النصوص التأسيسية الأولى، وإضفاء طابع شرعي على العنف والوحشية وكراهية الحياة"!

وبين الباحث أن "الداعشية" أو "الدعشنة"، كما أسماها، صارت "نمطاً لتفكير قطاع عريض من العرب والمسلمين الذين يتبنون أفكار التنظيم الإرهابي"، مرجعاً هذا التبني إلى اليأس والخوف من المشاريع الأيديولوجية الأخرى، أو رغبة في الخلاص السريع، أو انتقاماً من الذات والمجتمع بعد هزيمتيهما معاً.

وأطلق برهومة على هذه المرحلة "الحقبة الداعشية"؛ لأنها "اختزلت، في غضونها الكثيفة المركّبة، مراحلَ التاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، كما نهلت من الشرّ الإنساني، وبدائية الكائن في العصور الآفلة منذ فجر الخلق والحياة".

برهومة: الإرهاب المضمر الناتج عن التزمت المتراكم يخيفنا أكثر من إرهاب تنظيم داعش.

ورأى أن "الداعشية" في السيناريوهات المستقبلية "ستبقى، ربما تنمو أو تتقهر لكنها لن تنمحي"، إلا بجهد تراكمي تنويري عميق، يبدأ من نزع سيطرة واستلاب هذا التنظيم وسواه على النصوص الدينية وتأويلها كالقرآن الكريم والسنة النبوية، وضرورة تخليصها من براثن من ينزعون عن النص سياقيته وينزعون عنه رحمته وخيريته؛ لأنهم يشرعنون تطرفهم من خلال اجتزاء هذه النصوص، فيزهقون بهذا روح الجمال والفرح والخير. واستشهد برهومة بنماذج من آيات يجتزئها التنظيم ويوظفها بطريقة خاطئة وكأنهم يفصلون "إسلاما" خاصا بهم.

واستحضر برهومة خيبة ظن فوكوياما الذي استشرف عالماً بلا أيديولوجيات إقصائية، والتي لم تزل للأسف تشعل العالم حتى اليوم بنارها، فها هي نصوص يتم توظيفها وتأويلها في غير مكانها، مما يجعلنا متخوفين من مستقبل لا يجدي الوصول إليه بتحطيم الإرهاب بالقصف والعمليات العسكرية فقط، بقدر ما يقربنا منه تشجيع الفكر والعلم والنقد والفلسفة، وقراءة النصوص ووضعها في مكانها وزمانها الحاليين، بما يخدم الإنسان وأخلاقياته من خلال وضع النصوص في موقعها الطبيعي الذي لا يتصادم مع مصلحة الإنسان.

وأعرب برهومة، في ختام كلمته، عن خوفه "من الإرهاب المضمر الناتج عن التزمت المتراكم، أكثر ربما، من إرهاب هذا التنظيم".

زمن الإرهاب الجميل!

من جانبه ترحّم الباحث المصري في علم الاجتماع السياسي والمتخصص في الدراسات الأمنية علي الرجّال على ما أسماه "زمن الإرهاب الجميل"، قبل ظهور "داعش"، حيث أشار إلى أن زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري نفسه، المسؤول في التنظيم، أعرب عن إدانته كتنظيم إرهابي، لتنظيم آخر مولود من رحمه (داعش)! ما يدعونا إلى التأمل وعدم الاستناد فقط إلى أن التطرف ناتج عن توظيف النصوص الدينية في خدمة هذه التنظيمات فقط. وأن هنالك عوامل أخرى للتفسير، منها أن تنظيم داعش المعقد يمثل "تلاقياً حقيقياً بين خيال الإسلام السياسي وفئات شعبية، وبين الأيدولوجيا، وبين الإمكانيات التي أتاحها الواقع المتفتت للعراق ومصر في سيناء مثلاً، وغيرها". وأن هذا تم كله ما بعد العام 2011، وهي فترة تكثيف الصراع في المنطقة العربية.

الرجّال: الأزمة البنيوية في المنطقة العربية قد تسمح بإعادة تشكيل تنظيم داعش في أشكال أخرى.

وتابع أن صراعات قطرية وتحركات سلبية للعناصر الطائفية، إضافة إلى حرب إقليمية بالوكالة، تتمدد أو تنكمش في المنطقة من العام 2012. ساهمت في تكثيف حضور هذا التنظيم، الذي ظهر لحظة احتلال العراق فعلياً، وهي لحظة مكانية وعسكرية واحتلالية، شكلت شرطاً لبروز "داعش"، والذي يمثل أيضاً نتاجاً لمجموعات سابقة انبثقت من "البعث" المنحل و"القاعدة" وغيرهما، وهي مجموعات لديها خبرات متنوعة على المستويين؛ العسكري والإداري للدولة على المستوى الإقليمي. ميزتها عن التنظيمات السابقة، ما جعلها تتفوق في تطرّفها ودفعها لتكاليف عنيفة في سبيل تحقيق فكرة "الدولة الإسلامية"، وذهابها إلى هذا الطموح، أبعد من أي تنظيم آخر سابق، بعد إتاحة الواقع المركب والمعقد هذه الفرصة لها.

ونوّه الرجّال إلى أن عديداً من قيادات تنظيم "داعش" وتنظيمات أخرى، برزت من طبقة المجتمع البرجوازي المصري مثلاً، أو من الجيش، كالظواهري وغيره، في نفي لنظرية خروج هؤلاء من الأحياء الفقيرة والعائلات المهمشة.

إضافة إلى إشارته  إلى أن معظم هذه القيادات للتنظيمات، كتلك الموجودة في سيناء، هي قيادات تعرضت إلى السجن سابقاً، فكيف تطورت أو التقت في السجون، ما يطرح سؤالاً حول منظومة العقاب وإعادة التأهيل في دول المنطقة.

أما السبب الآخر لظهور "داعش" بهذا الشكل المكثف زمنياً، فيعود، بحسب الرجّال، إلى ما سبق ذكره من وجود خبرات معولمة ضمن ما يمكن تسميته بـ "الجهاد المعولم"، والتي أمكن تجمعها بكل قدراتها وتنوعها بسرعة زمنية وسهولة. ما مكّنها من خوض حرب متوازية وأخرى غير متوازية مع قوات نظامية أو غير نظامية على امتداد المنطقة، وقد دفعها هذا إلى خوض مواجهات عسكرية سريعة وشاملة؛ لأنها أيضاً، تطرح مشروع (دولة)، لا فكرة القيام بعمليات انتقامية وإرهابية انتقائية فقط.

ورأى الباحث أنهم في النهاية يواجهون خسائر سريعة في مقابل مكاسب حققوها في فترة ما، وأنهم سينهزمون؛ لأنهم يواجهون قوات كبيرة ومتعددة، ذلك أن المعركة ضدهم معركة وجود.

وختم الرجّال حديثه بسؤاله إن كان التنظيم قد يعيد تشكيل نفسه في أشكال أخرى، مجيباً عن احتمال حصول هذا بسبب وجود "أزمة بنيوية في المنطقة العربية، قد تسمح بحدوث ذلك من جديد". لكن المهم في النهاية، هو أن الناس الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم في مصر ودول أخرى، انتفضوا لأجل الحياة والتنوع والتسامح والحقوق، ولم يخرجوا غالباً لسبب متطرف.