263
2016 )9(
العدد
امرأة في شعاب المتاهات
أدب وفنون / قصة قصيرة
سكتت قليلا ثم عادت للحديث:
ـ لم يفقد زوجي الأمل في شفائي، ففي أحد الأيام، خلال الحديث مع أحد زبائنه من سكان الجبال المجاورة للمدينة، تطرّقا إلى الحديث
عن صحتي، وشكا له زوجي كلّ ما يعانيه من جراء حالتي، فأشار عليه الزبون بأن ينقلني إلى زيارة ولي من الأولياء، الذي يوجدضريحه
في منطقة جبلية نائية، مؤكداً له أنّ الزوار يتقاطرون عليه من جميع أنحاء المغرب، وحتى من خارجه في بعضالأحيان، وكم من الزوار ممّن
هم في مثل حالتي نفعتهم زيارته، فرجعوا معافين من زيارتهم تلك.
قرّر زوجي أن نقوم بتلك الزيارة، وقد كنت وقتها في أشدّ نوبات اللاوعي، بكلّ ما تتصف به تلك النوبات من عنف وعدم إدراك.
كانت الرحلة شاقة، والطريق من الوعورة بمكان، عانى فيها زوجي معي الأمرّين حتى وصلنا إلى غايتنا، بعد أن توقفت الحافلة في آخر
محطة لها، لنتمّ رحلتنا على ظهور البغال.
وصلنا مبتغانا وقد نال منّا التعب مبلغه، لنقتات ممّا تيسر، ونتخذ لنا مطرحاً نريح فيه أجسادنا المنهكة، في انتظار الصباح كي نبدأ
طقوس الزيارة.
نمت ليلتها كما لم أنم منذ زمن، دون أن أستيقظ كعادتي بحركاتلا إرادية أو بصرخاتغير واعية، ولم أفق إلا والشمستداعبوجهي
من الفتحة التي كانت بمثابة النافذة، استغربتحين وجدت أنّ زوجي ما زال نائماً، فقد كان من عادته الاستيقاظ باكراً للقيام بحاجياتنا،
وف ّت ذلك بتعب السفر. حاولت أن أوقظه لكن دون جدوى، تحسسته فإذا به في برودة الثلج، شعرت حينها بالجزع يغمر كياني، عاد
إليّ الوعي دفعة واحدة، صرخت، فاجتمع القوم حولي، ناشدتهم أن يعينوني على إسعافه، لكنهم أفهموني أنّ الأمر قد انتهى، وأنّه لم يعد
في إمكان أي كان أن يسعفه. لقد مات زوجي، سندي، وها أنا ذا وحيدة في منطقة نائية، مع هذا الجثمان الذي لست أدري كيف أتصرف
حياله. شعرت بعجز كبير، وبضياع تام، وقفت مشدوهة عاجزة أمام هول الفاجعة، فليست لي القدرة على مواجهة هاته المواقف، ولا
المعرفة بما يمكنني فعله في مثل هذه الحالات.
سكتت قليلاً، وعادت لتشربجرعة ماء تبلل بها حلقها الذي لم يعد يطاوعها على التعبير عن أحاسيسها المسترجعة. لم أعلق وتركتها
تتممّ حكيها.
لست أدري كيف أطلعتهم على كل ما يتعلق بأسرتي، كل ما أعلم أ ّم أخبروني أنّ أهلي سيحضرون على وجه السرعة كي يقوموا
بالواجب تجاه المتوفى.
انتظرت حتى أذّن المؤذن لصلاة العصر، مهما حكيت فلن تتصوري صعوبة الانتظار في مثل تلك الظروف، حينما تصبح الدقيقة بمثابة
عام.
نقل جثمان الزوج الوفي إلى المدينة، بعد الإجراآت اللازمة حيث دفن قرب أهله وذويه.
بعدها التفّت العائلة حولي، ينتظرون أن أدخل في نوبة من تلك النوبات الرهيبة، لكنّ انتظارهم طال، فالنوبات قد ذهبت إلى غير
رجعة، ممّا أكد تخميناتهم عن سبب مصابي.
أهي حالة نفسية لها علاقة بهذا الزواج؟ أم هي حالة مرضية ظهرت مصادفة، واختفت بالصدمة العنيفة التي تلقيتها فأعادتني إلى
الواقع، وإلى المسؤوليات التي تنتظرني. الشيء الغريب هو زوالها بوفاة الزوج.
بعد مرور أيام العدّة، بعت البيت الذي كنا نسكنه، وابتعدتعن الحي الذي عشت فيه أتعس أيام حياتي، وبدأتحياة جديدة، وكأنّني
ولدت من جديد. خرجت إلى العمل كي أعيل أسرتي، وتسلمت زمام الأمور، ففتحت هذا المتجر الذي كان لزوجي، ومع مرور الأيام
تعلمت كيف أدير شؤونه، وسارت الأمور على ما يرام، فحققت أرباحاً لا يستهان بها خلال هذه السنوات. والنتيجة أمام عينيك، فهذا
بيتي، وأبنائي انتقلوا إلى حياتهم الشخصية، بعد أن أتمّوا دراساتهم الجامعية.
سكتت قليلاً قبل أن تقول: «أمّا عن إخوتي فقد استردوا صحتهم النفسية، إلا أنّ ركب الدراسة قد فاتهم، لكنّهم مستقرّون في حياتهم
العملية والأسرية.
وبابتسامة عريضة ختمت كلامها قائلة: «هذه حكايتي يا حبيبتي، أتمنى أن أكون قد أجبت عن تساؤلاتك.
وبابتسامة مؤازرة أجبتها:




