Next Page  267 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 267 / 362 Previous Page
Page Background

267

2016 )9(

العدد

الغارق في تقاليده أم إلى الغرب المتخبّط بإشكالياته. يبدو كأنّ

مسام جسمه قد تحولت إلى أذن كبرى تتقن الإصغاء وتحترف

التلقّي، وكأنّ في داخله محلّلاً نفسياً محترفاً في تدليك المكبوتات

وفكّ أسرها.

تنبت قصص النساء في الرواية كالزهور في الربيع. لكلّ

واحدة لونٌ يستوقفك، وعطرٌ يقودك إلى عالمها الداخلي. تعددت

الأسماء، واللقاءات، والاختبارات، والمعاناة. دانييلا، وكريستين،

وفضيلة، وفيرا، كلّ واحدة تخفي في أوراقها مكنونات جمّة،

لا تكفي اللغة وحدها للبوح بها. الرابط الأساس بينهن كان

المترجم، وكأنّ مهمته لم تكن محصورة في ترجمة النصالأدبي فقط،

إنما تعدّت ذلك إلى ترجمة النظرات، ونبرات الصوت، والإرباك،

والتردّد، والخجل، والجرأة الزائدة، ورمزية الأماكن، ومعنى

اللوحات الفنية المعروضة. للمرأة حضور ملفت في الرواية، إنا

التي تضع البطل في مواجهة مع نفسه بما فيها من تقلبات وحيرة

وقلق وإحساس بالتفوق أو بالإحباط. إنا المرآة التي تسهم في

التعرف على الذات من خلال انعكاس صورتها الخفية الكامنة

وراء حيرة السؤال.

أنماط النساء مختلفة، متناقضة في بعض الأحيان، وفي ذلك تجلّ

لتعقيد الشخصية الإنسانية الحديثة التي تسعى في الوقت عينه في

طلب الشيء وضدّه، وهي ترى في ذلك فرصة في اكتشاف الآخر

والتعدد، كسبيل لاكتشاف الذات. إنّ ما يلفت انتباه القارئ

تعاطف الترجمان، الأستاذ المتفوق في اختصاصه مع الطاهية

العربية الساكنة في ستراسبورغ، التي تعمل جاهدة في تربية

ابنتها لتوفر لها ظروفاً أفضل من تلك التي عانت منها هي. من

بين النساء المثقفات والمتحررات، نجده يمضي الوقت الأطول

مع فضيلة التي أضفت على الرواية نظرةً كحلُها عربي، وحناناً

ينسكب بخفرٍ خشية أن يفضح صاحبه. حتى أنه انغمس في

تعلّم الطبخ، وملاحقة آخر مستجداته في الإنترنت وعلى الأقنية

المتخصصة، ممّا جعل والدته تندهش فعلاً من تغّ حاله. هل في

ذلك خرق للطبقية، وكس لتعالي المثقف الذي غالباً ما يرسم

الحدود الفاصلة، مجبراً الآخرين على احترامها؟ أم أنّ تظهير

صورة فضيلة على هذا النحو دليل على مكانة المرأة الشرقية في

كيان الترجمان، وعلى الحنين الساكن في لاوعيه لأصالة زاهية

باتت شبه مفقودة؟ يسأل البطل نفسه متعجباً من انجذابه إليها:

«أأنا في حاجة فعلاً إلى من يهتمّ بي في غياب أمي؟ ألا أحسن تدبير

أموري، فلا أرتبك أمام أيّ مشكلة؟ وماذا عن فضيلة: أتكون

طابختي ومساعدتي الطبية؟ أم هي بديل أمي الحنون؟ كيفلي أن

أنظر إليها، سراً بالطبع، على هذه الشاكلة، وهي قد بادلتني ما قد

)

234

يقرّب بيننا عاطفياً؟». (ص

إنّ هذا الانفتاح على الآخر المختلف، وعلى ما يكمن في أدق

تفاصيل الواقع، لم يُلهه عن أناه وما يعتريها من قلق. الاتصال

بالخارج لم يبعده عن الداخل بل جعله أكثر احترافاً في الحفر

والتنقيب عّ هو كامن في العمق. غارقٌ هو بضباب الأسئلة،

باحثٌ عن نور الوعي، مطمئنٌ إلى كونه يحمل مسؤولية خياراته

وخطواته وانماماته. بطل الرواية صورة رجل ناضج يمسكزمام

أموره بيده، يتدبّر شؤونا عن سابق تصور وتصميم. صحيح أنه

ظهر في البداية وكأنه منقادٌ لامرأة شهوانية، تتقدّمه، ُلي عليه ما

يجب فعله، لكنهسرعان ما استعاد المبادرة في البحثعن ماضيها،

والتدقيق في هويتها، ومن ثمّ قطع علاقته بها.

في الرواية، نجد شربل داغر متخفياً كما في القصيدة،

في ثوب هذا البصّاص الذي يراقب الآخرين، يرصد

تحركاتهم، ينبش ماضيهم، ليس بدافع الحشرية إنما بهدف الغوص

أكثر في المعاناة، في تجربة الآخرين واختباراتهم الماضية والحاضرة.

ترجمانه يشبه حائط المبكى، كتفاً يحلو للمتألم الاتكاء عليه، شجرة

يسعى المتحرّق مرارة أن يستظلّ بها. ُوّل ألم الآخر إلى سؤال، إلى

فرصة للتأمل، إلى مواكبة حيّة لما من شأنه أن تصير عليه الأمور.

إنسان الحداثة بات يشكو من عدم التواصل وفقدانه في كثير من

الأحيان. إنسان الحداثة يتوق إلى أذن تصغي إلى نبرة الكلمات قبل

مضمونا، وعينٍ تنتبه إلى الدمعة قبل انسكابها. إنسان الحداثة

حمل قنديله وخرج يبحث عن الأنس في وسط الضوضاء. وكأنّ

الترجمان المتمرّس في صياغة الجمل، والغوص فيما ُفيه ظاهر

الكلام، قد استفاد من مهنته ليوظف مهاراته في التواصل مع

الناس من حوله، ويستنطق مكنوناتهم مهما كانت عميقة.

ليست الوحدة في «شهوة الترجمان» عقاباً ينزل على رأس

البشر لينفيهم في غربة دائمة، إنما هي خيار واعٍ، مؤلمٌ، لكن ثمره

وفير. بدت الوحدة وفق تسلسل أحداث الرواية طريقاً تؤدّي إلى

التجدد، إلى التفكّر فيما سبق اختباره. باتت الوحدة حيّز الكتابة

أدب وفنون: نقد

«شهوة الترجمان» ... موعد مع الذات