262
2016 )9(
العدد
لطيفة الرخاء شهم
أدب وفنون / قصة قصيرة
هذه الحالة الميؤوس منها.
هذا كل ما كان في ذاكرتي عن قريبتي «فاطمة» حين ذهبت لزيارتها في بيتها، وكلي فضول لمعرفة ما حدث بعد ذلك، وكيف تطورت
حالة شفائها، إلى أن أصبحت هذه السيدة النشطة المتزنة التي أثارت انتباهي أول ما رأيتها.
استقبلتني بالترحاب، وأحاطتني بحفاوة بالغة، أشعرتني بحميمية البلد، وبدفء العواطفالأسرية، وجعلتني أطلق العنان لتساؤلاتي.
بعد كل ما تتطلبه الضيافة من كرم حسيومعنوي، جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وكلي شوق لمعرفة ما خفي عني من مسلسل حياة
هذه السيدة، والمسار الذي أفضىبها لما هي عليه من صحة جسدية ونفسية، لم أتمالك نفسي فسألتها:
ـ لقد تذكرت الأحداث التي تلت زفافك، والتي اختزلتها ذاكرتي من خلال أحاديثجدتي، وممّا كانت تنقله لنا من أخبار.
سرحت ببصرها قليلاً قبل أن تجيب:
ـ الله يرحمها، كانت تتألم لوضعيتي، وتقول لي كلما رأتني وأنا في وعيي: «اصبري يا فاطمة فما بعد العسر إلا اليسر»، محاولة أن تخفي
الدمعة المتحجرة على حافة جفنها.
ـ هل لي أن أسألك دون إحراج، كيفخرجت من تلك الأزمة؟
ـ اسألي حبيبتي، لا عليك، فقد أصبح كلّ ذلك من الماضي، وأنا غير محرجة للحديث عّ قاسيت لسنين طوال، لقد عشت فترة طويلة
من عمري لا أعي شيئاً، لا أعرف أحداً. أصبحت النوبات هي واقعي المعيشي، وحينما تنتابني أفقد السيطرة على نفسي، فآتي بأشياء لا
يقبلها عقل: أجلجل الجدران بصراخي، أكسر الأواني فوق رؤوسمن يقففي طريقي، أشق ثيابي وأنفششعري دون شعور مني، وحين
تنجلي الأزمة وأعود إلى رشدي أستحي من نفسي وأنا أرى النتائج من حولي، وأستشف الأخبار عن الوضعية ممّن حولي من الأقارب
الذين لم يتخلوا عني.
سكتت، وأخذتجرعة ماء من الكوب الذي أمامها. شعرت أنّ هذه الذكريات تقلب المواجع لديها، فقلت لها:
ـ أرى أنّ الحديث عن كلّ هذا يثير لديك أحاسيس مؤلمة، لنتكلم عن أشياء أخرى...
وبابتسامة محايدة أجابتني:
ـ لا، بل على العكس، الحديث عن كلّ ما مررت به من أحزان يجعلني أحمد الله على ما أنا فيه من موفور الصحة، وطمأنينة النفس.
عاملني زوجي بكلّ العطف والوفاء، لم يوفر جهداً في رعايتي وعلاجي، لم يبخل عليّ لا عاطفياً ولا معنوياً، بل ظلّ بجانبي
لست أدري إن كنت تتذكرين إخوتي، لقد كانوا آنذاك فتية يافعين، على قسط وافر من الجمال مجتهدين في دراساتهم، مميزين في سيرهم
ومعاملاتهم. وقد دأبوا على زيارتي للاطمئنان على حالتي، ومؤازرتي في محنتي، وشيئاً فشيئاً، بدأت علامات حالتي تظهر عليهم، الواحد
تلو الآخر، وكأنّ الأمر يتعلق بمرضمُعدٍ. لقد أصيب إخوتي الفتيان بالأعراضالنفسية ذاتها، فانقطعوا عن دراستهم، وأصبحوا يعانون
كما أعاني، ما جعل الشك عن سبب هذه الأعراض يصبح حقيقة ملموسة.
ـ وما هو هذا السبب الذي تحوّل من الشك إلى اليقين؟
ـ كان زوجي يعيش مع والده وزوجة والده، وكان لهذه الأخيرة أخوات عوانس، أخذت على عاتقها تزويجهن، وكان زوجي أول
المرشحين، وكانت ترى أنّه من حقها، وحين فاجأها بعزمه على الزواج من غريبة، حاولت أن تثنيه عن ذلك بجميع الوسائل، وحين لم
تفلح كلّ محاولاتها، لجأت إلى عالم السحر والشعوذة، فلحقني من جراء ذلك ما أنت على علم به.
أعمالها الشيطانية استهدفت إخوتي للغرض نفسه، ما جعلهم يصبحون ضحية هذا الزواج ذي العواقب الوخيمة.
ـ لكن، ألا يمكن أن يكون لهذا سببجيني، مرضوراثي، لعبت المصادفة في إظهاره في وقت معينصادف زواجك؟
ـ لا، كثرة المصادفات تلغي إمكانيتها، لنفرضذلك بالنسبة إليّ، أهي المصادفة بالنسبة إلى إخوتي أيضاً؟ لماذا هم بالذات؟ أولئك الذين
يأتون بزيارتي، وليس غيرهم؟ لقد شكّت العائلة منذ البداية بأنّ الأمر يتعلق بالسحر، لكنّ زوجي رفض ذلك جملة، ونفى الأمر قطعاً،
جازماً أنّ زوجة أبيه بمثابة أمّه، ولا يمكن أن تقوم بأشياء تضرّه بها، إلا أنّ يقينه بدأ يتزعزع حين رأى ما أصاب إخوتي.
ّ لي كيفخرجت من الأزمة...
ـ لكن كلّ هذا لا يف
ـ خرجتحين أراد الله لي أن أخرج، دون تخطيط أو أي مجهود منّي .




