Next Page  268 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 268 / 362 Previous Page
Page Background

268

2016 )9(

العدد

التي تنبع من الذات، من أعماقها القلقة والساكنة في الآن نفسه.

يتمشى وحيداً عبر الشوارع في رحلة حميمية مع الذات. يختار

السفر بالقطار ليوفر لنفسه فرصة الجلوس على مقام الوحدة.

يقول الترجمان في بداية الرواية عندما استقرّ في ستراسبورغ ليبدأ

بمهامه الأكاديمية: «لم يكن ينتظرني أحد، ولا أواعد أحداً، فيما

أنتبه إلى البسمات البادية على وجوه قلما اعتدتُ على رؤيتها باسمة

بهذا الشكل في حياتها اليومية.

كدتُ أبكي، ذات مساء، وأنا أودّع وأستقبلُ من لا يوجهون

لي تحية، أو قبلة، أو يواعدونني، لولا أنني شعرت بأنني فرح في

عميق نفسي، وأنّ هذا الشعور الطافي فوق العينين عابر، بل هو

إشارة عن الخوف ليس إلا. فأنا أشعر بخوف، لأنني قلما كنت

وحدي. وحدي لكي أتدبّر حلولاً لما يصيبني، أو أواجه من دون

.)

58

معونة أحد».(ص

ثم نجده يبرّر سبب اختياره الذهاب إلى فيينا للقاء دانيللا

بالقطار وليس بالطائرة: «كنت أمنّي النفس طبعاً بتتبّع مناظر

البلدان وهي تتالى كما في ألبوم صور، من دون أن أبالي بعدد

الساعات الكبير الذي سأمضيه من قطار إلى آخر.(...) يتيح لي

القطار التنقّل البطيء، المتمهّل، بين بلدان وقوميات من خلال

أشكالها، وسحناتها، وثيابها، ولغاتها، وما تستثيره من دون شك

رغبة الفضول لدى الترجمان.(...)

إلا أنني اخترتُ القطار لسبب أبعد وأخفى، وهو أنه يتيح

لي، عدا متابعة قراءة «يوميات» غالان، (...) البقاء مع نفسي،

)

105

-

104

والتفكير المتمهّل فيما أقدمتُ عليه (...)». (ص

وحيد هو المفكر، وحيد هو المختلف، وحيد هو ذلك الساعي

الدؤوب إلى ما هو أبعد. هذا الحفار المتمرّس بنبش أسئلته،

ومواجهة ضعفه، واقتحام ضياعه، والتوقف عند هويته الحقة،

عند ما يريده فعلاً من انسياق مجرى الحياة اليومية. أن تهدي

نفسك جلسة مع الوحدة، هذا يعني أنك توفّر لأناك حيّزاً تنمو

فيه بانسجام مع نفسك ومع محيطك. أن تختار التنزّه في مساحاتك

الداخلية، تتعرّف إلى مكامن ضعفك، تشكّ في مسلماتك، تركّز

على مواضع قوتك، هذا يعني أنك أصبت بعدوى الحداثة المنهمّة

بالأنا وما يعتريها من أسئلة تحوم في دائرة الوعي. يقول الترجمان

في الصفحات الأخيرة بعد عودته إلى وطنه وإصابته بالخيبة على

أكثر من صعيد:

«فجأة بدا كلّ ما يحيطبي متداعياً، خاوياً، فيما لم تكن نفسيتمدّني

)

327

بما يجعلني أحاورها وأقيم معها فوقسرير واحد».(ص

«أحتاج إلى مقادير من الصمت، بعد أطنان من الكلام.(...)

أنزلفيجسدي، أنزل من دون توقّف، تباعاً، قبل أن أتوارى...

تواريتُ منذ زمن، منذ الأيام الأولى في الحرب... شعرتُ بأنني

)

328

مدعاة إلى اختزال...».(ص

ترجمان داغر محترفٌ في الهجوم على نفسه، في الانقضاضعليها،

وزركها في زاوية الاستنطاق، تاركاً لها ما يكفي من الوقت لتدبر

أمرها. ينتقد نفسه في كلّ مرّة يلحظ فيها أنا خرجتعن السيطرة،

إنا انزلقت إلى مكان آخر. ينتقدها لا ليوبخها إنّما ليتعرّف على

سبب فعلتها، أو حتى تخيّلها لصورة ما، أوشكّها بأمر معين.

يسأل ولا يستكين. يعاتب، ينتفض، يتألم. ورشة بناء مستمر.

ورشة تجدد مستمر.

يبقى اسم الترجمان شبه مستور طيلة الرواية، بالمصادفة نعرف

أنه «جهاد». هذا الاسم الذي يُكتب بالفرنسية «دجهاد»، الأمر

الذي أثار غضب صاحبه، إذ أنّ هذا اللفظ باتت له حمولة بعيدة

كلّ البعد عن المعنى الذي من أجله اختاره الوالد اسماً لابنه.

إنّ في رمزية الاسم وما تولّده من ملاباسات إشارة واضحة إلى

الاشمئزاز ممّا تشهده الساحة العربية الإسلامية من تفتّح للفكر

السلفي الذي يقلب المعاني، ويحوّر الألفاظ، ويجعل للجهاد

دلالات تشوّه الجذر العربي: ج .هـ .د، فتغترب بذلك اللغة عن

ذاتها. بطل الرواية مجاهد فعلاً، أجهد نفسه في طلب الحقيقة.

اجتهد في الاشتغال على نفسه، وتطوير مهاراته. بذل الجهد في فهم

نفسيات المحيطين به. جهوده جبّارة، لكن لا دخل لها بالعنف،

وحرمِ المختلف من أن ينوجد بحرية إزاءه.

هذا الترجمان تمكّن من الولوج إلى عمق المعاناة، معاناة الإنسان

المعاصر، معاناة المشرقي المتخبط بتخلّف محيطه، ومعاناة الغربي

نايلة أبي نادر

أدب وفنون: نقد